إرهابٌ أساسُهُ خطابُ التأسلم السياسي وتضليله وآلياته الإجرامية

جرت في باريس قبيل أيام جريمة إرهابية بشعة؛ حيث تمَّ اقتحام مكتب مجلة شارلي إيبدو والمناداة على محرريها ورسامي الكاريكاتير فيها وتصفيتهم بدمٍ بارد كما هي أساليب المجرمين القتلة المدرّبين على تلك الجرائم. والقضية كما قرأها العالم المتمدن ليست في جريمة قتل عابرة، ولكنها في جوهر تلك الجريمة وهوية مرتكبيها وطابع ما تضمنته كونها محاولة لإرهاب المجتمعات الأوروبية والإنسانية بعامة؛ وذلك عبر محاولة زعزعة الاستقرار وطعن السلم الأهلي  وتوجيه السهام نحو الأمن والأمان. كما أنها كشفت بوضوح عن مآربها القذرة حين أسفرت عن وجهها الكالح كونها ركزت طعنتها على حرية التعبير بالتعرض للصحافيين والصحافة بجريمة العدوان الآثم.

لقد كان، دائما، الأساس لتلك الجريمة والأرضية التي تدفع باتجاه ارتكابها هو ذاك الخطاب التحريضي الراديكالي وما يستند إليه من الادعاءات بالدفاع عن الدين والمعتقد. وبهذا تأتي جرائم الإرهاب من نمط تلك التي ارتكبوها بباريس مستندة إلى فتاوى رجال التأسلم السياسي الذين يقدمون أنفسهم على أنهم رجال دين يمثلون الله على الأرض ومن ثمَّ فأوامرهم إلهية كما يزعمون. وسلطانها مطلق لا يقبل النقاش والحوار في إطار ما يمارسونه من أدوارهم المرضية في قيادة أعضاء شبكاتهم الإجرامية. ومثل هذه الفلسفة وآليات ممارستها دفعت وتدفع باستمرار إلى ممارسة أسوأ ألاعيب التجهيل والتضليل…

وفي وقت يتسترون بورقة تين التدين المزعوم، يتبدى للمتمعن ممن يشغّل عقله ومنطقه العلمي، أنّ كلَّ مفردة بالجريمة تؤكد تعارضها مع الدين. فوصايا الدين إصلاحية تدعو للإخاء وهم يطعنون الإخاء الإنساني.. وهم يحرضون على الكراهية في وقت توصي الديانات بالتحابب والمودة. والجريمة تسلك أعمالا ثأرية انتقامية وحشية في وقت تدعو الديانات للمجادلة بالتي هي أحسن وهم يبحثون عن الضجيج وزمجرة متفجرات الموت في حين الدين الصحيح لا يرضى شوشرة تزعج إنساناً… والقضية بيِّنة في التناقض بين جوهر الجريمة والمجرمين وبين جوهر الدين والمتدينين…

إنّ مهمتنا اليوم، تكمن في فضح حقيقة المجرم والجريمة وقطع سبل التبرير التي يحاولون إيهام بعض الناس بها. من قبيل أنهم يمارسون ردّ فعل على انتهاك الآخر وعدوانه عليهم! فعن أي عدوان يتحدثون..؟ ألا بئس رخيص التضليل ما يفعلون: أمجرد رسوم كلمات وتخطيطات تبيح لامرئ أن يرتكب جريمة القتل الأبشع بكل القيم والديانات ووصاياها!؟

القضية ليست حصراً بجهد صحفي أو إعلامي بعينه، إنها كامنة في منطق الكراهية والحقد وما ينبني عليه من فلسفة الثأر والانتقام الهمجية التي تقوم لا على تهميش الآخر حسب بل على إلغائه وتصفيته بكل الوسائل عبر إرهابه ومحاولة إخراسه وطمس صوته وعبر قتله وتصفية وجوده نهائيا.. إنها فلسفة الجريمة الأشنع في وجودنا البشري!

ما جرى بباريس ليس مجرد واحدة من الجرائم الإرهابية التي يرتكبونها يومياً بحق البشرية؛ فها هم يسفكون دماء شعوب ويبيحون لأنفسهم اجترار منطق قروسطي أقذر من متخلف عندما يسْبُون ويستعبدون ويعذبون فيقتلون ويمثلون بالجثث بكل سادية وهمجية! ولكن ميزة ما جرى بباريس يمثل خرقاً مهولا لقدرات المدنية المعاصرة على حماية الأمن والأمان وعلى توفير الاستقرار والسلم الأهلي…

إنهم يضربون حيث يريدون هزّ الأرض الأكثر سلاماً مما تستند إليه البشرية في خطى مكافحة الأمراض الوبائية لوجود الإرهاب وإثارته الاضطراب وترويعه الناس. وإذا ما تُرِكت الأمور سبهللة وبلا موقف شعبي أممي ضد الجريمة فإنهم يختلقون أرضية  أخرى للهلع والرعب ويوسعون من دائرة تأثير جريمتهم.. سواء بإشاعة الخوف الداخلي عند حمَلَة الريشة والقلم ووسط فضاء حرية التعبير الذي يسممونه ويشرعون بخنقه في موطنه أم في الحياة العامة!

إنّ جريمة الإرهاب بباريس هي جريمة بحق القيم الإنسانية السامية وبحق قيم حرية التعبير في فضاء متمدن وفي وجود حضاري متقدم دافع ويدافع عن سمو القيم وأنسنة الحياة وهو لا يحيا من دون هذي الفلسفة الإنسانية الأغنى التي كسبها بتضحيات وتجاريب لا يريد التقهقر بها إلى الدرك الأسفل نزولا عند نزعات إجرامية..

وجريمة الإرهاب بباريس لم تكتفِ بخرق فضاء الاستقرار وأرضية التنمية وفضاء التطور الإنساني بل ارتكبت مجزرة بحق البشرية بممارسة فعل تصفوي دموي بالقتل وارتكاب الجريمة الأبشع التي وضعتها الديانات على رأس وصاياها بالقول والأمر: لا تقتل! لكن من يتستر بالدين يقتل بدمٍ باردٍ وبوحشية لا تدانيها وحشية الغاب!

ولكن من أين جاء المجرمون بنوازع الشر والجريمة تلك؟ ومن أين جاء مران ارتكابها؟ وما أدواتهم والفضاء الذي استغلوه في استباحة الأمن والأمان وحياة الإنسان؟ وما الرد والمعالجة؟

إنّ ذينك المتهورَين المفعمَين بروح الجريمة إنما آمنا بأمر ألزمهم بتعطيل مع سبق الإصرار لمنطق العقل عندهم بما وضعهم بفضاء منطق الجهل الذي لا يمتلكون سواه عند تعطيل العقل وما زاد شلل العقل حشوه بأضاليل الكراهية والحقد وآلية بناء دواخلهم بما تتفجر أنفسهم بأفعال متهورة تتأسس على إيمان بأن ارتكاب تلك الجريمة هو الإيمان والدين الحق وهو ما سيمنحهم بديلا في السماء…!

إذن، استمدّ المجرمُ فكره من خطاب التحريض المرضي ومن إعدادٍ ومرانٍ من مجرمين قتَلَة ومن عتاة الجريمة وقادتها. إنّ التدريب على أيدي أولئك الذين يرسمون معارك تهديد البشرية واستعبادها إنما يمنح دفقه الخطير مما ينبغي متابعته ووضعه تحت الأعين بما لا يسمح بتكرار ما اُرْتُكِب. ومن الطبيعي أنْ يكون العمل على إزالة بؤر الإرهاب وميادينه المنتشرة قبل استفحالها وتجمعها في وجود أخطر من الشراذم المتوزعة اليوم بين بلدان الجهل والتخلف…

إنّ أولئك المرضى المحشوين بقيم الجريمة ليسوا من منبع واحد ولكنهم أفراد أصابتهم لوثة التطرف والتشدد واحتضنتهم فضاءات الإرهاب الدولي ليتحولوا إلى تلك الوحوش الكاسرة المنفلتة من عقالها. إنّ الكراهية التي يحملونها هي معنى مرضي وليسا جينا وراثيا، معنى يقوم على تمكن فكر أحادي استئصالي وعلى إيمان بأن هذا الفكر هو المطلق ومن ثمّ فهم يربطون بينه وبين الدين وتمثيل الله وخلافته الحصرية على الأرض من قوى التأسلم السياسي ومنطقه..

ومن الطبيعي للمرض المستفحل المسمى رمزيا فكراً أن يكون تكفيريا يُقصي الآخر ويلغيه ويوجب تصفيته وأن يكون تخوينياً يرتاب من أي حراك وممارسة للآخر فيتجه لسلبه حريته واستعباده وطبعاً ارتكاب الجرائم بحقه. وهنا الجريمة الإرهابية كما بمثالنا الذي تناولناه هنا بجريمة باريس أشمل وأوسع من جريمة القتل العادية لأنها في حقيقتها تعميق للعدوانية والفصم بين الشعوب والأمم والجماعات واختلاق للكراهية التي يرسمون أبديتها في ضوء الإيهام بتلك الأسس التي سجلناها للتو توصيفا للمرض..

إن البديل يكمن بفضح تلك الأسس الوبائية وتخليص الأنفس من مرضها؛ وهو مرض لا يجوز الربط بينه أو بين تلك العناصر الفردية التي ترتكبه وبين أصولها العرقية أو الدينية أو القومية فما تحمله من مرض وبائي لا يعود لتلك الأصول بقدر ما هو (فكر) مرضي يصيب الفرد لجملة الأسباب الموضوعية والذاتية..

وهذا المنطق هو ما يلزمنا بأن نؤكد مسيرتنا الإنسانية بفكرها التنويري القائم على قيم الإخاء والتسامح والتعايش السلمي واحترام الآخر. وتعزيز مواقفنا لتوسيع نطاق رفض الكراهية بين بني البشر. إن ذلك لا يأتي من أوامر فوقية لكنه يأتي من إزالة أسباب ولادة الكراهية ولهذا فإن التعليم والأنشطة الثقافية وخطابات الإعلام والاتصال وكل ما من شأنه تعزيز الإخاء بخاصة هنا بأوروبا خروج جماهير الجاليات بفعل إيجابي للمشاركة بتظاهرات الإدانة للجريمة وعدم الاكتفاء بالتململ والتذمر السلبي المنغلق على حاله.

إنّ السلبية بوجه آخر مساهمة داعمة للإرهاب الذي يجير الصمت لصالحه وهي بوجهها الآخر عزلة تعمّق التخندق والانفصام بين الجاليات والشعوب التي تحيا في كنفها.. كما تعمق التباعد بين الشعوب وتخلق فرص أكبر لنمو الكراهية والعداء..

لذا وجب أن نكون فاعلين إيجابيين وأن ندرك أهمية أن نضع لأنفسنا حدا وسقفا في الاعتكاف عن الشأن العام. لأن هذا الشأن العام يلج لا بيوتنا حسب بل أنفسنا فنصير في الغد في مزيد شتات ومزيد عدم استقرار.. ألم نقرأ أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ أم أننا سنترك واجب حماية السلم الأهلي على غيرنا ونطالبه بالمزيد بلا عمل ولا جهد منا…

إنّ صمتنا وسلبيتنا هي مشاركة فاعلة في ضفة التأسلم السياسي وابتعاد عن الدين الصحيح الذي نظن أننا نتمسك به! وصمتنا وسلبيتنا هي فعل خطير لصالح قوى الإرهاب وتعزيز أرضيتها المغروسة بالكراهية. ومن هنا لنتذكر أن اتهام الآخر بالعدائية واتهامه بكل ما يبرر لنا سلبيتنا وما يبرر مرض الكراهية فينا هو الجريمة الأساس وأرضية إرهاب الآخر.. فلنتوقف ونمعن عميقا كيما نتحول باتجاه الإيجاب والتآخي ورفض الاستعلاء على الآخرين وإنهاء مساحة انتشار التطرف الديني والعنصرية والغلو القومي الشوفيني ونفتح آفاق جسور العلاقات الأسمى…

فهلا تبنهنا إلى حقيقة ما يجري حولنا ووسعنا مساهمتنا في جهود دحر خطاب الكراهية وجرائم الإرهاب؟؟؟

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *