طابع الاستراتيجية الأمنية العسكرية في العراق ومعركة الأنبار؟

تجري اليوم مواصلة واستمرارية في العمليات العسكرية الأمنية استكمالا لاستعادة سلطة الدولة في تكريت؛ وهناك بعض النواحي القصية التي مازالت تشهد اصطدامات مع قوى الإرهاب ومرتزقته. ومن بين أبرز تلك العمليات الأمنية تلك التي يسلط الإعلام المحلي والدولي عليها ما يجري في بيجي؛ انسجاماً مع تركيز خطط قوات التحالف الدولي والقوات الأمنية المحلية. لكنّ هذا التركيز على معركة مصفاة النفط في بيجي حالياً، يخفي وراءه إنكاراً أو إهمالاً لما يجري في واحدة من أبرز مناطق انهيار سلطة الدولة واجتياحها من قبل قطعان الإرهاب، بالإشارة إلى مركز محافظة الأنبار، مدينة الرمادي..!

المشكلة هنا، ليست في اختلاف الرؤى حول أولويات المعارك من أجل استعادة سلطة الدولة الاتحادية في هذه المحافظة أو تلك، فالقضية بهدفها النهائي تكمن بتحقيق الأمن والأمان على مجموع التراب الوطني.. ولكن المشكلة تكمن بجوهرها في الاستراتيجية العملياتية وخطواتها. فكلما اضمحلت الرؤية الاستراتيجية وثباتها.. وكلما تصادمت الخطى وتعارضت في منجزها، ثارت عراقيل كأداء أمام مهمة دحر الإرهاب ومرتزقته ممن يتمترسون خلف الانقسامات ويخترقون الوضع عبر الثغرات المتولدة فيه.

إنّ انعدام الاستراتيجية العسكرية أفضى ويُفضي إلى انهيارات، ربما ستكون هذه المرة أكثر تعقيداً. وفي هذا الإطار ينبغي للقيادة العامة أنْ تفكر بأنّ الأمور ليس لعبة صراع أمني عسكري تتحمل التباطؤ والتلكؤ وحال التشوش بالرؤية؛ ولكنها في جوهرها قضية مصائر أبناء تلك المحافظات وحيواتهم وإمكان وقوعهم تحت أسر الإرهاب وهمجيته واستعباده وهو الأمر الذي يمنح فرصاً لغنائم كبيرة يسيل لها لعاب قوى الجريمة وأنظار الدواعش.

فمدخل استعادة السلطة في الموصل ثاني أكبر محافظة كثافة بالسكان واستكمال بسط سلطة الدولة كاملة، هو باستعادة الأنبار وتطهيرها من رجس الفوضى والجريمة. بينما المشكلة بادية بوضوح؛ فالعشائر تقاتل بصدور شبه عارية، أي بلا أسلحة يمكنها بها التصدي لغزوات المجرمين. فلماذا ترك تلك القوى المدافعة عن الأقضية والنواحي بلا دعم فعلي!؟ ولماذا كان ومازال الدعم لا يمثل سوى فعاليات ترقيعية لا يمكنها سدّ ثغرة حقيقية في عموم محافظة الأنبار؟

لقد دافعت هيت باستماتة ووقفت العشائر بلا غطاء لا جوي ولا بسلاح مناسب يتصدى للأسلحة التي هوجموا بها من طرف الدواعش المدججين بالسلاح والعتاد! ودافعت البغدادي عن وجودها ضد أوباش الجريمة.. ودائما كانت النجدة متأخرة وهزيلة لا ترقى لحجم الهجمات التي تتعرض لها. وحصل هذا في نواحي قضاء حديثة التي مازالت تقاتل باستماتة؛ حتى أنّ مقاتلي (العشائر) اضطروا لسياسة قتالية تمثلت في العمليات الاستشهادية (الانتحارية) ضد مجرمي الإرهاب الدواعش، بسبب عدم توافر السلاح والعتاد.

فيما وقعت أقضية عانة والقائم وناحية راوة تحت سطوة الدواعش بسبب من نفاد العتاد وعدم توافر الدعم وتكرر انسحاب الشرطة أمام شراذم المرتزقة! وتُرِك المقاتلون وأبناء تلك المدن المهمة لمقصلة إعدامات التكفيريين. وتفرجت القيادة العامة على أخبار مأساوية لاعدام مئات وآلاف من خيرة المقاتلين بلا تفاعل مناسب لا لانقاذهم ولا لدعمهم قبل ذلك.

إنّ السياسة الحكومية باتت مكشوفة للقوى المعادية فهي تزود بالسلاح والعتاد بطريقة تنم عن التردد وانعدام الثقة وبطريقة تمييزية قطعاً يرفضها كل منطق. فيما لا تقوم بواجبها في حماية أمن تلك المناطق ودرء التهديدات القائمة فعليا هناك. ومن هنا فهي تمنحهم ثغرات للنفوذ والاختراق..

ولعل من المخاطر الجديدة، التي تُضاف إلى مفردات انعدام استراتيجية (وطنية) للحكومة الاتحادية تكمن في عدم تفاعلها بشأن مواقف محافظات بعينها رفضت استقبال عشرات آلاف النازحين من الأنبار. والقضية ليست محصورة بكربلاء بل بالعاصمة بغداد التي تصدت للعائلات النازحة بأطفالها ونسائها لتتركهم بعراء المناطق النائية خارج حدود بغداد؛ بلا أية إجراءات تكفل الحاجات الإنسانية العاجلة!

مثل هذه التراكمات خلقت وتخلق بيئة تقسيمية بأسس الخطاب الذي تستغله قوى الطائفية لمآربها وما تستهدفه من مخططات. وهنا لابد من إطلاق نداء إلى المنظمات الأممية المعنية بالحالات الإنسانية للوصول العاجل إلى مناطق الكارثة حيث نزوح عشرات الآلاف من العائلات وهم بلا مأوى ولا ما يقتاتون به من زاد وماء دع عنك الحاجات العاجلة للمرضى والمصابين وما يحتاجونه من علاجات وأدوية…

إن طريقة التعامل مع هذه الحالات الإنسانية هي الأخرى يجب أن تندرج في استراتيجيات توفير الأمن وسلطة الدولة وخدماتها الأساس. فذلك مما يوفر أرضية وحدة أبناء الشعب والتفافهم حول القيادة وحول خطاها وبرامجها الوطنية. بينما ما يجري حتى الآن يبرهن على وقوف تلك القيادة والإدارة العامة للحكومة الاتحادية (خلف) خطوط منطقة المهام والواجبات المناطة بها. إذ الاستراتيجية لا تتضمن خطة واضحة وحازمة؛ تجاه وجود الميليشيات بأسسها الطائفية من جهة وتجاه ترك المواطنين يقعون أسرى الولاء للعشائرية والمناطقية والطائفية بدل توفير ما يؤكد تفعيل الشعور الوطني والانتماء للدولة المدنية..!

وربما صدر قرار اليوم أو غداً بإرسال دعم أمني عسكري للرمادي.. وهو ما حصل فعليا مع حالات سابقة ميدانيا كما في البغدادي إحدى نواحي محافظة الأنبار إلا أن القضية ليست قضية ترقيعات كما أشرنا. إنها قضية توافر استراتيجية ثابتة مكينة وواضحة المعالم من عدم توافرها. والأحداث برهنت على انعدامها حتى يومنا.

إذ لا وجود لقرار ثابت ونهائي بالتفاعل مع مقاتلي العشائر وطريقة هذا التعامل. وقد تُرِكوا بأغلب الأحوال وأحلك اللحظات بلا سلاح وبلا عتاد الأمر الذي أوقع المحافظة بتخبطات وخلق فرصاً لصراعات وتناقضات في المواقف. فيما كان يجب وينبغي اليوم قبل الغد حسم الأمر بإدخال تلك القوى لسلطة القيادة العسكرية للجيش والشرطة وتوظيفها تعبوياً ميدانياً في المعركة مع الإرهاب وجرائمها..

إنّ ما جرى ويجري في الأنبار هو المقياس الفيصل بين الاستمرار بسياسة طائفية، تشرعن لجناح طائفي ميليشياوي تمالئه الحكومة الاتحادية والنظر بعين الريبة والشك وربما العداء تجاه جناح طائفي آخر وميليشياته؛ ما يدفع لا للانقسام والتناحر ولكن لاستيلاد قوى لصالح أعداء الوطن والشعب ومنح الأعداء قدرات وطاقات لا يمتلكها لولا تلك السياسة الطائفية من جهة و\أو السياسة المترددة تجاه مكونات الشعب وأطيافه!

إنّ البديل الناجع والحاسم يكمن في توكيد سياسة وطنية وتعزيز ثقة بين مكونات الشعب وتحقيق تلاحم بين القوى ذات التضحيات من أجل حرية الوطن وسيادته الداخلية والخارجية؛ بوضع تلك القوى تحت سلطة القيادة العامة وقرارها الوطني الممتلك لاستراتيجية شاملة موحدة لا تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري في الأقضية والنواحي ومجموع المدن العراقية.

كما أنّ حجم القوات المسلحة العراقية ومعها قوات التطوع إذا ما جرى توحيدها ووضعها بخدمة استراتيجية وطنية لا يمكنه أن يبقى بما نراه اليوم من تفكك وتلكؤ وتردد الأمر الذي منح ويمنح قوى الإرهاب فرص النهوض من هزائمها وارتكاب مزيد جرائم بحق الشعب والوطن..

يجب وقف الإجراءات الميدانية العنترية وخطاب المزايدة الطائفي لأنها مجرد ادعاءات بروباغندا بخيمة الطائفية ما يسمح بجرائم تساند جرائم الإرهاب عندما تطفو حالات، وإن كانت فردية، فهي جرائم بحق الأبرياء بسبب دوافع ثأرية انتقامية أو بسبب دوافع سلبية بظلال الانفلات من الضبط الأمني العسكري ببعض الحالات الأخرى.

ويجب مواصلة صنع الاستراتيجية الوطنية بما يقتضي عبره منع استمرار العمليات خارج إطار القيادة العامة وتوحيد الجميع بإطارها ورسم خطى إجرائية بعيدة المدى وأخرى تكتيكية تضمن عدم وقوع مزيد ضحايا بين أبناء المحافظات الواقعة تحت سلطة مرتزقة الإرهاب.

ولعل أول الخطى تتمثل في الانتباه على الأهمية الاستراتيجية للمحافظة على مركز محافظة الأنبار ممثلة  بمدينة الرمادي حرة وتحت سلطة الدولة. والعمل على التقدم على مسار مدن الفرات بهذه المحافظة وفتح الطرق إليها وتأمينها بغطاء جوي وبالدفاعات على الأرض بالتفاعل مع قوى التطوع العراقية الخاضعة للقيادة العامة بلا تمييز أو تردد في التفاعل مع من يخضع لاستراتيجية الدولة وقيادة البلاد.

كما ينبغي لفت النظر لتنسيق فعلي مع التحالف الدولي، على استراتيجية صحيحة تقضي بمنع الحركة الحرة للقوات الإرهابية. وهذا التنسيق هو المحصلة التي ستعجل بحسم المعركة وتنهي حال التخبط وظاهرة تكرار عودة قوى الإرهاب بين الفينة والأخرى لذات المدن وتحديدا الأنبار..

وطبعا في مسيرة التقدم لاستعادة سلطة الدولة يجب اتخاذ القرارات الحازمة تجاه ما يُرتكب من أفعال إجرامية في المناطق المعنية ويجب أن تكون الميادين خاضعة لطوارئ الحرب وقوانينها، توكيدا لحماية المدنيين وممتلكاتهم في ظروف الحرب.

على أننا بالخلاصة نضع ثقة بأنّ العناصر الإيجابية في القيادة العامة ستتغلب على ما حصل من ثغرات وربما تسبق هذه المعالجة بقرارات استراتيجية جدية فاعلة وتتجه نحو اتخاذ ما ينتظرها من مهام وواجبات وتوظف كل الطاقات بطريقة تحمي المواطن أولا وآخرا وتستعيد ثقته ببنية الدولة وتدفع لمساهمته في عمليات البناء والتقدم بدل انفراط الوضع ووقوعه بالمخاطر التي حذرنا منها. كما نؤكد الثقة بمواطنينا المتطوعين جميعا بمختلف انتماءاتهم واطيافهم كون تضحياتهم الأغلى هي في سبيل عراق فديرالي موحد يحيا فيه الجميع بكرامة ومساواة وعدالة وينهضون معاً وسوياً في إطار قوانين الدولة المدنية بذات الواجبات والحقوق.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *