الدفاع عن حرية التعبير دفاع عن الإنسان وقيمه السامية

عبَّر العالم بوعي وإدراك عن موقفه التضامني مع شهداء حرية التعبير بباريس وضد الجريمة الإرهابية التي حاولت النيل من تلك الحرية وتهديد العالم وابتزازه بالعنف الدموي الأبشع وكذلك الأدنى بانحطاط فلسفته العنفية العدوانية المتطرفة. ولقد شخَّصت قوى التنوير هذه الحقيقة في مجمل تفاعلاتها مع الحدث الأبرز لإرهاب المجتمع الإنساني ومدنيته وحضارته المعاصرة.

وبالمقابل جاءت ردود قوى التشدد والتطرف الإرهابية   بخطابها الدعائي السياسي لتوغل في منطقها الإجرامي وتبريره عبر خطاب التضليل بوجهيه الديني المظهر والسياسي الجوهر وخطاب العنجهية الاستعلائية التي تُصادر الآخر وتلغيه وتسلط سيف التصفية على رقبته.. وهكذا تنامت وتتنامى ردودُ فعلٍ بعضُها يمثّلُ الأصوات المترددة التي تقع أسيرة التضليل والخشية على ميزان العدالة فتنجرّ نحو العداء مع الآخر ومع الانقسام والتشظي بين قوى الحرية بسبب من حال خلط الأوراق…

إنّنا هنا طبعاً لا نتهم كلَّ مَن تعرّض للمناصرين لضحايا جريمة الإرهاب بباريس بأنه ممن له صلة  مباشرة بتلك القوى الإجرامية البشعة. ونحن ندرك بعمق خطاب بعض الأصوات التي أرادت التذكير بضحايا إرهاب الدولة والعصا الغليظة لبعض النظم الاستغلالية والاستبدادية، محاولة التذكير بحجم ما أصاب الشعوب من تضحيات مهولة فوقعت بسبب التوقيت وأسلوب المقارنة التسطيحي موقع الخطأ الاستراتيجي الخطير؛ ولربما فهم هذا بعضهم (خطأً) على أنه جزء من الردود التضليلية في وقت يتطلب الأمر حواراً موضوعيا بين جميع قوى الحرية لاستعادة وحدة الخطاب وتنضيج أسسه التحليل فيه.

ولهذا فنحن نحاول التصدي للمعالجة الأنجع والأوضح، تلك التي تكشف عن الصورة الدقيقة في ظل الضجيج والعجيج مما يثار من غبار لتضبيب الرؤية ومنعها من تبيّن الأمور بموضوعية.

نريد هنا أنْ نؤكد حقيقة كون التضامن مع حرية التعبير لا تتعارض مع مبدأ التمسك باحترم الآخر ولا تسيء إليه بأيّ شكل ولا تستفز مشاعره أو تتعرض لقيمه واعتقاداته الدينية وغيرها. ونودّ هنا التوكيد على أنّ (حرية التعبير) محددة في القوانين واللوائح المرعية دولياً ومصاغة بمحددات تمنعها من التجاوز أو الإساءة أو التشهير بل التشهير نفسه مدان ويخضع للعقوبات المسجلة بذات القوانين التي تتبنى حرية التعبير..

ومجتمع الدولة الحديثة هو مجتمع التمدن والتحضر الذي يحيا بعقد اجتماعي صريح المعالم. وفي وقت يدافع ذاك العقد الاجتماعي عن الفرد وحرياته وحقوقه، يدافع في الوقت ذاته عن المجتمع واستقراره وعيشه في فضاء قانوني محدد يحكم الجميع بمبدأ العدل والمساواة.. ويمنع تجاوز أيّ طرفٍ على آخر. ويمارس مجتمع الدولة الحديثة قيم التحضر والتمدن من منطلقات احترام الأنا والآخر على أساس ينصف الطرفين ويساوي بينهما ويحمي العلاقات بينهما بالقانون والقيم المدنية السامية…

إنَّ حركة التضامن الأممي مع حرية التعبير ورفض تهديدها بخاصة في الدول المتقدمة حيث قيم الحضارة الحديثة، قيم الديموقراطية والتنوير، هي إذاً ضمناً تنطوي على تضامن وطيد مع الإنسان بكل مكان ومع ضحايا البشرية في مسيرتها بطريق البناء والتقدم. وهي تتضمن دفاعا عن الدولة والعمل على التقدم بها وباسس وجودها واستجابتها لمطالب الشعب وحقوقه. ولن يكون من بين أسس التقدم بالدولة عبث النقد الهمجي الملتقي مع قوى الظلام التي تستهدف إسقاط النظم التي بنتها البشرية بنضالات وتضحيات مريرة.

من هنا لم تكن قضية التضامن مع ضحايا الإرهاب من محرري مجلة شارلي إيبدو بباريس قضية مقصورة على التضامن مع عدد محدود من الضحايا بل كانت مفتوحة بمعانيها وبمضامينها لمن يدرك الأمور بجوهرها. فلقد خرجت الملايين في تظاهرات التضامن لا لمعرفة بشخصيات الضحايا بصورة صداقة حميمة بمحددات فردية أو شخصية ولكنها كانت خرجت لوعيها بأنّ الضحايا يمثلون رموزاً إيقونية تعبر عن الإنسان وحقه في الحياة الحرة الكريمة الآمنة وعن قيم حرية التعبير وعن وجود الدولة المدنية وحضارة البشرية اليوم…

وهذا التشخيص لم يأتِ عبثاً وبخيار مسبق من طرف قوى التضامن والحرية، بل جاء [أصلا] بسبب من استهداف قوى الجريمة لتلك العناصر الصحفية ذات النهج الإنساني النقدي في منطقها وآلياتها. وفي ضوء ذلك فإنَّ الاستهداف الظلامي الإرهابي قد طعن البشرية فيما حققته من تقدم ومكاسب في الحريات والحقوق عبر نضالات قرون عصر الحرية ودمقرطة الدولة المدنية الحديثة.

فهل يجوز بعد ذلك اختزال الحركة التضامنية بصيغ هزيلة محدودة ومقارنة الضحايا بالعدد البشري الذي يسقط بمقصلة الإرهاب بباريس بمقابل أولئك الذين يسطون يوميا بمقصلته في بلدان كالعراق وسوريا وغيرهما!؟ أم يلزمنا أن ندرك المعاني العميقة للتضامن ولشمولها مضامين نضالية عميقة لحركة الشعوب وتضامنها الأممي المؤمل تعميقه؟

إنّ ضفتي الصراع  في هذه اللحظة يقع بين قوى التشدد والتطرف الإرهابية وهي بجوهرها تجسد تعبير الفاشية عن وجودها في العقود الأخيرة. مثلما هي إشارة إلى مجمل الأسباب المباشرة وغير المباشرة لولادة الفاشية بعصرنا الحديث. وعليه فمثلما تحالفت قوى متناقضة فكرياً في الحرب العالمية الثانية لدحر الفاشية النازية ونظمها؛ تتأكد التجربة بضرورة تحالف جميع القوى المعنية بالسلام والديموقراطية وحقوق الإنسان وحرياته ضد الفاشية بتركيبتها التنظيمية وبنية وجودها الراهنة.

وسيكون من غير المبرر مهاجمة الشخصيات والمنظمات التي تضامنت مع ضحايا الإرهاب المعبر عن الفاشية الجديدة، أو تصويرهم بكونهم ينحازون لقوى معادية للبشرية ولشعوب العالم الثالث أو بصيغة أخرى كأنهم تضامنوا مع حكومات أوليغاركية معادية للحرية. ذلك أنّ طبيعة الصراع قد تغيرت وازدادت تعقيداً ولا يجوز اختزالها بحدود أبيض وأسود ومن ثمّ جلاد وضحية والسقوط بالتسطيح الساذج للأمور.

وليس معقولا ولا منطقيا اختزال الغرب بكونه العدو بمن فيه من شعوبه وحركات الحرية والسلام وقوى الديموقراطية وبناء مسيرة التقدم والتمدن وبخلط الشعب بالحكومة والحركة العمالية بأحزاب الأوليغاركية اليمينية المتطرفة وهو أمر لا يقره منطق سليم و\أو عقل علمي .. ولنتذكر هنا تلك العلاقة البناءة والإيجابية بين جاليات شعوبنا وحجمها بالملايين وبين شعوب بلدان أوروبا.. كما ينبغي أن نتذكر أنّ دفاعنا عن حرية بلداننا واستقلالها وسلامة شعوبها لا يمنعنا من التضامن مع شعوب بلدان التمدن في أوروبا. وفي ضوء ذلك لا يستقيم مطلقا التحدث عن الغرب بالصيغة التقليدية التي شطرت الشعوب بين شرق وغرب وتريد إيقاع العداء والاحتراب بينهما.

وهكذا فنحن مع فكرة كشف تورط بعض الجهات في دعم الإرهاب الدولي وقوى التشدد والتطرف ببلدان الشرق الأوسط والعمل على إدانة ذلك وفضحه بقصد إيقافه. ولكننا لسنا مع مهاجمة الغرب على طريقة خطاب الإرهابيين الذي يرى الغرب بدوله وشعوبه وحكوماته كلا واحدا يكفّره ويستهدفه بالعداء وبارتكاب الجرائم بحقه بستار تضليلي يدعي ردّ العدوان والثأر من المعتدي بطريقة قلب الحقائق عبر ذاك التشويش.

إن تلك السياسة التي تختلط فيها الصورة ويعلو صوت الحقد المرضى للتطرف وعنفه  كالتي جرت بمدريد ولندن وأخيراً بباريس حيث اقتحام مبنى مجلة شارلي إيبدو وتصفية عدد من محرريها، لا يمكن عدّها جريمة قتل عابرة بل هي جريمة مركبة استهدفت إرهاب المجتمع الإنساني برمته؛ سواء في حق هذا المجتمع بكل شعوبه ودوله في الحياة أم حقه بحرية التعبير بوصفها حقاً مبدئيا للإنسان والشعوب.

ولعلنا نرى أنّ ذاك الخطاب التحريضي لقوى التشدد والتطرف ولقوى وجدت نفسها بتحليلاتها تلتقي مع ذاك الخطاب بدراية وقصد أم من دونه هو خطاب عادة ما استند إلى ادعاءات بالدفاع عن الدين والمعتقد زورا وبهتانا مستغلا فتاوى قوى ظلامية معادية لحقوق الإنسان ولربما ساهم مع هؤلاء بعض من وقع في تسطيح خطاب الدفاع عن حرية الشعوب وحقها في درء ما يطالها من جرائم..

وفي ضوء ذلك فقد طعن الإرهابيون بالإخاء الإنساني وحرضوا على الحقد والكراهية بخلاف ما أوصت به الديانات والشرائع وما تتطلبه حركات التحرر من تضامن أممي ووحدة في المسيرة البشرية وتكافل وتعاضد في الجهود الدولية في إطار من قيم الإخاء والتسامح والمصالح المشتركة.

وفي ضوء مجمل ما قدمناه هنا من معالجة فإنّ مهمتنا اليوم، تكمن بكسر عبثية التردد واختلاط الفهم وتضبب الاستيعاب من أجل فضح حقيقة المجرم والجريمة وقطع سبل التبرير التي يحاول بها إيهام بعض الناس واستغفالهم وتضليلهم، مدركين أنّ القضية ليست حصراً بجريمة القتل، ولا بعدد الضحايا ومقارنتهم بعددهم في بلداننا بل إن الجريمة وحجمها كامنان في منطق الكراهية وفلسفته العدوانية وما ينبني عليه من أفعال الثأر والانتقام الهمجية التي تقوم لا على تهميش الآخر حسب بل على تصفيته بكل الوسائل كما بإرهابه ومحاولة إخراسه وطمس صوته وفي محاولة قمع حرية التعبير والتعرض لأبرز المكاسب التي حصلت عليها البشرية بمسيرة التمدن ونضالاتها، أي بكون الجريمة تجري بحق القيم الإنسانية السامية وبحق قيم حرية التعبير في فضاء متمدن وفي وجود حضاري متقدم.

وعليه فنحن ندرك أنّ مرضى الفاشية الجديدة وقواها الإرهابية، المحشوين بقيم الجريمة ليسوا من منبع واحد ولكنهم أفراد أصابتهم لوثة التطرف والتشدد واحتضنتهم فضاءات الإرهاب الدولي ليتحولوا إلى تلك الوحوش الكاسرة المنفلتة من عقالها، كما أن الكراهية التي يحملونها هي معنى مرضي وليست جينا وراثيا يسمح بممارسة العنصرية تجاه الشرق أم الغرب وتجاه شعب أم فئة ومكون فيه، إنها معنى يقوم على تمكن فكر أحادي استئصالي بحالات مرضية محتقنة تقف على أعتاب التفجر، ومن الطبيعي لهذا المرض المستفحل أن يكون تكفيريا يُقصي الآخر ويلغيه ويحاول مصادرته وتصفيته ويعادي حرية التعبير ويحاول قمعها؛ بأن يكون تخوينياً يرتاب من أي حراك وممارسة للآخر فيتجه لسلبه حريته واستعباده وطبعاً ارتكاب الجرائم بحقه.

 أما بديلنا وحلنّا الذي نراه الأنسب والأنجع فيكمن في فضح تلك الأسس الوبائية للخلاص من كل ما يصادر حقاً إنسانياً ثابتاً.. وهذا المنطق هو ما يجعلنا نؤكد مسيرة تنويرية تنبني على قيم الإخاء والتسامح والتعايش السلمي واحترام الآخر وعلى كل ما يعمّد حقوق الإنسان وحرياته، مثلما يُلزِمنا أيضا بتعزيز جهودنا لتوسيع نطاق رفض الكراهية بين بني البشر، الأمر الذي يحتاج إلى جهود مميزة تأتي من جهود مميزة بميادين التعليم والأنشطة الثقافية وخطابات الإعلام والاتصال والثقافة الحقوقية الأشمل.

 ويأتي من كل ما من شأنه تعزيز الإخاء بين الجاليات والشعوب الأوروبية التي تحيا بكنفها وبين الشعوب الأوروبية وشعوب البلدان الأخرى. ومن أجل هذا لابد من أن نمعن عميقا في القضية بكل محاورها كيما نتحول باتجاه الإيجاب وجهود التآخي ورفض الاستعلاء على الآخرين وإنهاء مساحة انتشار التطرف الديني والعنصرية والغلو القومي الشوفيني ونفتح آفاق جسور العلاقات الأسمى وألا نكتفي حتى بالإدانة المنتظرة منا جميعاً بل أن نشارك بتلك المهام النبيلة ومعاً وسوياًنكون في دروب تبني حرية التعبير حرية الرأي والرأي الآخر وتعميد التعددية والتنوع والارتقاء بمسيرة إنضاج الحوار سلمياً بروح المحبة والتآخي لا بروح الكراهية والعداء…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *