المندائيون بين جذور العراق السومرية وتطلعات الحاضر والمستقبل الإنسانية والوطنية

  الصابئة مجموعة قومية تشكلت من بين أولى المجموعات السومرية في أحضان هذا الإقليم الذي شهد ولادة الحضارة البشرية الأولى.. ومع امتداد الزمن يتحدث اليوم أبناء هذه المجموعة مستخدمين المندائية اسما علما لهم في إشارة لتراث ثقافي حضاري يحتضنونه ويواصلون مسيرة تعبيرهم عن شخصيتهم القومية والدينية

              وما تنبغي الإشارة إليه هنا هو غنى تلك الشخصية ودورها المميز في الميدان المحيط بدل حالة الإنغلاق التي تعانيها مجموعات أكبر تعدادا سكانيا في أماكن أخرى من العالم. وهذا الغنى يتأتى من فاعلية الاندماج بالمحيط الوطني العراقي المعاصر وتقديم خيرة أبناء البلاد المبدعين والمفكرين المعروفين عراقيا وعالميا..

               ولقد كتب ويُكتب عن هذا الأمر شيئا كثيرا وكبيرا. وقد تصاعدت حملات الكتابة بالخصوص في ضوء تطورات أوضاع شاذة في وطن ما بين النهرين تلك التي استهدفت أطياف شعبنا العراقي من أصحاب الديانات العراقية القديمة ومن المجموعات التي ساهمت في بناء حضارة الإنسانية وتراثها التنويري المتمدن كما المندائية.. إلا أنَّ ما يهمنا هنا لا تلك الكتابات الجدية الطيبة المدافعة عن المندائيين ولا طبيعة توكيدها على هويتهم الإنسانية والقومية والوطنية…

              بل يهمنا هنا  تشخيص ما يقف وراء الحملات التصفوية الدموية وأعمال التهجير والإبعاد للمندائيين من وطن التصقوا به وبمسيرته التاريخية والوطنية المخصوصة عبر آلاف السنوات العجاف من دون أن ينفصموا عنه للحظة حتى أنَّ أحد أبرز علماء العراق رفض مغريات وتهديدات أرادت له الباقء خارج الوطن ولكنه أبى إلا أن يعود ليبني العراق ويقدم عطائه فيه وعبره وهو العالم الجليل المرحوم عبدالجبار عبدالله…

               المندائيون لا يكافحون من أجل حقهم الإنساني في البقاء ببيتهم العراقي بل يشددون النضال من أجل الدفاع عن حضارة العراق التي مثلت تاريخ المدنية بروحها التعددي وبتنوع أطيافها وبنسيجها المتآلف المتحد المتفاعل إيجابيا.. وهم إذ يطلبون النصرة والتأييد لا يطلبونها لكونهم ضحايا معركة شرسة مع أعدائهم لوحدهم بل يستنفرون المجتمع العراقي بنسيجه الوطني المعروف بغناه القومي الديني ليقف من جديد وباستمرارية وتواصل مع مسيرة عشرة آلاف عام من العطاء الموحد لمجموع القوى والمكونات العراقية الأصيلة..

              والدفاع عن المندائية دفاع عن هوية عراقية.. ودفاع عن تاريخ العراق، ودفاع عن حضارته التي سجلت تراث البشرية في المسيرة المطبوعة بالسلم ونهجه وبالتعايش المتفتح المتفاعل إيجابا، وهو دفاع عن بقاء روح التنوير وروح الوحدة وروح التقدم والعطاء الأخوي لكل العراقيين يمتلكون حقوقهم الإنسانية كاملة ويؤدون واجباتهم تجاه بعضهم بعضا.. فهل من ينتظر ويتوانى عن مهمة عراقية المعنى والمعطى لأنَّ فيه فكرة خاطئة في أنه ليس المعني بهجمة التصفية أو أنه بعيد عنها؟؟

              أثق أنَّ العراقيين سواء في الهوى والهدف والتعاطي مع ما يمكن أن يصيب طيف أو آخر وتلك سمة النسيج الوطني العراقي الموحد.. كما أن الثقافة السائدة في الفكر العراقي بالتحديد منه المعاصر منذ ولادة الدولة الوطنية بُعيد خروج القوات الأجنبية مطلع القرن الماضي؛ بقيت ثقافة تفاعل إيجابي ووحدة وطنية واهتمام بكل الطيف العراقي المتنوع وبالعمل على تحقيق مصالح المجموع من دون استثناء أو إقصاء بالضد من سياسات الحكام والطغاة…

             ونجح الخطاب الوطني في التصدي لكل محاولات تنحية القوى الحية الفاعلة لهذه المجموعة أو تلك وتقدم بذلك المندائيون ليكونوا من بين العراقيين الأوائل في البناء وفي التخطيط لعراق ديموقراطي متقدم يُعلي من شأن أبنائه ويخدم مصالحهم جميعا.. واليوم وقد دخل العراق الجديد مرحلة حاسمة  تقع بين ضغوط القوى الدخيلة عليه ومقاومة أبنائه لابد من تحديد جملة أمور مهمة لتعزيز تلك المقاومة والانتصار فيها للعراقيين ومنهم المندائيين…

             فينبغي العودة للدستور العراقي المستفتى عليه ومراجعته بما يغني فقرات  ومعطيات احترام المجموعات القومية والدينية المتآخية في هذا الوطن وبما يعزز من هوية وطنية تُعنى بروح المواطنة واحترام مبادئ العدل والمساواة بين تلك المجموعات وبين أبناء الوطن الواحد بشرا متساوين في الخقوق والواجبات بلا قيود ولا شروط ولا تسيد لطرف على آخر بسبب من تمييز يخضع لأساس أو ذريعة أو أخرى..

             ولأننا بصدد تفعيل مبدأ الفديرالية فنحن نقرأ وقد كنا قرأنا أمر الفديرالية على أساس من كونه فلسفة للتوحيد لا للتمزيق ومبدأ لاحترام حقوق المجموعات والأطياف العراقية جميعا لا على أسس للتمزيق والتشظي بل على أسس للتفعيل وتعضيد الجهود الوطنية المشتركة.. ومثل هذا يأتي من أمر مهم يتأسس على رفض دعوات التفتيت الطائفية والحلول المشوَّهة التي لا تفهم ولا تقرأ الفديرالية كما ينبغي لها أن تكون في عراقنا…

              فالأمر لا يعود إلى تقسيم الأرض والثروات وتفكيك البلاد والعباد ووضعهم في حال من التعارض والاصطدام والتشطير بل يأتي من خصوصية توزيع العراق والعراقيين فمن جهة الوطن لم يشهد التاريخ اتفاقا وطنيا إلا على الديموقراطية للعراق الموحد والفديرالية لكردستان وهو ما ينبغي السير فيه بطمأنينة وجدية تستكمل تطبيقاته المؤملة…

             وإذا كانت مسألة فديرالية كردستان قد تمت لظروف تاريخية معروفة وهي بحاجة لتطوير ودعم من جهة استكمال أمور التخطيط الإداري الجغرافي ومتعلقات المدن والقصبات المختلف بصددها وهو ما تحسمه النظرة الموضوعية للأمور والاستجابة للإحصاءات الرسمية المعروفة ولاستفتاء الرأي في تلك المناطق المخصوصة؛ فإنَّ أمر إشاعة الديموقراطية وتعزيز مؤسسات العمل الديموقراطي ما زالت دون المستوى المنتظر..

               صحيح أننا نمتلك جمعية وطنية منتخبة أيا كانت الثغرات إلا أنه من الصحيح أن التمثيل للعراقيين في تلك الجمعية لا يتناسب والحجم النوعي للتأثيرات العاملة لكل الأطياف العراقية التي أُصيَت عبر عقود من الزمن… وقد كان لتجاريب عدد من الحركات السياسية والثقافية والاجتماعية ولمؤسسات المجتمع المدني معالجتها بالخصوص عندما أوجدت منظمات وفروع شبه مستقلة تمكثل الأطياف العراقية..

                وقد كنّا اقترحنا أن يتشكل البرلمان العراقي من مستويين أو تشكيلين واحد بعضوية مباشرة لعموم الوطن وآخر بعضوية نسبية متساوية لمجموع الطيف العراقي أي برلمان اتحادي وهنا بالتحديد يكون للمندائيين وجودهم على المستوى التشريعي الوطني بحجمهم النوعي الحقيقي ولعل وجود برلمان اتحادي بهذه التركيبة التي ترتقي بمستوى تفعيل الوحدة الوطنية وترتقي بمستوى الاحترام لحجمهم الإنساني القويم هو حلّ يساهم في وقف جريمة التصفيات وتمرير بعض العناصر والقوى لجريمتها التشطيرية على أسس مرضية…

               وحتى يجري تطوير التشكيلات التشريعية والقضائية والتنفيذية العراقية على أسس وطنية توحد لا تفرّق وتعضد التفاعل لا تشطِّر ولا تقسِّم يلزم لنا أن نعمل بشكل جدي فاعل وبتوحيد لجهودنا بمعون مؤمل من القوى الدولية لكي تضغط وتمنع الأصابع الدخيلة على مجتمعنا لتمنح المندائيين بالتحديد فرصتهم في:

  1. متابعة ممارسة طقوسهم وحياتهم الطبيعية بشعائها المخصوصة بكل حرية وأمان…
  2. توفير الفرص لثقافتهم القومية والدينية المخصوصة بطبع كتبهم ونتاجهم بلا قيود ومصادرات..
  3. منح العناية الوافية برعاية اللغة وتعليمها وبأبنية تُعنى بهوية المندائيين..
  4. إعلان رجال الدين من المذاهب الإسلامية حرمة الاعتداء على المندائيين وإجراء لقاءات تطبيعية تعلن للملأ أن رجال الدين من كل الأطراف ضد ما يجري للمندائيين من قتل واستلاب حقوق..
  5. تحفيز الأنشطة الثقافية والإعلامية المناسبة بالخصوص.
  6. إدخال ما يساعد على توطيد العمل الوطني المشترك ويطبِّع العلاقات مؤكدا مسارها التاريخي الصحيح بين مجموع العراقيين ومنهم المندائيين..
  7. الإفادة من مؤتمرات وطنية ودولية دورية يجري إعدادها بالخصوص لما يقدم الحلول المناسبة لحماية المندائيين وجعل حيواتهم آمنة مستقربة غير معرضة لأي ضغط سلبي بما يمنح الفرصة لتفعيل إبداعاتهم وأنشطتهم عامة..

وسيبقى ملف العراقيين وأطيافهم وملف المندائيين بالتحديد مفتوحا حتى يجري تطبيع الأوضاع العامة على أنه يلزم قراءة كل ملف باستقلالية وحصوصية كما ملف المندائيين لأن مثل هذا التوجه يساعد على كشف حقيق أصل الجريمة المرتكبة بحق العراق والعراقيين.. وليس من عراقي أصيل وحقيقي من يساهم أو يمرر جرحا بحق المندائيين الذين أسسوا للتعايش السلمي وللطمأنينة وللحرية ولمبادئ الخير والعمل البناء ولوحدة الوطن ومسيرته وللمعرفة التنويرية.. فهل بعد هذا نترك تمسكنا بوجودهم بيننا نبراسا وشعلة عراقية حضارية لحياتنا المعاصرة والمقبلة…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *