شوقية العطار في ألبوم “صور غنائية من الذاكرة”

قُبَيْل برهة صَدَر للفنانة العراقية شوقية العطار منجز غنائي جديد، من إنتاج شركة [VISION Studio Europe] فيجن ستوديو للميديا والإنتاج الفني – أوروبا. فيما تمّ التسجيل الموسيقي والماسترينغ في استوديو مؤسسة زرياب للتكوين الفني 2013.. وقد تضمَّن مشهدا غناسيقيا اعتمد في اختياراته على اتجاه رومانسي شفيف، ينطق بتعابير الحب والعشق تعتمل في الأنفس العراقية..

ولقد جسَّد العنوان هذا الاتجاه عندما جاء بهذه الصياغة المرسومة بريشة فنان تشكيلي: “صور غنائية من الذاكرة شوقية العطار” فأما صور غنائية فما تضمنه الـ (CD) ألبوم بحق يمثل لوحات فنية بارعة تلامس شغاف القلب وأعماق الروح ممتاحة من مسيرة الذاكرة فيها، لا تاريخا جامدا ساكنا بل علاماتٍ تنتمي لهذا التاريخ المشرق ومازالت حية فاعلة مؤثرة ومعطاء بجديد اللقاء مع المتلقي.. بخاصة هنا ما يجري اليوم من ظروف معقدة لكنها تبقى وَلّادةً بمزيد غبداع معبر عن العمق الإنساني الباقي الذي لا يزول من عراق المجد تاريخا والبطولة حاضرا والازدهار مستقبلا.

يبدأ الألبوم مترنما ببغداد والكلمات لمبدعنا المتعدد في مجالات عطائه محمد سعيد الصكار، حيث الموسيقا من جهة ببعد سمفوني بطولي ومن جهة أخرى بشجيِّ الأداء بحنجرة شوقية؛ وهي تتغنى بمحبة بغداد الأزل، الباقية شمسا دافئة تلهب الحياة حيوية وحركة وتسترجع تاريخها الذي لا يمَّحي من ذاكرة أبنائها وتطلعاتهم اليوم، لاستعادة حياة حرة كريمة.. إنَّ أغاني الناس كدأبها تنهض بمهامها الجمالية الفنية بتوجيه المضامين توجيها يقارع الضيم والظلم والظلام الذي قد يكون خيّم لحظة أو أخرى على أجواء بغداد والبلاد، لكنه سرعان ما يزول وينتهي بفضل العزائم ترتقي  التحديات والصعاب…

ولأنَّ شوقية الفنانة هي عشتار السومرية التي ظلت قامة وطنية ملتزمة بقضايا الوطن والناس فإنَّها تقدم في مناجاتها الأهل في (هلي لعبد الرضا الأسدي)، أقول: تقدِّم فنها الغناسيقي بتوليفة أدوات تجمع بين رومانسية اللحن وشفافيته بتوزيع موسيقي مميز من جهة وبين أداء فخم لفخر بالأهل لا تنتمي وحدها إليهم بل ينتمي إليهم كلّ من تفاعل مع الأغنية تعبيرا عن أحاسيسه ومشاعره؛ و وفاء للموقف الإنساني الأعمق والأغنى؛ سواء تجاه شهداء الشعب من أهلنا الذين التهمتهم الآلة الجهنمية وأسكنتهم القبور  كما تحكي الكلمات أم أولئك الذين ما زالت مضايفهم منبعا لقهوة تعطِّر فضاءاتهم ورحابة استقبال يحتضن الأحبة بهلهولة فراتية؛ ليرقصوا طربا بجوبية عراقية فرحا باللقاء… وفي تَنقّل الكلمة والمعنى بين أوصاف الأهل تترنم حنجرة شوقية بالهور والمشحوف والدبكات الكوردية بتلوين صوتي بارع يستجيب لألوان ربوع البلاد والنهرين..

ثم تتهادى الموسيقا في (علَّمنه هواكم) وكلماتها للمسرحي المعروف الشاعر رسول الصغير ليأتي الأداء بين همسات تتناغم وخيوط الفجر وإيقاعات مقامية تتمدرس في صفوف الهوى والعشق يجمع بين الإنسان وعشقه والوجود الجمعي ومحبة تكبر لتتسامى مع حجم الوطن والناس. أنت لا تستمع إلى خطاب فج ولا إلى أنشودة حماسية ولا حتى لأغنية وطنية أو سياسية بل إلى فن غناسيقي يمنحك برهة من إعادة تنظيم مويجات العقول والأفئدة بترانيم شفيفة نابعة من القلب إلى القلوب العاشقة، الولهى بالجمال وبمتعة الموسيقا ورونق الأغنية بخاصة هنا يأتي الصوتُ من حنجرة ذهبية..

في الأغنية التالية تنفتح بوابات النفس وتنتقل الرسالة من تلك الإيقاعات الراقية إلى عميق الأنفس المتلقية في مناجاة (أشتاقلك يا نهر) للشاعرة الرائدة لميعة عباس عمارة. ففي تنويعة جديدة الأداء تطربنا حنجرة شوقية العطار مخففة الهجير وآلامه وطوفان ما يُغرق منه، لتقدم فنانتنا بروعة أدائها، مشاعر إنسانية تتسامى مع الأنفس في حوارية بين الإنسان والطبيعة؛ بين الروح الجميل لإنسان عاشق وبين الآخر مجسَّداً بالنهر، يمكن لمن يتلقى طربا كهذا أنْ يحمل فيه معاني معاجم العشق بأنغام تلوّن الأنفس كما تتلون متهدجة تلك الحنجرة الذهبية بما ترسله من دلالات تجسدها في كل نبضة لصوتها المشرق إشعاعات شموس هي وجودنا جميعا بعدد المحبين والعشاق..

ونستعيد في (خيّوه لأبو سرحان) الإيقاعات الراقصة لتلك الأغنية (خيوه).. وما أنْ تراقصنا الموسيقا حتى تندلع نيران الصوت الملتهب بكيفية رسم الجمال وتلخيصه في بنت الديرة شامخا متحررا يطير سابحا في فضاء الديرة مشمسة زاهية بالمسرة والفرح لابسة الليلو في دلالات لا تختفي على المتلقي العراقي، الغارقة أدوات الرسم والتفنن في دواخله. لتتفجر ينابيع مشاعر إنسانية تذوب عشقا في الحياة التي ترسمها أنثى أجمل من عشتار الأسطورة…

وفي انتقالات جمالية لاختيارات ذكية في هذا الألبوم، تأتي تقاسيم العود لتقدم افتتاحا لـِ(الصبر وكلمات جاسم الولائي. فآهات حرى هذه المرة هي التي ينبع موالها بصوتٍ التحَمَ بالذاكرة الشعبية أنشودة لمشاعر العراقيين الصافية كما فراتهم العذب الزلال.. وهنا تتنقل الجمل اللحنية لترسل إيقاع رقصات الناس في احتفالاتهم ولتجمع بين الفردي والجمعي متجسدا في رموز هي شفرات دالة للمعجم الاجتماعي العراقي، حيث الخاص والعام يلتقيان لتمثيل وحدة النفس الوطنية في تعبيراتها المتأنقة المتجملة بين البوح بالعشق وبين البحث في قواميس الصبر لتحدي الغربة والاقتراب من الحبيب وطنا للعاشقين..

وبنقلة أخرى نصغي لـِ (بْعاد لأبو شمس) كلمات تعود بنا إلى شفيف الحزن وما تبوح به ألسنة القلوب وهي تلاقي سنابل الحب والأرض الأم الحنون الرؤوم… فمتى تنتهي همسات النسمة تأتي في الغربة لنعود إلى جغرافيا الوطن المسكونين بها وإنْ كانت غادرتنا قسرا إلا أنّنا لن نغادرها… هنا يأتي الحلم دافئا في قسمات لوحاته المرسومة شعرا والملونة بذياك الصوت الذي امتلك من كل ذات عراقية سمةً وبصمةً حتى بات معبرا عن قسمات المشاعر للناس وتعبيراتهم الفردية والجمعية…

ولمظفر النواب تتغنى الحنجرة الذهبية بـِ(سهرنالك دهر) فالصوت ينبع من عميق الروح، من عميق الفؤاد عهدا للعلاقة القدسية بين المحب والمحبوب.. وحتى العتاب في تغير جغرافيا (بعض) الناس يأتي حنونا ويقلّب صراعا داخليا، “ردينا نتعارك وي بواجينا” وهذا العتاب حين يعلو، يعلو دعواتٍ وصلواتِ تبتهل بالخير والعشق لا باللوم.. هنا لا نشيج ولا بكائيات فطابع الحزن يبقى مكسورا مواربا بالتخفيف من وطأته في أداء طربي ربما بالموال ولكنه يقينا الموال الذي لا ينسى التوقيعات الموسيقية تحريكا للساكن ومنحا لدفق بديل تحسُّهُ في تمثُّل جميل ما مضى في روائع الآتي ليس المتمنى حسب بل الذي تنشده الأفعال وحركة العشق الأبدية…

وفي (ناسيني للرائع في نسج الكلمة الأجمل شفافية كاظم إسماعيل كاطع) يكون المدخل هو موسيقا الحنجرة الذهبية صافية منفردة تلخص الرومانس العراقي يُعاتِبُ الحبيب وطنا وأناسا ومواويل عشق.. هذا الانفراد في المدخل تليه موسيقا مقامية ليست غريبة على مسامع العراقيين بل هي في صميم ما أطربهم ويطرب حراكهم مسيرة تفاعل ووحدة مشاعر عشق مستمر وعمل دائب متصل.. والعتاب يتواصل متهاديا بالكلمة لكنه يصرخ ويتحدى وإن كان في مستوى موسيقي هادئ شفاف فكأنه عبور لواد عميق عريض ناقلا ما اعتمل ويعتمل في الدواخل بصورة صلوات لا تدل على النسيان الحقيقي لكنها تعلو بدعاء المودة جسوره لها بدايات وليس لها نهايات… ومن يكتب (المكتوب)، كي لا يُنتسى المحب، هو حبر أنهار تجري بعروق المتلقين يمتاحون من موسيقا إنسانية تمزج مدارس أندلسية لمقامات عراقية معلنة عمَّا بينهما من الروابط الجمالية الفنية…

وفي أغنية أخرى هي (اللول ولوه لأبو سرحان) فيبدأ المطلع الموسيقي بنغمات وجمل لحنية طالما داعبت الذاكرة العراقية في أفراحهم ومسراتهم تتحدى قيما اجتماعية ربما طاولت المرأة في بلادنا بالألم ولكنَّ تلك الأغنية التي تعلن الجمال والبهاء مُلخّصاً في المرأة عراقية أصيلة تكسر تلك القيود بوساطة بطل الحلم، بطل العشق بديلا للتأوهات السلبية. وفي كل ما تمتلكه الجميلة البهية عشتار الوطن يدوّي في عالمنا الإنساني الأكثر بساطة وتواضعا ماديا ولكنه الأسمى والأعلى بقيم الحب إنسانيا رائع الإشراقة لا بيع فيه ولا شراء، حيث يدين الصوت المتعالي بالآه وبالصرخة رفضا للبيع والشراء متهكما ساخرا من القيمة السلبية لاستغلال المرأة وطبعا معاودا دوي الصوت ثائرا منعتقا.. تلكم هي قضية هذه الفنانة (شوقية) وحنجرتها التي أبت إلا أن تكون وسيلة العراقية والعراقي في التعبير عن آماله وتطلعاته..

أما في (هلهولة لشاعر الجمال الرومانسي الثائر رياض النعماني) فلا تذهب الموسيقا عالية بل متهادية في حداء ينسجم مع خياراتٍ ذهبت مذهب خيار الرومانسي الثائر متفقة وإياه في مسعاه الإنساني.. لاحظوا وأصغوا معي إلى تلك الأنفاس لحنجرة ذهبية، كأنها الأصوات الموسيقية؛ فهي حتى في الشهقة وفي لمحة التوقفات والسكنات، تأتي بخيار مقصود للتعبير عن إيقاعها الجمالي المميز، ماركة مسجلة، بهذا الصوت نسيج وحده صوت شوقية العطار طوال عقود عطائها الفني الثرّ، صاغت عقد لولؤ في رقبة عشتار السومرية، شوقية.

وشوقية العطار، الرائعة ذهبية الحنجرة، بنت طِيْبة البصرة والعشق العراقي، عشتار السومرية تترنم ختاما لمنجزها الجديد بأغنية يا عشقنا لكاظم الرويعي. وطبعا لابد من التذكير بأنّ هذه الأغنية ظلت منذ ولادتها حتى يومنا راسخة بالذاكرة الشعبية حتى باتت لصيقة بكل فرحة وجلسة ومسيرة؛ فهي لكل محب عاشق ولكل من يعشق الأرض والوطن والناس وهي ببساطة تتكلم على ما هو أعمق من العشق معبَّرا عنه بالكلمة وحتى باللحن إنها فيض أمواه تندفع نافرة من قلوب صافية بيضاء كشموس العراقيين في أحلى أزمنتهم… إنها أيضا أغنية العمل والبناء والزرع والحصاد وسقيا للأنفس مثلما هي إرواء للأرض وبساتينها…

تلكم زاوية أو بقعة ضوء صغيرة، اكتفينا بموجز القول بشأنها مع إدراك أنها تنتظر قراءة أخرى تتحدث عن اختيارات المقامات الغنائية ولمحات الأداء الغناسيقي وكيف ترتقي تلك الحنجرة الذهبية للفنانة الرائدة شوقية بالجملة الموسيقية بخصوصية متفردة في التجسيد ليس في لونها المتميز وطابع الخامة الملهمة بموهبة استثنائية تمتلكها حسب بل بأسلوب التعامل وتوجيه التوزيع الموسيقي بطريقة فنية تنسجم ورسائل، هي لوحات من عبق البصرة وروائع سومريات التاريخ وبهاء عراقية الانتماء..

ولكنها وحدها بلا ألقاب تبقى شوقية نسيج وحدها غنائيا، رائدة مجددة معطاءة، ينتظر عشاق الجمال اللقاء بصوتها يصدح بصلوات للوطن والناس، وسيبقى كذلك. إنّ اقتناء ألبوم هذه الفنانة، يعدل اقتناء لوحة من شواهد عصرنا الألمع، فلعلنا نمتاح نسمة عنبر عراقي أصيل ونحن نستمع بإصغاء إلى روائع الفن مع هذه الخيارات البديعة، وتبقى تحية وانحناءة تقدير واحترام لفنانة الشعب تنسج له المسرَّةً، تحية للفنانة الرائدة شوقية العطار.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *