مستويات نقد الممارسات الطائفية وفكرها الظلامي؟

 

في قراءة جهودنا النقدية الجمعية والظواهر التي تحكمها بخاصة تلك المتعلقة بكشف الفكر الطائفي الظلامي للشعب الذي يعاني ن التجهيل واللتضليل لابد من توضيح الأمور بدقة عالية وسط متلاطم أعمال التشويش والشوشرة بالقدر الذي يتيح للطائفيين تمرير ألاعيبهم وأضاليلهم.. ما مستويات النقد وأنماطه وكيف ينبغي أن يكون في المحصلة والمنتهى؟ كيف يمكننا استثمار كل تلك المستويات والشكال أو الأنماط إيجابا؟

باتت ظواهر التراجع والتخلف تتسع في نطاق الممارسات الشائعة في تفاصيل اليوم العادي للمواطن المحكوم بنظام يقوم على إثارة خطاب الطائفية وأسسه وآلياته. وبالمقابل فإن خطابا ثقافيا توعويا للنخبة التي تحمل مهمة التنوير يمارس دوره النقدي لتلك الظواهر ويحاول جاهدا العمل على إزاحة غمة العتمة وآثار الفكر الظلامي المريض. وأحد الأسئلة التي تجابهنا هنا هو ذاك السؤال المتركّز على منطلقات الفكر النقدي وأيها الذي سيكون الأكثر نضجا وجدارة في المعالجة والتأثير؟

ويظهر هنا بعض من يتحدث عن ضرورة أو واجب أن تباشر (النخبة المثقفة) النقد؛ على أساس أنْ يمارسَ الشخصُ نقدَه تجاه الجهة المذهبية (الطائفة) التي ينتمي إليها. ويرون أن هذه الممارسة هي الأداة الأكثر تأثيرا في تجاوز الخطاب الطائفي وحل عقده التي باتت تتعقد أكثر فأكثر لتستعصي على الحل مع تراكمات تخلقها في ميادين الحياة.

ولقراءة هذا المنطلق ((النقدي)) أي منطلق مباشرة نقد الجهة التي ينتمي إليها الكاتب أو الناقد وترك نقد الجهة المقابلة لمن ينتمي إليها كيما يوجه النقد إليها؛ لابد من القول أولا: إنّه من الطبيعي أن تمتلك ممارسة النقد البناء بجميع أحواله ومستوياته أدوارها في التغيير وفي معالجة القضايا موضوع التقويم والنقد. ولكننا أيضا سنلاحظ جملة من الأمور عندما يقف النقد عند حدود دنيا أو مستويات مجتزأة أو تخضع بجهورها لفلسفة الطئافية السياسية ذاتها، ومما نلاحظه:

  1. إنّ معالجة هذه الآلية تقف عند حدود بعينها لا تتجاوزها إلى حيث جوهر الفكر الطائفي، وآلية اشتغاله ومنطلقاته الفكرية.. ومن هنا فإنّ الأساس في القضية لن يتم معالجته وستبقى فرص إنتاج الخلافات والتقاطعات قائمة، ببقاء السبب والجوهر.
  2. إنّ الدعوة لممارسة النقد كل طرف من انتمائه المذهبي الطائفي تخلط بين قوى الطائفية السياسية وزعاماتها وبين الجماعات التي يتم إخضاعها لها. وهذه الجماعات البشرية هنا تتمثل بالمجموعات التي تؤمن بمذهب ديني أو آخر، وهي ذاتها التي تنتمي إلى هويتها الوطنية في دولة معاصرة وتندرج في تقسيمات المجتمع المعاصر قبل أن يتم اعتقالها وأسرها بافتراض كونها مجموعة مغلقة على وفق الطائفية السياسية بما يضعها بمقابل مجموعة مغلقة أخرى. وبالتأكيد هناك فرق بين حركات الطائفية السياسية وقياداتها وبين الجماعات البشرية المستهدفة، ولا يمكننا المساواة بين الجماهير ومن يقودها ومن الاستحالة استبدال الجماهير ومصالحها بمن يتحكم بها من قيادة في مرحلة ما. لأن مصالح العامة هي الأساس الثابت وهي المرجعية وليست الحركات السياسية ولا الزعامات ومصالحها الضيقة. إنّ خطأ نقد ممارسة بعينها من منطلق الانتماء الطائفي يعود، توكيدا هنا لما مرّ ذكره، إلى اللف والدوران حول المشكلة بدل النفاذ إلى جوهرها عبر الخلط في معالجة الظاهرة بين منتجيها ومستهلكيها.
  3. وعليه فإن هذه الآلية تقف عند القشرة. وهي ربما تقوم بوقف ممارسة أو أخرى مؤقتا، إلا أنّ هذا السلوك الجزئي المؤقت يعني إمكان استدعاء تلك الممارسة في أي وقت آخر أو مرحلة تالية.. كما أن التوقف عند القشور يترك الحالة التي تؤكد دمجا تضليليا بين الفكر الظلامي ومستهلكيه وتترك الإرهاب الفكري القائم على حظر إعمال العقل في ممارسات الطائفية، وهذا ما يجعل نتائج النقد المجتزأ خارجيا هزيلا بمعنى القبول الآني بمنطقه والعودة لممارسة الظاهرة في أية لحظة تالية.
  4. إنّ ممارسة النقد من منطلق الانتماء للمجموعة المذهبية أو للطائفة يؤكد ضمنا لا الإقرار بهذا الانتماء الإنساني بل الإقرار والقبول بما يقوم به الفكر الطائفي السياسي بجوهره من تقسيم البشر على هوياتهم المذهبية الطائفية، ما يمنحه فرصة العيش أطول.
  5. يحيل القبول بهذا الاتجاه النقدي والاكتفاء به إلى رأي مقابل نظير؛ يقول إن اقتراب التنويري العلماني من مجموعته المذهبية أو طائفته يمنحه فرصة أكبر للتأثير غير المباشر فيها ونقع في سجال آخر في حقيقته يتأسس على تأثر وخضوع للطائفية السياسية وآلياتها…

لكن الأمور هنا بحاجة لفصل مفرداتها.. إذ بقدر تعلق الأمر بالشخصيات النقدية التي تؤمن بانتمائها لهذا المذهب أو ذاك وربما اقترابها من فلسفة طائفية ترى فيها صوابا وتؤمن بها اعتقادا (ربما تراه إيمانا دينيا، فإنه لابد من الاستئناس بممارستها النقدية بل استثمارها بدفعها وتشجيعها على مزيد من الاقتراب من المنطق العقلي التنويري الأنضج والأكثر صوابا بجوهره وآليات اشتغاله.

وهذا المبدأ العام يدفعنا أيضا لتذكّر الفعاليات التي لا تقوم على الأساس النقدي الموضوعي ولكنها تنطلق من الصراعات بين منتجي الخطاب الطائفي وخلافاتهم التي تتضمن نفيا للمنطق الذي يفتعلونه ولما يترسمون من طقوس وممارسات وأفعال مرضية، ومن ثمّ إمكان استثماره هو الآخر في الحراك الموضوعي النوعي.

على أنّ جوهر الجهود التنويرية في مناقشة الخطاب الطائفي، لا يمكنها أن تكون جذرية وحاسمة إذا ما انخرطت في مثل هذه الأداءات وتوقفت عندها. بل من الخطل أن تباشر جدلها بأسس اشتغال التخلف ومنطقه. وهناك فرق بين استثمار مستويات نقدية متنوعة مختلفة في منطلقاتها وبين ممارسة النقد الموضوعي بمنطقه الفلسفي المخصوص، وبآليات اشتغاله معرفيا فكريا. بمعنى أن توجد قوة لاستثمار التراكمات بمجملها وهي قوة مستقلة نوعيا في مبادئها وفي آليات اشتغالها..

إنّ اعتماد مبدأ فلسفة نقدية ومحاولة إشاعة مبدأ النقد وإدخاله في ممارساتنا الحياتية، يبقى مهمة حيوية غنية التنوع بمستوياتها. وهي تبدأ من أبسط الممارسات النقدية حتى أعقد تفاعلات الصراع بين الأطراف المتناقضة أو الذي يحركه التناقض.

في ضوء هذه القراءة المختزلة، أرى من الضروري للشخصيات العلمانية التي تعتمد العقل ومنطقه والفكر العلمي ألا تلج حوارا من منطلق يضعها موضع الانتماء للتقسيمات الطائفية أو تلك التي تفرضها قوى الدين السياسي. لأن مثل هذا سيعزز من فرص القوى السياسية التي تتستر بالدين ومن ثمّ بالضرورة بالطائفة لتمرير فلسفتها من جهة وإمعانا في تمكينها من التحكم ليس بالسلطة السياسية بتفاصيل مؤسسات الدولة وإنما الأخطر بالعقل الجمعي للمجتمع على أساس إخضاع الجميع للتقسيمات الماضوية المغلفة بأغطية تضليلية تحيا جسدا اليوم ولكنها تعيش منطق الأمس في انكفاء مرضي واضح…

ولا مانع لقوى الطائفية السياسية من إزالة ممارسة أو أخرى مهما كثرت أعمال الإزالة والتشذيب، لأنها ليست معنية حقيقة بالدين وطقوسه وبما تنشره من خرافات، ولكنها معنية بقوة ولن تتنازل عن مبدأ وجودها وبقائها بالإشارة هنا إلى جوهر فكرها وممارستها ممثلا بالتقسيم الماضوي القائم على الهويات الطائفية المتناحرة.

إن المشكلة الجوهرية في الطائفية السياسية ليست في ممارسة طقس أو آخر وهي ليست في التمسك بقول أو آخر مما يثير الاحتكاك ويعمّد التناحر بين أكثر من طرف؛ وإنما المشكلة تكمن في أساس القوة المنتجة لهذه التفاصيل وفي طبيعتها…

وفي ضوء الواقع يمكننا أن نرصد ثلاثة مستويات لأعمال النقد في مجابهة الطائفية السياسية وخرافاتها التضليلية. وتلك المستويات تتمثل في الآتي:

  1. مستوى النقد الناجم عن صراعاتها الداخلية تناقضيا. فالطائفية وألاعيب الاحتراب التي تبثها، تحيا انطلاقا من شرعنة صراع بين طرفين طائفيين يتم افتعال التناقض بين مجموعتيهما البشريتين.. ولكن تلكم المجموعات ستجد بالتجربة أن لا مصلحة لها في هذا الصراع. ولابد يوجد في كنف التناقضات ممارسات نقدية بعينها.
  2. مستوى المواقف النقدية الجزئية التي تعالج ممارسة أو أخرى .. أو تتصدى لقول أو آخر من الأقوال و-أو الأفعال التي تثير الاحتراب وتشعل نيرانه. وهي ممارسات نقدية من داخل كل جهة طائفية ولونها الذي تتمترس خلفه. فلقد بتنا نحيا تأثيرات عولمة العلوم والمعارف ومنطقها وآلياتها ما دفع إلى تأثير منطق النقد الذاتي بخاصة هنا من بعض النخب المتقدمة؛ وهي ممارسة تصب في الاتجاه العام للتطور، ولوقف محاولة الاستدارة والتراجع الذي يعمل على إحياء فكر ماضوي في عصر يستشرف مستقبلا مختلفا نوعيا…
  3. مستوى نقدي شامل وجوهري يمارسه العقل العلمي الذي يجسد التقدم البشري ومنطق التطور فيه مثلما يجسد استشراف مستقبل نوعي مختلف.. إنه الجدل بين العقل والجهل، بين العلم والتخلف، بين التنويري والظلامي..

وكلما تعمقت قدرات المستوى الثالث في التصدي لمهامه التنويرية، تنامت معه فرص ((النقد)) من داخل تلك الحركات السياسية الطائفية وازدادت دعوات شخصيات أو أجنحة بالكامل من أطراف تنتمي لجهتي تلك الحركات، لتفعيل النقد الداخلي تجاه الممارسات والطقوس والأقوال التي تسخر من العقل البشري المعاصر…

إنّ هذه الممارسة النقدية الجزئية لا تنسحب على الشخصيات والقوى العلمانية. بمعنى ضرورة استقلالية الشخصية العلمانية في جهدها النقدي.. ففي الممارسة النقدية للعلماني، لا يشترط أن يقف النقد عند حدود الجهة التي ينتمي الناقد إليها ولا بالمقابل في أن يتم اقتراب الناقد العلماني من الجهة المذهبية (الطائفة) التي ينتمي إليها في محاباة يستثمرها لإيصال نقده.. ولكن الأكثر نضجا وموضوعية هنا هو أن يتم العمل النقدي باستقلالية تامة للمشروع الفكري العلماني من دون إهمال ما يمكن الإفادة منه من وسط الحركات والقوى الأخرى، بما تنهض به شخصيات من داخل التركيبات المجتمعية وحركاتها السياسية المتنوعة المختلفة…

أما افتراض وجوب ممارسة الشخصية العلمانية للنقد على أسس التقسيمات المذهبية، ففيه ليس سذاجة فكرية حسب بل مخاطر شرعنة الطائفية السياسية ومنحها آفاق وجود لمديات بعيدة. إننا لا يمكن أن ننظر إلى الأمر من وجودنا المحلي اليوم بل ينبغي أن نتعمق في بصيرتنا بالنظر إلى الأوضاع من منظور عالمنا المعاصر ومنطقه الذي يشمل وجودنا الإنساني برمته.

أحيِّي كل الدعوات التي صدرت وتصدر لنقد الممارسات المثيرة للنزعات التناحرية طائفيا، و أثق بأنها ستقترب بعضها من بعض بما يوحد نتيجتها في التنوير الفكري وفي إزاحة ظلامية فكر قرون التخلف والهزيمة. إن مشاعر العامة باتت أشد إحباطا بسبب شيوع العتمة، ولكنها أكثر حلما بغد مستنير وأغنى تطلعا لحاضر مستقر يقوم على الإخاء وفلسفة التسامح والسلم الأهلي واحترام الآخر وتبني الوحدة في التنوع أي تمكين التعددية من التفاعل على أساس احترامها من جهة وتمكينها من التفاعل البناء من جهة أخرى..

ولهذه التداعيات التي وردت في قراءتي أمنيات أن تغتني بمعالجات الآخر وتعد بفرصة جديدة أخرى لمعالجة متأنية ودراسة علمية أشمل وأكثر تدقيقا.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *