هل الكانتونات الدينية هي أداة الحماية الأنجع للحل المنتظر!!؟

تفاقمت أوضاع المكونات الدينية والمذهبية في العراق في ضوء نظام الطائفية السياسية، المستولَد في العام 2003 على أنقاض نظام طغيان الدكتاتورية. فهذا النظام دأب على اختلاق الخنادق وافتعال الأزمات وشحذ أشكال الاحتراب بين عناصر متشددة في المجموعات الدينية والمذهبية؛ ومن ثمَّ فرض  حالات الاقتتال الدموي وجرائم التصفية على أتباع تلك المجموعات الأمر الذي وصل اليوم إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية بل جرائم إبادة جماعية؛ مثلما حصل مع مسيحيي الموصل ومع الأيزيديين في سنجار…

 ولا نغفل هنا أنّ الجرائم التي يشخصُها القانون كونها جرائمَ تطهير بأسس عرقية أو دينية ومذهبية، إنَّما بدأت منذ اللحظة الأولى لتشكيل الميليشيات ودخولها البلاد في ظل أجنحة أحزاب الطائفية السياسية؛ وما استغلته تلك الميليشيات والمافيات من أسلحة العنف من رصاص للاغتيالات وبارود للتقتيل والتخريب والتدمير.. ونذكّر هنا بما جرت من جرائم كارثية ضد المعابد والكنائس المسيحية وضد مندى الصابئة المندائيين. وكلنا كان شاهداً على مئات وآلاف الوقائع البشعة من جرائم الاختطاف والاغتصاب واستيلاد المغتصبات من (إسلامويين) وفرض تغيير الديانة فضلا عن جرائم الاغتيال والقتل فردياً جماعياً بحقهم وطبعاً رافق تلك الجرائم رسائل تهديد بتصفية من بقي إنْ لم يغادر بيته في ساعات معدودة! الأنكى أن تلك الجرائم التي كانت واضحة مفضوحة فيمن وقف وراءها كانت تقيد ضد مجهول ولا محاسبة لمن ارتكبها ولا لمن وقف وراءه من ميليشيات وأحزاب!!

تلكم هي الصورة التي دفعت أتباع الديانات والمذاهب للهجرة القسرية من مناطق عيشهم التي توارثوها وصاروا في حال عيش الاضطرار بمدن ومناطق أخرى! ولكن بيوتهم المغتصبة وكنائسهم ومعابدهم المستباحة وحتى مقابر أجدادهم وآبائهم مازالت موجودة وإنْ كانت تتعرض لمصائب متكررة من حالات تخريب وعبث الأيادي الميليشياوية، بلا من يتصدى لهم! سواء من الحكومة الاتحادية أم المحلية في جميع محافظات البلاد من البصرة حتى الموصل مروراً ببغداد نفسها…!!

وجديد المواقف التي اضطرت إليها هذه المكونات التي عانت من التهميش والمصادرة ومن ثمَّ الاستباحة بظل نظام الطائفية هو تقوقعها في غيتوات أو كانتونات تحاول فيها الاعتماد على سلمية وجودها في حماية وجودها. لكنّ انهيار مؤسسات الدولة والانسحاب الكارثي غير المبرر أدى إلى استباحة جديدة لمحافظاتٍ ومدن باتت الموئل الأخير لهم! لتقع الواقعة باكتساح إرهابيي داعش محافظات الغربية ونينوى؛ ومن ثمّ الاندفاع باتجاه نواحي جديدة في سنجار وبعض الأماكن الأخرى…

تولّد هنا رأيان في إطار البحث عن حل لا يمثل مهربا مؤقتا فقط بل تأسيسا جديدا:

أحدهما يدعو لترك الوطن الأم، الوطن الذي شادوه تاريخاً وحاضراً والتوجه نحو دول اللجوء بكل ما ترتب على هذا من نداءات لاستقبالهم على أساس ظاهرة الاضطهاد وتهديدهم بجريمة التصفية والإبادة، وهذا أمر يتطلب قرارات دولية وقدرات استيعاب وإمكانات معالجة موضوع الاندماج وحالات التمزق والآثار السايكوسوسيولوجية والمجتمعية بشكل أشمل وكثير عقبات أخرى من قبيل مخاطر الانتقال بأيدي المهربين المتاجرين والمغامرين والمقامرين بحيوات الناس…

والرأي الثاني تضمن طلب ما يسمونه (الحماية الدولية)  وضمناً فإنّ هذا يتطلب استقطاع مناطق جغرافية محددة بمدن ومحافظات لتحويلها إلى مجمَّعات أو كانتونات بسلطات محلية (مستقلة) تحظى بتلك الحماية الدولية! وهذا هو أول التباس في فهم مطلب الحماية الدولية بصيغته الماثلة والمستقرة في أذهان كثير من أبناء المنطقة.

ولكن بعيداً عن مناقشة البديل في هذه اللحظة من معالجتنا؛ فهل تشكل (المعازل)، بتنوعات تسمياتها: غيتوات أو كانتونات أو محافظات استثنائية الصلاحيات أو مناطق حكم ذاتي، حلاً بديلا يمكنه أنْ يوفر الأجواء أو الفضاءات الإنسانية لأية مجموعة؟ هل يمكن للعزلة والانفصام عن الآخر أنْ يكون حلاً جدياً مسؤولاً؟

لو كان التهديد آتٍ من هذا الآخر، من أبناء الوطن الذين تمَّ التعايش معهم لآلاف السنوات، لكانت العزلة حلاً وإنْ جاء جزئياً.. ولكن بالبحث في سبب ما يتعرض له أتباع الديانات والمذاهب وبالعودة إلى من وقف وراء الجرائم سنجد أنّ الحل يكمن في استعادة الدولة بناء مؤسساتها وفرض سلطة حكم مدني ديموقراطي بأسس وطنية تستوعب الجميع في دولة التعددية والتنوع أو الدولة الفديرالية. كما أنَّ اللجوء إلى دويلات الطائفية وما يجري النداء من أجله لاصطناع غيتوات أو كانتونات بأسس دينية هو سياق رجوعي إلى الوراء حيث الدولة الدينية ومنطقها وآلياتها تتعارض ومنطق الدولة المدنية الحديثة وآلياتها.

إنّ حلّ الدولة الدينية أو المحمية الدينية في ظل استمرار دولة نظام الطائفية المتسبب في كل جرائم الاستغلال وبشاعات الإبادة، لا يمكنه أن ينجز التطلعات المؤملة لأنسنة وجودنا وضمان السلم الأهلي. إذ كيف يمكن أن نضمن الأمن والأمان في ظل انفلات سلطة الدولة والتسليم للقوى العنفية الميليشياوية بحكم الشارع!؟

إنّ الحماية المنتظرة اليوم، تنطلق من طلب الدعم الدولي لاستكمال بناء الدولة المدنية ومؤسساتها الفاعلة، الضامنة للأمن والأمان، ولنشر ثقافة السلم الأهلي بدل ثقافة الثأر والانتقام. وعليه فإنّ أفضل ما ينبغي التفكير به حلاً لما يجابهنا جميعاً، ولما يقع بأعتى جرائمه التصفوية هو قراءة الحال العراقي. وهو من شطرين: الأول هو حكومة اتحادية هزيلة واقعة في مطب الانقسام بين جناحي الطائفية ومن ثمّ  المحكومة بفلسفتهما الواحدة وهي فلسفة الطائفية السياسية. ومن الطبيعي في ضوء ذلك أن نرصد حقيقة الانسحاب الأمني العسكري للقوات الاتحادية من المحافظات، المنكوبة بسطوة قوى الإرهاب، وسنرصد أيضا التلكؤ الخطير في العودة لتحريرها بل أن تلك العودة ارتبطت أيضا بإدخال قوى ميليشياوية في المعركة ما يعقّد المهمة ويضعها بمجابهة مع منطق الحل الفعلي المنتظر.  وهكذا تركت الحكومة الاتحاديةُ المسؤوليةَ الأثقل طوال الشهرين المنصرمين على إقليم كوردستان وهو الشطر الفديرالي المبني على أسس الدولة المدنية وعلى سلامة قواته من البيشمركة بنيوياً..

هذا يمنحنا فرصة للتمعن في الحقائق والممكنات للحل الموضوعي الأنجع الذي يحمي حقيقةً أتباع الديانات والمذاهب في إطار دولة مدنية تحترم التعددية من جهة وتحافظ على حقوق الإنسان وحقوق المجموعات الدينية والمكونات والأطياف التي تشكل فسيفساء الوجود الإنساني للشعب العراقي بهوياته الفرعية.

إنّ التجربة التاريخية للبشرية أكدت أنّ أوروبا لم تلتجئ في حل الصراعات التي قهرت مجتمعاتها بصبغتها الطائفية على الانقسام بين دويلات الطائفية بل كانت الدولة القومية من جهة ودولة التعددية المبنية على أسس مدنية معاصرة هي الحل الذي منح كل أوروبا فرص العيش بسلام واتخاذ مسيرة التنمية والتقدم طريقا للحياة المتحضرة الجديدة… ولم تستطع الكانتونات بجنوب أفريقيا فعل شيء يمثل حلاً للجريمة بل كان بناء الدولة الوطنية بأسس مدنية ديموقراطية هو الحل المكين الذي شهدناه..

في ضوء هذه الحقائق فإنّ الدعوات التي تنطلق لجلب الحماية الدولية يجب أن تتحدد بمنطق نداء موحد يعمل على جلب كل مساعدة مدنية وعسكرية يمكنها أنْ تعزز من (بنية الدولة العراقية) ومن احترام حكومتها الاتحادية للدستور والقانون من جهة.. وضمناً توفير الحماية الفعلية لجميع الأطياف على أساس مبدأ المواطنة وعراق فديرالي يتقدم نحو استكمال وجوده المؤسسي المدني مثلما الحال في النموذج الكوردستاني غير المبني على أسس الطائفية ومنطقها التضليلي…

إنّ المجتمع الدولي يمكنه أنْ يلعب دوره في ظل منطق القوانين الدولية المرعية في توجيه الأمور باتجاه الدولة المدنية واستعادته حيوية الأداء بمنطق قوانين لا تخضع للتفصيل المخطط من قوى خارجية أو محلية تنفذ مآرب مرضية مثلما جرى ويجري الآن.. كما أنّ القوى الإرهابية التي سطت على بعضٍ من جغرافيا الوطن ما كان لها أن تفعل ذلك لولا أرضية الطائفية السياسية ولولا انسحاب الحكومة الاتحادية وتركها المؤسسات تنهار في تلك المناطق ليعبث بها زعران السياسة من إرهابيين ومطامعهم ممن دعمتهم مرجعيات ليست خفية على العراقيين جميعاً.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *