الدولة المدنية بوتقة التحالف العربي الكوردي وضمانتها الأهم

تجري منذ 31 تموز يوليو الماضي تظاهرات شعبية حاشدة في محافظات الوسط والجنوب وفي بغداد العاصمة. وقد رفعت التظاهرات مطالبها الحقوقية مرفقة بالتشديد على وسائل كفالتها وضمانها عبر تغيير أسس النظام القائم بمحاربة آفتي الطائفية والفساد..

وإذا كانت التظاهرات لم تتحدث عن صيغ انقلابية راديكالية فإنها تدرك طابع ما يمر به العراق من حرب ضد إرهاب الدواعش وخطرهم ولكنها تدرك بعمق أيضاً أنَّ تفاقم إرهاب الدواعش لم يأتِ إلا على أكتاف نظام كليبتوقراطي طائفي أي على اكتاف انشغال قوى الطائفية بالمحاصصة والنفعية الانتهازية على حساب بناء مؤسسات الدولة المدنية.

من هنا شخَّص المتظاهرون أنّ مطالبهم لن تأتي من طرف كان هو السبب الفعلي الحقيقي في حرمانهم منها وهو من ارتكب الجرائم بتنوعاتها مُضيْعاً على الشعب حقوقه ومصادراً حرياته. الأمر الذي دفع حركة التظاهر وتنسيقياته إلى ألا تندفع في تأييد مفتوح للوعود التي أطلقها السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي ولا حتى بعد موافقة برلمانية محفوفة بمخاطر تضميناتها التي تحاول قوى الطائفية والمحاصصة التخفي وراءها مؤقتاً وهي التي عدّت الدولة غنيمتها التي لن تتخلى عنها.

وربما اندفع بعضهم بحسن نية لإطلاق تأييد لحزمة الوعود بالإصلاح التي أطلقها السيد العبادي إلا أنّ ذلك لا يتفق والحسّ الشعبي الثوري المدرك للحقائق ولا يرتقي لأكثر من نيات طيبة محدودة بحدود انفتاحها على الآخر غير الراغب حتى في الاستفادة من فرصة التفاعل المباشر مع الجماهير الشعبية. الكارثة أنّ بعض أصحاب خطاب التأييد يطلبون (صكاً) على بياض سواء من الشعب المنتفض أم من قوى مدنية لها وجودها المؤسسي الرسمي كما الكورد لصالح العبادي بما يُذكِّر بالدعم الذي حظي به سلفه ورئيس حزبه حالياً أي السيد المالكي..

والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين. إذ لا يجوز إتمان الأشخاص الأفراد على قضايا الشعوب ولابد من التفكّر والتدبّر بالتجاريب المُعاشة التي مازالت لم تندمل جراحاتها الفاغرة بعد. وشخصياً أجد أنّ العراق لم يكن قوياً إلا يوم تعزز التحالف العربي الكوردي. ولكن هذا لا يمكن إلا بالاستناد إلى وجود مؤسسي يضمن خطاه وتقدمه إلى أمام في تحقيق مصالح الجميع لا أن يأتي على حساب أطرافه من مثل جرائم الحصار التي مورست ضد شعب كوردستان بذرائع الاختلاف مع قيادتها أو بذرائع أخرى أوهى وأكثر سماجة وتمثيلا للظلاميات التي أدخلنا فيها التفكير الطائفي وبرامجه. وأنا أجد أن الدولة المدنية هي بوتقة ذياك التحالف وضمانته الأهم والأسمى ولهذا وجدنا أن دولة سرقتها قوى التأسلم السياسي قد غرست شروخاً خطيرة يدركها الشعب اليوم ويدرك أن البديل المدني سيحل تلك المعضلات..

وبالعودة إلى الحراك الشعبي الذي نشير إليه بمعالجتنا، فإنّه بجوهره يجسد السمو الدستوري الأعلى والأبعد حسماً لكل القضايا.. ولأن الشعب في الشارع يتظاهر ويطالب فإنه هو من يقرر ويوجه. وعليه فهو لا يناشد شخصيةً ولا حزباً، فما بالنا وبعضهم يناشد شخصية لم تخرج بعد من جلبابها الحزبي الطائفي الذي ساهم بكوارث الوطن والناس!؟

إنّ أسئلة مطلب الشعب الرئيس في دولة مدنية يمكن الإشارة إلى بعض منها هنا كي يستفيد منها جميع من ينبغي له حمل مشروع بناء الدولة المدنية التي تحتضن جناحي الشعب من عرب وكورد والتي تمضي بسفينة العراق الفدييرالي إلى افق الديموقراطية الحقة وبدائلها التي تلبي مطالب الشعب..

وعلى سبيل المثال لا الحصرنسأل: هل يمكن الركون إلى شخصيات هي جزء مباشر من النظام الكليبتوقراطي الطائفي حتى هذه اللحظة لإجراء التغييرات المنشودة؟ وبصيغة أخرى: هل يمكن الركون لوضع مطالب الجماهير التي أرهقتها آلة الطحن الجهنمية للنظام الجديد، نظام المحاصصة وامتصاص الدماء بيد شخص هو جزء مباشر مما انتفضت الجماهير ضده؟ هل يمكن الركون إلى الفرد ودوره الخاص بوضع التأييد المباشر بطريقة مفتوحة غير مشروطة وغير مقيّدة بإرادة الشعب وسمو صوته ومطالبه؟

حزمة توصيات تمّ إطلاقها والموافقة عليها تحت الضغط هل كانت هي مطالب الشعب أم أنها جزئية من مطلب واحد؟ لماذا لم يتم التطرق إلى مجمل المطالب؟ لماذا تم حصر الحزمة بهذه النقاط؟ هل تخدم تلك الحزمة لوحدها تغييراً مفيدا يحل الأزمات الطاحنة في البلاد؟ لماذا تم الإبقاء على الغموض يلف تلك الحزمة من دون خطى إجرائية قانونية تلبيها؟

إننا أمام أخطبوط مافيوي سجلت الوثائق الدولية كونه بين أبرز مكبات الفساد ونفاياتها عالمياً. وليس من المنطقي الركون إلى مثل هذا الأخطبوط من دون محددات تحكمها توجهات الجماهير وضغوطها المستمرة المتصلة. إن آليات الديموقراطية التي لا يحميها الصوت الشعبي تقبل الانحدار إلى حضيض ما وصلت إليه أوضاع العراقيين وانتفاء وجود دولة ومؤسسات تخدمهم وتحترم أنسنة وجودهم. وتلك هي القضية.

ومن باب أولى لجميع الأطراف الشعبية والرسمية السليمة التي تتبنى مسيرة بناء دولة مدنية أن تدرك تلك الحقيقة الأهم والأبرز وألا توقع انتفاضة شعبية بهذا الحجم بمطب ما وقعت به انتفاضة 2011 من تصفية دموية بشعة.. ولعل نُذُر الجريمة التصفوية قد شاهدها الجميع بالأمس.

وعليه فإن مسيرة المطالب من جهة ومسيرة بناء الدولة المدنية تتطلب وقف التصريحات والبيانات التي تطلق التأييدات المجانية وبلا شروط بل يجب أن تبقى على وفق إرادة التظاهر مشروطة باستمرار الضغط وباستمرار اعتماد القوى الشعبية التي تسعى إلى نظام بديل لدولة النظام الكليبتوقراطي الطائفي. ومثل هذا يلتقي بوضوح مع الوجود المؤسسي للدولة المدنية في كوردستان ويتفاعل معه انطلاقاً من أسس التحالف العربي الكوردي المكين والثابت في توجهاته.

إنّ برنامج بناء دولة مدنية في العراق لن يكون متاحاً من دون الحراك الشعبي للقوى المدنية الديموقراطية ولكنه ليس الحراك العفوي المطلبي بل الحراك المنظم المحمَّل ببرامج البناء خطوة فأخرى والمرسوم بأسقف زمنية ومحددات تحالفات جدية فاعلة.. لعل أبرز تحالف يدعمها ويجسدها هو التحالف العربي الكوردي.

إنّ الحراك الشعبي هو الحراك الذي يفرض مطالبه ويتقدم إلى الخطى التالية في طريق تلبيتها، وليس الحراك الذي يركن ويستكين للمناشدات التي لم يحظَ منها الشعب إلا على مآسيه ونكباته.

والدولة المدنية تعني الوعي بآليات الديموقراطية والدفاع عنها بإرادة صلبة لا تلين ولا تتراخى لأي سبب، وعلى الحراك أن يؤكد على حقيقة مدنية الخطاب عبر التوكيد على مبدأ السمو الدستوري لصوت الشعب الذي يسحب البساط من تحت أقدام بعض القيادات الانتهازية التي تعبر عن مآرب حزبية وشخصية وليس عن مطالب الشعب.

بالخلاصة المؤملة نجد أن مسيرة التحالف العربي الكوردي اليوم هي التي تتم بين الحراك الشعبي ومطالبه في بناء الدولة المدنية والتخلص من دولة قوى الطائفية والفساد وفي فك الارتباط  بين الكورد وتلك المنصات الرسمية التي لم تكتفِ بكونها ضد الشعب العراقي بل ركزت عبثيتها وألاعيبها ضد الكورد ولطالما حاولت إشعال الفتن بين العرب والكورد شعباً وقيادات للحراك الوطني الديموقراطي عراقياً ولحركة التحرر القومي كوردستانياً.. وها هي اليوم القوى الوطنية الديموقراطية تعلن عن حجمها الحقيقي ومن ثم يمكن الركون إلى التحالف معها للاتجاه نحو بناء الدولة المدنية التي تمثل بوتقة التحالف العربي الكوردي وكفالته وضمانته وإنهاء أزمنة الضيم والظلم وما افتعلوه من صراعات وخلافات آذت الشعب بكل اطيافه.

ومن أول مؤشرات الاستفادة من التوجه نحو عراق ديموقراطي مدني هو ما سيصب في دعم توجهات صياغة دستور (مدني) لكوردستان بالاستناد إلى الحراك الذي بدأ بمرحلة إسقاط حكم الإسلام السياسي وقواه الطائفية التي أجرمت بحق الشعب..

كما سيكون هناك اشكال دعم لمسيرة إنهاء التهديدات باختلافها ومنها تهديدات قوى الإرهاب الداعشي يوم يتم كنسها بفضل بناء مؤسسي سليم في الدولة العراقية تكون ظهيرا مكينا قويا يصب بمصلحة كوردستان المدنية الحرة ويقف إلى جانب شعبها وقيادتها في التصدي لكل المشكلات والأزمات التي أوغلت في يومنا بغيذاء شعب كوردستان ولكن الشعب العراقي يقول لها اليوم كفى.

تلك هي مؤشرات الاتجاه نحو عراق مدني بأسس الوطنية والديموقراطية ومن ثم باسس أن يكون بتوقة صحية صائبة وصحيحة للتحالف الاستراتيجي التاريخي بين جناحي الوطن والشعب وهو ما سيهيئ ايضا لطمأنة مشهد التنوع من أطياف البلاد بظل خطاب مدني يحترم التعددية ويعي معاني الاستجابة لمطالب الجميع بأسس العدل والإخاء والمساواة.

ولربما أجابت هذه المعالجة عن سؤال بات مطروحاً على ضفتي الوطن ولكنها تتطلع لإغناء من جميع الأطراف للإجابة بصورة أنجع وأشمل.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *