المسيحي العراقي بين البحث عن أمان المكان والمكانة وتفعيل مشاركته في الحياة العامة

يتعرض مسيحيو العراق لهجمات مستمرة تستهدف حيوات أبناء العراق من الكلدان والآشوريين والسريان والأرمن وغيرهم من المسيحيين من أصول وادي الرافدين وبُناتِهِ الأوائل، كما يتعرضون لجرائم مختلفة أخرى من الخطف والتهديد والتعديات بالضرب والبلطجة ومهاجمة محالهم التجارية ومصادر عيشهم ورزقهم المشروعة وأكثر من ذلك وأخطر مهاجمتهم في بيوتهم الآمنة ورمي العوائل في الشوارع ومصادرة و [فرهدة] أملاكهم.. أما بيوت الله وأماكن العبادة فقد هوجمت وأُحرِقت وفُجِّرت حتى طاولت تلك الجرائم مواضع كثيرة إنْ لم تحسب بوصفها دور العبادة فهي من ثروة العراق الوطنية وسجله التاريخي العريق؟!!

والحقيقة لابد من التأكيد على ضرورة التصدي للإرهاب والإرهابيين في عراق اللحظة الراهنة على وجه العموم ولكن التصدي للجريمة لايمكن أنْ يكون اعتباطيا ومن غير تخطيط وعقلنة في رسم وسائل التصدي والحل. ولابد من أولويات ولأنَّ عراقا تعدديا لايمكنه أنْ يقوم بغير وجود أبنائه من المتحدرين من سكانه الذين شادوا حضارته فسيكون من الصحيح أنْ تكون قضية التصدي لما يتعرض له مسيحيو العراق من مهامنا الأُوَل ..

لأنَّنا بالتصدي لهذه المهمة الخطيرة نتعرف إلى رأس المهاجمين من الإرهابيين الذي يستهدفون تفريغ العراق من أهله، من بُناته، ومن حقيقته الكامنة في التعددية القومية والدينية والعرقية الأثنية؛ فكيف بنا ونحن لا نسطيع المحافظة على أمن هؤلاء أو نتغاضى أو لا نضع الأمر بين أولوياتنا أو نهمل أو نهمِّش الأمر وعلاجه أو نقف عند حدود التعاطي اللفظي مع المشكلة؟؟!

الحق هنا أن مئات ألوف العراقيين المخلصين لبناء بلاد الرافدين رحلوا أو هم في طريق الرحيل بعيدا عن موطنهم لما يتعرضون له من هجمات إرهابية وهم في وضع مكشوف بلا حماية! ومن الطبيعي أن يكون هذا القرار فيه من الخطورة على التركيب السكاني لبلادنا التي اعتادت أنْ يكون وجود المسيحي سببا موضوعيا جديا لإثارة أجواء التسامح والاعتدال والتعايش بين مجموع مكوِّنات شعبنا على أساس من التعايش السلمي والتفاعل الإيجابي بين تلك المكوِّنات..

وهكذا سيكون مثل هذا الترحيل القسري سيكون سببا في تحضير أرضية التطرف وهيمنته وفي تحضير أرضية العداء والتنافر والاقتتال وفي مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية في بلادنا.. كل ذلك بناء على أهواء ساديين من المجرمين العتاة الذين يزعمون دفاعا عن دين بعينه وهو براء منهم.. أما حقيقتهم فتكمن في إرهابية توجهاتهم العنفية الدموية المعادية لقيم الإنسانية والتسامح بين المجموعات البشرية المتعايشة بروح المواطنة الصحيحة..

إنَّ الجريمة أخطر من تلك التي جرت بحق يهود العراق عندما جرت عمليات [الفرهود] المعروفة بحقهم وتهجيرهم بما قدم خدمات مجانية لضرب الحركة الوطنية وإضعافها ووضعها في زوايا ضيقة في ميدان الفعل السياسي الوطني العراقي المحلي والإقليمي.. واليوم نحن نجابه ما هو أوسع لنسبة وجود العراقيين من مجموعات قومية متعددة تدين بالمسيحية وتنتمي للعراق مواطنةَ َ: مشاعرا واعتقادا.. وليس لنا بالخصوص إلا مزيدا من الدفع بواقعنا نحو وقف الجريمة وتوفير الحماية الحقة الكافية لأخوتنا من مواطني العراق…

إنَّ عراقا جديدا وسياسة بديلة صحية سليمة لا يمكن أنْ يكون من غير الاعتراف المبدئي الأكيد بحق مسيحيي العراق في تبوّء مكانتهم.. وإذا أجلنا قليلا معالجة أمر المكانة فإنَّ مطالبة عدد من الآشوريين والسريان وغيرهم بضرورة إيجاد أماكن آمنة أو بقعة آمنة من العراق لإسكان المسيحيين هو أمر يقبله منطق العزل الطائفي الإسلاموي الذي يعمل ليل نهار على توكيد سطوته على مدن الجنوب والغرب حيث تقاسم العراق بين زاعمي الاعتقاد الإسلامي من سنّة متشددين وشيعة متطرفين وبمراجعة سياسة البلطجة التي طاولت مسيحيي البصرة على سبيل المثال نجد حجم الكارثة والتغييرات التي حصلت برحيل آلاف العوائل بالإكراه من هناك!!

أين يمكن أن يحتمي هؤلاء؟ هل في قرى منسية بلا خدمات سبق أن جرى حرقها من نظام الطاغية وإبادة أهلها وترحيلهم قبل عقود؟ أم إلى مدن تستقبلهم بالرصاص في صدور أطفالهم كما حصل في الموصل مثلا؟ أين يمكن أنْ يتجهوا ويولوا بوجوههم؟ أإلى الغربة البعيدة خارج موطن الأهل والأجداد؟ أم إلى غربة مدن جديدة موحشة هي الأخرى في ظل مفاهيم العزل والمحاصرة المحتملة من مجرمين منفلتين يسحون ويمرحون…؟

هكذا يقترحون على أنفسهم حكاية المناطق الآمنة وهي في الحقيقة إنْ حصلت فستكون طامة أخرى تشدد من عمق أزمة الفصل العنصري وتحضِّر لأزمات جديدة لعراق آخر غير المنتظر المؤمَّل! أما الحل الحقيقي فيكمن بقوة الوقوف الصارم الحازم بوجه لعبة المتأسلمين المتطرفين [وليس لهم من الإسلام حتى الاسم]، لابد من الوقوف بوجه اللعبة القذرة لعبة العزل والفصل والترحيل.. التطهير الديني العرقي ضد عراق الثقافات والتنوع والتعددية… لابد من وقف الهجمة السوداء وغيمتها الحبلى بالموت الأسود القادم مع أولئك السوقة القتلة… وعلينا استخدام القوانين الدولية كافة فضلا عن قوانيننا العراقية في أقصى العقوبات الموجهة لقوى التصفية العرقية..

الحل أيها السادة في تضافر الجهود وتعاضدها من أجل حماية حقيقية لعراقيينا المسيحيين بكل أطيافهم.. واليوم قبل الغد ينبغي أنْ نعمل من أجل تعزيز مشاركة العراقي المسيحي من دون تمييز أي علينا إعادة الأمور إلى نصابها حيث العراق عراق أبنائه جميعا من دون استثناء أو إقصاء أو إغفال أو تهميش..

أما كيف يمكن أنْ يحصل ما نريد لعراقنا الجديد؟ فينبغي للحركات والتيارات السياسية والاجتماعية أن تُجري عمليات تطهيرذاتية ومراجعة للبرامج بما يجعل الوطنية والمواطنة أساسا معتمدا في العضوية والفعل وفي صياغة برامج الحياة البديلة برامج الديموقراطية الحقة.. وأول ما يجابهنا في العملية السياسية هو الانتخابات الوطنية التي سنشرِّع في ضوئها دستورنا الدائم…

وما ينبغي أنْ يظهر في العملية بوضوح إدانة للسياسات الماضوية الخاطئة وللجرائم المرتكبة بالأمس وفي راهن أوضاعنا وفي اعتماد خطط موضوعية تمنح الحق لأهله من حيث نمنع أو نقطع الطريق على التدليس والمزايدة والأقنعة والبراقع.. كما يحصل من تحالفات مخادعة بين قوى طائفية في جوهرها تقف وراء الجريمة والمجرمين وراء العزل والفصل والمطاردة فيما تتخفى ببراقع الاعتدال والتحالف بأوجه وأقنعة للعبة سياسية خبيثة..

هنا يأتي دور المسيحي من جميع الأطياف ليقول لا لأي تحالف مع قوى لا تتفق وروح التعدد والتنوع والتفاعل بين مكوِّنات شعبنا.. ومن الطبيعي أن يكون مكشوفا بوضوح نهج هذه القوى الطائفية فليس من منطق يجمع بين الطائفي والاعتدال والتنوّر! أما ما ينبغي الاستجابة له فهو مزيد من التحالف مع القوى العلمانية الديموقراطية فهي الضامن الحقيقي للحريات العامة وللعدالة ولحفظ أمن المواطن والوطن وحمايتهما…

هل سيكون صحيحا تقوية شكيمة قوة هدفها إلغاء الآخر؟ أم علينا وإن اختلفنا في الفلسفة أن نتوحد في الخط السياسي الذي يؤهلنا لكسب معركة الحق في الوجود الحر الآمن…؟ إن الحل لايقف عند التفكير في يومنا بل علينا وضع ستراتيج للغد وقد يكون من المناسب انتخاب برلمان قومي للكلدان والآشوريين والسريان وبقية المجموعات المسيحية على المستوى الوطني العراقي ويدخل في البرلمان أيضا المهاجرين منذ مذابح سميل وحتى آخر مجازر القتلة..

إن التحضير للبرلمان القومي هذا يبدأ عهدا جديدا حيث البرلمانات الاتحادية لكردستان العراق وللكلدو آشور ولبقية مكونات العراق ومن ثم يتشكل من ممثلي البرلمانات برلمان أو مجلس القوميات الذي يحفظ للجميع حقوقهم في رسم حاضر البلاد ومستقبلها ويوازن ما يجري في البرلمان الاتحادي المركزي.. لدينا عدد كبير من الخيارات فيما لو تابعنا الإصرار على حق المسيحي ليس من جهة وجوده الديني بل أيضا من جهةِ ِ مقدَّمةِ ِ هي جهة وجوده القومي حيث يقوم له برلمان مستقل ويشارك في التشريع للبلاد بمستوى واحد مع الآخر العراقي..

ليس بغير هذا الحل يمكن أن تُحفَظ الحقوق العادلة المشروعة لذا كان علينا التقدم بالمسألة منذ أول لحظة سيصاغ بها الدستور الدائم.. المطالبة بمجلسين واحد عراقي وطني عام مشترك مركزي وآخر من مجالس القوميات ومن المجلسين يتكون البرلمان العراقي أو الجمعية الوطنية وفي ظلال ذلك ينبغي صياغة الحق الدستوري وتأمين مصالح العراقيين من دون تسيّد من طرف أو دكتاتورية أقلية أو هيمنة أغلبية..

الصحيح لا أغلبية ولا أقلية، فالعراقي مواطن كامل الحقوق أيا كانت مرجعياته الدينية أو القومية وعلى الجميع احترام التنوع والتعدد ليكون لهم حق الوجود المشروع المقبول من غير مزايدة أو منقصة لآخر.. فهل سيتوافر هذا التوجه؟ أقول بلى حيثما تحالفت القوى الومية ممن يسمونها ظالأقليات مع التيار اليدموقراطي والعلماني ضد الطائفية والانعزالية والشوفينية القومية لبعض القوى العروبية السلفية المنحى…

فإلى مثل هذا التحالف الوطني العراقي الصميم لنسير بهدوء ورجاحة عقل ومنطق حكمة ورشاد.. أيها المسيحيون العراقيون اتركوا في هذه الحظة عددا من التفاصيل التي تختلفون فيها ومنها مسائل قد تكون مهمة كقضية التسميات القومية والتناسبات السياسية والدينية فأنتم مهددون وليس من قوة عراقية قادرة على إنقاذ الوضع ما لم تتحالفوا اليوم قبل الغد على أمور جوهرية مباشرة ومع القوى الضامنة لوجودكم الحقيقي في بلادج بيت نهرين بلاد الأجداد ..

لا تتركوا فرصة النصر تضيع ويضيع معها مجد آلاف السنين من وجود حضاري عريق.. تنبهوا لمخاطر الطائفية المقيتة التي تمتلك الدعم الإقليمي واللوجستي المحلي من قبضايات وبلطجية وأموال مهولة.. انتبهوا وتقدموا من أجل عراق مستقر عراق للسلام والحرية والعدالة والإخاء..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *