الدستور الدائم بين ثباته ومحاولات العودة لآليات التغييرات الفوقية غير المشروعة

ينبغي التوكيد على حقيقة كون الدستور الدائم يستمد ثباته واستقرار مواده من مرجعيته التي صوتت له بصيغته المعتمدة. وفي أي بلد وفي أية ظروف يبقى الدستور المقرّ بالتصويت الشعبي ثابتا لا يقر شرعية أي تغيير يخرج على الآليات المنصوص عليها في إطار نصوصه الثابتة.. وحكم ظهور قوانين وتغييرات في مواده غير مسموح به من دون التزام بجوهره وبنصه روحا ومضمونا أولا وآخرا…

لقد صيغ الدستور العراقي الدائم وجرى إقراره شعبيا بالتصويت بآليات ديموقراطية.. والأغلبية التي أقرته لم تكن صغيرة أو هامشية؛ وهي لم تكن مضطرة أو مكرهة كيما نعمد للمراجعة العشوائية.. فالاستفتاء على الدستور حسم أمر ثباته وشرعيته ومرجعيته النهائية ممثلة بالصوت الشعبي ديموقراطيا…

ومع ذلك ينبغي الالتفات إلى أن تطور الأوضاع وتقدمها إيجابا أم سلبا يفرض في كل مرحلة أن تجري مراجعة جزئية تتعلق بالاستجابة للمتغيرات التي يفرضها الواقع.. وبالمناسبة فقد وضع الشارع العراقي احتياطه بخصوص مثل هذه المتغيرات وسجل ضرورة العودة لاستكمال أمور كانت خلافية أو ثبتت صيغ متعددة لرؤى متعددة تتطلب الحسم في وقت لاحق…

على أن ذلك يبقى في إطار ثوابت الدستور من جهة الاحتفاظ للشعب وللصوت الانتخابي بحقه في إقرار أو عدم إقرار أي تغيير وعلى عدم التعارض مع مبادئ رئيسة من مثل الديموقراطية والفديرالية واحترام التعددية الأثنية القومية الدينية في العراق الجديد على اساس من المساواة والإخاء والعدل…

وفي ضوء مثل هذه الحقائق، ما عاد صحيحا لأي كان من الزعامات أو التيارات السياسية أن يتحدث عن تغييرات كيفية تتفق والتعبير عن توازنات القوة في المرحلة الراهنة أو في المستقبل.. إن إخضاع التعديلات الدستورية للمزاج السياسي أو لرغبات زعامات مع عميق الاحترام لهذه الزعامة أو تلك لا يمكن أن يكون مشروعا أو صحيحا، لا دستوريا ولا منطقيا…

إنَّ من يكتب الدستور هو رجل قانون متخصص بالاستناد إلى الاستشارات في مختلف التخصصات المعرفية المطلوبة وهو يكتبه استجابة لمصالح جميع بنات وأبناء الوطن وكافتهم بلا استثناء أو تهميش أو استلاب… على أن يقر الصيغة الرئيسة أو المعدلة صوت الناس أو ممثليهم بحسب المسألة التي يجري التعرض لها..

عليه، لا يمكن قبول تصريحات بعض الساسة بشأن التغييرات الدستورية على أساس ما يرونه من تفسيرات وصيغ تناول من زوايا لا قانونية ولا دستورية.. ولمن يريد التغيير يجب أن يلتزم العودة للمحكمة الدستورية وللبرلمان على وفق الآليات المقرة وفي الأمور الجوهرية المحورية الرئيسة لا يمكن الاكتفاء بقرار الأغلبية البرلمانية (الراهنة أو في أي مرحلة) وبأية نسبة كانت من دون العودة لاستفتاء شعبي واجب وملزم..

وفي القضايا التي تتعلق بحقوق المجموعات القومية والدينية الرئيسة وغيرها لا يجري اتخاذ قرار بأغلبية وطنية (على المستوى العراقي العام) لأنها تعني في الخلاصة أو النتيجة اعتماد رأي أغلبية عددية للمجموعة الكبيرة بمعنى ضمني لدكتاتورية الأكبر وقمع الأصغر بالحساب الرياضي لا الإنساني ولا ذلك الذي شرعته المواثيق الدولية والأممية والشعبية الصريحة..

إذ لم يعد بالإمكان حتى على وفق الدستور العراقي ذاته قبول تهميش مجموعة قومية أو دينية وإنكار حقوقها باستغلال غير مبرر بل غير مشرعن للفروق العددية في حجم المكون على المستوى الوطني أو استغلال توازنات القوى السياسية..

ولأن بعض القوى السياسية ترسم برامجها في ضوء منطق القوة وفي ضوء تراث أعرج من منطق الحكم والسلطة ولأنها تمتلك في اللحظة القائمة بعض الظروف الدافعة التي تحقق لها ما ترغب فيه من مستهدفات غير سوية فهي تطرح اليوم فكرة تغيير دستوري لشرعنة برامجها السياسية وجعلها مبادئ ثابتة دستوريا تحكم بها الآخر..

وكثيرا ما سمعنا عن مماطلات تخص المادة 140 كيما يجري إسقاطها (بلعبة سياسية) وشرعنة تغيير بالضد من مضمون هذه المادة وطبعا بالضد من الرؤية الحقة لها من جهة رفع الحيف الذي وقع وتعديل الأمور بطريقة إحقاق الحق والعدل لجميع الأطراف.. وعليه فإن التأخر بسبب من مماطلة وتسويف أو بسبب من حكم الظروف الطارئة لا يسقط الحقوق التي تضمنها المادة 140 والمنطق والدستور وحقيقة تآخي أبناء الوطن الواحد تؤكد وجوب تطبيق المادة ومنع إخضاعها للعبة السياسية…

ومثل هذا يتعلق الأمر بتوزيع المسؤوليات والصلاحيات بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومات الإقليم في كوردستان والحكومات المحلية في المحافظات.. وهذه المسألة محسومة دستوريا ومحسومة ضمن منطق المواثيق الدولية والشرعية التي تم التصويت عليها ديموقراطيا..

إذ لا مراجعة لفديرالية كوردستان ووجودها ولا لسلطات ديموقراطية موجودة في المحافظات.. والحل في مثل حال الاختلاف والتعدد لا يكمن في إلغاء الديموقراطية ومفرداتها وآلياتها والنزوع لمنطق القوة والعنف والمركزة التي مضى زمنها.. بل يكمن في تعزيز سلطة الديموقراطية وقوتها الحقة وبالتأكيد في تعزيز منطق قوة سلطة القانون والدستور واحترامهما..

إن احترام الدستور والقانون وتنفيذ مبادئه وتفاصيله هو المنطق الأفضل لعبورنا إلى مرحلة انطلاق البناء وإعادة الإعمار بينما التفكير بعنف الدولة ومركزيتها سيكون أبعد من تراجع عن هدفنا الشعبي الديموقراطي وعودة لفلك الطاغية وأخطائه الفادحة…

ومن يدافع عن منطق الدستور وثبات المكتسبات مع الدفع باتجاه تطويرها وتعزيزها هو الشعب العراقي بأطيافه وسيكون تضامن الأغلبية العربية والكوردية أمرا مطلوبا لدعم المجموعات العراقية القومية والدينية الأخرى وأي تساهل في الأمر كونه لا يعني هذه الأغلبية سيعود بالظلم ذاته على الأغلبية الكبرى ذاتها بتمكينها الطاغية أن يفرض دكتاتورية جديدة بتعديلات دستورية غير مسوغة وغير صحيحة إنسانيا وقانونيا..

وبانتظار أية تعديلات على أساس من الحوار الوطني النزيه الذي يُعلي من شأن الشرعية وثبات الدستور جوهرا والتقدم بمكتسبات الجميع وطنيا وقوميا وإنسانيا، سيكون علينا التصدي المشترك لدعاة التغييرات المزاجية التي لا تخدم إلا فلسفة العداء للشعب وللديموقراطية بمسميات وشعارات قد تكون جذابة بأغلفتها ولكنها مقيتة خطيرة بجوهرها..

لنتمسك بالدستور بمبادئه الديموقراطية ولنتقدم به في أي تغيير في ضوء احترام مصالح العراقيين ومكونات الشعب كافة بلا استثناء أو إقصاء…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *