طوارئ الثقافة وثقافة الطوارئ

الثقافةُ وجودُُ كيفي يتأتى من جملةِ تراكماتِِ معرفيةِِ تختزنُ من عواملِ الزمنِ عمقاََ بعيداََ لايكتفي باللحظةِ أو بالظروفِ الآنيةِ (الطارئةِ) في حياةِ البشرية.. فهي تعبيرُُ عن تركيبةِِ ذهنيةِِ تشتملُ على كلِّ عناصرِ الفعلِ الإبداعي وقدراتِ الخلقِ عند الإنسانِ مكوِّنةََ نمطاََ سلوكياّّ مختلفاََ من أنماطِ الوجودِ الإنساني العادي, ومثل هذا لا يمكنُ أنْ يتأتى من دون فعلِ التراكمِ والتواصلِ التاريخي الممتد على مساحةِِ زمنيةِِ لا تنحصرُ في الطارئ العارضِ من الزمنِ الإنساني وهو ما قد يحتل وحدةََ زمنية صغيرة أو يمتد على مدى عقودِِ على وفق  حالةِ التكلّس أو التجمّد التي تصيبُ حركةَ الفعلِ الإبداعي لهذا السبب أو ذاك من أسبابِ خنقِهِ ..

كما يحصل مع تلك النُظُم التي تتعارض مصالحُها مع صعودِ نجمِ الثقافة وتعاظمِهِ لأنَّهُ سيكشفُ حقيقتها وجوهرَها المعادي لمصالح الوجودِ الإنساني بمستواه النوعي الراقي المتحضِّر. ولا غرو أنَّ ما يحصل في العراق اليوم هو مصادرة لكلِّ فعلِِ إبداعي ثقافي أما ما يجدُ فسحتَهُ في ظلالِ النظامِ الدكتاتوري الدموي فهو بين حالتين : الأولى هي تلك الخطابات الساذجة المسطّحة التي يدرجونها تجاوزاََ تحت مسمى الثقافةِ وهي ليست إلا خطابات دعائية طارئة تتوسلُ الدعاء للسلطان بطول عمره بالقدر الذي يغدق على تلك الأصوات من أموالِِ وقيم (مكافآت) ماديةِِ لا تشكِّلُ في حسابِ الإبداع الثقافي أية قيمة حقيقية.. وعادة ما يُسمَّى من ينهض بمثلِ هذه الأفعال بطبالي السلطان أو أبواقه الدعائية التي لا ترقى حتى لمستوى مصطلح الإعلام فإنْ هي إلا إعلانات رخيصة؟‍‍!! أما النتاج الآخر في مثل هذه الظروف فهو نتاج أولئك الذين يشكلون الامتداد الطبيعي لتاريخ المجتمع الإنساني , نتاج وَرَثَة  الحضارةِ بجوهرِها العميقِ ومعطياتِ الخلقِ والإبداع فيها وهو نتاجُُ ينكفئُ بشكلِِ مؤقتِِ وطارئ وقد يصطبغُ ظرفياََ بالحالةِ السياسية للعواملِ القسريةِ المفروضةِ على الحياةِ العامة ومنها الحياة الثقافية الممسوخة فيما يظهرُ للعيان في الظرفِ الطارئ ظرفُ سلطةِ القهرِ والظلام .. فيما هي لا تنقطعُ وإنْ اختبتْ ولم تبدُ لأول وهلةِِ, وسرعان ما تُوجِدُ فعلَها الخاص وسلطةَ تأثيرِهِ بخاصة عندما نتذكرُ أنَّ قوةَ الثقافةَ وفعلَها ليس راهنياََ آنياََ بأيةِ حالِِ من الأحوال. ودافعُ هذه المقدمة التمهيدية هو شكوى (بعضِهم) من سيادةِ خطابِ (الإعلان) وخفوتِ ضوءِ خطابِ الثقافة في بلادِ الحضارة والمعرفة!! ولكن ما يمكنُ أنْ نَخلُصَ إليهِ هو حتمية انتهاءِ الطارئ ومهما امتدَّ زمنُهُ لنْ يكونَ بحسابِ التاريخِ البشري سوى لحظة مؤقتة مصيرها الاضمحلال والزوال فيما يبقى الراسخُ المتجذِّر في عمقِهِ التاريخي الحضاري .. وحتى في لحظتِنا الطارئة هذه حيث يتمظهرُ ويطفو طارئُ(الثقافةِ) الساذجة, حتى في هذه اللحظة توجدُ في تربتِنا نبتةُُ يانعةُُ هي (ثقافة الطوارئ) وهي بهذهِ الصفة ثقافة التحدي ومواجهة المحرماتِ الفكرية والمحظورات المعرفية والممنوعات الإبداعية , ثقافةُ العطاءِ الأصيل العميقةُ لا المسطَّحة الراقية في مكوّناتِها ومصادرِها وأهدافِها لا المبتذلةُ المتوسلة رخيص الوسائل والأهداف.. وإنَّ لنا في هذا الإبداع ما يمنحُنا ثقةََ بأنَّ غدَنا ليس فارغاََ ولا منقطعاََ بل مليئا متصلا وسرعان ما تظهرُ للعيان حقيقةُ الثقافة وجوهرُها الخلاّق .. وذاك هو مستقبلُ البشرية المتحضرة المتمدنة.

                          نُشِرَتْ المادة في مجلة البلاتفورم العدد الثالث بتوقيع أكاديمي عراقي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *