آليات الحرب على الإرهاب، أهي مهمة الدولة أم ميليشيات خارج سلطتها

 منطقُ وجودِ الدولةِ وبناها المؤسسية هو ما يحكمُ وجود المجتمعات البشرية اليوم. ففي نطاقِ الدولة يجري فرضُ سلطة القانون بوصفه العقدَ الاجتماعي الأشمل بين المواطنين ويُنفّذ بآليات اشتغال السلطات ونُظم عملها التي تحكمها. ولعلَّ من بين أبرز الأمور المناطة بوجود الدولة الحديثة يتمثلُ في توفير الأمن والأمان وحماية المواطنين من الاعتداءات ومن أشكال ما يُحتمَل أن يهددهم في وجودهم وفي ظروف عيشهم. ومن أجل ذلك وُجِدت الجيوش الوطنية وقوات الشرطة وما يتضمن أداء تلك المهام من مؤسسات أمنية تقي المجتمع شرور ما يمكن أن يقع من قوى الجريمة والقوى المنحرفة الخارجة على سلطة المجتمع…

وأيّ دولة تتساهل في خروج بعض صلاحيات مؤسساتها لجهات غير خاضعة لسلطتها هي دولة ضعيفة تخترقها عناصر مرضية تجعل من وجودها وجوداً هشاً يتجه نحو الانهيار مع تضاعف تداعيات الخروج على سلطة القانون والعمل المؤسسي المحكوم به. ولعلّ أبرز ما ينبغي للدولة أن توفره هنا هو وجود قوى ضابطة للوضع تستطيع تلبية القانون وإرادة المجتمع عبر قرارات قضائه العادل في الأمور المخصوصة بوقائع فردية أو محدودة وعبر قرارات سلطته السياسية المستندة إلى إرادة المجتمع المدني وعقده الاجتماعي.

في العراق، جرى تشخيص انتشار الميليشيات الطائفية التي تنتشر على حساب سلطة الدولة والمجتمع بكونها حال مرضية تمثل الاختراق الأبشع ومصدر التهديد الرئيس لوحدة المجتمع وتمزيق ميثاقه الوطني والاعتداء على مجمل سلطاته الوطنية. طبعاً هذا حدث ويحدث في أغلب الأرض العراقية إلا إقليم كوردستان. ويمكننا بالخصوص ملاحظة طابع ما ينتشر من ميليشيات وسلطاتها على الشارع السياسي والمجتمعي في مختلف المدن فيما تحفظ النظامَ العام القواتُ الرسميةُ المعتمدة بكوردستان.

هذه الحقيقة الخطيرة تشير إلى أنّ العراق هو من بين الدول الأكثر فساداً والأكثر فشلاً  عالمياً؛ حيث تتداعى السلطة فيه وتسطو قوى من خارج السلطات الثلاث على الأوضاع العامة بتفاصيلها. فالميليشيا تمارس الأتاوة والبلطجة على سكنة الأحياء والضواحي والمدن وهي تمارس اختطاف الأبرياء وابتزازهم وممارسة جرائم الاغتصاب بشكل مفتوح منفلش بلا وازع ولا ضابط ولا جهة تستطيع كفهم عن ممارسة تلك الجرائم.

الأبشع في الموضوع أنّ تلك القوى الميليشياوية تم استغلالها في جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية بحق مكونات عراقية أصيلة رسمت معالم البنية المجتمعية العراقية لتاريخ وجود هذا الشعب منذ آلاف السنوات. وهي بهذا ليست مجرد عصابات منظمة تضرب في عمليات إجرامية فردية بل هي سلطة استباحت الوضع برمته وأطاحت بالطابع التعددي وبالهوية الوطنية التي تغتني بالتنوع، عندما قامت بجرائم التقتيل والاغتيال والتهجير القسري وبجرائم الابتزاز من قبيل الاختطاف والاغتصاب والنهب والسلب وهدم الدور السكنية والمعابد والكنائس وتخريب المقابر والآثار وغيرها…

في ذات الوقت كانت كوردستان تحتمي بسلطة مدنية رفضت السماح بوجود قوى ميليشياوية وطبقت آليات بناء مؤسسات الدولة الحديثة الأمر الذي أفضى إلى مزيد من الاستقرار وسط بلدان تهزها أعمال العنف وجرائم الإرهاب. ومن الطبيعي بهذا الاتجاه أن نساند موقف السلطة في كوردستان بتمسكها ببنية مؤسسية سليمة لا تخترقها أية تشكيلات خارج إطار الدولة وقوانينها مثلما كل بلدان العالم المتحضر.

هذه القراءة تختصر علينا الطريق بشأن توجه بعض الأصوات مطالبين بتشكيلات ميليشياوية للدفاع عن بعض المدن ذات الطابع السكاني مخصوص الهوية مثلما حالة وجود مناطق يسكنها بعض العرب أو بعض التركمان أو أكثرية منهما… إنّ دعاة تسليح أبناء العشائر والمدن في المناطق التي تحميها قوات الجيش الكوردستانية يتناسون أن الاستقرار في كوردستان لم يكن إلا بفضل عدم وجود العصابات والمافيات والميليشيات التي شاعت بطريقة وبائية في مناطق العراق الفديرالي الجنوبية والغربية.

هنا بالتحديد، لا يمكن لعاقل حكيم يريد تحقيق السلام والأمن والأمان إلا أن يدعو إلى التمسك بإبعاد تلك الظاهرة المرضية عن كوردستان ويمتنع عن التصريح بتوجهات من قبيل تسليح قوى وعناصر لن تكون إلا وبالا على المجتمع. أما مناقشة هذا فيمكن للعاقل أن ينظر بتمعن في الوضع العام بمحافظات عراقية ضمنا فيها بغداد العاصمة نفسها.. حيث تُستباح فيها كل الحرمات بسبب الميليشيات!!

وفضلا عن ذلك فإنّ التشخيص الدقيق لما يجري في المناطق المستباحة هي كونها  مناطق سقطت فيها الدولة وانهزمت مؤسساتها وانحلت، الأمر الذي فسح المجال للفوضى وللجريمة والمجرمين أن يستبيحوها بالطريقة التي نشهدها اليوم. وعليه فتلك الأراضي العراقية لم تقع تحت سطوة زعران الجريمة إلا بسبب انهيار مؤسسات الدولة فيها وهي ليست محتلة إذ الاحتلال له هوية أخرى، واضحة المعالم من جهة كونها من قبل جيش دولة أخرى وليس من استباحة فوضوية لمجرمين كما عناصر داعش من بلطجية العالم المرتزقة الذين تجمعوا هنا حيث ميادين الفوضى بأعلى مستوياتها في ظروف انعدام سلطة الدولة بالمناطق المستباحة.

والحل هنا يأتي باستعادة سلطة الدولة وهيبتها وليس باستقدام ميليشيات محل ميليشيات.. وليس بمشاغلة الدولة بتشكيل ميليشيات بدل تعزيز قواتها. إنَّ الحلَّ يكمن في مزيد من التدريب ومزيد من التشكيلات الساندة التي تخضع لسلطة القانون وآليات اشتغال مؤسسات الدولة وأولها في هذه القضية آليات اشتغال الجيوش الوطنية.

إنَّ بنية السلطات في كوردستان هي بنية دولة مدنية مؤسسية تنتمي للمجتمع الدولي المعاصر بكل تفاصيل آليات وجود الدولة المدنية؛ وفي إطار ذلك فإنّ بنية الجيش الكوردستاني هي بنية تستند لوجود البيشمركة بوصفها قوات رسمية ومؤسسة حكومية خاضعة للقانون في كوردستان وفي الدولة الاتحادية. وبخلافه سيكون تراجعاً خطيرا أن تُقبل دعوات تشكيل الميليشيات إلى جانب البيشمركة \ الجيش الكوردستاني…

إنّ القرار الحكيم يكمن في التمسك بوجود قوات رسمية مؤسسية هي قوات البيشمركة على أن يجري الاتساع بها بحسب الحاجات والضرورات التي تحكم الظرف الملموس. وأن يجري تعزيز التسليح والتدريب نوعياً بما يستكمل البنية المؤسسية للبيشمركة ويجعلها قادرة على الحراك الميداني بشكل أفضل في المناطق التي تدعو الضرورة لتوجهها إليها.

وعليه، يمكن مثلا أن يلتحق بالبيشمركة المتطوعون من العرب والتركمان ومن جميع الأطياف القومية والدينية من أبناء كوردستان والمناطق المجاورة  لأن هذه القوات الرسمية هي قوات دولة ذات نظام فديرالي يحمي الجميع بسلطة القانون وليس بسلطة البلطجة والبلطجية الذين طوروا وجودهم بتشكيل ميليشيات هي عصابات منظمة ومافيات تتجر بالعراقيين كافة ولا يهمها سوى استغلال فرض انهيار الدولة لتستبيح ما يمكنها استباحته من أرض وبشر.

إننا اليوم بمجابهة حقيقية كبرى بين خيارين أما أن نضع شعبنا بكل مكوناته وأطيافه تحت سطوة المجرمين وميليشياتهم ليستكملوا جرائمهم بحق الشعب بمجموعه أو أن نختار تعزيز بنية دولة مدنية وعراقيا تشكل كوردستان القسم الفديرالي الأكثر نضجا واستقرارا لاستعادة وجود عراقي فديرالي صحي سليم بدولته المدنية المنشودة…

بمعنى أن ينهض وعي الجميع باتجاه روح مدني حقوقي ديموقراطي وباتجاه الالتحاق بالبيشمركة وباتجاه تقوية بنيتها بشريا تسليحيا تدريبيا لا أن نتحدث عن تشكيلات مرضية هي تشكيلات إذا استطاعت مؤقتا أن تدخل المعركة مع قوى الإرهاب فلن تستطيع استراتيجيا إدامة زخم البديل النوعي المتمثل ببناء دولة مدنية.

أضف إلى مجمل هذه الأسباب المهمة لرفض تشكيل ميليشيات، أن الاتجاه لحشد العنصر البشري بلا تدريب ووضعه بتركيبة ميليشياوية هو تضحية بهذا العنصر بطريقة همجية لانتصار متوهم لصالح تركيبة ميليشياوية أخرى بينما التحاقهم بطريقة سليمة بالبيشمركة هو ضمان لتدريبهم وخوض معركة مع الإرهاب لصالح بنية الدولة التي تحمي الإنسان لا التي تضحي به كما يريد دعاة تشكيل الميليشيات.

فهلا استوعبنا الدرس وتعاملنا مع متطلبات الواقع وما ينتظرنا بعقل حكيم يتجه إلى البديل الموضوعي الأنضج والأسلم؟

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *