صحف وتيارات: بعض أسس النجاح ومنافذ للثغرات والنواقص

للصحافة العراقية تاريخ عريق. فمنذ الزوراء قبل حوالي القرن ونصف القرن، تراكمت خبرات وظهرت مدارس للصحافة وبرز أعلام وتميزت أسماء صحف مهمة ظلت علامة في تاريخ الصحافة ومنها مازال يحتفظ بصدوره وجماهيريته بالاستناد إلى علاقة متينة بينه والقراء وإلى التزام فكري سياسي واجتماعي بتيار يحيا بتجدده وبمواكبته للتطور وللحاجات والمطالب الأحدث في حياة الناس…

إنَّ مما يمنح الديمومة والبقاء لصحيفة ليس تاريخ الحركة السياسية التي تقف وراءها حصرا.. فلعمري لم يكن الإنتاج والقوة المادية رصيدا حاسما ونهائيا في صدور جريدة أو أخرى إذا عددنا جهة الإصدار جهة إنتاج وطاقة مادية ملموسة له. فهذا السبب (الإنتاجي) ليس الأهم بين عوامل الصدور.. فما العوامل التي تديم نجاح الجريدة أو الصحيفة في صدورها واستمرارها وتوسع قاعدتها أو بخلاف ذلك تراجعها؟ إن ذلكم نوجزه سريعا في الآتي من الملاحظات العجلى مع تفصيل وتركيز على أحد أهم تلك العناصر الدافعة بأمل التفصيل في الأخريات في قراءة لاحقة:

  1. مضامين الجريدة: بدءا نقول: لكل جريدة خلفية تلتزم بها وتتحدد في ضوئها فلسفتها وأهدافها التي تسعى إليها.. وما ينبغي هنا الحديث عنه هو لا الأيديولوجيا والأفكار السياسية وهي مسألة تمتلك أهميتها بل ما التمظهرات من جهة الأهداف التي يتم رسمها لمرحلة أو أخرى مما يلتقي بوعي القارئ وتصوراته وما ينتظره بشكل مخصوص من هذا التوجه أو ذاك في الإجابة عن أسئلة محددة. إذ لابد من خطط استراتيجية وأخرى تفصيلية مرحلية عملية ميدانية تحول الفكر والنظريات إلى معالجات مباشرة وإجابات عن أسئلة الناس وإيجاد التطبيقات والممارسات الفعلية…
  1. موضوعاتها: لسنا بصدد توضيح الاختلاف المعجمي والاصطلاحي لموضوع عن مضمون ولكن تبويب الصحيفة (وهو ما يعنينا هنا) يبقى مطلبا مهما وحيويا ورئيسا في عمق الصلة بين القارئ و الرسالة التي تبعثها جريدة أو صحيفة.. ومن هنا كانت موضوعاتها من الأهمية ما يجعلنا نسأل عن عنوانات المحاور والصفحات والأعمدة والزوايا، فضلا عن المعالجات وأين تقع من رؤوس تقديمها أو تحت أي عنوان…
  1. إخراجها الفني: في زمن التنافس وتحديات سوق الإنتاج توجد في إطار التيار الواحد صحف كثيرة تنجح أعداد منها وتتراجع أخرى وقد يكون من بين الأسباب في هذا مسألة التقنيات والإخراج الفني وجماليات العرض والتقديم وصياغة الرسائل وقدرات التنفيذ…
  1. إدارتها: درجة الاستعداد الحقيقي ومستوى النضج والجاهزية لأداء الواجبات.. وعلاقة الإدارة تلك بتطورات العمل الصحفي في آخر منتج له…
  2. التحديث ومتابعة شؤون الساعة أولا بأول سواء من جهة متابعة الحدث وتفاصيل اليوم العادي من مطالب وحاجات مادية وروحية أم بطبيعة التعاطي مع الأسئلة والحلول وعلاقتها بالقناعة من جهة لدى المتلقي القارئ أم بتوفير الجديد الناضج بالخصوص.. آلية التحديث ليست إشكالية مظهرية خارجية بل هي أيضا في صميم التطور على الصعد النظرية الجديدة وما تتيحه الدراسات الأحدث بالخصوص…
  1. الأسماء التي تكتب فيها: أما العامل الذي نريد التركيز عليه والتوسع في قراءته والتفصيل بشأنه هنا فأمر يخص من الذي يكتب في الصحيفة؟

إشكالية ظهور الشخصيات البارزة في الصحافة؛ سباق بين من يصل إليهم ويقدمهم ويجيرهم لصالحه؟؟؟

إنّ من عوامل الجذب لصحيفة أو أخرى وجود أسماء أعلام في الكتابة وفي فنون التناول والمعالجة فضلا عن التميّز في عمق الخبرة والفكرة  كون بعض الأعلام هم من قادة التيارات السياسية والاجتماعية ممن ينتظر القارئ مطالعتهم بل يبحث عنهم  سائلا عن مواقفهم وعن معالجاتهم وإجاباتهم… ويتعزز تأثير هذا العامل عندما يتعلق الأمر بصحيفة تيار أو حزب أو حركة سياسية.. إذ المتصفح في مثل هكذا جريدة يبحث عن شؤون منها فكرية (سياسية واجتماعية) ومنها مطلبية تتعلق بحقوقه ومطالبه..

وفي كليهما يتساءل عن معالجات أصحاب الخبرة والأعلام من مالكي قدرات الإقناع والصلات الجماهيرية الواسعة.. ومن بين الأسئلة التي يطرحها القارئ على نفسه قبل طرحها على  الصحيفة نفسها هي: أين أعلام القلم والكتابة في مجال بعينه؟ لماذا أجدهم يكتبون في صحيفة ولا يكتبون في أخرى؟ وطبعا ستحدد الإجابة عن هذا السؤال موقفا من الصحيفة من جهة وحتى من التيار والاتصال به والالتفاف حوله..

 فجريدة اليسار والديموقراطية التي يختفي عنها أعلام المعالجات اليسارية وأقطاب الفكر من اليساريين وتحصر النشر اليومي في مجموعة محررين حزبيين ستجابه تراجعا يحاصر الحزب أو الحركة التي تمثلها وتعبر عنها؛ لأن الجمهور يمتلك حقا في الحكم وفي التعاطي مع الجهة التي يمنحها واجب تمثيله وقيادته في ضوء اختباره وفي ضوء صدى تساؤلاته…

ومع أهمية المحرر وقلمه وآليات عمله وأدائه ومسألة اختياره وعلاقته بجمهور الصحيفة وقدراته في أداء سياستها وتنفيذ أهدافها إلا أن الصحيفة لا تتوقف، بخاصة الحزبية، على جهد المحرر بل لا تغتني ولا تكتمل إلا باستقطابها لأقلام المفكرين والساسة والإعلاميين من أصحاب السمعة ذات الثقل المخصوص في الأوساط الجماهيرية..

إذ من الطبيعي والمهم بل الواجب على أية صحيفة أن تنفذ بشكل دوري منتظم أو بشكل ثابت في أداءاتها  جهد استقطاب حوارات ودراسات مع الأعلام الفكرية من التيار الذي تعبر عنه وكذلك [وأيضا] مع الأعلام الفكرية المختلفة معها.. الأمر الذي يمنحها الحيوية من جهة وقدرات تفعيل المناظرات والحوارات مع الآخر وتطمين الجمهور لدرجة الاعتداد بآليات الديموقراطية وقبول الآخر وتطمين هذا الجمهور لالتزام التيار المعني بالخطاب الديموقراطي ومفرداته بالآليات الديموقراطية بحق وفعليا. فضلا عن دور هذا التيار وجهده التربوي وتطبيعه الأجواء العامة على التعاطي مع هذه الفكرة والآلية…

لكننا نجد الأمور مختلفة تماما. ففي حال استضافة قطب مختلف فكريا، فإن ذلك يتم أما بناء على خيار محدود وموجه في إطار تحالفات (سياسية مشروطة) وأما على أسس من النفعية الآنية التي لا تدخل لا في استراتيج العمل [إن وُجِدت خطة استراتيجية] ولا في الخطط التكتيكية المعدة للتعاطي مع موضوعة أو قضية أو مرحلة.. وقد يكون من بين أسباب الاستضافة قضايا شخصية أو مادية بحتة رخيصة أو انتهازية سياسية أو قيم ضاغطة لا علاقة لها بفلسفة التيار المعني والتزامه آلية العمل الديموقراطي أو مفهوم التعددية في التعاطي ..

ومن جهة أبعد يمكن القول: إن التيار اليساري الديموقراطي هو من أكثر التيارات (تأثرا) في صحافته بإشكالية استضافة المفكرين والقادة والأعلام والشخصيات المهمة كونه يضع على قائمة شعاراته وقيمه مبدأ الديموقراطية ونضج الآليات التي يلتزم عادة بتوكيدها ومن ذلك مسألة المناظرات والحوارات التي يرمي من ورائها توفير القناعة الأوسع برؤاه التي يريد وضعها في خدمة جمهوره والآخر أيضا..

هذا فضلا عن أن هذا التيار يعتمد بشكل أساس ماديا على لا ملكيته المحدودة للمال  بل يعتمد على تلك القدرات التي تتمثل في رأس المال البشري أو في توظيف قوى العقل الإنساني لإرسال موضوعاته ومحاولة إيصالها إلى أوسع جمهور..

وسيكون (في ضوء ذلكم) من المستغرب انقطاع صحيفة أو أخرى عن هذا التوظيف! بل من الخطل الركون إلى إنتاج الصحيفة بقدرات المحرر وكتاباته وعدد محدود رتيب من الأصوات في حين ميدان الصحيفة مجموع العقول التي تحيط بها ويمكن أن تدعم جهودها بالاتفاق أو بالاختلاف.. فمهمة الصحيفة وواجبها هو في التعاطي مع هذه التعددية بالطريقة الموضوعية التي تحمل رسالتها وتعزز قدرات الإقناع أو بعبارة المعالجات الإعلامية تعزز قدرات التأثير والفاعلية حيث الأولى تعنى بالإقناع وحشد الجمهور وجذبه لرؤيتها وبرامجها والثانية تعنى بمسألة القدرات وتطويرها وإنضاج مديات الأداء لديها..

من المفيد هنا أن أؤكد على أن هذه القراءة العجلى تأتي مجرد رسالة موجزة أكثر منها دراسة بما تتطلبه من تعدد المحاور والتفاصيل وهذه الرسالة موجهة لمختلف القوى والتيارات ومن ثمّ صحفها وطبيعة سياساتها وقدرات التأثير ومستوى الفاعلية وتحديدا في استثمار طاقات المفكرين والشخصيات القيادية في الحياة العامة بمجالات التخصص والمعارف المختلفة المتنوعة…

إنه من الواضح أن جرائد وصحف معروفة وكبيرة كانت قد فقدت جمهورها لا بسبب تغير الزمن والظروف المحيطة حسب بل بسبب من طبيعة أدائها و ركونها للسلبية تجاه الأقلام الكبيرة التي تحقق لها الصلة بجمهورها..

وعلى سبيل المثال ما زال التيار الديموقراطي بكل أطيافه ومنه اليسار الديموقراطي في العراق، يحظى بالتفات جمهوره إليه ومادام الشعب حيا وموجودا سيبقى هذا التيار..   وتعبيره عن جمهوره يتمثل في وجوده بتمظهرات عديدة متنوعة…

 لكن المتمعن في توزيع صحافة اليسار والديموقراطية بالمقارنة مع صحف أخرى سيجد الأمور بحاجة لتوقف أو مراجعة بخصوص عدد من رموز المدرسة الصحفية لقوى اليسار والديموقراطية  كافة…  فأنت لا تجد اسما واحدا من أقطاب القلم الديموقراطي في الصحيفة الفلانية الأمر الذي يعرضها لانتقادات (أهلها) على هذا السلوك المستهجن المستغرب.. ولكن ليس من استجابة فما العمل؟ وأين يكمن الخلل؟

 هل يكمن الخلل في نظريات الدرس الإعلامي والمدرسة الصحفية وتاريخ الخبرات المتراكمة؟ أم في الإدارات الجديدة وطبيعتها وظرفها المخصوص؟

في الحقيقة من أجل إجابة ناجعة لابد من أن نواصل السؤال كيما نجد من يناقشنا ويفيدنا برؤيته بقدر تعلق الأمر بموضوعية الأسباب وليس بتعلقه بأمراض ذاتية أو خضوع لضغوطات بعينها أو بضعف الفاعلية لضعف من يتصدى لمسؤولية إدارة هذه الصحيفة أو تلك..

فقضية وجود أسماء الأعلام والشخصيات البارزة على صفحات الصحف تبقى قضية محورية مهمة وأية جهة تتذرع أو تتعكز على حجة أو أخرى في إجابتها عن اختفاء أقلام من واجهة مواقعها وصفحاتها فإنها لا تجيب في الحقيقة بقدر ما تخبئ الفشل القائم والمحتمل إذا ما استمرت بسياستها ضيقة الأفق هذه…

ويمكننا القول: إن مشكلة تلك الصحف وهو ما أثار فينا دافع كتابة هذه العجالة تكمن في المواقف الشخصية والحزبية التنظيمية المريضة الضيقة من جهة وفي أمراض الحساسية وعدم جاهزية المحرر لأداء مهامه بموضوعية بعيدا عن الفردنة والشللية وخضوعه لضغوطات ضعف الإعداد وخلو عمله من وجود خطة لا بالمعنى الاستراتيجي ولا بالمعنى التكتيكي …

بالمقابل فإنَّ هذا يدخل من جهة أخرى في محاصرة الصوت الأكاديمي والفكري الخبير وحجبه عن جمهوره فيما تنهض صحف مغايرة فكريا بتجيير هذه الأصوات البارزة لصالح أدائها في تحشيد الصوت الانتخابي ووضعه في صندق جهات لا علاقة لها بهموم الناس والحريات والحقوق!؟ إن من يقدم كبار مفكري الديموقراطية (واليسار تحديدا) هو نفسه الذي يسعى لحجب أفكارهم ومنع وصولها بالطريقة الصائبة الأنفع للجمهور.. وهو بخططه يتاجر بوجودهم على صفاحته ويجير الأمر ويحدد من جهته وسائل التقديم بما لا يسمح بوصول الرؤية الأنضج والأكمل.. ومجددا نقول مقابل فشل صحف ديموقراطية في التعاطي مع المفكرين وظهورهم على صفحاتها بخطط مناسبة صحية وصحيحة منتظرة من جمهور الديموقراطية.. ونحن لا نرى [إلا ما ندرباستثناءات معروفة] اليوم سوى صحف بات القارئ لا يتحرج من استخدامها (طبقا) لصحون مائدته …    ؟؟؟

إن هذه المشكلة بحاجة لمراجعة ووقفة مسؤولة قبل أن تحصد القوى (الديموقراطية) السليمة َُ الريحَ وتقمعهم العاصفة ُ الهوجاء في متغيرات واقع لا يرحم.. وهذه ليست سوى مفردة من ثغرات عديدة بحاجة لمعالجة عاجلة بعناية مركزة… فلنتعظ…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *