المرأة جوهر الحراك المدني وأهدافه البنيوية

تشارك المرأة العراقية اليوم في الحراك الشعبي المدني بنسب فاعلة ملموسة. ولعل ذلك يسجل مؤشراً مميزاً لطابع الحراك وهويته؛ إذ أنّ تلك المشاركة ونسبتها البيّنة تعيدنا إلى القراءة الحقة الصائبة لطابع المجتمع الإنساني وتركيبته التي تعرضت للمصادرة والتشويه في ضوء ما جاءت به فلسفة أحزاب الإسلام السياسي من تقسيمات مرضية مضلّلة. ونحن ندرك أنّ ذاك التقسيم يعتمد الخنادق الطائفية التي تفرض قسراً حالات التمترس المنشطر بين قوى يجري الإيهام بتعارضها بغاية اختلاق الصراعات الماضوية في مرجعياتها الفكرية السياسية…

لقد فُرِض باستمرار على الشعب العراقي طوال المدة التي أعقبت التغيير الراديكالي في 2003 هذا التقسيم لبنية المجتمع ما دفع لإهمال البنى الواقعية المعاصرة للمجتمع من عمال وفلاحين وطبقة متوسطة وغيرها مما يدخل في بنية الدول الحديثة. وهكذا جاءت مشاركة المرأة في الأنشطة الميدانية لتعيدنا إلى حقيقة أن المجتمع العراقي مثله مثل كل المجتمعات ليس كتلا طائفية منشغلة بحروب مرّ عليها 1400 سنة وإنما هو وجود إنساني بهوية وطنية يمكنها إذا ما انعتقت من أسر أحزاب الطائفية وفكرها وسطوة ميليشياتها أن تبني دولتها المدنية..

وفي هذا الإطار، فلقد سبقت المرأة الكوردستانية بهذا التوجه في مساهماتها البنيوية في إطار مجتمع علماني الأسس والممارسات وفي إطار توجه مدني سارت به كوردستان المنعتقة من سطوة الفكر الظلامي المتخلف لقوى الإسلام السياسي. وكان ومازال دورها تنويرياً تتقدم الصفوف لكي تقطع الطريق على منح بعض بقايا تلك القوى فرصة التغلغل بطريقة وبائية مرضية، بخاصة محاولات تجري اليوم لفرض مواد في الدستور تصادر البنى المدنية عبر ما يدّعون أنه تمثيل للإسلام ديناً فيما هم بحقيقة الأمر يحاولون تمرير ما يشيع فروضهم الفكرية السياسية المرضية.. ويمكننا التوكيد على أن مساهمة المرأة الكوردستانية بمسيرة البناء والتنمية تبقى الركن المكين بالمحافظة على كوردستان خارج طوق التأثيرات المرضية لتلك القوى التي تشكل جرثومة يمكنها إذا ما وجدت الفرصة أن تنتهزها لنشر وبائها..

من هذي التجربة الغنية ومن تاريخ الحركة النسوية العراقية ونضالاتها الوطنية الحقوقية منذ مطلع القرن الماضي تستمد المرأة المتظاهرة في ساحة التحرير ببغداد وفي ميادين الحرية بالمحافظات، تستمد طاقتها وتلعب دورها المهم المميز. فتطبع التظاهرات ببنية مجتمعية جد سليمة. مؤكدةً على صواب تلك المشاركة وعلى ضرورتها وضرورة اتساعها ومن ثمّ قراءة دلالاتها البنيوية.

إنّ الحراك المدني يقدم نفسه بهوية إنسانية وطنية تدافع عن طابع بنيوي مختلف للمجتمع العراقي عمّا يُسوَّق له من الطائفيين. فالشعب العراقي ليس خلطة من الطوائف المتناحرة المتحاربة كما يدعون ويحاولون تصويره بل هو وجود امتداده عشرة آلاف عام من مسيرة التقدم منذ فجر الحضارة الإنسانية وعمره الحديث حوالي القرن منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة على أساس من القوانين التي وُلِدت بها دول أنهت زمن المركزية والاستبداد والطغيان لتبدأ مرحلة احترام البنى المجتمعية ووحدتها الوطنية ومصالحها العليا في التكافل الاجتماعي ومسيرة البناء والتنمية وخطى التقدم والتنوير بالتقاطع مع قوى الظلام والتخلف.

وهكذا، فإن المجتمع بدل أن يكون متشكلا من أغلبية دينية مستبدة تهمّش ما تسميه الأقليات العددية من سكنة البلاد وممن شاد جذوره الحضارية فإنه يتشكل من وجود مدني يحترم المساواة بين مكوناته القومية والدينية ولا يسمح بإلغاء ومصادرة لأي مكون. وهو أيضا يعود لوجوده الإنساني ليسجل مبدأ تحريم التمييز ومنه التمييز بين الرجل والمرأة الأمر الذي دفعت فلسفة أحزاب الإسلام السياسي بوبائه لتتحدث عن استبداد المجتمع الذكوري واستعباده النساء لمجرد كونهن نساءً إناثاً وأكثر منذ ذلك دفعت النسوة المنضويات تحت عباءة ثقافة أحزاب الطائفية للتظاهر مطالبات بإعادتهن إلى البيوت حبيسات جدران التخلف والظلام!

لكن تظاهر المرأة العراقية اليوم ووجودهن بمساحات كبيرة مهمة في ميادين الحرية يؤكد دلالة بنيوية نتحدث عنها هي أن المجتمع العراقي كما المجتمع الإنساني عماده الرجل والمرأة بمبدأ المساواة بلا استثناءات في فقرة أو أخرى تغرسها قوى الظلام بقصد الالتفاف على مبدأ المساواة للنفوذ منه بوبائها!

القضية البنيوية هذه تمثل هدفاً حيوياً نوعياً، وقوى الظلام الطائفية تدرك هذه الحقيقة ولذا تطلق حربها ضد مشاركة النساء بتشويههن وتشويه أدوارهن ولكنها لا تكتفي بهذا بل تحاول تركيز حراب الاعتداءات والبلطجة والتحرش بهن و بوجودهن في ميادين التظاهر.. لكنهم فشلوا فشلا ذريعا باختراق رمز المدنية القائم على مساهمة جدية فاعلة من طرفي بنية المجتمع المرأة والرجل، وهنا بالتأكيد الإشارة إلى إصرار وثبات من الشابات والنسوة لولوج ساحة التظاهر بإرادة مستقلة..

إن المرأة هنا لا تخرج للتظاهر بوصفها تابعاً لرجل ولكنها تخرج بوصفها شريكاً في الجهد الوطني المدني. إنها تؤكد باستقلاليتها في قرار المشاركة هدفاً سليما موضوعيا هو هدف بنيوي يجسد وجودنا الإنساني. ومن الطبيعي أن تؤكد تلك المشاركة كسر مفاهيم العيب والحياء وكون المرأة عورة ومنقصة أو عاراً لا يجوز ظهورها في الميادين العامة كما تحاول فرضه القوى الإسلاموية الدعية المضللة.

وهذه المشاركة ترد بوضوح على أن وجود المرأة هو من جهة يمثل حقاً إنسانياً ومن جهة أخرى يبرهن على سلامة مبدأ المساواة وينهي محاولات التضليل والتشويه التي هدفها البنيوي تعطيل نصف المجتمع بشكل مباشر وشلّ النصف الآخر بشكل غير مباشر عندما يحيا بمرض فكري يعتقد فيه تحمله عبء عار أمه وأخته ورفيقة حياته كما تريد قوى التخلف فرضه وإشاعة وبائه بمجتمعنا…

وإذا كانت بنية المجتمع تعود إلى سلامتها وصحتها بفضل تلك المشاركة وقوة تأثيرها وسطوع دلالاتها، فإن أول الطريق لمرحلة تفعيل الأدوار بمسيرة إطلاق مشروعات بناء المجتمع المدني تبدأ من هنا، من ميادين تتشارك في سجلها المرأة إلى جانب أخيها بلا تردد.

وما يلي ذلك هو طبيعة الشعارات التي تتردد بحناجر النسوة والرجال فهي شعارات تنويرية تتمسك بالدولة المدنية وبتقديس العدالة الاجتماعية التي أول عتبة في سلمها تنطلق من المساواة الحقة بين المرأة والرجل.

ولابد هنا من التذكير بالطابع المشوه ذكوريا لخطاب بعض وكالات الأنباء عندما تتحدث عن تأنيث التظاهرات وحرص المتظاهرات على الظهور بجمال الشكل وتقارن بين جميلات (لبنان) والعراق الذي أطلق شعلة التظاهر والهبة الشعبية الجديدة! فيما الصائب أن تؤكد على جمال الروح وصفاء منطق المشاركة ونقائه من أدران الظلاميات وانعتاقه من قيود التخلف وتوكيده على جمال الوجود الإنساني بثنائيته القائمة على تعادل الأدوار ومساواتها وعلى مغادرة التوحش في ثقافة جنسية استغلالية.

ومن الطبيعي أن نجد سياق الوجود النسوي علامة لهدف الحراك المدني في رفضه قيم الإذلال والاستعباد ومظاهر التمييز التي خرقت قوانين الإنسانية بعصرنا ولوائح حقوق الإنسان مثلما خرقت قيم التراث الإنساني لحضارتنا العراقية القديمة التي أسست للحضارة البشرية عبر آلاف السنين والأعوام.

إذن ترتقي المشاركة النسوية في الحراك المدني بتجسيدها فعليا ما يقدمه هذا الحراك في فكره ومبادئه التنويرية نظريا وعمليا فعليا بالممارسة الحية. وهي تحدٍّ واعٍ لقيود الاستبداد في مجتمع الفكر الطائفي ومعاقله وإحالته الوطن إلى سجن كبير للمرأة  بإلغائها وللرجل بجعله حرسا لسجون الطائفيين وفساد قيمهم وممارساتهم وجوهر وجودهم.

إن هذا هو مؤشر التركيز على دفع النساء على توسيع مشاركتهنّ وعلى تحريك المجتمع الذي خضع للفلسفة الذكورية للانعتاق منها وتوجيه صفعة قوية ليصحو من تلك الأوبئة التي باتت معاشة يوميا عبر عقود بدأت بمرحلة الحملة الإيمانية للطاغية المهزوم وتعمقت وتفشت وبائيا بمجيء قوى الظلام الطائفية لكرسي السلطة..

إن إشراقات التظاهر النسوي ستبقى مكسبا لقوى التنوير المدنية وسطوعا لشمس الانعتاق والتحرر من تبلد ومن بركة آسنة أرادوا أن يحيا وسطها المجتمع العراقي وها هو ينتفض وأول من يثور فيه هي المرأة التي وقعت تحت ضيم واستلاب ومصادرة هي أضعاف ما عاناه الرجل..!؟

لقد توجر بالنساء وبتن يُبعن ((فصلية)) بدل الأموال! وبتن بضاعة في متاجر من يرتدي عباءة التدين زورا وبهتانا والدين منه براء!! وصرن مفردة في متعة الرجل حتى تحول الزواج إلى مسمى المتعة الذكورية بدل المشاركة والمساواة!! وتحولت المفاهيم لضيم انحدار فأعيدت أسواق النخاسة وبيعهن سبايا وعبيدا هن وأطفالهن!! وبين جناحي الطائفية وألاعيبها صارت المرأة أسيرةً عبدةً؛ وفضلا عن المهانة يطفح استغلالهن بأعمال السخرة بلا أجور بكل أشكال السخرة المدانة إنسانيا!! وهن اليوم، اللواتي يقعن في استغلال التشرد ومخيمات النزوح واللجوء وفي إبعادهن عن سياقات الدرس العلمي وتنمية العقل إلى سياقات حضائر التدجين الحيوانية الغرائزية!!

لهذا السبب نزلت نسوة العراق للتظاهر ضد المرض (الطائفي) بأشكال فساده.. ولهذا رفضن الركون في زنازين ما تسمى البيوت والسطوة الذكورية.. ولهذا كانت المرأة شعلة الهبَّة الجماهيرية بقوة وسعة وبرمزية لكل الأهداف ودلالاتها البنيوية…

وفي الغد سيكنّ معا وسويا الأكثر عددا في وجودهن في الميادين.. ألم يتركهن الطائفيون بحروبهم التي قضت على مئات آلاف من رفاق الدرب وحيدات بين ثكالى وأرامل وما يسميه المجتمع تعسفا عوانس؟ إنهن يرفضن هذا المشهد وكل توصيفاته المرضية المذلة ويدخلن ميادين الحرية مستقلات صاحبات قرار وإرادة لا تلين ليبنين عراقا جديدا لا يخضعن فيه لفلسفة ذكورية مرضية تنتمي لعصور ظلامية من زمن كهوف التخلف…

المرأة اليوم هي صرخة كفى لقوى الإسلام السياسي الطائفية وعناصر المرض الوبائي فيها وها هي تجذب الشبيبة الواعية المتفتحة بعيدا عن رخيص التبلد والبرك الآسنة التي اصطنعوها في عراق اليوم..

وتلك هي العزيمة والثورة والتغيير الحق الأنجع والأنضج والأكثر صوابا في الحراك المدني وآفاق انتصاره للحريات ولبنى المجتمع السليمة.

   

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *