دفاعا عن الثقافة العراقية.. دفاعا عن المثقف العراقي!

القسم الأول

للثقافة العراقية جذور تاريخية بعيدة، تعرَّف إليها العراقي وغيره. وقد سجلت المعارف الإنسانية حقيقة أن وادي الرافدين طوال عشرة آلاف عام شهد انكسارات [عسكرية] لكنه حتى في ظل تلك الهزائم “العسكرية” كان المنتصر ثقافيا وحضاريا.. ولم يتردد العراقيون في مسيرة حضارتهم وتفاصيل ثقافاتهم وغناها وتنوعها من السير قدما إلى أمام؛ ما أعاد دائما الوجه المشرق لثقافة التفتح والتنوير ولأسس الحضارة الإنسانية وتراثها الخالد.. وهكذا ما كانت الثقافة العراقية ولا المثقف العراقي الذي أبدعها بحاجة للتزويق أو الشهادات المرضية والتزكيات البائسة على طريقة الكتابات الصحفية العجلى والحبلى بأمراض [أعداء الثقافة العراقية المضيئة]!؟

وها نحن اليوم نقرأ بضع أسطر يكتبها أصحاب الأسماء المستعارة وأخرى المتشنجة الموتورة مهاجمين المثقف العراقي بله الثقافة العراقية في ظل اختلاق أزمة أو افتعال مشكلة.. وآخر ما صرنا نقرأ ونسمع ما تعلق بانعقاد مؤتمر للمثقفين والمفكرين والأكاديميين العراقيين في العاصمة الأردنية عمّان. وهو المؤتمر الذي قدم نفسه وأعضاءه كونه جزءا من مسيرة الثقافة العراقية ومنظماتها وكونه واحدا من روافدها  لا بديلا لأية منظمة  ثقافية عراقية ولا مختزلا لأيّ منها ولا لادّعاء التمثيل المطلق للثقافة والمثقف العراقيين…

إنَّ هذا التقديم المتسم بالتواضع يشير إلى حرص المجتمعين على توكيد احترام الآخر ممن لم يحضر المؤتمر، وعلى تقديس التعددية والتنوع في إطار الثقافة العراقية، وعلى تبجيل الحجم النوعي الكبير للمثقف العراقي من جهة الأعداد الموجودة في داخل الوطن أو المنتشرة في المهاجر ودول الشتات، الأمر الذي لا يمكن جمعهم في آن واحد…

ولكن المؤتمر انعقد على أساس أنَّ تأخير تأسيس مجلس للثقافة العراقية هو أمر غير مقبول عند توقف الحجج والذرائع على أبواب أما جمع [كلّ] المثقفين العراقيين أو لا اجتماع كما ظهر في أصوات بعينها!! وقد وجد أصحاب مشروع “المجلس العراقي للثقافة” أن الرحلة تبدأ بخطوة ولتكن هذه الخطوة من محاولة جادة للمّ الشمل في مجلس يُعنى بالثقافة وهموم المثقف والتصدي لأشكال المطاردات والمصادرات ومحاولات الاغتيال وأعمال التصفية الجسدية والمعنوية الأدبية… وهكذا كان انعقاد مؤتمر عمّان فرصة لتعاضد الخبرات وتوحيدها وصبها في معالجات أقرت نظاما تأسيسيا للعمل وأصدرت بلاغا موجزا يركز على الأمور الرئيسة التي تنتظر المثقف العراقي للعمل من أجل وضع الحلول والمعالجات والبدائل المؤملة لها فضلا عن مشروعات مهمة لمسيرة نوعية جديدة…

وقد تجاوز أعضاء المؤتمر كثيرا من لغة الخطاب السياسي وأمراضه من قبيل الالتفات إلى مسائل تتحدث عن [تزكية] المثقف والثقافة العراقيين، وهي إشكالية يُراد من ورائها نقل أمراض الواقع إلى داخل الجسم الثقافي بما يعرقل أية بادرة لتفعيل دور الثقافة والمثقف في تقديم البدائل للأزمة القائمة..

وقد كان لقاء النخبة الأكاديمية الإبداعية أرضية لتوكيد الهوية الوطنية للمثقف العراقي ووحدة أسسها وامتناعها على التفكيك والتفتيت وعلى الشرذمة والاصطراع على أسس سياسية مفتعلة من قبيل التقسيمات الطائفية وأمراضها والتقسيمات الحزبية الفئوية أو تلك القائمة على الاتهامات الباطلة وخلفياتها حتى عندما تدعي البحث في مصالحة مجتزأة عرجاء جوهرها الإلغاء وبدائل ناقصة….

ولاحظوا معي هنا أنَّ أية مبادرة عراقية للقاء وللتفاعل وتوحيد الجهود تتعرض إلى أسئلة التعريض والاتهام ومحاولة إغراق المبادرة بهذه الطريقة الخرقاء من العيش في أوهام نظريات مرضية من قبيل نظرية المؤامرة وأن أية مبادرة تبدأ، إنما تبدأ بتخطيط مؤامراتي من جهات دولية وإقليمية أو من عملاء محليين أو أوباش من بقايا مجرمي النظام السابق!!! وهكذا يبحثون عن فسحة للغة الشتيمة والتعريض والاتهام ليس غير…

لقد جرت حالات مهاجمة بصيغة المطلق للمؤتمر وأعضائه كافة بالاستناد إلى مهاجمة شخصية أو أخرى أو واقعة في حياة هذه الشخصية الثقافية أو تلك. وكانت أغلب الهجمات المرضية تستند إلى تفاصيل هامشية تجاه الجوهر النوعي لمهمة مؤتمر الثقافة العراقية.. كأن يجري الحديث عن زواج سابق لشخصية أو زيارة لأخرى أو لقاء لثالثة وكأن الدنيا تنتهي على أبواب تلك التفاصيل المُصاغة بطرائق تعريضية مشخصنة… والحق أقول: إنَّ تلك الهجمات والاتهامات التي تتعرض لشخصيات ثقافية عراقية هي التي تخدم أولا وآخرا جهات السلب والإضرار بعراق اليوم والغد…

لقد تحدثت أصوات لها رعاية في إعلام الصحف الصفراء؛ صحف الإثارة والفضائح عن عمالة شخصية أو أخرى ولكنها لم تتحدث [وهي لا تسطيع التحدث] عن موقف المؤتمر الواضح والصريح من الأزمة العراقية بكل مفرداتها؛ سواء في رفض الاحتلال الأجنبي للوطن أم في الموقف الشجاع والمميز من الميليشيات ومن قوى الإرهاب التي عاثت في الوطن فسادا وتخريبا وتدميرا وتحاول قطع الطريق على جهود أبنائه لإعادة إعماره وبناء صرحه الجديد وغده الأفضل والأجمل…

لقد جاء البيان الختامي بعد مناقشات مستفيضة من جميع الأصوات المتنوعة وحتى المختلفة لتؤكد على أن رفض الاحتلال مبدأ وطني لا خلاف عليه وهو ليس عقدة مرضية أو شعارا تضليليا كما يحصل في انشغال أطراف أو شخوص بالحديث عن مفردة الاحتلال بسذاجة وبعيدا عن قراءة الواقع وظروف المرحلة وتشابكاتها ومتطلباتها وأسس معالجة القضايا الملتهبة وطبيعة أولوياتها؛ ولكننا نحن المثقفين العراقيين لسنا في سياقات تلك المراهقة السياسية أو رؤى الطفولية والتطرف التي لا مصلحة لها في استقرار الوضع العراقي وتطمين ظروفه وحاجاته الأمنية بمساعدات دولية وإقليمية مطلوبة في اللحظة الراهنة بقوة وتحديدا مسألة وجود القوات الأجنبية في هذا الظرف الخاص..

ونحن ندرك أن مرحلتنا تحتضن من القوى المختلفة، قوى العنف الدموي المتسترة بشعارات [تدعي الوطنية] لكن شعاراتها تبقى مجرد تضليل في جوهرها والدليل برهان ساطع في مجريات الأمور على الأرض حيث الوطن الذي يُذبح يوميا أبناؤه بأيدي أولئك الأدعياء أو المضلَّلين أو المراهقين السياسيين ولا أستبعد في هذا الخطاب المشوّه حتى وجود أطراف طيبة النية صحيحتها لكن النية الحسنة وحدها لا تكفي……

ومن هنا فإنَّ قوى الثقافة الوطنية العراقية والأكاديميين والعلماء والمبدعين أدباء وفنانين بحاجة لصبر ونـَفـَس طويل هم الأقدر والأجدر على تحمل عبء السير به لمعالجة تلك المخلفات والتركة الثقيلة التي نجابه نتائجها الكارثية اليوم.. وعلى هذا التحليل وهذه القراءة جاء بيان مثقفينا في موقفه الحاسم الحازم من تلك التركة المرضية التي صارت تربة لمجتمع العنف والدموية والإرهاب…

وإذا أردنا بحق متابعة الخطابات التي رافقت المؤتمر سواء من داخله أم من خارجه فإننا سنلاحظ الأطراف الآتية:

  1. طرف سبقت الإشارة إليه في تغليبه لغة الخطاب السياسي على الثقافي والمعرفي الأكاديمي، وفي هذا لا اختزال الخطابات المعرفية وتنوعها وتلونها بل تسطيح حتى للخطاب السياسي نفسه؛ عندما يجري التعامل مع هذا الخطاب من نافذة ضيقة تطل على مفردة من مفردات هذا الخطاب كما يجري التعامل مع مفردة الاحتلال من جهة الوقوف عند مبدأ رفض الاحتلال والحق في مقاومته [بكل السبل]! وكأن الدنيا [وليس الخطاب السياسي وحده] تبدأ وتنتهي عند هذا المبدأ وعند هذه المفردة! وطبعا يدرك الإنسان العاقل أن الحياة غنية بمعطياتها ومتطلباتها وحاجاتها وأن الإنسان لا ينتحر عند أقدام مفردة من مفردات حياته….
  2. طرف يرى في استقلال الخطاب الثقافي أنه لا علاقة له بكل الخطابات المعرفية الأخرى حتى أنه لا يكتفي باستقلالية ذياك الخطاب بل يعدّ خطابه الثقافي منفصلا تماما عن بقية الخطابات ويرى أن نناقش الثقافة في شأن واحد هو الشأن الإبداعي الأدبي والفني حسب؛ مُهمِلا تشابك العلائق المعرفية الإنسانية وأهمية تفاعلاتها وواقعية البحث في نتائج ذلك بموضوعية ومنطق عقلي مناسب…
  3. طرف من خارج المؤتمر ظل يصب جام انفعاله وغضبه من بوابة الاتهامات التضليلية سواء منها المتعلقة بإطلاق سمة العمالة على جميع أعضاء المؤتمر أم بمسائل تتعلق بالاتهامات الفضائحية ذات الهدف التسقيطي من نمط التعريض بشرف الشخصية أو بقبولها الرشاوى وبيع الضمير والكلمة مقابل مصالح مادية رخيصة! ومن الطبيعي أن يبحث مثل هذا الطرف عن أية زلة أو هفوة أو التباس أو تهمة في التاريخ الشخصي البحت للمثقف عضو المؤتمر.. ومن الحق أن نردّ هنا على هذه التخرصات بأن الثقافة تبقى نشاطا جمعيا يتصدى له أبناء المجتمع طوعا ما يستدعي بالمقابل الحرص على خصوصيات من يتقدم بهذا العمل الجمعي واحترام شؤونه الشخصية كمبدأ أول. ومن الإنصاف والمنطق الصحيح أن يتم التركيز في الحوارات على الصحيح الصائب من الخطأ في الرؤية أو الفكرة قيد المناقشة والحوار لا غير… فهل فعل المهاجمون والتزموا الحوار الموضوعي؟!! وهل حقا تحدثوا بمصداقية وأمانة أم امتلأت أحاديثهم وادعاءاتهم بالافتراءات؟
  4. والطرف الآخر يتمثل في أولئك الذين يبحثون عن وجودهم من باب المظاهر والحضور في الملتقيات فإنْ لم يكونوا في ملتقى طعنوا فيه.. وهؤلاء من المنتفعين والسطحيين والأفاقين وليس من فائدة في مناقشة معهم أو الوقوف عند تعاطيهم مع الهامشيات الفضفاضة الفقيرة…
  5. وما يهمني هنا بالضبط في إشارتي هذه أنْ أقدِّم احترامي وشكري لكل متسائل أو مناقش ومحاور أدلى برأيه أو تساؤله تطمينا لموقف أو معاضدة لفكرة موضوعية أو إغناء لمسيرة وهؤلاء نسبتهم مهمة كميا ونوعيا. ويلزم أن نقدم لهم التحية لتداخلاتهم ونحن ننتظر منهم بالتأكيد، بعد اطلاعهم على النظام الداخلي للمجلس الوليد وعلى البلاغ الختامي وعلى برامج ومشروعات العمل، أن يُبدوا آراءهم الموضوعية لتطوير مشروعات البناء والمساهمة في الإيجابي الصائب الذي ينبغي أن يكون لهم فيه جهدهم الأساس للتطوير والتقدم بالمشروعات الثقافية الوطنية النبيلة…

ولايوجد بعد هذا من يدعي أنه الأول والآخر فقد جرت محاولات كثيرة للعمل على تنظيم مثقفينا وستجري متصلة تلك المحاولات مستفيدة من دراسة عوامل الإخفاق ودوافع النجاح القابل.. وأجزم أن هذا التشكيل سيتقدم بفضل عوامل منها:

  1. الروح العملي التنفيذي لدى المبادرين واللجنة التحضيرية وتوافر عامل الدعم المادي المناسب على مدى السنة الأولى من عمر مسيرة المجلس العراقي للثقافة.. وقد أدرك المؤتمرون هذه الحقيقة فأعادوا انتخاب شخصيتين لمواقع الأداء والعمل هما الأمين العام والسيدة التي احتلت مهام المقرر ذلك أن السيد إراهيم الزبيدي والسيدة غادة بطي قد نهضا عمليا بمهام جدية ناشطة ومؤثرة. وما بعد شكر لعدد من الفاعلين ولأعضاء المؤتمر يبقى الفعل النوعي الأوسع كامنا فيما ينبغي أن يتم من خلال نوافذ جديدة أرحب ترفع عن الكاهل الفردي مهام المسيرة وتحولها للعمل الجمعي في أداء الأمانة العامة مباركين للشخصيتين عطاءهما وأداءهما طوال أنشطة التحضير للمؤتمر وفي أثنائه أيضا…
  2. التفاف أطياف متنوعة من مثقفينا في رؤاها وأفكارها وفي أنماط العطاء والتخصص. وتفاعل الجميع في إطار هوية وطنية عراقية واضحة مع توكيد وطيد على إعلاء شأن الخصوصيات القومية  الأثنية والحريات وعوامل احترام الآخر ما يمنح فرصا حقيقية لتلاقح الثقافات في الإطار الوطني الاتحادي وتفاعلها إنسانيا وبطرائق مشرقة…
  3. اعتماد العلمنة وعلى وفق جوهرها الصائب في احترام الديانات والمذاهب وتوفير الحقوق في الممارسات الحرة لثقافة التنوير والانعتاق من أية أشكال من المصادرات وحالات الإلغاء أو من اية سطوة للغة التكفير الديني والحظر السياسي ما يعطي معنى جدي لبناء مؤسسات الدولة الوطنية على أسس مدنية متينة الوجود فيها متاح للجميع على حد سواء إلا للأطراف التي تقوم على معاداة الإنسانية…
  4. المؤسسة الجديدة تحتضن الخطاب الثقافي والمثقف العراقي في خطابه المستقل من دون إغفال لبقية الخطابات والتفاعل معها على وفق أولويات التخصص هنا والاستقلالية لا الإنفصال والتقاطع…
  5. وجود آليات عمل مخطط لها ومدروسة وستحظى بالمتابعة على وفق برامج مرسومة بعد دراسة معمقة فضلا عن استقبال التجاريب والخبرات والتفاعل معها بما يؤمِّن مسيرة متوالية النجاحات..

وبعامة فإنَّ مؤتمر عمّان لم تنته أعماله بعد.. فقد جرت اتفاقات جدية من قبيل إصدار بيان عمان بعد الانتهاء من دراسات مخصوصة.. وتوضيب مشروعات والاتجاه لتنفيذها ما يحتاج لجهود أخرى حيث الأمور التطبيقية العملية بعد الجهود التخطيطية.. ومن الطبيعي أن نقول: إ، هذا لن يتعارض مع وجود مجالس للثقافة العراقية أو ولادة أخرى في الظرف الراهن من هلامية مؤسسة الدولة العراقية وتمزقها..

بل نجزم، أننا سنكون في حال من التوافق والتفاعل بين مجموع تلك المجالس العراقية للثقافة حتى تتوحد في أجواء مناسبة قابلة. إذ الأصل أن يكون للمثقفين العراقيين مجلس وطني واحد بفروعه التي تحتضن تنوع أطيافه ولغات أبناء الوطن إلى جانب النهوض بمهام العناية بمجموعات مثقفينا في مهاجرهم ومنافيهم القسرية والاختيارية..

وعليه سيكون من المهم الالتفات إلى تعاطينا جميعا بحرص وحذر مع هذه الحقيقة في تعددية مؤسساتنا الثقافية وطرائق تفاعلها وتوحيد جهودها من غير قبول بحالات التنافس والأهواء والمصالح الضيقة المضرة..

ويمكن الإشارة إلى أن منظماتنا قد استوعبت الدرس وجاءت بإيجابية الروح والتعاطي مع التجربة فوجدنا اتحاد الأدباء والكتّاب وعديد من المنظمات من داخل الوطن ووجدنا رابطة الكتاب والفنانين الديموقراطيين العراقيين والبرلمان الثقافي العراقي في المهجر وغيرهما من منظمات الثقافة العراقية في خارج الوطن ووجدنا شخصياتنا الأكاديمية والثقافية تتضامن مع الفعل الموجود ميدانيا…

ولحديثنا بقية تصف أجواء المؤتمر والحلقات النقاشية الحوارية وما يمكن أن يعزز ويدعم ويعالج ما قد شاب من أمور ينبغي استكمالها.. فإلى لقاء.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *