تراجعات بنيوية في بنى الدولة تتطلب مزيد جهود إصلاحية

بنى الدولة العراقية ما بعد 2003 ليست هي ما قبلها وفي وقتٍ ينبغي تأشير الإرث السلبي المتحدر من النظام السابق لا يمكن لعاقل حكيم أنْ يبقى بعد أكثر من عقد على التغيير متشبثاً بتأثيرات ذاك الإرث متخيلا كونه سبباً للكوارث الجارية وإلا فإنّ القصد من ذاك التشبث لا يخرج عن منطق تبريري وهروب من أية محاولة لكشف حقائق ما يجري اليوم! هذا فضلا عن كونه لن يقدم فرصة جدية للتعرف إلى الأسباب بغية معالجتها والانتهاء منها لمصلحة بناء الدولة المدنية.

إنّ مسمى الدولة المدنية بما يتضمنه من أركان قانونية وأخرى مؤسسية، ظلت محصورة في عتمة أدراج الإهمال والإلغاء وفي تبريرية التصريحات المضللة التي تطلقها القوى المتحكمة بالإدارة العامة للدولة. فيما بقيت مطالب الشعب المتطلعة لبناء دولة المؤسسات الدستورية لعراق ديموقراطي فديرالي ومعها التيار المعبر عنها محاصرين بأداء عنفي إقصائي متضخم لثلاثي (الطائفية، الفساد، الإرهاب)..

ومن هنا سارت الأمور بطريقة أفرغت بقايا هياكل مؤسسية من قيمها المنتظرة وصارت أغلب المؤسسات مجرد أوعية تغطي ممارسات محاصصاتية تملّكية بمعنى تغطيتها وتسترها على أفظع جرائم فساد جيَّرت الوجود الحكومي لامتصاص الميزانية (نهبها وسرقتها) بخطط وإجراءات مشرعنة لكنها في النهاية أو بالمحصلة لم تقدم مساهمة في خطط التنمية لأنها أصلا وبشكل جوهري لا تنتمي لجهود بنيوية بقدر انتمائها لجرائم قوى الفساد التي اخترقت وجودنا طولا وعرضا…

وبمراجعة آخر أخبار الدخل القومي للبلاد وموازناته وميزانياته سنجد أنَّ الحكومة مررت الميزانيات منذ العام 2003 بطريقة توفيقية ضللت وغطَّت على الحقيقة. والذاكرة الوطنية ما زالت حية بقراءتها نسبة التنفيذ في بعض السنوات التي تدنّت حتى 6% فقط لاغير والمفروض أنْ تنتقل نسبة المبالغ التي عجزت المحافظات عن تنفيذ مشروعاتها وهي نسبة لا تُصدّق عندما نقول 94% في سنة من السنوات ونسب كبيرة ضخمة في سنوات أخرى.. والسؤال أين ذهبت تلك الأموال والأرصدة إنْ لم تدخل مدورة في السنوات التالية!؟ دع عنك السؤال عن المبالغ التي يُفترض أنها صُرِفت لمشروعات وهمية لم تظهر بمنجز سوى بتمثيليات بائسة؛ من قبيل رصيف ابتلع ملياري دولار ولم يرَ أهل المحافظة لا رصيفا ولا آثارا للمبالغ المصروفة للمقاول المعروف! ومن قبيل مدرسة طينية يبنيها أهل الناحية من جيوبهم وجهودهم فيما المبالغ المخصصة لا يدرون أين ذهب بها من صرفها باسمه!؟

وعلى ذكر هذه الأمثلة، ينبغي ألا تمضي الأسئلة الخاصة بما تم رصده وصرفه للعام 2014 فيما اختفت المبالغ بمسمى تضليلي هو عجز الموازنة والميزانية بتبريرات إن سدّت ملاحظة على مبلغ فلن تسد فرصة فضح أن عشرات المليارات مختفية بلا حتى مبرر!! إنّ لغة الطمطمة والتغطية وتلميع أوجه هذه الشخصية أو تلك مازالت تحكم شعبا من 35 مليون نسمة! فهل من المنطق ألا يوجد فيهم من يطالب بحقه!؟

طيب، ألا ينظر العراقي إلى حاله الذي وصل إليه؟ ألا يرى ما طبيعة مرتبه وأجور عمله؟ ألا ينظر إلى أن الأمور وصلت إلى درجة عدم صرف الرواتب منذ أكثر من شهرين في قطاعات رئيسة مهمة؟ والحديث هنا عن محافظات غير كوردستان المقطوع عنها المرتبات منذ أشهر!؟ ألا يرى بوادر الاحتجاجات ممن طاولتهم اليوم جريمة الإفلاس التي بدأت تعلنها بعض المحافظات ويريد المسؤولون الإعلان عنها بصيغة أخرى بما يخفي أين ذهبت أرصدة العام الجاري!

إنّ الإجراءات الترقيعية لن تهش ولن تنش فهي قد تداوي مؤقتا (خدشاً) ولكنها لم (تعالج) جرحاً نازفا كبيرا ولن تعالجه لا اليوم ولا غدا! وهاكم الأمثلة. التعليم بلا استراتيجية ولا أولوية ولا يملك غطاء مالياً كافيا إلى درجة أنّ العجز بعدد أبنية المدارس والجامعات والمعاهد وقاعات البحث العلمي هي من التدني ما لا يمكن تصديقه حتى بقراءة وضعٍ بعينٍ من عيون الدول الـ25 الأكثر فقراً!

وتورد الأخبار على سبيل المثال لا الحصر أن محافظة ذي قار تحيي اليوم ((مدارس الهواء الطلق)) بعد ((نقراضها)) منذ سنوات طويلة  إذ لم تعد المدارس الطينية التي اشتهرت بكثرتها هذي المحافظة، مثلما محافظة جارة كميسان، لم تعد قادرة بإمكانتها المتواضعة البائسة على احتواء الحجم المتزايد من الطلبة على الرغم من ممارسة سياسة ازدواجية و\أو ثلاثية الدوام. فاتجهت المحافظة إلى فكرة (مدارس الهواء الطلق!!) لتكون أحد الحلول الأنكى من ترقيعية في وجودها وفي مخرجاتها. إنّ هذه المأساة جذرها بنيوي يؤشر لمخاطر الانهيار الشامل؛ فذي قار ليست منفردة بالواقع المرير المزري والمشكلة أضخم من مشكلة الأبنية المدرسية.

ومع ذلك دعونا نقرأ تلك الحقيقة بوصفها واحدة مما ترصده العين الفاحصة فإن 1760 مدرسة موجودة بالاسم والأبنية المتوافرةلها بحدود 1160 ولذا فحوالي الـ600 مدرسة جديدة منتظرة فورا لحل المعضلة على وفق التصريحات الرسمية. ولكننا بحاجة أيضا إلى تفاصيل أخرى جد مهمة للأداء الأنجع بشأن المدارس كما هي حاجة تلك المدارس إلى حوالي الألف معلم وأكثر من 740 مدرّس إلى جانب عدم وصول الكتب المنهجية التي تُطبع بالأردن! ولابد لنا من أن نتذكر ما تورده الأخبار من مثل وجود 287 بناية مدرسية متلكئة بمشروعات التنفيذ والتخطيط، ومن مثل وجود 106 بناية مدرسة طينية في المحافظة.

لقد بات النقص الحاد بالكتب سببا في توزيعها بطريقة المشاركة حيث يوزع الكتاب الواحد على 3-4 طلاب. فيما مشكلات الملحقات كما المرافق الصحية متفاقمة بطريقة غير لائقة ولا تقبل تسمية صحية! أما نماذج مدارس الهواء الطلق فمثالها مدرسة الشروق تأسست عام 1937 بمنطقة الأصيبح في ناحية كرمة بني سعيد بشوق الشيوخ، واليوم تضم المدرسة مئات الطلبة الدارسين في الهواء الطلق بعد هدم بناية البردي المضغوط التي كانت مبنية به. وبعامة فإن مسمى متلكئة يشير إلى منجز أدنى من بنسبة 40% للمشروعات الحكومية و60% لتلك المتبناة من البنك الدولي! ولا إجابة عن أسئلة تخص المبالغ المرصودة أين ذهبت؟

إذن لدينا رواتب لم تُدفع والاحتجاجات مستمرة من القطاعات العمالية والشعبية المعنية اليوم مباشرة بالموضوع. ولدينا نسبة فقر وفجوة فقر خطيرتين ولا معالجة آنية مباشرة. وعندنا 5 مليون مهجَّر ونازح منهم حوالي المليونين هذا العام منذ حزيران الماضي وهم يستقبلون الشتاء بين مخيمات تشكل مخاطر جمة على الصحة وعلى أوضاع قاطنيها وبين العراء وسكن اضطراري في هياكل أبنية متروكة.. وغير لقمة العيش وغير الصحة البدنية والنفسية هناك الاعتداءات الصارخة على الأطفال والنساء من جرائم ابتزاز واختطاف واغتصاب ومن متاجرة بالبشر تأصلت في المشهد!!

لن أدخل في أمثلة أخرى ولكنني هنا أبدي بوضوح موقفا يتحدث عن واجب الحسم النوعي الجوهري لقضية الموازنات والميزانيات وللرصيد المالي التشغيلي والاستثماري في البلاد من دون صيغ ترقيعية؛ الأمر الذي يتطلب الآتي:

  1. معالجة حكاية الموازنة ورصيد البلاد للعام الجاري والتالي.
  2. معالجة ما يخص العجز بطريقة موضوعية سليمة.
  3. والاستعانة بالاستثمار الخارجي والخاص الداخلي.
  4. ووضع الخطط الرصينة لسرعة التفاعل مع الحاجات الإنسانية للنازحين من غذاء ودواء ومن سكن آمن.
  5. ومن حماية أمنية ضد أشكال الجرائم الجارية بحق العراقيات والعراقيين بخاصة في مناطق النزوح.

لكن القضية على الرغم من إشارتي إلى الموازنة والأرصدة المالية وخطى نوعية لمعالجتها هي أكبر من هذي الإشارة على أهميتها الاستراتيجية. إنها قضية بنية الدولة وآفاق وجودها بمعنى أن الدولة الأكثر فساداً والأكثر فشلاً هي الدولة الأقرب للانهيار! وعدم تذكر هذه الحقيقة سيؤدي بنا جميعا على المهالك الأخطر مما تواجهنا جميعا وكافة اليوم.

ينبغي ألا يعتقد المواطن أن تمرير الأمور باتكالية وبسلبية تعني إمكان عبور أزمة.. فترك الوضع على الغارب ليس أمرا عابرا اليوم إذ وصلت الأزمة قمتها ولو كان الحل سيأتي بقبول انهيار الدولة العراقية لما أطلقنا التحذير هنا ولكن ما سيجري فيما لو تركنا التداعيات تأتي على بقايا وجود دولة سيعني إشعال حرائق تلتهم بجريمة إبادة جماعية لم يشهدها التاريخ البشري ولن يكون بعدها وجود لعراقي!!!

أفيقوا للمجريات… وانتفضوا لوجودكم الإنساني فالعراقي أولا.. ومن ثم لابد من بنى مؤسسية وقوانين نافذة لعراق فديرالي يحترم أهله معنى وجوده بتنوع أطيافهم وإلا فلات ساعة مندم!

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *