المرأة العراقية في ظل قوانين الاستبداد

بدأ المجتمع الإنساني بالانتساب إلى المرأة الأم التي يولد من رحمها كل شئ من تفاصيل الحركة والحياة والنماء.. وكانت المرأة في المجتمعات الأولى سيدة الموقف حتى كانت تسمية نسب الفرد تعود إليها. وسجّلت الشرائع القديمة حقوقها فأعلت من مكانتها وحفظت لها تميّزا مهما في الحياة الاجتماعية…

ولكنها كثيرا ما عانت جراء التشوهات التي نجمت عن طبيعة تقسيم العمل الاجتماعي ونتيجة لسطوة القوة والتسلـّط في الحياة العامة عندما صار للملكية وتوزيع الثروة منزلة القانون العام وجوهر سياسة السلطة الجديدة في المجتمع الإنساني..

وعراقيا كان للمرأة عبر تاريخنا القديم والحديث دورها المميّز. وقد سجّل لها تاريخ وادي الرافدين موقعها المؤثر في الحياة العامة.. فلقد كانت الأم التي تدير منزلها وتدبر شؤونه بكل التفاصيل ولكنها لمتكتفِ بذلك ولم تقف عند جدران البيت وحيطانه الصماء..

فنزلت إلى حقول الرعي والزراعة وأدارت أنوال الصناعة حياكة ونسجا وطحنا وتشكيلا وتصنيعا لمواد السوق وبضاعة المجتمع البشري.. وظلت المرأة العراقية محتفظة بموقعها في تصدرها قائمة اليد العاملة في الريف وفي مساهمتها الفاعلة في المدن والقصبات..

ونتيجة للخبرات التي اكتسبتها في نضالاتها الاجتماعية العامة وفي حيوات الفرد العراقي عبر تاريخه ولإصرارها على اكتساب المعارف والتعاطي معها.. كانت كثيرا من القرى والنواحي تـُقسم وتحلف بأسماء نساء.. وأسفار بلاد ما بين النهرين تحتفظ هي الأخرى بتاريخ حافل لقيادة المرأة ممالك ودول ومنظمات وليس غريبا هذا على تاريخ وادي الحضارات الإنسانية الأولى..

لكنّ كلّ هذا المجد لم يأتِ سهلا فلقد عانت المرأة العراقية الأمرَّيـْن وهي تحيا في كنف البيت الجديد للعائلة العراقية منذ ما يقارب الألفي سنة من الشدائد.. وفي الدولة العراقية الحديثة فقدت العراقية كثيرا من مواقعها التي ثبتتها عبر تاريخها النضالي المميز وعبر مكانتها الحقيقية ومساهماتها الجدية الكبيرة..

وعادت من جديد تعمل من أجل استعادة مكانتها.. وكان مطلع القرن العشرين مرحلة منطلق ومبتدأ للثورة الاجتماعية عندما عبر الشاعر عن تلك الثورة بدعوتها لتمزيق اللفائف التي كانت تحجبها عن النور وتحيطها بظلمة الفكر قبل أنْ تحجبها لباسا وثيابا!

اسفري يا ابنة فهر             فالحجاب ظلم وخيم

وهكذا نزلت متظاهرة بل قائدة للمنظمات السياسية والمهنية والفئوية الاجتماعية، ليرافق عملها هذا واقع وجودها في المزارع والمعامل والمصانع ودوائر العمل والانتاج وفي المدارس والمعاهد والجامعات.. وكان من نتيجة تصدرها أنْ كانت أول وزيرة في المنطقة عندما تسلّمت الوزارة بُعيد ثورة الرابع عشر من تموز 1958…

ومع ذلك واجهت المرأة العراقية مقاصل الجلاد في العام 1963 مثلما جابهتها يوم أصدر الدعي الفاسق قوانين ” العار!؟” بذبح المتهمات بجرائم مخلة بــ”الشرف”؟! في التسعينات وهو يخفي عاره محاولا منع المرأة العراقية من العمل السياسي والاجتماعي العام، عبر خلطه أوراق القضايا الوطنية المشرّفة بأمور ينتمي إليها هو لا نساء العراق وأحراره..

وبالعودة إلى مكتسبات المرأة العراقية نتذكر معاَ َ قوانين الأحوال الشخصية التي نالت بوساطتها النسوة بعضا من حقوقهنّ. ولكن تلك القوانين كثيرا ما كانت تحتقن بهجمات معادية للنيل منها ومما احتفظت به من مكتسبات للمرأة..

وجرى هذا عادة بعد التغيرات التي أصابت الواقع السياسي والاجتماعي العراقي في ظل حكم طغاة البعثفاشي والصدامية الدموية الفاسدة. وكانت عمليات مهاجمة المرأة العراقية في نهوضها من أجل مكانتها وقيمها الإيجابية الفاعلة المؤثرة لم تقتصر على الجوانب القانونية بل اتجه البعثفاشي حزبا ومؤسسات إلى عمليات التسقيط سيئة الصيت التي استخدموا لتنفيذها تشكيل اتحاد نساء ومنظمات اتحادية أخرى مشبوهة كانت وكرا للفساد ووكيلا رسميا لدوائر الأمن والمخابرات وعرّابا لطلبات الفساد لعائلة الدكتاتور وحاشيته..

وليس بعيدا عن مثل تلك السياسة القذرة ما يجري من تشويه للمرأة العراقية في الزمن الجديد.. ومن هجمات تتعرض لها بخطورة أكبر.. فبحجة الحجاب الذي انتهت منه المرأة العراقية منذ مطلع القرن المنصرم، تجري مضايقات خطيرة الأهداف على نساء العراق..

وبحجة العفة والشرف والتديّن يجري منع المرأة من التوجه للعمل؛ علما أن المرأة العراقية هي نفسها التي سدّت موقع أخيها الرجل الذي أرسلوه إلى مطاحن الموت وحروب الدمار المتعاقبة التي ما توقفت منذ ثلاثين سنة من العنف والدم وروائح الموت الأسود طاعون بلاد الخير والنماء..

ويتمّ منع الشابات والنسوة من التوجه للجامعات والمعاهد ولمدارس العلم والمعرفة..  والأنكى منه منع الفتيات الصغيرات من التوجه إلى مدارسهنّ وإباحة فتاوى لتزويجهنّ بهذا العمر من محتلّي بلادنا من دخلاء توجهوا إلينا تحت راية الدين الإسلامي من شرق البلاد وغربها على حدّ سواء ولكلّ دخيل دوره وآلياته في التعاطي مع هذه القضية الخطيرة..

إنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في مظاهر حجاب الثياب وبراقع الملابس وأقنعة السواد [كبنكات قادمة من الغرب والجنوب أو كواني قادمة من الشرق] ولكنّها في جواهر ما يلفون بها عقول نسائنا ويمنعونهنّ من الحياة العادية وممارسة وجودهن الإنساني الطبيعي السوي..

ومن الطبيعي فالمعركة كما ترون بالأمس لم تكن بين رجل وامرأة بل بين فلسفة ذكورية مرضية وفلسفة إنسانية صحية صحيحة .. وكما ترون فلقد استخدم الطغاة نساء في معركتهم ضد المرأة العراقية وحقوقها كما هو مثال أفعال الفساد التي مورست عبر اتحاد النساء البعثفاشي سئ الصيت والسمعة..

ولن يختلف طغاة المراحل الجديدة عن تلك القديمة في استغلال بعض نساء للعبث بمصير المرأة وحقوقها كما هو حال تسيير بعض المظاهرات المتلفعة بالسواد من حجاب العقل والحياة ووضعهنّ على أرفف الفلسفة الذكورية المريضة وتطويعهنّ لمآرب رخيصة وأهداف أقل ما يقال فيها مرضها!!!

وتتشكل اليوم منظمات من “نسوة” ليس لهنّ إلا الوقوع فرائس سهلة لتوجيهات جهلة ومستغلي الظلمة وأجوائها المتخلفة ليسيّروا مواكبهم باتجاه مزيد من التعقيدات والمشكلات التي ستجابه المرأة العراقية في ظل ما يُسمى حملات إيمانية من الفاسقين بالأمس ومن المارقين اليوم.. ولا عجب؟

وهكذا صار على المرأة العراقية أن تضاعف مهامها من أجل التمسك بمكتسباتها بل من أجل تطويرها والحصول على مواقع جديدة مختلفة عن هوامش الأمس وتزويقاته، بتشكيل اتحاد للفساد وتنفيذ سياسة السلطة الباغية وهي اليوم تتخذ المنوال نفسه وتستغل الدرس ذاته.. وتضع ممثلات في الوزارة للبصم ولتمرير أمور خطيرة واليوم يأتون بنسوة للبصم والتوقيع والإمضاء في أخطر المواقع شأنا..

من هنا كان على المرأة العراقية وهي تجابه مشكلة التمثيل الحقيقي لصوتها في البرلمان ومشكلة التمثيل الحقيقي في رسم الدستور أن تعمّق تحالفاتها مع القوى المتنورة من أجل منع الاستدارة بالتاريخ ضد مصالحها وضد القيم الإنسانية السليمة الصحيحة..

ولنتذكر من تجربة الشهر الذي حكم به ممثل القوة “الفائزة” بالانتخابات فكان من أول ما فعله هو إلغاء قانون الأحوال الشخصية والإتيان بقانون يضعها في جحور الظلام والموت والخذلان وفي بيوت الطاعة التي يغتصبون بها النسوة ليل نهار بذريعة أنهنّ ملجة [milcha] من أملاك الرجل في الحقيقة الرجل المريض السادي وليس غير…

لابد للمرأة العراقية أنْ تعي ما تجابهه اليوم وألا تنخرط في منظمات حجاب الخدعة وحجاب العقل وأن تتصرف بوصفها إنسانة حرة وليست عبدة لأي إنسان فالعبودية ليست لبشر. وعليها أن توسع من منظماتها وتوحدها في جهة قوية أو تنسّق الجهود وأن يجري التثقيف باتجاه تصعيد العمل الاجتماعي العام والمبادرة قبل أن تضع تلك القوى ثقلها وتتخذ إجراءات ليس من السهل مجابهتها ..

وأن تتخذ من أرضية القانون المرحلي للدولة سندا لتوسيع المقاصد الإيجابية ومنع الاعتداء على ما سجلته من مكتسبات سابقة بل التوجه لتعزيز مكانتها.. وسنّ قوانين تحميها وتحمي المجتمع من ترسبات القوى الطارئة على مجتمعنا وما أكثرها عددا ولكن أرضيتها لن تكون ذات حجم وقوة بغير سلبيتنا من مسارات الأمور.. بينما سيتحتم علينا أن نمضي في قارب التصويت لقوى غير التي يأتمر بها أزواج وأخوة يتجهون بنسائهم المملوكات لهم إلى طريق عبوديتهنّ!! فهل ستفعلها المرأة العراقية ابنة شبعاد ملكة أعلى حضارة إنسانية شأنا؟

هل ستوقف قوانين الاستبداد التي تزعم وتدعي العدل والإنصاف والتديّن وهي أسّ الظلم والتحيّز والفساد في حقيقتها وفي جوهنر مستهدفاتها ولكنها تتستر خلف أقنعة وبراقع وخلف حجاب مزيف يستر عورات استبدادهم ولكنه لا يمكن أنْ يمرره على نسوة العراق اللواتي يعرفنّ عن معايشة ما يجري لهنّ وعليهنّ تربية أبنائهن وبناتهن على الفكر النيّر الذي سيأخذ لهنّ حقوقهن بمساهمة جدية فاعلة منهنّ جميعا..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *