حرب الإرهاب لا تكتفي بجرائم إبادة الجنس البشري بل تستكمل همجيتها بمحاولات تدمير الآثار وتخريب الإرث الحضاري

جرى استيلاد داعش في مسلسل ولادات متعاقبة لميليشيات الإرهاب وجماعاته لتنطلق في فضاء انهيار مؤسسات الدولة وفوضى الخراب الشامل. وحيث تنتشر الفوضى تنتشر جرائم أخرى تتطاول على المنجز الحضاري للمجتمع من بوابة الانفلات الأمني وجرائم السرقة والسلب والنهب. ولكننا نرصد جريمة متعمدة بحق هذا المنجز الحضاري عندما تحرض فلسفة تخريبية لقوى الإرهاب على ارتكاب جرائم تدمير مهولة بحق الإنسانية.

لقد ارتكبت قوى الإرهاب في العراق وسوريا جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية ببشاعات مفضوحة والخطورة التالية لجريمة قتل الإنسان تكمن في جريمة حرق منجز الإنسان ممثلة بالمخطوطات النادرة التي استولت عليها من الكنائس والمعابد والآثار المكتشفة وغير المكتشفة بعد.

فلقد فجّر الدواعش بهمجيتهم مرقد النبي يونس و كذلك يحيى بن القاسم الأتابكي الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع الهجري وغيرهما من الأبنية التراثية مما أشّر ويؤشر منجزا حضاريا بعينه، وقد أحدث هذا أضراراً كبيرة فاجعة في التلال الآشورية غير المنقبة التي تجسد شواهد تاريخية بارزة للقصور الآشورية وهي من الآثار المحمية  وطنيا ودوليا من التجاوزات ومن عوامل التعرية المناخية في كل من تلَّي قوينج والنبي يونس.. وطبعا هذا لم يقف عند مواضع جغرافية في العراق بل لاحظنا الجريمة قبل ذلك وبعده في سوريا ولنتحدث بتحديد الجغرافيا حيث تاريخ كوردستان وجعرافيا وجودها ومنجز شعوبها التي عاشت وجودا وأنتجت حضارة وعلاماتها تراثا وآثارا باقية…

لقد جاءت تلك الجرائم الإرهابية التخريبية إثر قيام قوات داعش بتهجير قسم من أبناء المنطقة ومحاولة إبادة قسم آخر واستعباد قسم ثالث واستيلائها على ممتلكاتهم بمدن جنوب كوردستان وغربها. وهنا انطلقت ممارستها جرائم سلب الكنائس والمعابد والآثار ونهبها وتخريبها ونهب ممتلكاتها وتدمير مبانيها والعبث بكل ما فيها ومن ضمنها إحراق مئات المخطوطات التي كانت تشكل ثروة إنسانية قبل أن تكون ممتلكات موجودة أو مرمية على الأرفف هناك..

 واستكمالاً للجرائم البشعة بحق الثقافة والعلم والتراث أقدم الدواعش على إغلاق كلية الآثار بالجامعة واقتحمت مجاميعهم الهمجية متحف الموصل الذي يعد ثاني أكبر متاحف البلاد ومن المتاحف الدولية المعروفة؛ حيث اتخذوا مبناه مقراً لجريمتهم، طبعا إثْر طرد الموظفين والاستيلاء على محتوياته المهمة في مجمل التراث الإنساني بفضل ما يضم منحوتات كبيرة في الجدران وتماثيل تنتصب على منصات مما لم يكن ممكن الإخلاء..

وبالإشارة إلى ما تبنته منظمة اليونسكو من خطط طوارئ استثنائية لحماية الآثار والتراث الثقافي في دول المنطقة، بخاصة في المناطق الوقاعة بكوردستان بإعلانها مهمة المراقبة الدولية على تنقلات الآثار العراقية والسورية المهربة، نجدد هنا موقفا يعبر عن نداء الضمير الإنساني إلى كل أهلنا وأصدقاء شعوبنا للمساهمة في التصدي لتلك الهمجية وتخريبها بما يتوافر لديهم في رصد محاولات التهريب وتحديد مواقعها ومفردات توصيفها مطالبين أيضا بمتابعة المعلومات التفصيلية الدقيقة التي تمتلكها دوائر الآثار الرسمية وبقرارات أكثر فاعلية من جهة المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحددة ومنظمات التخصص من أجل صيانة رموز التراث الإنساني في المنطقة التي تمثل مهد الحضارة ومكافحة الاتجار غير المشروع بها.

إن القراءة الموضوعية لا ترى الآثار كونها مجرد علامات مادية صامتة بل هي خطاب ناطق يعبر عن المنجز الحضاري ويمنح الشعوب فرص تبين المجريات في تاريخهم ليواكبوا مسيرة التقدم والتنمية بطريقة سليمة. ولهذا فتلك النظرة ترى أنّ ما يُرتكب من جرائم إبادة جماعية بحق الإنسان، هذه الأيام، إنما هو انعكاس لثقافة العنف والجريمة بالتعارض مع ثقافة السلام والتمدن وهو ما يؤكد أنّ حماية أرواح الناس لا تبتعد عن واجب حماية إرثهم الحضاري الثقافي المعبر عن هويتهم الإنسانية ولا ينبغي الفصل بين الأمرين أو الانشغال عن الثاني بالأول..

ولعل إدانة تلك الجرائم الكارثية كافة، وتشخيص من تسبب بها وواجب تقديمهم للمحاكمات العادلة، هو من أول واجبات قوى التنوير. ولهذا فتلك القوى تتطلع لمشاركات جدية من المجتمع الثقافي والآثاري المحلي والأممي لعرض مشروعاتٍ ملموسة بشأن الحماية المؤملة والعمل على حشد المجتمع الدولي ووضعه في الصورة وأمام مسؤولياته المباشرة..

وإذا كانت هذه المعالجة العجلى قد رسمت محاور عامة من دون تفاصيلها الحيوية، فإنها تتطلع أيضا لدراسات متخصصة تبحر بطبيعة الآثار وحجم الخسارة الوطنية والإنسانية بسبب عبث الجريمة والمجرمين بخاصة في عمليات الهدم والتخريب وعمليات النهب والتشويه والمتاجرة…

من هذا المنطلق يُفترض بالمجتمع الدولي دراسة الخطط الدقيقة لحملة إتقاذ عاجلة وفورية وإلا فإن الخراب الجاثم بكلكله على كواهل المنطقة قد يأتي نهائيا على كل ذياك المنجز..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *