المصالحة الوطنية في العراق

قراءات في شؤون التحالف والتسامح وثقافة الحوار

هذه بعض أبرز مفردات محاضرة تمَّ إلقاؤها في غرفة ينابيع العراق بشأن المصالحة الوطنية… في الثاني من فبراير شباط الجاري….

تحية لهذا الجمع الذي يلتقي من أجل الوصول لتطمين حاجات العراق والعراقيين في حياة آمنة إنسانية مستقرة، وهو جمع مهم لتنوير عملية المصالحة وتوسيع آفاقها وتفعيلها.. ولأن أول الطريق في الظرف القائم يبدأ من مشاركة حقة في عمليات البناء والتقدم وتطمين هذي الحاجات فإن موضوعة المصالحة تبقى في الصدارة من جهة الأهمية… لكن المصالحة مثلها مثل أي موضوع يمكن أنْ تكونَ مداخلـُه موضوعية أو غيرها من نمط المتاجرة والشعاراتية والاستخدام التكتيكي وما إلى ذلك، ما يتطلب الاتفاق على آليات مناسبة للسير فيها وعلى وفق مفهوم محدد وقوى وميدان واقعي لكل خطوة….

فالمصالحة الوطنية عند بعضهم تختزل الأمر في توافقات سياسية بين الزعامات وإن اتسعت قليلا فلن تكون أكثر من مؤتمر وفاق بين القوى الحزبية والتيارات السياسية وهو في بعض قراءتنا للواقع الحالي يمثل حقيقة عدد من المبادرات في الإطار.. ومن ثمَّ فإنَّ ما يصدر من خطاب في ضوء هذا الاختزال سيظل قاصرا عن إشراك حتى جماهير القوى السياسية المعنية ويبقي الحوار الدائر محصورا خلف أسوار مؤتمرات واجتماعات تظل أسيرة بقيم المحاصصة الحزبية  المشروطة من جهة وبأولويات برامج تلك القوى وفلسفاتها وخلفياتها ومرجعياتها وعلائقها محليا وإقليميا ودوليا…

المصالحة الوطنية اليوم في هذه المحاضرة ستحاول التوجه لوضع مفهوم يتسع للجمهور المستهدف من جهة ويستوعب حالات الاختلاف والتناقض ويقترح الآليات المؤملة للسير المتدرج والموضوعي في الوضع العراقي الراهن… ومن هنا كان عليَّ أنْ أسجل حقيقة وجود موافقة مبدئية في إطار الوعي الجمعي العراقي على الشروع بعملية مصالحة وطنية تمثل مصالحة مع الذات والهوية العراقية تحديدا..

إذ أنَّ أخطر أمر لدى العراقي هو في حالة الانفصام والتشرذم وروح الفردنة والانقسام التي فرضتها عقود من الاستلاب والمصادرة وتشويه بنية المجتمع العراقي ومنتجه العقلي [لاحظوا معي تلك العناصر التي تحاول أن تغذي الفرقة الطائفية عبر تسجيلات تلفازية وأنترنيتية ولقاءات جماهيرية حاشدة]… إلى جانب الدور السلبي الخطير لفلسفتي الطائفية والإرهاب اللتين تحكمتا في الوضع العراقي طوال سنوات انهيار الدكتاتورية…

لقد وجد السياسي نفسه أمام ضرورة تغيير خطابه للإفلات من ضغوط تقدم الوعي الشعبي وردوده وأمام ضغوط مسيرة المحاصصة وتبادل الأدوار والتضاغطات المصلحية بالخصوص… وهنا لابد من الحديث عن طبيعة الصراعات التناحرية الموجودة التي فرضت لغتها باتجاه مبادرة بعينها في إطار العملية الحكومية وإعادة حقائب المحاصصة للمشاركة مستبدلين بهذا التوجه عملية سياسية بأخرى [التوافق الحكومي  بالمصالحة أي ترك المصالحة الوطنية واتخاذ مسار التوافق الحكومي المحدود بالمشاركين في العملية السياسية] بمقابل حالة من الوعي الجمعي العراقي المصرّ على الشروع بعملية مصالحة وطنية حقيقية تمثل مصالحة مع الذات والهوية العراقية في جوهرها واعترافا بالآخر بدءا من حال التنوع في الطيف المكون للمجتمع العراقي ومرورا بالتركيبة الفكرية السياسية العراقية وليس انتهاءَ َ بالتأكيد بمصداقية الأطراف كافة وتطمين الثقة بينها بقدر ما يستمر لتوليد أوضاع جديدة في العراق الجديد نوعيا..

* إذن لنسجل سويا هنا أهمية التمييز بين مصالحة محدودة بلغة التوافق وتبادل القبول بحجم الحصص وتوزيعها وأخرى تمثل جوهرا نوعيا مختلفا بحجمه وشاملا بكينونته…

لقد توسعت نسبيا القوى المشاركة في العملية السياسية بين مرحلة مجلس الحكم ومرحلة الوزارة التي دخلت فيها قوى مناطقية طائفية جديدة… ولكن مثل هذا الأمر لا يعني أننا توصلنا لتغيير جوهري بهذا الاتساع.. إذ في حقيقة الأمر لم نكسب هنا سوى قوى بنفس الجوهر الفكري وآليات عملها أقصد المؤسس على فكر طائفي مع استثناءات مُحاصَرة ومع مواقف جزئية صغيرة جديدة ناجمة عن تطور في المنحى العام….

ولا ننسى أن الفكر الطائفي يجر إلى جملة أمور منها تمويه الوعي الطبقي وتشويهه وتغطية التقسيمات الاقتصا اجتماعية وتقديم نموذج قاصر ومشوه للتركيبة الأثنية القومية الدينية المذهبية في المجتمع ومن الطبيعي بعد ذلك أن نشهد إشكالية خطيرة بصدد التركيبة الصحية المتفاعلة إيجابا فلا وجود للطبقات والفئات والموجود الوحيد هو الزعامة الفردية أو الحزبية التي يستبدلون بها القوى المجتمعية الحية ويقصرون الحديث والحوار عليها بلا رجوع إلى الدائرة الأوسع حتى في القضايا الاستراتيجية والمصيرية…

طيب، السؤال المقدم أين ممثلو العمال والفلاحين والطلبة والنساء؟ أليس العمال والفلاحون بأوسع حجما ومكوّنا طبقيا؟ أليسوا أصحاب كلمة بوصفهم مكوّنا وأصحاب قرار؟ ألا ينطبق نسبيا هذا على الطلبة؟ ألا ينطبق هذا على الطبقة الوسطى صاحبة الخبرة الأكبر والمعرفة الأعمق كما في العلماء والأساتذة والمهندسين والأطباء؟ ثم نأتي متأخرين لمكوِّن مهم وصاحب خصوصية في المجتمع، لنتساءل أليست النساء اليوم ممن يشكلّن أكثر حوالي من الـ60% من مجتمعنا ومن ثمَّ يمتلكن حق المشاركة في القضايا الأهم كما في قضية المصالحة؟

وغير هذه التركيبة سنجد لمجتمعنا مكوناته القومية والدينية شرائح وفئات ومجموعات مهمة تم إخراجها من دائرة الحوار بشأن المصالحة… وعليه فإن القوى المدعوة للقيام بدورها الإيجابي هي تلك التي تنسجم مع هذا الجوهر وتؤمن به وتعمل على وضعه في أرض الواقع بعملها الدائب المثابر وليس بالادعاء والمنافقة لأهداف خفية… و مَنْ هو المقصود بالمصالحة الوطنية فهم هنا إذن كلّ فئات شعبنا العراقي من دون استثناء سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين, وسواء كانوا شيعة أم سنّة, وسواء كانوا كوردا أم كلدوآشوريين أم تركمان أم عربا, وسواء كانوا علمانيين من اليسار أم من اليمين.. كلّهم مدعوون لحمل مبادئ التعايش السلمي ومن ثمَّ المصالحة الوطنية الحقيقية التي تصمد أمام كلّ الهجمات وأعمال التخريب من أجل جيل عراقي يحيا بسلام وحرية…

الاستثناء الوحيد ليس استثناء بالمعنى الطبيعي لأنَّه يُخرِج القسم الذي يرفض الانتماء للحياة السلمية الطبيعية للمجتمع الإنساني.. إنَّه استثناء منقطع [كما يعبر عنه قول النُحاة بدقة] وليس متصلا بمعنى أنَّ المستثنى لا ينتمي بالمرّة إلى جنس المستثنى منه ولا يتصل به لا من قريب ولا من بعيد وعليه فهو ليس استثناء ولكنّه تجنيب القاعدة والكلّ والمجموع شرَّ فئة دخيلة لا تختلف مع هذا الكلّ وقواعده بل تعمل على تقويضه وتدميره وإخضاعه لاستبداد الفئة المريضة التي لا تكتفي حسب رؤيتها الخاصة بما بين يديها بل دوما هي في طمع وعينها على ما في يد الآخر حتى أنفاسه تريد امتلاكها وتطويعها لمآربها الرديئة.. فهل هذا استثناء ونقص في الديموقراطية؟

والذي يحدِّد هذه القوى ليس الآخر [أيا كان] بل القوى نفسها هي التي تقدِّم نفسها عبر برامجها السياسية وبياناتها وبلاغاتها وطبيعة تفاعلها مع الوقائع والأحداث الجارية.

عقبات أمام المصالحة الحقة:

لنتحدث عن أزمة الثقة وبدائل الوضع [البديل المؤسساتي والشفافية والنزاهة أو مكافحة الفساد واعتماد الكفاءة]

بمعنى شرط المصالحة الوطنية هو التعادل والمساواة وعدم تقدم طرف على آخر لا دينا ولا سياسة ولا فكرا ولا بأي مسمى آخر.. والمصالحة الوطنية شرط الحياة الجديدة ولكنها عندما لا تكون ملغومة بالخديعة لأنَّ ذاك سيؤدي إلى نسفها في أقرب منعرج   أو سيؤدي إلى تفكيك الثقة ومحوها بشكل أخطر من السابق. ومَنْ يقوم بهذا ليسس سوى بعض القوى وإنْ كانت ضيقة الحجم والوجود من التي تعمل على اختراق الصفوف والاندساس في الوسط بحجج وذرائع وأقنعة متنوعة مختلفة ..   [توضيحات مضافة]

عن انتفاء الشفافية في إجراءات السلطة السياسية القائمة

 أتساءل بشأن المفاوضات التي تجري في الكواليس مع قوى مسلحة وطبيعة التنازلات المقدمة  [توضيحات مضافة]

عن نسبة الفساد والنزاهة أو المصداقية في العمل

 أتساءل عن قضية الحصص المتبادلة في أي اتفاق سياسي بما يشير إلى المناصب واستغلالها وتحديدا الموقف من الثروة الوطنية وأتساءل عن الكفاءة في تسلم المهام والمسؤوليات بديلا  [توضيحات مضافة]

لنتحدث عن درجة مشاركة الآخر في صياغة أو اتخاذ القرار

أتساءل عن حقيقة التوجه للمصالحة وما يخبئ الطرف الممسك بالقرار أو السلطة  [توضيحات مضافة]

كما ينبغي  الالتفات إلى توجه جهات بعينها لدفع أصوات ساذجة للدفاع عن فسلفة أو إجراء أو ما شابه بطريقة أبواق الكوبونات أيام زمان..إغراق الإعلام بتشويش خطير من هذه الأصوات[توضيحات مضافة]

في قضية تفعيل دور المرأة كيف يأتي وهي حبيسة بيت محاصر مستلب مهدد وهي ضحية التصفية بين الخضوع لابتزاز الاغتصاب والاختطاف وتهديد التصفية الجسدية  [توضيحات مضافة]

هذا ضرب لصوت أكثر من نصف المجتمع إنه ضرب لصوت المجتمع الحر  وهو إضعاف للقوى والحركات المناصرة كونها تفقد أهم جناخ في تنظيمها وتركيبتها

في قضية المجموعات القومية والدينية إقصاء وسحق بآلة جهنمية للحريات فيكاد الأرمن يختفون من مشهد البصرة ومحافظات أخرى ويكاد الصابئي المندائي يصبح كما أمسى اليهود بعد عمليات الفرهود ويتجه الأيزيدي لمزيد من المذابح وحدث بلا حرج عندما تأتي للشعب الكلداني الآشوري السرياني فهو في خبر كان من جهة دوره في اتخاذ القرار وهؤلاء جميعا يُختزلون في مسمى الأقليات تهميشا واستلابا وإلغاء وإقصاء فعن أي مصالحة يتحدث الطائفيون وهم يخوضون حربا ضروسا ضد الآخر بفلسفة التكفير البائسة ينبغي الالتفات إلى طبيعة هذه افشارة وأخميتها وإلى محدداتها [توضيحات مضافة]

العمال حاولوا بالأمس التدخل لحماية الثروة الوطنية [النفط] وحرّك رئيس الوزراء الجيش ضدهم لا تهديدا لفظيا بل بشكل عملي وقرأ قراره وزير النفط بأن هؤلاء لا وجود رسمي لهم على وفق قرار [[مجلس قيادة الثورة المنحل]]؟!!! وهم تحت سيف المقصلة بشأن تنظيماتهم وبشأن أدوارهم الوطنية..

من الطبيعي أن تكون عملية إقصاءهم ومصادرتهم وإلغاء وجودهم المنظم مدخلا للإبقاء على سطوة القوى الطائفية ومصالحها

أي حديث عن الفلاح وهو تحت مشكلات مادية وتنظيمية ومعرفية..  استباحة بكل المقاييس لا ماء و لا أرض مستصلحة و لا أجهزة ولا تنظيمات صحيحة فضلا عن أمية مطبقة ومصادرة المنطق العقلي بهلوسات وخرافات وأساطير تحدث القرآن والأديان عنها حتى صار القرآن ممنوعا في مكتبة أدعياء تمثيل الله على الأرض

الحل لإشراك الجميع يكمن في إعلان الحوار الوطني العام المفتوح..

طيب أي مصالحة نتحدث عنها وأطراف العملية السياسية بين متخذ لسياسة إقليمية أو دولية وممثل لها وبين نهم مصالح نفعية لا وجود لمصلحة وطنية فيها  كيف يمكن التحدث عن قيم وطنية لدى طرف يُعلي أولوية الطائفي عنده وبشكل صريح فج ويرى في لقائه مع مرجعية مبررا صلاته بها بالمذهبية فهذا يلتقي وإيران وذاك يلتقي والسعودية

لاحظوا طريقة مهاجمة أي حديث عن دور عربي ولا أتحدث عن الرسمي بل عن الشعبي حيث اختلاق المشكلات بوجه كل ما يصنف عربيا حتى أننا بتنا لا نسمع في العراق عن العراقي العربي وسط ضجيج الحديث عن مسميات شيعي وكوردي بطريقة لا وجود لاسم العراق فيها لا قبل التسمية ولا بعدها وعند الحديث عن العربي يسمونه السني أو العربي السني أو السني العربي

لاحظوا في الحديث عن الجامعة العربية أنها عاجزة وأنها منحازة وأنها لا جدوى منها وإلى غير ذلك فلنتسائل عمن يضعها في موضع العجز ولماذا لا نقبل بحوار مع أي طرف يمكنه أن يضيف أو يمكننا أن نستفيد منه  [توضيحات مضافة]

في مفهوم المصالحة وأسباب\آليات تفعيلها:

نهج الحوار جوهر المصالحة

والمصالحة الوطنية بعد ذلك بحاجة إلى حوار تحترم شروطه جميع القوى الداخلة فيه وهي شروط لمنع تقديم قوة على أخرى أو استلاب بعضها من حق من حقوقها أو انتقاص حقوق فئة أو مجموعة أو طائفة أو غلبة جهة واحتلالها مقعد كرسي القيادة .. لقد ولّى زمن الحزب الواحد وزمن الحزب القائد (المتفرّد بحسب شرعية العنف والإكراه) وولّى زمن الوصاية لطرف على الأطراف الأخرى.. ولكنَّ بديلنا ينبغي ألا يكون الفوضى أو[انفلاشية] تدّعي أنّها الديموقراطية وتتلبس لبوس العدالة والدفاع عن (جميع) المواطنين وليس المقصود من هذا الجميع إلا الجزء المهزوم من مجرمي الأمس…

وتوسيع مساحة المشاركة في الإدارة

ومنح الصلاحيات للقوى  والفئات الشعبية بالمعطى الديموقراطي للتفاعل والأخذ بالرؤى الصحيحة الصادقة وتفعيل تنفيذها في الوقت الملائم.

وعليه فلابد من تشكيل لجان الحوار الوطني من داخل قوى العملية السياسية  ومن خارجها.

وعلى صعيد القوى السياسية فإنَّ  أوّل مهمة حيوية ينبغي أنْ يشكّل كلّ حزب سياسي لها لجنة متفرّغة لوضع تصورات الحزب المعين عن نقاط اللقاء والنقاط التي تتطلب المناقشة والتفاوض وهذه من أوليات خلق أرضية التحالفات على صعيد التيارات المتقاربة كتيار اليسار وتيار الوسط وتيار اليمين أو يسار الوسط أو الليبرالي أو الديموقراطي أو الوطني التقدمي أو ما شابه.. فهناك أرضيات متنوعة وغنية يمكنها أنْ تشكِّل البداية الحقيقية للقاء الوطني العام…

خلق الأجواء التوافقية على إنجاز حاجات المرحلة التي أشرنا إليها أول مقالتا .. هنا المصالحة تعني وقف العنف بين القوى واللجوء إلى القواسم المشتركة

وعلى كلّ قوة أنْ تقدِّم مشروعها وتضعه بين جماهير الناس ولتكن المشاريع والبرامج هي الوسيلة وليكن الحَكَم هو القوى العريضة التصويتية .. فإذا لم نحترم خيار الشعب اليوم وهو في ظرفه المعقد الذي يمنعه من التصويت المباشر, فإنّه سيحكم من جهة على القوة التي تتجاوز خياراته في القريب بشكل أكيد ولكنَّ المشكلة من جهة أخرى هي أنَّنا بعدم احترامنا لخياره سنُوقِعُ أنفسنا والحياة العراقية في مآزق لا حصر لها.. وإلا فلابد لأية قوة سياسية أنْ تقنع جماهيرها بما تراه حلا لإشكالات الوضع القائم..

ما نأتي إليه من خلاصة أنَّ الجميع مشمول بالمصالحة وقد تكون لبعضنا الشجاعة على الاعتذار عمّا سلف ولا يوجد تيار أو طرف مستثنى وقد يأتي زمن الاعتذار لاحقا ولكن التسامح اليوم ووقف التناحر والتقاطع والانشغالات الهامشية أو الثانوية لحساب الرئيس الأساس من المهمات، لأمر أخطر من أن يُهمل أو يؤجل. ومن الطبيعي أنْ نقول عن المجرمين المعروفين من شعبنا: إنَّهم خارج قائمة المصالحة الوطنية لأنهم ليسوا من قوى البناء وإعادة إعمار البلاد..

 

ومن الخلاصة نشير إلى برنامج المصالحة وهو مهمة وضع الميثاق أو العقد الاجتماعي الوطني الذي نتحول به إلى دولة الديموقراطية. إنَّ القاسم هنا غير قابل للخلاف أو الاختلاف والتغاير .. فلا ينتظر جائع أو مريض أو طالب حاجة حياتية تخص بقاء الإنسان أو موته هذا لا ينتظر حوارا أو مناقشة بيزنطية أو سفسطة هي جعجعة بلا طحن. المطلوب العمل والمواجهة المباشرة .. وكلّ قوة ستتلكأ في التعاطي مع عملية بناء دولتنا الجديدة ستجد نفسها خارج خيار جماهير الشعب وسيكون من الصعب عليها تعويض مواقفها السلبية أو وقوفها موقف المتفرّج تجاه وضعنا الراهن..

المصالحة الوطنية هي التهيئة الوحيدة المطلوبة على المستوى الذاتي للقوى والتيارات الموجودة وهي المهمة الجوهرية التي ينتقلون بجماهيرهم عبرها إلى عالم مختلف عن الماضي البائد. لأنَّها تعني التعاطي بين الأنا والآخر بوسائل سلمية .. بوسائل تعايش وتفاعل بدلا من التقاطع والاحتراب . .

وهي (أي المصالحة…) تعني روح الأخوة الوطنية التي تقدِّم روح المواطنة على أي خصوصية أخرى أي سمة الهوية العراقية والمصلحة الوطنية العليا فوق الحزبية الضيقة فوق التيار السياسي وتحالفاته وفوق الانتماء لدين أو طائفة أو مذهب أو عرق أو قومية أو ما إلى ذلك.. عندها تكون الطلائع السياسية على مستوى المسؤولية الكافية لتقدم الصفوف نحو مجتمع السلم، مجتمع الديموقراطية، مجتمع الوفاق والتآخي..

كما تعني المصالحة جوهريا نظام العمل الديموقراطي حيث بلا اعتراف بالآخر وبلا توكيد للمساواة وبلا عمل مؤسساتي للمجتمع المدني لا وجود حقيقي للمصالحة كما مر معنا في توضيحات سابقة…..

ولن نحيا باستقرار من دون  تنازل بعضنا لبعضنا الآخر عن جزء من مطالبنا حيث تنتهي حرياتنا لحظة تبدأ حريات الآخرين .. وليس حيث تتسع مساحة سطوة طرف وسلطته وسيطرته على أكبر حصة من الكعكة! إنَّنا في وضع اليوم نعمل حيث لا  نسمح بتقسيم الزورق الذي نخترق به عباب بحر عالمنا المعاصر لأنَّ المعنى الوحيد للتقسيم هو غرق الجميع ولا وصول إلى برِّ الأمان. وهكذا تقَطّـُع أوصال حركاتنا وتياراتنا والتحجر عند بوابة ما نرى ونحلم به مستغلين الظرف فليِأخذ مَن يريد أخذ أكبر قطعة من زورق الوطن ولكنَّه لن يفلح بنجاة اللهم إلا إذا كان بمقدوره إعدام الجميع في مذبحة جديدة ليبقى متفردا بالزورق كلّه!!

نعم للمصالحة، نعم للحوار، نعم للعمل المشترك، نعم للقواسم الواحدة ولا لكلّ أشكال الفرقة والاحتراب ولإضاعة أية فرصة من الزمن اليوم قرار المصالحة وليس غدا لأنّنا اليوم أحوج إلى تجاوز الوضع المعقد…

 مشكلتنا مع الآخر من خارج العملية السياسية:

إنَّ أكثر مَنْ يحمل راية المصالحة هم دعاة الديموقراطية الحقيقيون.. ولكنَّنا يمكن أنْ نجد تشويشاَ َ على مسار هذه الدعوة انطلاقا من محاولة استغلالها لتشمل قوى لم تؤمن بالديموقراطية ولا تريد حتى الاعتذار عن جرائم ارتكبتها في ظل حكم الطغيان والاستبداد وتلتزمها فكرا وبرنامجا سياسيا خاصا بها من دون التراجع عنها…و تشدِّد هذه القوى على [حقها في التعبير عن فكرها الأصولي الفاشي العنصري] على أساس أنَّ الديموقراطية التي لا تستوعب تعبير [الجميع والجميع هنا يخص وجودهم فقط] تظل ناقصة ومشوهة بل هم يعلنون الحرب عليها، لوقفها حتى تتاح لهم فرصة عمل العنصرية الفاشية في أجواء الديموقراطية المنشودة…

إنَّ تلك الدعوات تنطوي على أمرين اثنين الأول يكمن في  التغطية على كلّ الجرائم التي اُرتُكِبت في ظل النظام السابق وعلى العناصر التي شاركت في الجريمة بحق شعبنا وبحق شعوب العالم ودولـِهِ.. على أساس أنَّ المصالحة على وفق مفاهيمهم تقتضي التسامح وعفا الله عمّا سلف!!! ولا تتمّ مصالحة [حسب رؤاهم] بغير وقف محاكمة أولئك المجرمين والاقتصاص من جرائمهم؟!!

والأمر الآخر بعد طمس الجريمة ومعالمها والتغطية على المجرمين, يكمن في البحث عن موطئ قدم ومكان لهذه القوى التخريبية في الوضع العراقي الجديد. ونحن نرى أنَّ سياسة إرهاب الشارع ما زالت ماثلة في خططهم عبر ترويع الأصوات التي تريد الفكاك من إسارهم ومن رؤاهم وأساليب عيشهم وعدم الاكتفاء بالتهديد للقوى الديموقراطية وقوى السلم الاجتماعي الوطنية العراقية..

إنَّ إشادة مجتمع السلم والديموقراطية والحريات العامة والتعددية، لايعني البتة إجازة قوى لا تؤمن بتلك المبادئ وهي تعمل جهارا نهارا ضدها.. كما لم تعن ِ الديموقراطية يوما إتاحة الفرصة للمجرمين أنْ يعبِّروا بحرية عن رؤاهم العنصرية الفاشية!! وأنْ يمارسوا الجريمة!!! ولكنَّ الديموقراطية ذاتها تستدعي إلزاما للقوى العاملة في ظلالها لكي تضع نصب عينيها موضوع السلم واحترام الآخر وأنْ تضمّنهما في جوهر سلوكها..

الديموقراطية أيضا لا توافق على شعار الفاشست الجدد [الحرية قبل العنصرية أو فوقها] بمعنى حق القوى الفاشية والعنصرية في العمل السياسي؟!! ولاندري كيف سيجتمع العمل السياسي السلمي مع الفكر العسكري القتالي المعادي لأمن المجتمع وأمانه واستقراره وكيف لنا أنْ نقبل قوى التخريب الاجتماعي والسياسي لتعمل من دون محاسبة؟!!

                                  ***  أما حول نظرية  [[ليس هناك ضحية ولا جلاد]] فيمهّد صاحب الفكرة لفكرته بكوننا [[جميعا مسؤولين عمّا جرى للعراق من نكبات.. فجميع القوى العراقية السياسية والاجتماعية اشتركت بوعي وبغير وعي في مسلسل انحدار الوطن نحو الكارثة]] ..

فهل من الصحيح المساواة بين الضحية والجلاد؟ وهل من الصائب القول كلنا جلادون وكلنا ضحايا؟! إذا قبلنا أنْ نقول بأنَّنا كلنا جلادون على أساس أنَّنا نجلد أنفسنا ليل نهار!! ونمارس دور الضحية الخطية؟؟ فكيف نقبل القول بأننا كلنا ضحايا؟ هل كان صدام ونظامه الدموي ضحية؟! وإذا كان كذلك فهو ضحية لـِمَنْ أيكون الطاغية ضحية شعبهِ!؟!!

ومن عجب الدهر أنْ نماثل بين التجاريب الإنسانية حتى تصبح الأرقام والمعادلات الرياضية الجافة الخالية من الإحساس والضمير تعبيرا عن الإنسان وتجاريبه!! وتصبح أمثلة البلدان الاشتراكية السابقة بمثل طاغية العصر وحكمه وجرائمه واغتياله لحيوات مئات ألوف من أبناء الشعب واستخدام الأسلحة المحرمة ضد الشعب فليُعرّفنا أحدهم لجرائم مثيلة في أيّ نظام من تلك المُشار إليها إذا كانت استخدمت أشكال القمع الصدامية؟ وليأتِ بأمثلة المشابهة الرياضية حتى؟!! ولكن المماثلة مقصود منها التحول السلمي بفقرة واحدة تتمثل بالعفو عن جرائم صدام وطغيانه محاولا تشبيه العفو هذا بمثل مشاركة الأحزاب الشيوعية وقيادييها وفوزهم في انتخابات بلدانهم ونُظُمها الجديدة… وهذا أمر من الخطورة بمكان ما يحتاج لوقفات أبعد……………………..

و يُراد لنا بعد ذلك التنازل عن دم الضحايا وشرفهم وكراماتهم عبر عصور التاريخ البشري!! وفي عراق اليوم والغد يُراد لنا التنازل عن عشرات ألوف الآشوريين الكلدان الذين ذُبِحوا واغتالتهم فاشية العصور والدهور! ويُراد لنا التنازل عن دماء عشرات ألوف الشيعة الذين اغتالتهم عنصرية الزمن الغابر والأغبر!! ويريدوننا أنْ نتنازل عن عشرات ألوف الكرد الذين اغتالتهم يد الغدر والعدوان الفاشية العنصرية!! ويريدوننا أنْ نتنازل عن كرامة وعن شرف كلّ عراقية وعراقي اغتصب منها ومنه حقهما في الحياة الحرة الكريمة الشريفة!!!

لسنا هنا مع قيم الانتقام والثأر فهي من مخلـّفات مجتمع الغاب والحياة والبقاء للأقوى سلطةَ َ وسطوةَ َ.. ولسنا مع وحشية القصاص وإنصاف المظلوم بإعطائه فرصة فوضوية للاقتصاص من غريمه.. لأنَّ العدل والاقتصاص القصد منه إعادة الحق لصاحبه. ولا تعيد الوحشية والهمجية حقا لأحد؛ ولكنّها تثبِّت قوانين الظالم المعتدي وتديم الفوضوية والهمجية وقيمهما التي تخدم الظلم والظالم. ولهذا فإن المنتظر هو القضاء العادل في ظروف صحية مكتملة النضج والأجواء….

*** وبخصوص اجتثاث البعث فتلك التصورات أو الطروحات  تصوره منقصة للديموقراطية وبداية لعهد عنف ودم وهذا يندرج في إطار التهديد الصريح لا غير… لأنَّ الصحيح أنْ يتمَّ التوافق على اجتثاث كل أفكار التخريب الفاشية والعنصرية وغيرها ووضع بديلها الديموقراطي السلمي في الحياة العامة.. وألا يوجد ما يهدِّد تلك الحياة الجديدة..

 وليس المقصود من اجتثاث أفكار البعث قتل البعثيين أو إعدامهم وتشريدهم وتركهم على قارعة الطريق كما يجري تصوير الأمر؛ ولكن ذلك لا يعني بالمرة ترك ما سرقوه من ثروات الشعب وترك فرص القوة بأيديهم ومن ثمَّ ترك مساحات التأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية تحت إمرة قواهم التخريبية..

بمعنى أنَّ الاجتثاث سيكون على وفق قوانين عادلة تنصف الحقوق البشرية وتمنع كل ما يمكن أنْ يكون أداة بيد شرير لممارسة عدوانيته في الحياة الجديدة.. وتلك من سنن العهد الجديد فرضيا حتى الآن…. أي حماية الناس ومصالحهم.. ومن تلك الحماية سياسة اجتثاث البعث بوصفه مظهر العنصرية والفاشية والتخريب وجوهره في بلادنا..

إنَّنا إذن، مع مصالحة شاملة كاملة ولكننا لسنا مع تسطيح الأمور إلى الحدِّ الذي نترك لخصومنا الطغاة والمخربين المعادين للديموقراطية وللذين يرفضون الاعتذار والتخلي عن منهج العنف والدموية، نترك لكلّ هؤلاء العمل بحرية فكأننا ننام ونحن نضع أفعى الكوبرا في فراشنا… وكم سيكون من السذاجة الاعتقاد بتغير المجرم بين ليلة وضحاها ناسين أو متناسين القول المأثور:”قالوا للحرامي احلف قال جاك الفرج …”

ولعلَّ للمجرمين أكثر من فرصة لمبدأ التقيّة ويمكنهم حتى أكثر من إعلان تخليهم عن ماضيهم ولكن أيّ سذاجة ستقبل التعاطي مع مجرم جرّبت القوى الوطنية معه كل التسامحات والسياسات السلمية التي ينعتها بعضهم بالخيانية في وقت يدعوننا اليوم إلى ما هو أسوأ من الصفح [ولسنا بحاجة للتذكير بصفح السبعينات والتحالف من أجل تجنيب شعبنا دورة دموية أخرى ولكن إلى ماذا انتهت تلك المسامحة؟ فهل يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟]!!

للعقل العراقي وللذاكرة العراقية حساسيتها تجاه الوقائع والتجاريب وله حكمه التاريخي والمصالحة هي مبدأ الحياة الجديدة والتسامح جوهرها ولكنَّ ذلك بين القوى الوطنية ولنبدأ مسيرتنا بأوسع توافق ولكن أمتنه وأقواه وليس أوهاه وأضعفه.. وليضع الحوار الوطني الشامل أسس قوانين الغد الجديد.. بكل انفتاحاته والحريات الواسعة الضرورية مع كل المحاذير التي تفرضها تلك الضرورة وتقتضيها لضبط مسارنا الجديد وحمايته…

 ان المصالحة الوطنية لا تعني نسيان الماضي وطي صفحته بشكل كامل، و لا يمكن تحقيقها الا من خلال تحقيق المسؤولية الجنائية و المدنية لما ارتكب من افعال بحق الانسانية في الماضي، والاعتراف بمعاناة الضحايا و ادانة جميع الانتهاكات و لغرض تحقيق المصالحة و نجاحها لابد من التعهد بالتعددية و التسامح و احترام التنوع و كذلك رفض اي نوع من انواع العنف كأداة للشرعية السياسية في الدولة، و العمل على اعتماد الوسائل السلمية لحل الخلافات الداخلية. و بذلك فأن تحقيق المصالحة يمكن ان يؤدي الى الحفاظ على الاف الارواح. اذ ان تقبل فكرة التعامل مع الماضي بهذه الطريقة، سيؤدي الى حماية حقوق الانسان.

 

وتوكيدا لمستلزمات الحوار أقول:

أول تلك المستلزمات للحوار الوطني العراقي أن تتخلى جميع القوى عن الشروط المسبقة وعن فرض تلك المطالب  بله النواهي بناء على مزاعم تمثيل أغلبية سكانية أو سياسية على وفق منظور بعينه.. كأن يدعي حزب تمثيله طائفة أو مذهبا أو دينا أو مجموعة ما.. وبناء عليه يفرض شروطه بالاستناد إلى ما يسميه أغلبيته التي يمثلها.. ومثالنا هنا بعض الأحزاب القادمة من حديثا للعراق الجديد من حدودنا وراء حدودنا الشرقية مسلحة بميليشياها؟!

وبالعائدية سيكون أمر التمثيل أمرا مستبعدا من الإكراه والقسر ويصير التمثيل للأفكار والرؤى الوطنية العامة فكل طرف يقدم رؤيته على أساس خدمتها مجموع العراقيين وليس فئة أو طائفة بأسس تقسيمية يتشظى فيها العراقيون ويحتربون بدلا من لقائهم ومجالس حوارهم.. وعلينا هنا إذن أن نتخطى منع الآخر من تمثيل من نزعم تمثيله وأن نترك للرؤى والخطط والفسلفات أن تتصدى لاي منها يفرض نغسه موضوعيا حلا لمشكلات مجموع أقاليم العراق ومجموع العراقيين…

والأمر الآخر من مستلزمات الحوار إزالة مظاهر التسلح العسكري وحل الميليشيات التي تشكل عوامل خرق لأصول الحوار السلمي الوطني المنتظر.. وهنا ينبغي تحديد تلك الميليشيات بما يُسمى قوات “بدر” وما يُسمى “جيش المهدي”  والمجموعات المسلحة في الغرب العراقي أو في جنوبه من دون حالة استثناء.. والقصد الأخير هنا منع توظيف بله استغلال السلاح في فرض شروط أو توازنات بعينها في ميدان الحوار السياسي الوطني العراقي..

كما ينبغي أن يتم ضبط الأوضاع الأمنية بما يمنع التهديدات الخطيرة بالاختطاف أو الاغتيال أو الابتزاز تحت التهديد بأي شكل من أشكاله.. ومن ذلك توفير الفرص الكافية للحركات الخاصة بمؤسسات المجتمع كي تلعب دورها الحيوي المنتظر ومنها روابط واتحادات المرأة مخضومة الحقوق والشغيلة ونقاباتهم المختلفة المتنوعة وفئات الطلبة والشبيبة ومنحهم ما يساعدهم على تطوير أدوات حواراتهم وإمكاناتهم على التصدي لأمورهم بكفاية وجدية ووعي…

إنَّ أعمال المنع والتحريم والتكفير ومن ثمَّ إهدار الدم أمر صار في وطن الرافدين عاملا أشاع أعمق ظروف إرهاب الناس وأولهم النساء العراقيات اللواتي تعمقت شواهد استغلالهن بكل أشكاله وأنواعه.. وعليه كان واجبا أن يبادر رجال الدين المتنورين، رجال الدين الحقيقيين وليس الأدعياء وبخاصة المرجعيات الصادقة ويطلقوا فتاواهم المخصوصة بموضوعات انفلتت اليوم وصار يعبث بها كل من هب ودب فيُصدِر هذا الدعي الجاهل المتخفي بعمامة وعباءة فتواه ويأتي زميله لينفذ حكم التكفير بالقتل واستباحة دم من حرِّم إيذاؤهم وليس منع قتلهم فقط..

إنَّ الحوار الوطني العراقي ليس بحاجة لتوصيف أكثر من كونه حوار بين مواطني العراق الذين انتموا إليه وجودا بالتمام والكمال ومن ثمَّ أن يجري الحوار الوطني بين مكونات الطيف العراقي من دون استثناء ومن دون تمييز بين فرد وآخر وبين مجموعة وأخرى لأي سبب كان سواء منه السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي وسواء منه الديني أم المذهبي أم الطائفي… ويكون مبدأ المساواة التامة بين الجميع أمر ثابت ومن مستلزمات الحوار حيث لا يتقدم طرف على آخر..

ولا ينبغي هنا إلا التذكير بأهمية ألا يكون طرف واعظا آمرا وآخر مستمعا يتلقى ما يرده من فوقه.. بل أن تستوي أطراف الحوار لا كبير ولا صغير إلا بمقدار ما يقدم من شروط عراقيته وانتماء أفكاره للوطن والشعب ولخدمة مصالحه بإقرار من الشعب نفسه وليس بقسر من مزاعم قيادة أو جهة أيا كانت سياسية أم دينية في مرجعية وجودها…

إن الحوار أساس بين أطراف عملية إدارة الأوضاع في البلاد وهذه الأطراف هي كل عراقي وجودا وانتماء ولا يحدد هذا طرف بل واقع الحال وطبيعته… من هنا لابد من أن يستعيد كل عراقي فرصته في قول كلمته أولا وفي إدارة خطابه الوطني ليصل مجموع العراقيين بدعم مؤسسات الدولة ولا يتركن جهاز الإعلام فئة أو مجموعة عراقية لا يصلها ويوصلها ويسمع صوتها بأية ذريعة أو حجة…

ومن مستلزمات نبحث عنها شرطا أو سببا لتعزيز الحوار الوطني شموليته لمكونات المجتمع وامتناعه عن روح الاتهام وفروضه المسبقة والتحول إلى حال من التعبير عن الذات العراقية الوطنية بمرجعية وطنية حيث يدور الحوار عن توجهات ورؤى وضمانات للجميع في تقديم تصوراتهم

إن مهمة الحوار الوطني العراقي كبيرة ولأن مسألة النهوض بدعم هذا التوجه جد  كبيرة وهائلة من جهة متطلباتها الإجرائية المادية وغير المادية.. صار من مستلزمات الأمر أن تتصدى الدولة ومؤسساتها لهذه المهمة وتفرد لها ميزانيتها وخططها التي تبدأ مشوار التنفيذ للحوار الوطني العراقي الشامل.. فهل ستبدأ الحكومة العراقية المهمة أم البرلمان الحاليين أم القادمين.. لنبدأ حيمها تعميق الدراسات المؤملة في هذه القضية الوطنية الكبرى والخطيرة!؟؟؟

 

المصالحة الوطنية: دعوة للتصالح مع الذات…    دعوات للتسامح والتواصل والتفاهم والعطاء للآخر

لقد وُضِعنا في زاوية أو خانق لم يعد لدينا من خيارات كثيرة  ولا قليلة؛ ومن أجل ضبط الوضع العام نحن بحاجة لسياسة واضحة في لغة التسامح تصل حدّ التعاطي مع قوى كانت ليوم قريب تضرب فينا ألما وتجريحا..

ولنبدأ أولا من لغة القبول بمخلَّفات ما قبل الدولة من تشكيلات تمَّ تركها وسطنا من عشائرية وقبلية وفئوية وهذه ينبغي أن يتم تحييدها ووضعها في مسار إيجابي بدلا من التقاطع معها ومن ثم الاحتراب والتقاتل.. أما كيف؟ فالأمر يعني أن نقرَّ بكينونة أحزاب وتشكيلات ترفع سياسة أو برامج الدفاع عن هذه الطائفة أو تلك، وأن نتفاعل مع الظاهرة بطريقة فيها تبيان لأخطاء التشرذم والتشظي والتشطير من جهة وفيها كذلك قبول وإنْ كان حذرا وفيه كثير من الحيطة والنباهة لمجريات الأفعال والأنشطة الدائرة من تلك الأطراف اي أن تكون المرحلة الأولى ضبط حدود لوجود القوى المشار إليها هي شروط القانون واحترامه..

إنَّ طبيعة الأجواء المحيطة والتوازنات القائمة تفرض على القوى الوطنية كافة بكل تنوعاتها أنْ تتجه إلى لغة السلم والديموقراطية والتفاعل فيما بينها على قاعدة التسامح والتصالح وإلا فليس من نهاية جدية حقيقية تلوح في الأفق للعراقيين..

وكل أولئك الذين يرون أنهم يستطيعون حسم الأمور إلى جانبهم سيجدون مزيدا من الخسائر وهي ليست أقل من مزيد من الدماء هدرا بسبب سطوة لغة الاقتتال والاندفاع الأهوج الذي لا يحتكم لمنطق عقلي.. وإذا كان صحيحا أن نستبعد قوى الجريمة المافيوية وأن نحاصرهم بلغة القانون وقوته وسلطته فإنه من الصائب تماما أن نتذكر عملية فرز جدية بين القوى ذات الوجود الجماهيري وتلك التي ليس لها وجود بغير الرصاصة التي تملكها..

علينا أن نعترف أولا بأمراضنا التي لحقت بذاتنا الوطنية أي بفئات شعبنا في ظروف الاستلاب والاستغلال السابقة وفي ظروف الاختلال اللاحقة نتيجة عدم ارتقاء قيادات السنوات الخمس المنصرمة لمستوى الوضع وتداعياته لظروف معقدة ومبررة أحيانا..

بلا توفير فرص العيش السليمة لن نستطيع كسب القوة الوافية لمسيرة المصالحة وستبقى فرص خطيرة لنفوذ القوى الأخرى باتجاه تفكيك المجتمع والدولة وتمزيق سفينة الوطن

 

وكخلاصة كان لابد من اقتراح عملي بالخصوص جرى التقدم به  في أوائل مايو 2006

بعنوان:   لنوقـِّع على حملة: “المشروع الوطني للتسامح والمصالحة العراقية”         لنُنـْشئ مكتب التنسيق للمشروع الوطني للتسامح والمصالحة العراقية

وكان المقترح يبدأ من تشكيل مكتب تنسيق تشترك فيه كل القوى العراقية بأطيافها الموجودة في البرلمان والحكومة أم خارجه والتي سارت في العملية السياسية أو بقيت حتى اللحظة خارجها.. لا شروط مسبقة إلا على من كان ركب أو يركب اليوم مركب الجريمة والتقتيل ومسارات العنف وهو ما تحكمه القوانين والأعراف “الوضعية” و “السماوية” وما يمكن فرزه بغير تعقيد من لغة الخطاب الخاص بمجموعة وجهة ما وبإجماع في الحكم والتشخيص لاستبعاد مثل تلك  الجهة أو المجموعة…

وهذا المجلس التمثيلي للعمل الوطني يؤدي أنشطته بجلسات دورية وبمتابعة عبر مكتب عمل مصغر مهمته اتصالية تنسيقية فيما المكتب العام لاتخاذ القرارات ورسم السياسات وتوجيه الاستشارات وتقديمها لمجموعات العمل من أجل إشاعة خطاب التصالح والتسامح.. على أن ينشط المكتب في عقد الملتقيات الوطنية والإقليمية والدولية المناسبة لحشد الدعم لمسار العملية السياسية وتبقى مهامه في الإطار الاستشاري ولكن المسموع صوته على أساس كونه المرجعية الوطنية البديلة للغة المحاصصة وخطابات التنافس والتسابق على توزيع العراق وخيراته ومكوناته الشعبية بطريقة مريضة…

 والآن لنناقش سريعا بنود المقترح الذي تكلس بلا مناقشة ولا تغيير لقد وصلنا يومها إلى بيان المصالحة الذي أطلقه السيد المالكي  ونصه الآتي:

1-اعتماد خطاب سياسي عقلاني من جانب القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية ومن قبل الحكومة لإعادة وتعميق روح الثقة وحيادية الإعلام.

2- اعتماد الحوار الوطني الصادق في التعامل مع كل الرؤى والمواقف السياسية المخالفة لرؤى ومواقف الحكومة والقوى المشاركة في العملية السياسية.

3- اعتماد شرعية الدستور القانونية لحل مشاكل البلد ومعالجة ظاهرة التصفيات الجسدية وبذل الجهود من أجل السيطرة على هذه الظاهرة الخطيرة.

4- تتخذ القوى السياسية المشاركة في الحكومة والعملية السياسية موقفا رافضا وصريحا ضد الإرهاب والصداميين.

5- إصدار عفو عن المعتقلين الذين لم يتورطوا في جرائم وأعمال إرهابية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتشكيل اللجان اللازمة لإطلاق سراح الأبرياء بالسرعة الممكنة، ويتعهد الراغب في الحصول على فرصة العفو بشجب العنف ودعم الحكومة الوطنية.

6- منع انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبة المسؤولين عن جرائم التعذيب وتمكين المنظمات الدولية من زيارة السجون وتفقد حالة السجناء.

7- التباحث مع القوات المتعددة الجنسيات من أجل وضع آليات تمنع انتهاك حقوق الإنسان والمدنيين خلال العمليات العسكرية.

8- حل مشاكل موظفي الدوائر المنحلة وبالأخص الجانب الاقتصادي والاستفادة من خبراتهم.

9- إعادة النظر في هيئة اجتثاث البعث بموجب ما نص عليه الدستور وإخضاعها للقانون والقضاء لتأخذ طابعا مهنيا ودستوريا.

10- اتخاذ إجراءات سريعة لتحسين الخدمات وبالأخص في المناطق الساخنة.

11- تفعيل اللجان التحضيرية التي انبثقت عن مؤتمر القاهرة (للوفاق الوطني) والتنسيق مع الأمم المتحدة والجامعة العربية لتشجيع مبادرة بغداد للمصالحة.

12- القيام بتحرك إقليمي عربي إسلامي متوازن من جانب الحكومة لوضع الحكومات بصورة ما يجري في العراق وكسب مواقفها إلى جانب عملية الوفاق الوطني وبالأخص الحكومات التي تقدم دعما للإرهاب أو التي تغض الطرف عنه.

13- العمل الجاد والسريع لبناء القوات المسلحة التي ستتولى إدارة أمن العراق للتمهيد لانسحاب القوات المتعددة الجنسيات.

14- العمل الجاد والسريع لإعادة النظر في بناء القوات المسلحة التابعة لوزارتي الدفاع والداخلية وغيرها على أسس مهنية ووطنية لأنها ستتولى أمن العراق وتتسلم الملف الأمني من القوات المتعددة الجنسيات قبل انسحابها.

15- تفعيل قرارات مساندة ضحايا النظام السابق وتعويضهم وتوفير الإمكانات لتحسين الأوضاع المعيشية والخدمية في المناطق المحرومة من العراق.

16- إزالة المعوقات التي تحول دون مشاركة أي مواطن عراقي أو تنظيم يرغب بالعمل وفق الدستور لبناء العراق ولم يرتكب جريمة.

17- تعويض المتضررين من العمليات الإرهابية والعسكرية والعنف.

18- تفعيل دور القضاء لمعاقبة المجرمين وجعله المرجعية الوحيدة للتعامل مع جرائم ورموز النظام السابق والإرهابيين وعصابات القتل والاختطاف.

19- جعل القوات المسلحة غير خاضعة لنفوذ القوى السياسية المتنافسة ولا تتدخل في الشأن السياسي، وحل موضوع المليشيات والمجاميع المسلحة غير القانونية ومعالجته سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

20- توحيد الرؤى والمواقف باتجاه العناصر والمجموعات الإرهابية والتكفيرية التي تعادي العراق والعراقيين.

21- البدء بحملة إعمار واسعة لكل مناطق العراق المتضررة ومعالجة مشكلة البطالة.

22- أن ما أفرزته الانتخابات من برلمان ودستور وحكومة ومؤسسات تشكل الممثل الشرعي والوحيد لإدارة الشعب العراقي في التعامل مع موضوع سيادة وتواجد القوات المتعددة الجنسيات.

23- العمل على إعادة المهجرين إلى مناطقهم وتتولى الحكومة والأجهزة الأمنية حمايتهم من المخربين والإرهابيين وتعويضهم من الأضرار التي لحقت بهم واعتماد سياسة أمنية حازمة تتضمن حماية الناس.

24- عمليات الاعتقال والمداهمة تتم بموجب أوامر قضائية صادرة قبل المداهمة والاعتقال واعتماد معلومات مؤكدة وليست كيدية وبما لا يتعارض مع حقوق الإنسان وتكون العمليات العسكرية بأوامر رسمية.

قوى خارج العملية السياسية وضدها ومن ثمَّ خارج المصالحة وخارج الانتماء للشعب ومصالحه وأهدافه وتطلعاته وأخرى لها شروطها:

مجلس شورى المجاهدين لرفضه التام للمبادرة لأنها تخدم قوات الاحتلال مشيراً إلى أن الحوارات السلميةالاستسلامية” والمفاوضات التي تؤدي إلى تعطيل الشرع أو التنازل عن شيء منه طامة عظيمة ومصيبة جسيمة لمن رضي بها على حد تعبير البيان.. الفصائل (الجيش الإسلامي، كتائب ثورة العشرين، المقاومة الإسلامية العراقية، كتائب صلاح الدين الأيوبي، وجيش المجاهدين) فإنها قد رفضت المبادرة وطالبوا بالاعتراف بالمقاومة لكي تتم المصالحة. كذلك رفض حزب البعث في بيانه المبادرة وعدها تصب في المشروع الأمريكي الصهيوني وأنه يخدم المشروع الإيراني في العراق، تيار الصدر الذي يرفض التصالح مع “البعثيين والإرهاب والقتلة”،أما هيئة علماء المسلمين، فقد التيار القومي في العراق والمؤتمر التأسيسي الوطني العراقي الذي يضم المناوئين للاحتلال والرافضين للعملية السياسية في ظل الاحتلال.

.
وبدلا من ان يجري ترحيل، ما يمكن ترحيله من الخلافات والمطالب والاعتراضات السياسية الى مرحلة ما بعد الاتفاق على خيار المصالحة واطارها العام، فقد جرت عمليات حفر وخندقة عند مواقف سياسية عقدية كان يمكن معالجتها مع احلال اجواء الثقة بكفالة عهد الشراكة وفي مجرى اعادة البناء وترسيخ نظام التعددية والدستور، كما حصل في جنوب افريقيا، إذ بقيت عالقة الكثير من الملفات والقضايا المختلف عليها الى ما بعد التوقيع على ميثاق المصالحة الوطنية، وآنذاك انفتحت الافاق، رحبة وبعيدة عن التوتر والاحتقانات، امام تسوية تلك القضايا، ثم قبر الى الابد نظام الابارثيد، لكن على خطوات ترسخت بارادة المصالحة القائمة على مبدأ الاستعداد للتضحية بالامتيازات وحُصنت بالثقة المتبادلة بين الفرقاء، وتحولت الى بيئة وطنية جرّت المجتمع كله الى بناء دولة مدنية تتعايش فيها الجماعات السكانية المختلفة.
وكان على اطراف الازمة السياسية العراقية، التي التزمت خيار المصالحة ودخلت في سلسلة حوارات لتحقيقها، ان تدخل في التنافس على التضحية بالامتيازات والمواقع سبيلا لاقناع الجمهور بجديتها وحرصها على تجنيب البلاد المزيد من الويلات، ثم، ان تتجنب الاستغراق في تفاصيل الخلافات السياسية وان تنأى بنفسها عن املاء الشروط على بعضها وان تستثمر(وهذا امر مهم) تعاطف الشعب الجارف مع خيار المصالحة باعتباره مصدّاً امام حريق الحرب الاهلية الكارثي المخبوء في اجندة الارهابيين والطائفيين،

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *