الخطاب الإعلامي ودوره بين تعزيز الاستقرار وإشاعة الفوضى

في البدء لابد من التوكيد على أنّ الدراسات والبحوث الأكاديمية أكدت بشكل ثابت على علاقة ارتباط  وتأثير بين الإعلام وخطابه السياسي وبين درجة الوعي والإدراك السياسيين لدى المواطن، بخاصة في ظروف التقدم بطابع البنية المدنية للمجتمع ومغادرة المحددات التي تقيّد المواطن من قبيل الارتباطات السلبية الحادة وتأثيرات البنى ما قبل الدولة الحديثة كالقبيلة والطائفة. ومع الانعتاق من تلك العلاقات الماضوية تتنامى حالات الاستعداد للتأثر: 1.  إيجاباً بمعنى ظهور فعل التأثر بواضح عند المتلقين.  2. وطردياً بمعناه الاصطلاحي المعروف رياضياً بما يعني عمق هذا الفعل من جهة دوره في رسم الرؤية وتحديد الاتجاه عند المقتلي ما يحدد قراره في قضية أو اخرى.

وعند قراءة الأوضاع الكوردستانية فإننا نرصد تحولات نوعية بنيوية باتجاه مدني متحضر. ومثل هذا هو ما دفع للتفاعل أكثر مع الأدوات المؤثرة في الدولة المدنية. ولعل من أبرز تلك الأدوات التي نشير إليها هي الإعلام. فهذه الأداة تمثل رافعة جدية في المجتمع المدني. يتأثر بها الجمهور طرديا في الغالب؛ وتكون أقرب إليه وأعمق فعلا من تأثير علاقاته الشخصية القرابية العائلية به وبتوجهاته وخياراته وقراراته.

من جهة أخرى ينشغل الإعلام وأجهزته في الدلوة المدنية بمضامين أشمل مجتمعياً، ترتقي بارتقاء درجة التقدم  وبحجم التوجه نحو ترسيخ الدولة المدنية الحديثة. كما تتعاظم إمكانات التأثير والتغيير مع  تعاظم إمكانات الإعلام إنتاجياً وتَمَكّنِهِ من آليات أو تقنيات التكنولوجيا الأحدث اليوم. ومثل هذا أيضا متوافر اليوم بوضوح في كوردستان التي استثمرت أفضل التقنيات منذ زمن بعيد حيث نشهد تطور التقنيات الصحفية وولوج الفضائيات وإمكاناتها إلى الواقع الكوردستاني.

وبالانتقال إلى قراءة تطبيقية عملية لدور الإعلام وخطابه السياسي في شعب كوردستان؛ سنجد أن هذا حدث ويحدث فعليا وبحجم نوعي مميز بسبب الطابع المدني لبنية المجتمع وبسبب حجم الفعل السياسي على وفق منطق الحداثة السائدة هنا وآليات اشتغالها. ولكن ما درجة (إيجابية) الخطاب الإعلامي الكوردستاني؟ وهل هو دائما يمثل هذا التوجه (البنائي الإيجابي) أم توجد فيه ثغرات ما، تتقاطع وتطلعات الشعب ومصالحه؟

ينبغي من أجل الإجابة على هذا التساؤل البحثي، التأكيد على حقيقة أنّ شعب كوردستان لا يتأثر طرديا بالإعلام الخارجي الدولي والإقليمي وتحديداً في المجالات التي يشن بها ذاك الإعلام [الخارجي] حملاتٍ كثيرةً بغاياتٍ سلبية. لذا نلاحظ أن تلك الجهات [الخارجية] ربما حاولت الاختراق واستكمال حملاتها بوساطة مراكز إعلامية محلية تحمل خطابا سياسياً لا يتفق ومسيرة التقدم والاستقرار بكوردستان، ما يلزم الالتفات إليه والتنبيه على مخاطره.

هنا بالتحديد، يمكننا ْ نؤشّرَ حالات وجود أصوات صحافية وإعلامية وإن كانت (معدودة محدودة) إلا أنها باتت اليوم واضحة بتوجهاتها المغرضة وتشويهاتها السياسية غير السليمة. وقد سعت تلك الحالات وتسعى إلى استغلال الفرص لإثارة جدل بيزنطي لا يُغْني ولا يعالج أمراً بقدر ما يساهم في الشوشرة وإثارة الفوضى وتغذية نيران الانشطار وخلط الأوراق.

وإذا ما اخترنا موضوع الانتخابات الرئاسية مثالا، فإننا سنجد ممارسات تلك العناصر الإعلامية المحدودة، وما تؤديه من أدوار تخريبية  فجة، يتضخم ويتفاقم باعتماده الدسَّ واللعب العابث. كأن تتحدث عن تطبيقات سمترية جامدة للقانون.. فتوجِّه أذهانَ المتلقين إلى أنها تستهدف  ممارسة التداولية بوصفها  مبدأً ديموقراطياً؛ لكنها طبعاً تخفي مآربها الفعلية الحقيقية وراء هذا الادعاء!

ونحن نعرف عبر وعي للتجربة السياسية ونظرياتها بأنّه في كل الدول المدنية يجري تأجيل بعض آليات العمل الديموقراطي بسبب أولويات أخرى.. فإذا كانت تلك البلدان تمر بمرحلة طارئة وبتهديد يرقى لمستوى الحرب عليها، تُوْقِف كثيراً من الممارسات والمواد الدستورية. وبرصد التجاريب الحديثة نلاحظ أن الدول المدنية الديموقراطية لم تمارس الانتخابات بكل أشكالها وميادينها في اللحظات التي مرت فيها بمرحلة وظروف حربية. لكن الأصوات التي نشير إليها هنا [بكوردستان] تريد استغلال مناسبة قرب موعد الانتخابات لإثارة انتقادات غير مبررة وليست في محلها ولا تملك أية صدقية أو موضوعية بمستهدفاتها.

ما جرى ويجري، هو أن (بعض) العناصر السلبية في حركات وأحزاب سياسية باتت تتقصد إطلاق التصريحات الموتورة وتمنح العناصر الإعلامية المغرضة فرص متابعة جدل سقيم وتغذيها بما ليس فيه أيّ مصلحة لشعب كوردستان واستقرارها. فكوردستان التي خاضت الحروب والثورات من أجل أن تصل للانعتاق والتحرر وإلى ما فيه اليوم من منجز مهم، لا يمكن أن تخسر كلّ تلك المنجزات، بسبب ضغوط تمارسها تلك العناصر المرضية.

إنها اليوم تخوض حرباً أخرى من نوع جديد. وحرب اليوم  تتسم بكونها أخطر من تلك التي قد تفرض احتلالا أو انقلابا فوقيا، إنها حرب إذا ما حققت مآربها ستكون إبادةً جماعية وحالةَ جلب الخراب لكوردستان وشعبها؛ كونها حرب قوى الإرهاب وغربانه وقطعانه تتجمع لتحاول تحقيق الاختراق ومن ثم حرق الأخضر بسعر اليابس. بالإشارة إلى وجود الإرهابيين الدواعش على حدود كوردستان فضلا عن اعتمادهم الخلايا النائمة وأحصنة طروادة الممثلة بصوت الإعلام السياسي التخريبي الذي نشير إليه هنا.

إنّ العناصر السياسية التي تمارس هذا الدور عبر منافذ وأبواق إعلامية مختلفة هي عناصر محدودة.. لكن المشكلة تكمن في حجم الضخ الإعلامي ودوره في تضخيم الصوت وما ينفثه من سموم. وهي من الخبث بحيث باتت تصطنع صحفاً ورقية وأخرى إنترنيتية وبرامج على الفضائيات وتوزع  المهام بينها بطريقة محسوبة ومدروسة بغاية تكثير الطَّرَقات أو الضربات على رؤوس المواطنين بذاك الخطاب المرضي.

فهذه جهة لنشر الإشاعات وتلك للحديث عن الديموقراطية والتمسك بها وثالثة لتناول التوقيت الخاص بمواعيد الانتخاب ورابعة للفبركة.. وهكذا تسعى، بالمحصلة وبمجموع ما ترسله إلى المواطن، أنْ تضخ خطاباً سياسياً يخلق الأرضية التي تهيئ لها الاقتراب من مآربها. والمشكلة أنّ تلك المآرب من الضيق والمحدودية في جوهرها بما لا يمكن أن ينعكس بأمر طيب محمود لصالح الشعب ولا لي فئو فيه.. لأنها ليست سوى مآرب مخصوصة بتلك العناصر وما وراءها من أمراض.

وفي إطار رصدنا لتلك الظواهر يمكننا أن نشير إلى أننا نجد عناصر بسيطة غير ذات قدرات إنتاجية صارت تبدأ مشروعات إعلامية وتفتتح مواقع وصحفا فجأة. فمَن يقف وراء مثل هذه الظاهرة؟ هل أمطرت السماء قدرات وإمكانات عليها أم أن جهة مستفيدة هي التي ضخت لها ما دفعها لمثل هذا الافتتاح المبيَّت النيات والمآرب!؟

واستكمالا لرصدنا للأمور، نرصد أداء محطاتٍ فضائية وجهات إعلامية فيما ترسله من خطاب سياسي وما تغطيه من تصريحات محتدمة وتسلط الضوء عليه بتوسّع وتوكيد متعمد مقصود بما يُطلق شرارة السجالات التي تدعي أمراً وتُضمِر أمراً آخر.

إنّ هذا هو ما دعا الرئاسة الكوردستانية للتنبيه عليه بالإشارة إلى أنَّ أعداء شعب كوردستان قد جربوا مختلف المخططات في محاولاتهم لتدمير المنجز النضالي لشعب كوردستان، فقد مارس الأعداء جرائم إرهاب الشعب كما هو الحال بجرائم الإبادة الجينوسايد بكيمياوي حلبجة وتصفيات الأنفال وارتكبوا جرائم أخرى بوساطة الحصارات بأشكالها مثلما محاولات قطع الأرزاق وقوت الشعب وأودعوا المناضلات والمناضلين في السجون وحاولوا بث الفتن والتفرقة وإشعال نيران الخلافات التي يبتغون من ورائها تمزيق الوحدة بكوردستان..

لكن كل تلك الجرائم لم تكسر شوكة شعب كوردستان بفضل وحدة قيادته ممثلة بقيادة حركة التحرر القومي الكوردية وبفضل صمود الشعب والتفافه حول قيادته ووعيه بما يحاك له في تلك الخطابات التي تريد الفصم بين الشعب والقيادة لتتمكن من تمرير مخططاتها والوصول إلى مآربها.

اليوم، تشهد كوردستان مرحلة انتقال نوعي والشعب يقترب من  انتصارات جديدة تعزز المنجزات والمكتسبات المهمة التي حققها؛ لكن الأعداء لن يكفّوا ولم يكفوا عن مواصلة المحاولة ومنها حال استخدام طرق دنيئة جديدة للتشويش والتضليل ومن ثمّ اختراق الوضع الذي صمد طويلا ودائما.. ومن هذه الوسائل المرضية ما باتت تلك العناصر الشريرة ترتكبه عبر منافذ أشرنا إليها للتو، كإطلاق التصريحات النارية وتدبيج المقالات والدعوة لمنطق مؤداه ونتيجته ليست سوى حرب داخلية تشتعل عبر إثارة الفتن وإشعال جذوة التفرقة وولوج طريق تقسيم كوردستان بين إدارتين أو شرذمتها بين إدارات متقاطعة!! إمهم يحاولون الاختراق عبر لعبة الدعوة لممارسة التداولية في الرئاسة؛ في مرحلة بحاجة للتمسك بقيادة ورئاسة، كانت ومازالت عاملا رئيساً مهما للاستقرار وللتقدم.

إنّ تلك الحملات تتستر تحت ذريعة ممارسة حرية التعبير وهي ليست كذلك بل هي بجميع مفرداتها التي تقف وراءها تلك العناصر تبقى معادية لمصالح الشعب،  وهي ليست إلا خيانة للشعب والوطن وهي تنفيذ للأجندات والسياسات التي يبتغيها أعداء كوردستان أو بأفضل أحوالها تلتقي وتلك المخططات وتخدمها بشكل مباشر و\أو غير مباشر.

لقد بات واضحاً أنّ ترك الأمور سبهللة مفتوحة على الغارب لا يعني سوى منح (حصان طروادة) مزيدَ فرصٍ لأداء دوره المرسوم ومن ثم السماح بتخريب المنجز الكوردستاني، وهو ما لا يمكن القبول به. وهكذا فإن اتخاذ قرارات الحسم في هذه اللحظات التاريخية أمر منتظر من القيادة الكوردستانية تمكينا للشعب من كشف ما يُخطَّط له وما يريد الأعداء جره إليه.

وعليه، لا يمكن السكوت على وجود تلك الأصوات النشاز وتلك العناصر المرضية المنتمية إلى  تيارات وحركات كوردستانية ولكنها كما لاحظنا تريد جر الوضع برمته، وليس حركاتها فقط ، باتجاهات غير وطنية وتعادي مصالح كوردستان وشعبها..

إنّ موضوع تلك التصريحات وتفاقم الأصوات النشاز بحاجة لحسم وحزم فهي قضية تعزف بمنطقة جد حساسة وخطيرة وهي لا تمثل مجرد تهديد بل تمثل خطراً مهولاً على الأمن القومي الكوردستاني وتعرّض جميع منجزات النضال القومي التحرري للضياع والخسارة الشاملة في لعبة معقدة.. فالمعركة العنفية المسلحة على تخوم كوردستان وحدودها تنتظر مثل هذا الأداء لحصانها الأسود كي تنقَضُّ على الوضع برمته..

وإذا كان الثابت أن شعب كوردستان لا يمكن أن يخسر كل تلك المنجزات التي كسبها بالتضحيات الجسام فإن على مؤسسات الدولة أن تنهض بمهام التصدي لها على وفق القانون. وينتظر الشعب من برلمان كوردستان وحكومتها ومن الجهات القضائية المعنية ومن المدعي العام أن يمارس كل منهم دوره وواجبه باتخاذ الإجراءات الصارمة لمجابهة الجريمة.

كما أن الجهات الإعلامية الكوردستانية معنية بالتصدي لهذا الخطاب والرد على محاولات التشويش والتضليل وأن الأقلام النبيلة معنية بواجب آخر نظير للمهام الإعلامية يقضي بالتصدي لمحاولات نشر الفتن والشائعات والآراء السلبية المرضية التي تستهدف وحدة الوطن وأمنه واستقراره وتستهدف إيجاد أرضية للحرب الأهلية الداخلية ومحاولة التقسيم.

إن جميع المواطنين مطالبون بالوعي وبإدراك ما يجري، ومطالبة بشكل أكبر كل الشخصيات الناشطة الفاعلة والأحزاب الكوردستانية أن تمارس الجهد المخصوص في سبيل لجْم تأثير تلك الأصوات وإنهاء محاولاتها، بفضحها عبر جميع قنوات الإعلام والتنبه إلى المناطق التي يمكن أن تستغلها القوى المعادية.

إن هذا التنبيه يتم مع وجود ثقة عالية بالوعي الشعبي لما يجري وبإدراك الكوردستانيين لطريق الانتصار لتطلعاتهم ودحر ما يخترق حصانة المسيرة.. تحديدا هنا في تفعيل الدور الإعلامي والاهتمام به من جميع الجهات ومن القيادات المجتمعية بوصف الإعلام الجبهة الأكثر سخونة وخطورة بعد جبهات المعارك المسلحة بل ورديفا لها، ينبغي الانتباه المضاعف على أولويته وخطورته بما يتطلب مزيد اهتمام وتركيز في هذا الميدان، دفاعا عن سلامة القرار وصائبه وصحيحه.

 

 

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *