المرأة الكوردستانية بين تطلعاتها الكبيرة والضغوط المحيطة بها: الواقع والحل

خضع المجتمع الكوردستاني لآلام جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كان من بينها جرائم إبادة. ومن بين ما جرى تلك الجرائم التي تعمَّدت تدمير الشخصية القومية للكورد. واستغل المجرمون أدوات وأساليب مختلفة من أبرزها وأخطرها تلك التي توجهت لاستغلال بشع تمت ممارسته بحق النساء الكوردستانيات..

لقد كانت جرائم الاعتقال والاختطاف وامتهان كرامة المرأة، الأم والشابة والصبايا وسبيهن والمتاجرة بهنّ إلى حد بيع عدد منهنّ في سوق الرقيق الأبيض المحلي والإقليمي؛ وحجز المئات والآلاف منهنّ في معسكرات شهدت أشكال التحقير والمهانة فضلا عن عمليات الاغتصاب الفردي والجماعي واستيلاد النسوة من مجرمي الوحوش الآدمية في مقاصد انتقامية همجية تتوجت بالتصفيات الجسدية والمحارق المختلفة التي سيقت إليها كثيرات بلا ذنب..
إنّ من آثار تلك الجرائم لم تكسر أنفس نسوة كوردستان مثلما مجتمعهنّ المقاوم، بل زادتهنّ صلابة ووعيا بما يجري حولهنّ؛ فاشتركن في حرب التحرير بقوات البيشمركة.. كما عملن في مختلف المسارات دعما وتفاعلا مع الثورة في مرحلة اشتعالها وتفاعلا بنيويا كبيرا ورئيسا مهما في مسيرة إعادة الإعمار والبناء الجارية اليوم في كوردستان بعد الانعتاق من سلطة الطاغية وجرائم قواته..
إن تجربة الآلام والمعاناة في تلك المسيرة المعقدة خلقت أرضية متينة لاتقاد الوعي ولانعتاق المرأة الكوردستانية من عاملَين واجهتهما بتحد وبطولة؛ ذلكم يتمثل في العسف والقمع الدموي الوحشي الذي تعرض له شعب كوردستان برمته في زمن حرب التحرير ضد الطغيان والاستبداد والأمر الآخر هو انعتاقها من أشكال الاستغلال والاستبداد التي طفت مع تقاليد بالية تحكمت بالمشهد الحياتي لحقبة من الزمن بالاستناد إلى ظروف التخلف معروفة الجذور والأسباب..
لقد كان لمنظمات المرأة الكوردستانية من جهة وللقوى والحركات القومية التحررية مدارس شعبية في استنهاض الوعي وتفتحه.. وباتت الوقائع تتجه في طريق الانعتاق والتطور وإشادة قيم الحرية والعدل والمساواة بخاصة مع توظيف أفضل قوانين حماية المرأة والعائلة من جهة وتلبية مطالبها في حياة حرة كريمة..
غير أن هذه الصورة الناصعة الجديدة، لم تخلُ من منغصات وكبوات خطيرة؛ ناجمة عن بقايا قوى التخلف والظلام وتلك الرجوعية بالمجتمع الإنساني إلى الوراء.. إلى جانب بعض آثار العلاقات العشائرية المتكلسة في أفقها المحدود الضيق في النظرة إلى المرأة وكينونتها الاجتماعية المساوية لأخيها الرجل..
ومن هنا جابهت حركة تحرر المرأة الكوردستانية مصاعب ليست هينة وانتشرت حالات سلبية مثل جرائم غسل العار ومثل زيادة نسبة الانتحار بين الشابات.. إن استغلاق الأبواب الاجتماعية وظهور حالات التناقض بين الواقع والقيم التي تتحكم ببعض العقليات ربما يكون السبب الرئيس بهذه الكوارث الاجتماعية والإنسانية..
ولكن الأمر الأهم هو أننا بمجابهة ظاهرة خطيرة بتداعياتها وآثارها. وعلينا تفعيل عوامل دراستها ومعالجتها ميدانيا بوساطة مراكز بحوث متخصصة وبتوظيف إمكانات علمية في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع وبمجالات الخطابات الاقتصا سياسية بما يحدد بدقة مواضع الخلل وآليات المعالجة الأنضج والأسرع كيما نوقف استمرار النزف والجريمة بحق الأمهات والأخوات والزوجات والبنات والمرأة من كل الأجيال والأعمار من عمر الطفولة والتلمذة وحتى الكهولة وخريف العمر، حيث لكل حالة خصوصيتها والتفاعل المرتجى تجاهها..
إن لدينا النساء الثكالى بأبنائهن وأزواجهن من أيام جرائم الإبادة والمرأة المؤنفلة وما أصابها من جراحات أقسى من البدنية تلكم النفسية العميقة الغور.. فماذا فعلنا لهنّ، ألم يحن وقت ردّ الجميل لتضحياتهنّ والتعويض برعاية إنسانية بمستوى الحدث والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة لهن؟
ولدينا الفتيات من مرحلة الدراسة الأولية والجامعية وحتى مرحلة العمل الوظيفي وما يعانين من مصاعب مخصوصة لجنسهن كونهن فتيات؟ ماذا فعلنا للتعاطي مع أحوالهن؟ ماذا قدمنا لدعم أنشطتهن؟ ما قراءاتنا لمعاناتهن في ظروف المجتمع المحلي؟ القول هنا والسؤال عن حجم جهودنا والارتقاء لمستوى الوقائع كما تتطلب بشكل فعلي مباشر؛ مع أننا نعرف المحاولات الإيجابية البناءة الجارية إنما ندعو لتعزيزها وتفعيلها أكثر…
ومثلهن أخواتهن المستقدمات من دول المنفى والمهاجر القصية وما يتعرضن له من عمليات تصفية أو تعذيب من أقاربهن المباشرين بسبب الفروق القيمية الأخلاقية بين مجتمع أوروبي تربت فيه والمجتمع الكوردستاني بالإشارة إلى (عناصر فيه) منغلقة بأفق تفكيرها..؟
ففي الأشهر الثلاثة الأخيرة سجلت الإحصاءات 36 حالة موت حرقا للنسوة من بين 42 حالة موت احتراقا في هذه المدة!!؟ هل هي حالات انتحار؟ هل هي حالات حرق متعمد؟ هل هي جرائم قتل لسبب ما؟ هل هي جزء من معاناة وظروف عيش لا تضمن أمن المرأة وسلامتها في أثناء عملها المنزلي أو غيره؟ هل تعود للاحباط وخيبة الأمل؟ هل تتركز الحالات بين الشابات أم تنتشر بمختلف الأعمار؟ والسؤال هل تمت دراسة الحالات؟ من أية جهة؟ ما نتائج تلك الدراسات؟
معروف أن المرأة الكوردستانية لديها فضاء حرية ومساحة حماية قانونية واجتماعية متميزة مقارنة بالوضع العراقي العام وسوء فضاءات المرأة العراقية بعامة.. ولكن مثل هذا المستوى من الوقائع في حياة المرأة الكوردستانية يلح علينا بأن نبحث في كل حالة بعينها وأن نجد بدقة وموضوعية قراءة مسببة مع الآثار والنتائج والحلول…
ومثل هذه القضية التي تتعلق بحياة الإنسان [هنا بحياة المرأة الكوردستانية] يدعونا لتكثيف الجهود وتفعيلها من جميع الجهات.. فقانونيا قضائيا ربما علينا أن نشدد عقوبات التعرض للمرأة وتهديد حياتها بمثل هذه الجرائم.. وعلميا تخصصيا لابد من جهود مباشرة في إحصاءات ميدانية وفي استبيانات واستطلاعات على أوسع نطاق وفي بحوث مباشرة تتناول الحالات فرديا وجمعيا بأدوات الطب النفسي والاجتماعي.. ويلزم هنا تخصيص مراكز دراسة متخصصة بشؤون المرأة في الجامعات الكوردستانية..
أشدد هنا على ألا ننشغل بتحميل المسؤولية لطرف أو آخر بخطاب سياسي مبحوح [مرضي] لا يقدم ولا يؤخر.. بل علينا جميعا القيام بواجباتنا بدعم مؤسسات الدولة في وضع الحلول الناجعة وأؤكد تشديدي على كل جامعة كوردستانية بأن ترصد ميزانيات مناسبة للبحوث المتخصصة وأن توجه الدراسات العليا فيها لتناول هذه القضية ذات الأولوية والأسبقية.. وقد حاولت جامعة ابن رشد [على سبيل المثال والتحفيز للآخرين] في هذا العام أن تخصص المقاعد الدراسية المناسبة التي تتناول بالبحث العلمي هذه الظاهرة برفقة دفع مراكزها البحثية لتنشيط تلك الدراسات والبحوث بالطلب إلى الزميلات والزملاء وأقسام الاختصاص كيما يوجهوا بحوثهم باتجاه هذه الظواهر..
على أننا نتطلع لمجلات وصحف وفضائيات ووسائل إعلام عبر شبكة النت وغيرها لأدوار فاعلة في بناء الوعي المتناسب ومستوى التقدم الحضاري بعامة.. ولنبحث عن جهود المتخصصين لإغناء الزوايا والصفحات والحقول المخصوصة المتنوعة وعدم الاقتصار على زوايا الطبخ والأزياء وما شابه على أن هذه الزوايا مقبولة بحجمها العادي لكن الأهم والمرتجى ينتظر دراسات ومعالجات متخصصة ومساحة أكبر لمساهمة المرأة نفسها بمثل هذه المتغيرات النوعية المؤملة..
إننا لا يمكن أن نقمع فئة اجتماعية لطبيعة تفكيرها وربما (تحجر) بعض القيم لديها ولكننا مسؤولون عن فتح حوارات هادئة لدفع الشخصيات المؤثرة ومنهم مثلا خطباء الجوامع والمعابد كيما يتحدثوا عن قيمة الإنسان في الديانات وحرمة استباحة دمه وحرمة الانتحار وعن احترام حريته وخياره في الحياة وعن تكريم الخالق له وعن المساواة بين المرأة والرجل بل عن إكرامها وتقديمها حتى في حياتها ومماتها بجنان الخلد.. وأن نؤكد على أن كل ماعدا ذلك هو من التقاليد البالية وليس من الأديان بصحيح نصوصها وجوهرها مثلما يشيع [البعض] ويمارس خطأ عن جهل وعدم دراسة أو قصد ودراية مبيتة الأهداف..
علينا أن نجد وسائل إقناع مجتمعية مناسبة ومدخلات حلول جذرية شاملة لا أن نتحدث عن خطوات ربما هي خطب رنانة ولكنها لا تأتي بحل أو معالجة.. وربما بات اليوم مطلوبا أن نمضي في البحث عن وسائل إشاعة الفكر التنويري عبر منابر تلج بيوتنا ومدارسنا والمناهج فيها والكتب والمؤلفات المنتشرة بدعم الإصدارات المخصوصة وبتفعيل جهات التأليف والبحث وإكرام الأنشطة النسوية بمكافأة الإبداع والتميز والإيجاب بالتعاطي مع الحال بتفاصيلها..
لِم لا يكون لنا في كل مؤسسة عامة وخاصة ما يركز على أنشطة مخصوصة للمرأة.. فالشركات والمعامل والدوائر الحكومية وغيرها تمتلك قدرات تأثير كبيرة.. إنما يبقى قبل كل ذلك وبعده بالقوانين المعمدة للعمل العام ولآفاق فتح فرص الحياة الرحبة التي تزيل الاكتئاب والاحباط عن نسوتنا وتحيلهن إلى طاقات فاعلة منتجة بدل الانطواء وخيبة الأمل والانكفاء في عزلة تودي بحيوتهن حتى لو بقين على قيد الحياة ولكن تلك العزلة موت إنساني بشكل آخر غير التصفية الجسدية تلك هي التصفية روحية نفسية!!
أرفع قبعتي وأنحني لتضحيات المرأة الكوردستانية ولكل الجهود المخلصة لتعميد مسيرتها بالخير والتفتح وبمزيد من خطوات التقدم.. وثقتي أن المجتمع الكوردستاني ومؤسساته الرسمية والشعبية قادرة على منح نسوة كوردستان مكانهن ومكانتهن السامية العليا اليوم وليس غدا.. رسالتي هذه مجرد صوت متواضع لكنه يعلو ويكبر بتفاعلاتكم جميعا… واحترامي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *