أزمة السكن في العراق بين اضطراب الوضع الاقتصادي والمشكلات الاجتماعية

إنَّ قراءة الوضع العراقي في مشهده العام يكشف عن جملة من التعقيدات المركبة التي تكتنف عملية تحليل عناصره الأساسية. ويعود ذلك لتداخلات عديدة, اُصْطـُنِعت في العقود الثلاثة المنصرمة… هنا قراءة لعدد من تلك المشكلات نتناولها كلا على انفراد… وأول تلك المشكلات وأعباء التركة الثقيلة هي مشكلة السكن, حيث نجد أنَّ عمليات البناء والاستجابة للحاجات المتنامية لم تكن تلبي إلا ما يغطي أقل من عشر تلك الحاجة في ظل النظام البائد..

أما الحلول الترقيعية التي عالجت الأزمة فقد جلبت جملة من المشكلات والمصاعب التي جابهت المجتمع العراقي.. ومن تلك الحلول الترقيعية كانت العوائل العراقية الجديدة تتشارك السكن مع الأسر الكبيرة في بيت واحد بمعنى الاستمرار في السكن في ذات الغرفة الواحدة الخاصة بعضو الأسرة الذي تقاسمه بُعيد تكوينه عائلته الجديدة الزوجة ثم الأبناء وبعد أنْ يكبر الأبناء تظل عملية التشارك السكني في حالة من الضغوط غير الموضوعية على العائلة العراقية القديمة والجديدة..

ولقد ساهمت حروب النظام الدكتاتوري العدوانية في مقتل مئات ألوف من أبناء العراق, وفي تهجير حوالي الخمسة ملايين عراقي ودفعهم إلى المنافي القسرية.. وهو ما أتاح بعض المتنفّس فيما يتعلق بتعاطي النظام مع أزمة السكن وعدم تفجرها بوجهه بطريقة الاصطدام فضلا عن طبيعته القمعية التي لم تسمح بأي صوت مطلبي يفكر بمصالح الناس..

كلّ ذلك خلق تركة ثقيلة كبيرة وشرخا عميقا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية العراقية الجديدة بُعَيْد انهياره.. إذ يقف العراقيون اليوم أمام حالة كارثية من تدمير آلاف الوحدات السكنية ومن تقادم الزمن مع آلاف أخرى بما يجعلها غير صالحة للسكن ومهددة بالسقوط على رؤوس أصحابها! ومع الظروف العراقية السياسية والاجتماعية الجديدة وافتقاد الأمن والأمان والسلم الاجتماعي صارت عملية التعايش في سكن واحد مضاعفة بل خيالية فيما ينجم عنها من مشكلات معقدة, ومن الطبيعي هنا الإشارة إلى مشكلة إيجارات العقارات والقوانين التي تقادمت وما تتطلبه من البحث الجدي الفاعل لأنّها تحتضن أزمات حادة!!

وفضلا عن الحاجة التي تنامت مع النسبة العالية للزيادة السكانية في العراق..(وهي نسبة أكبر منها في عدد من دول الجوار ومن بين الدول الأعلى في سجل النمو السكاني على الرغم من حالات الوفيات العالية والكوارث العديدة التي أصابت البلاد).. نقول فضلا عن الزيادة السكانية تأتي مسألة عودة أو إعادة المهجَّرين بملايينهم التي فاقت الخمسة لتشكل أزمة خطيرة وتضاعف مشكلة السكن بطريقة كارثية لا يمكن بمقاييس الوضع الحالي تدارك ما سينجم عنها إذا ما أصرّت دول العالم التي تستضيف كل هذه الملايين على إعادتهم مرة واحدة ومباشرة أو في ظرف السنتين القادمتين.. وهي مدة غير كافية على الاطلاق لتلافي المعضلة أو الاستعداد للمضاعفات المستقبلية القريبة لها!

وبقراءة تصريحات الوزارة المسؤولة سنجدها تتعاطى مع القراءات التقليدية عندما تقول بحاجة البلاد إلى مليوني وحدة سكنية (فقط).. إذ (يبدو للمتابع) أنَّ هذه القراءة لا تضع في حسابها عددا من الاحتمالات المعقدة التي ذكرناها هنا بخاصة مسألة عودة المنفيين جملة كما تذكّرنا التقارير اليومية بل القرارات التي أصدرتها وما زالت تصرّ عليها دول أوروبا وغيرها من تلك الدول التي تستقبل حاليا العراقيين..

أما أهمية معالجة المشكلة فلا تأتي من كونها مفردة اقتصادية أو تلبية لحاجة بشرية تخص المجتمع العراقي حسب بل تأتي من انعكاساتها الخطيرة من جهة المشكلات الاجتماعية للحشد البشري في بيت واحد يصل أحيانا لوجود أكثر من عشرين شخصا في بيت من ثلاث غرف بمساحة الثلاثين مترا لمجموع غرف النوم والمعيشة!!! ونحن لن نتحدث هنا عن المعايير الإنسانية المعروفة للسكن الآدمي…

ولكنَّنا بقراءة أولية بسيطة سنجد الانعكاسات الصحية غير المؤاتية وعلى المدى الطويل الأمر الذي يعكس أمراضا تنفسية ومن ثمَّ على آليات العمل الفسيولوجي لأجهزة الجسم البشري سواء انكماش الرئتين أو الخمول الذهني أو ما إلى ذلك مما يعرفه الأطباء وعلماء النفس والاجتماع.. هذا غير العلاقات الشاذة التي نجمت وستنجم عن الاحتكاكات المشتركة.. وبمراجعة أولية لسجلات مراكز الشرطة والمحاكم سنتأكّد من حجم أزمة السكن وآثارها السلبية العنيفة!

 إنَّ هذه الحقائق لا تضغط على أعصاب الإنسان بل تشله عن التفكير السليم وتجعله شخصية عدائية تفتقد للثقة بالكيان الاجتماعي للدولة واستجابتها لإنسانيته وآدميته.. بخاصة أنَّ البيت هو أول خطوات الألفة مع المحيط فما بالك إذا كانت هذه (الخطوة الأولى) هي خطوة زرع الشعور بالاحباط ومن ثمَّ النفور والعداء تجاه المحيط الذي يهمل الاستجابة لأول مكوِّن من مكونات العلاقة الإيجابية كما حصل طوال العقود الأربعة المنصرمة؟!

أما وسائل الحلّ الصحيحة فتكمن في تغيير طرائق قراءة الوقائع والإحصاءات الدقيقة الضرورية لحاضر المشكلة ومستقبلها.. وفي وضع الأولوية في حجم التخصيصات المالية من ميزانية الطوارئ والمرحلة الانتقالية مع إدارة حوار مسؤول بخصوص عودة المنفيين والمهجَّرين والتدرج في الأمر مع البحث في إمكان طلب المساعدات اللازمة لأعمال البناء من تلك الدول التي تنوي إبعاد ملايين العراقيين في الظرف الزمني القريب القادم ويمكن للأمم المتحدة ومنظماتها أنْ تأخذ دورها الفعال في الإشكالية فضلا عن أهمية قصوى للتباحث مع دول الجوار في أية عمليات بناء اقتصادية لما لآلية العمل من أهمية مشاركة هذه الدول إذا ما أردنا الفاعلية والسرعة في الإنجاز والمعالجة الاقتصادية الصحيحة لمشكلة كهذه..

أما أهمية وضع حلّ أزمة السكن على رأس قائمة الأولويات فيعود إلى خلق الاستقرار النفسي والاجتماعي من جهة وإلى خلق دورة اقتصادية امتدّت  طويلا فترة التوقف والجمود أو الركود فيها حتى وصلنا حدّا صارت فيه آلية اقتصادنا تكمن في استهلاك الثروة الوطنية كاملة بدفعها ثمنا لغذائنا القادم من وراء الحدود فقط لاغير!! وهو أمر مستحيل الديمومة من دون أنْ يعني موت الدولة وانتهاء شعبها بشكل أكبر من مأساة عصر.. فهل سنقتعد أرضنا الجرداء بتركة نظام الدمار حتى آخر أنفاس الاحتضار؟!!!

وإذا بدأنا عمليات البناء والإعمار فلتنطلق من خطة متكاملة ولكن من أولوية لحلّ مشكلة السكن من بين أولويات أخرى سنعرّج على معالجتها في قراءات تالية أخرى.. وسيكون فعل تحريك الجامد المتكلّس كبيرا من جهة الاستجابة الجماهيرية لأنَّ الأمر يتعلق بتشغيل أكبر عدد من الأيدي العاملة.. ولأن الأمر يتعلق بتحريك الدورة الاقتصادية المتوقفة.. ولأنَّ الأمر يتعلق بحلّ مشكلات الاختناق والكثافة السكانية المرتفعة جدا في الوحدة السكنية الواحدة.. ولأنَّ الأمر يتعلق مباشرة بحلّ مشكلات إنسانية غير عادي التعاطي مع استمرار المعضلة وتفاقمها..

فبالأمس كان القمع ووحشية النظام فضلا عن استباحة حيوات الناس وإعدامهم بالجملة في ميادين مقاصل النظام وفي ميادين حروبه وفي سوح التهجير والنفي يمنع طفو الأزمة على السطح أما اليوم فلا مجال لتمييع التعاطي مع المعضلة الكارثية لأنَّ بعض ما ينجم عنها هو الجريمة الاجتماعية والفساد الأخلاقي وتبدّل القيم وتغيرها سلبيا بانحدار مخيف شديد الوطأة ولنتصور الباقي بعد سنتين فقط من حياتنا العراقية الجديدة..

ومن الطبيعي أنْ تلتفت القوى الاقتصادية للدول المجاورة إلى أهمية الاستثمار في قطاع بناء الوحدات السكنية وما يجلبه هذا من مردود عليها من جهة وما تساهم هي فيه من جهة المسؤولية عن استقرار العراق ليس اجتماعيا بل اقتصاديا بما ينشّط حركة الاستثمارات وحركة الاقتصاد إقليميا وهو أمر خطير الأهمية في الوضع المقبل للمنطقة بخاصة لتلك الدول ذات التأثير والثقل الكبيرين وأخص هنا بالإشارة دول مجلس التعاون الخليجي بشكل مشترك أو بشكل منفرد..

فالمشكلة أكبر من حجم أية حكومة وطنية عراقية ومن دون تضافر الجهود الإقليمية أولا والدولية تاليا لا يمكن الاستجابة بحدودها الدنيا لحلّ جدي موضوعي لتلك الآفة الكبرى.. ومن الطبيعي أنْ يكون مردود تعاطي البلدان المجاورة بخاصة العربية ليس في حدود الاستثمارات الاقتصادية ولكنه بالتأكيد بما يستجيب لتطلعات أبناء المنطقة لإعادة اللحمة والتعاون وتعضيد الثقة المتبادلة وإنهاء القطيعة التي جلبها نظام الغزو والدمار والعدوان وليس العراقيون الذين كانوا ومازالوا أول المدافعين عن تلك العلاقة الوطيدة الأخوية علاقة الانتماء والمشاركة والتوحّد..

تلك هي مفردة من أولويات مفردات السوق العراقية لمن يتعاطى مع الوضع اقتصاديا وهي مفردة لها مردوداتها الإنسانية والسياسية والدبلوماسية بعد قراءة الإشكالية بتداخلاتها الكثيرة المتنوعة وليس بحالة من العزلة والتخصيص..

خاص بصحيفة الاقتصادية

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *