آلية التفكير الأسطوري بين استلاب المنطق العقلي ومصادرة حرية التفكير

آلية التفكير الأسطوري بين استلاب المنطق العقلي ومصادرة حرية التفكير

منع التنوير، منع التفكير يقابل الرأي القائل بالمسلَّمات والبديهيات التي لاتقبل المناقشة لأنها من الله من المقدس والتقويم أن هذا ليس سوى لغة بيانية اعتقادية مفروضة حتى على الفعل الإنساني حيث السببية هي التي تتحكم في وجودنا من جهة الحقيقة فيما هنا حيث المنع والحظر والمصادرة تجري الأمور جبرية بما يرفض كون العلوم الإنسانية علوما

يشتغل العقل الإنساني على أساس من اكتساب المعارف والخبرات من صلاته المباشرة وغير المباشرة  بمحيطه. وتـَثبـُتُ فيه الدوال ومداليلها مرتبطة بالحقائق التي تشير إليها في الواقع. وبمرور الزمن جرت تطورات وتعقيدات كثيرة نما فيها العقل الإنساني بالاستناد إلى إبداعاته وإسقاطاته التي كوَّنت الوعي والفكر الإنسانيين. وصار البشر يـَحيـَوْن حياة متمدنة متحضرة على وفق تواضعات أواتفاقات لتسيير تلك الحياة والتعاطي مع وقائعها.

وكثرما كان للإنسان من أسئلة استدعتها محاولاته لاستكشاف محيطه والسيطرة عليه وتطويعه ليستجيب لحاجاته المتطورة المتنامية. وكان باستمرار دائب المحاولة من أجل إيجاد الإجابات المناسبة لتساؤلاته. ولكنَّهُ جابه في أحايين عديدة مصاعب وتعقيدات وضعته في زوايا حادة ضيَّقت فيها الخناق عليه حتى هدَّدت مصيره في بعض الظروف. عندها كان الإنسان الفرد في حالة من الذهول والاندهاش لا يستطيع لحظتها مجابهة الأسباب التي وقع بين فكي رحاها…

لقد صادف هذا الأمر عندما كان الإنسان في بداية مسيرة المعرفة التي أخضع فيها الطبيعة لإرادته وفشل لمرات عدة في ذلك وأُحبـِط قبل أنْ يفلِحَ في مساعيه التالية. لكنَّ الإحباطات الأخطر ولحظات الشعور بالألم والمرارة والحزن كانت تصادف الفرد أكثر من ايّ ظرف أو وقت في حالات المجابهات القاسية في علاقاته الإنسانية مع محيطه الاجتماعي..

عندها فقط تتعاظم عوامل التأثير التي تدفعه للشعور بالعزلة والغربة ومن ثمَّ تشتدّ لحظات الألم والهزيمة إذ يشعر بأنَّ كلَّ جهوده لم تنفع ويشكل إحباطه ما يوحي له بأنَّها لن تنفع أبدا أمام حال سطوة المحيط واستلابه حرياته وحقوقه حتى يرى في مبادئه وقيمه حال من الهزيمة المطلقة بوساطة السحق المطلق الذي يتعرض له أو هكذا يبدو لبعضهم.

وعادة ما تكون هذه الحالة أدخل في مشاعر الجماعة وجمهور الناس وفئات اجتماعية عريضة في المنعطفات التاريخية التي يمر بها مجتمع بعينه. ففي مثل تلك الظروف تسطو على كثير من العقول المترنـِّحة تحت ضربات هائلة حالة من اللجوء إلى آليات تفكير بديلة للتعاطي مع العقل وإمكاناته وأساليب عمله..

فماذا يتبقى أمام شخص يرى أنَّه استنزف آخر ما لديه من طاقات وأفكار ومعالجات ولم يُفلِح؟ ليس غير الاستكانة والرضوخ والتوجه للبحث في أجندة مختلفة عن واقعية التعاطي.. تلك هي أجندة الخيارات الميتافيزيقية أو الماورائية التي تتمنى التغيير القادم من السماء مع أنَّنا نقرأ في آية من القرآن الكريم “لا يغيِّر الله ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم” وفي آية أخرى “قل اعملوا فسيرى الله…” وهو ما يؤكد رفض القعود والاستسلام للهزيمة والهروب من مواجهة الحياة..

ولعلَّ التجربة الإنسانية التي تؤكِّد أنْ لا بديل للعمل وللتفكير الموضوعي تفرز في بعض هوامشها ما يدعو لأفكار الجبرية التي تحيل كلَّ شئِ ِ إلى القدرية المطلقة وإلى كون الوقائع والأحداث الجارية مكتوبة مرسومة سلفاَ َ ولا حاجة لإعمال العقل بصددها. ومن الطبيعي بعد ذلك أنْ ينفي هؤلاء  أية إمكانات للفعل الطبيعي أو الإنساني وألا يروا في السببية ونتائجها وجودا جديا حقيقيا فينصرفون إلى تبريرية سلبية تتوقف في ضوئها كلّ معطيات الحياة البشرية وتمتنع عندهم مسميات الصنع والإبداع والخلق لأنَّ ذلك سيتعارض مع تصوراتهم “الجبرية” وينفيها في أرض الواقع..

أما لغة هؤلاء فتعتمد على المسلَّمات والبديهيات التي لا تقبل المناقشة وهنا بالتحديد ندخل بوابة التفكير الأسطوري التي لا تسمح للتفكير الإنساني بالظهور والتفاعل أو التعامل مع الوقائع.. إذ تتشكل اللغة البيانية من حالة إسقاط القدسية التي تمنع الجدل في النص “المقدس” وتنسحب مثل هذه الرؤى وتدخل لتمنع التفكير وتغلق باب الاجتهاد بالمطلق وتسير على وفق قراءة النص حسب ظاهره أو بتأويلات تتفق بالنتيجة مع الجبرية التي تصادر لا حرية التفكير بل حرية الحركة والاختيار…

ويمكننا هنا الإحالة في تاريخنا إلى منطق الأشاعرة  ورؤى الغزالي التي اصطدم بها لاحقا ابن رشد وفلسفته التنويرية.. ونحن هنا بصدد منطق بعض الأدعياء في عصرنا إذ لا يسمحون فيه  بمناقشة رؤاهم لأنَّهم حسبما يُسوِّ قون   لأنفسهم مراجع “مقدسة” لا تجوز مناقشتها. حيث تجري مصادرة الرأي الآخر ومنعه واستلاب حرية التعبير ومنع الجدل والاجتهاد ووقف الحوار حتى تُصبـِح مواعظهم وصايا فوقية أمرية واجبة التنفيذ من دون اعتراض ولا حتى تساؤل أو استفهام   ومناقشة..

إنَّ حقيقة أنشطة الحياة الإنسانية تقوم على أساس من السبب والنتيجة. فلا يأتي أمر بغير مقدمات ودوافع وأسباب. ولكنَّ واقع الحال هو إنكار اللغة البيانية مقولات اللغة البرهانية. ومن أمثلة هؤلاء رجل كان إذا أراد العودة من عمله إلى بيته يضرب أخماسا بأسداس ويعمل ما يُسمى] الخيرة] إنَّه يستخير مسبحته عن الطريق الذي سيسلكه أولا بعد خروجه من مبنى عمله أيتجه يمينا أم شمالا ويظل في هذه الدوامة حتى يصل منزله بعد استخارات غير قليلة!! ومنهم مَن يصل أمره إلى خصوصيات خطيرة في الحياة الشخصية عندما يستغل زعمه المرجعية في أمر “روحاني” وتتجه نسوة إليه في أمور الإنجاب والزواج وما إليها والقصص الخيالية بهذا الشأن غير قليلة!

ما العمل وأنت تقول لامرئ أنَّ القمر يدور حول الأرض والكواكب حول الشمس بفعل الجاذبية.. فيكفـِّرك ويصدر بيان إعدامك.. ألم يفعل هذا رجال الكهنوت الكنسي مع غاليلو غاليلي أوَلَم يفعله المفتي الإسلامي في “السـ… ” عندما رفض كروية الأرض وشدَّد على أنها واقفة على قرن ثور؟!! إنَّها ليست نكتة أو هزلية من زمن سالف العصر والأوان بل هي من مماحكات أزمنتنا…

ونحن طبعا لا نستطيع أنْ نقول بأنَّ الفنان خالق أو مبدع ولا أنْ نقول بعلم عالم وكشفه عن أسباب حركة أو فعل للطبيعة أو للحياة الإنسانية, فلا سببية وكلّ برهان في أمر هو باطل! لذا فلا سبيل لهؤلاء ومآربهم إلا باستغلالهم  طريقين أولهما أنْ يخضع الناس جميعا لإرادتهم من منطلق قدسية ما يقولون وما يفتون به وعادة ما يحصل هذا من بسطاء الناس لتضليلهم وخداعهم أما الوسيلة الثانية لهم فتكمن في سيف التكفير وإرهاب الناس الذين لا ينصاعون لأوامرهم ووصاياهم حتى يصل بهم الأمر حيث إباحة دماء العلماء والمجتهدين والمتنورين  وتنفيذ جرائم القتل بأيدي جهلة من أتباعهم من الصبية والمغرَّر بهم..

وفي حقيقة الأمر لا نقرأ اللغة البيانية التي تنتمي إلى خطاب هؤلاء ونصوصهم بوصفها مسلَّمات وبديهيات مطلقة غير قابلة للمعالجة الموضوعية المناسبة التي تحتاج مراجعة الفقهاء والمجتهدين المفسرين.. إذ لابد من النظر فيها من زوايا بعدها الزمني ومن ثمَّ تفسيرها بما يتلاءم مع متغيرات الواقع. وهي في النهاية تظلّ  معالجة  أو تجربة تمتلك قيمتها حيثما استطعنا العثور على الإيجابي منها وتوظيفها بطريقة صحيحة مفيدة..

 من جهة أخرى لابد من الفصل بين ذاك الخطاب والنص الديني المقدس وحتى في النص الديني الأول يوجد ما يسمى الناسخ والمنسوخ وليس من الصائب أنْ نقول بأنَّ كلّ ما ورد في ذلك النص  ثوابت مطلقة من دون العودة إلى بُعده الزمني ومن دون العودة إلى الحكمة الحقيقية المستقاة منه أو المقصودة به..

وينبغي القول بأنَّ الحديث هنا لا يجري لمناقشة النص الديني الأول وخطابه ولكنه يجري بصدد تقديم أدعياء المرجعية لأنفسهم ولأوامرهم كونها مطلقات غير قابلة للجدل [ولا تمسّ هذه الجملة المرجعيات الدينية الحقيقية في أية ديانة أو مذهب لأنَّ الحديث هنا يجري عن الأدعياء وبالخصوص من بعض مجاميع التأسلم أو الإسلام السياسي].

تلك هي لغة الرؤى الأسطورية في منطقها الاعتقادي وبناء على كون الاعتقاد إيمان لا يقبل المراجعة والتساؤل تمتنع معه لغة البرهان عندما يتصل الأمر بمسائل الجوهر ولكنَّ السادة المعنيين بجدلنا هذا يذهبون بالأمر ليصلوا به إلى امتناع الجدل حتى في العَرَضي والتفصيلي مما أ ُبـِـيح فيه بل وجب فيه العمل والحركة والتغيير.. إذ كُـلـِّف الإنسان بإعمار الأرض واُسْتـُخلِف عليها أما أمور المنع والمصادرة والتكفير ومن ثمَّ القتل والتصفية الجسدية والفكرية بحرق المؤلَّفات والبحوث وتحريم تداولها, أما كلّ ذلك فهو من بنات أفكار أدعياء ومواقف ليس القصد منها إلا إدامة الجهل والتخلف والتبلـّد العقلي ومنع التفكير ومصادرته واستلاب الحياة الإنسانية  وتشويهها وجعلها مجرد أدوات طيِّعة في أيدي بلهاء العصر ونكراته من سفهاء القوم ولكنهم الخبثاء الذين يملكون الحيلة والمكر الكافيين للعب بمصائر الناس وتوجيهها الوجهة الاستغلالية المناسبة لمآربهم…

 ولطالما وجدنا مثل هؤلاء الأدعياء واكتشفنا مقاصدهم في تاريخنا الإنساني والعربي [أو الشرق أوسطي] على وجه الخصوص وحصل هذا عندما قـُتِل الحجاج الصوفي وعندما أحرقوا كتب ابن رشد وعندما أفتوا بتكفير طه حسين ونجيب محفوظ وحامد نصر أبو زيد ومارسيل خليفة ومغاربة ومشارقة والقائمة لم تنتهِ بعدُ بل هي مفتوحة نهمة تطلب المزيد من روائح الدم قرابين لأمراض تلك المرجعيات ..

وفي حربنا من أجل الإنسان وقيمه السامية ومن أجل التنوير ليس من مناص إلا المزيد من التعاطي مع المعارف البشرية والخبرة الإنسانية المتراكمة ومن التعاطي مع منطق التفكير البرهاني الذي يعالج الوقائع كما هي ويبني الرأي على أسس وأسباب واقعية موضوعية علمية وليس على أوهام وافتراضات دعيّة تختبئ وراءها مقاصد خطيرة تقف بوجه مصالح الإنسان ومطامحه…

وليس لنا في خضم ذلك إلا أنْ نبرهن بحق على أنَّ العلماء ليسوا مصادر أو أوعية علمية جوفاء من القيم الروحية السامية .. ونحن نبرهن يوميا على عمق البناء الروحي للعالم الجليل وعلى علاقته الوطيدة التي لا يكتفي بإعلانها في الربط بين العلم والأخلاق بين المعرفة والسلوك بل يمارسها في تفاصيل حياته اليومية.. بخلاف الأدعياء من  بعض المعمَّمين والمبرقعين المسربلين بجلابيب التمظهر والخديعة وللإنسان منّا أنْ يتبيَّن أنْ ليس كل من لبس الزِّيّ [الديني] صار فقيها حقا بدينه ولزم اتباعه.. فيما أصحاب البرهان علماء يتقدمون بنا إلى عالم النور والروح الإنساني الرحب ..

ما يوقف مصادرتنا ومصادرة حريات الناس وعقولهم هو صلة وطيدة أكيدة بين العلماء وفقهاء علوم السياسة والاجتماع والنفس والتربية والفسلفة والأدب وفروع المعرفة كافة بما يعزز نور البرهان في عوالم الإيمان الصادقة الحقة لا المزعومة المتوهمة والمقاصد الصادقة لا المقاصد المتسترة التي تخفي المرضي الردئ.. وما يتبقى من هذه الكلمة دعوة لعلمائنا ليدلوا بآرائهم في مفاهيم التنوير العقلي واللغة البرهانية وتكامل الخطابات الإنسانية وتعزيز ثقافتنا ومعارفنا بما يمنع أو يقطع الطريق على الأدعياء من سرقة القلوب وإماتة العقول أو تجييرها بطرق رخيصة معادية للإنسان في وجوده الذي وضعته الفسلفات التنويرية أثمن رأسمال وكنّا صدَّقنا وآمنا بأنَّه كُرِّم باستخلافه على الأرض لتعميرها .. فما بال تلك المراجع المزعومة تقف بوجه ما صدقناه وآمنا به وتغذ السير في طريق الظلام والبؤس وإهانة الإنسان وكرامته وقيمه العليا في الحياة وتستلبه إرادة القرار وتصادر عقله وفكره وتضعه عبدا في حين يولد حرا بعقل يكتسب الخبرات والأهلية حيثما واصل امتلاك تلك الحرية, أفليست مصادرته واستعباده هي ما يخالف قدسية الإيمان والاعتقاد؟!!! أوليس منطق لغة البيان  ذات المسلَّمات البديهية المسبقة هو أصل بلاء حيث يصادر لغة البرهان وأهله والتفكير الإنساني الصحيح وإرادته الحرة؟؟؟ فلنناقش عسانا نصل إلى مواضع العلاج لانتشار بعض المرض في بعض فئاتنا من غير دراية أو انتباه لمخاطر ما يصيبنا من وراء هذا التوجه…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *