قصص قصيرة جدا مستعمرة الديناصورات  بقلم الكاتب عادل كامل الأقسام 1-4

ألواح سومرية معاصرة: تستضيف جديد التشكيلي والكاتب الأستاذعادل كامل في مجموعة من قصص قصيرة جداً تتصدى لموضوعات ومضامين حياتنا وتعقيداتها بجماليات إبداعية أخّاذة.. نضعها بين أيديكم وأهلا وسهلا بالجميع وبملاحظاتهم

قصص قصيرة جدا ً  مستعمرة الديناصورات عادل كامل

القسم الأول

 

      [ويأخذ مورغان العشيرة عند الايروكوا، وعلى الأخص عند قبيلة “سينيكا” كشكل كلاسيكي لهذه العشيرة البدائية. ففي هذه القبيلة توجد ثماني عشائر مسماة بأسماء حيوانات: 1 ـ الذئب؛2 ـ الدب؛ 3 ـ السلحفاة؛ 4 ـ القندس؛ 5 ـ الأيل؛ 6 ـ دجاجة الأرض؛ 7 ـ مالك الحزين؛ 8 ـ الصقر.]

انجلز. ” أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”

 

adilkamil2

      [ إلى الصديق الذي سألني، قبل ثلاثين سنة، لماذا تكتب عن الحيوانات، أقول: هناك أشقاء لنا مازالت خطاهم لم تصل هذه العتبة!]

المقدمة

[1] قصة كتبها لا احد:

     ” قطع رأس الحسين ووضع عند عبيد الله بن زياد ثم قطع رأس عبيد الله بن زياد ووضع عند المختار الثقفي ثم قطع رأس المختار الثقفي ووضع عند عبد الله بن الزبير ثم قطع رأس عبد الله بين الزبير ووضع عند عبد الملك بن مروان…..، فمن قطع رأس الأخير….، الذي كان منشغلا ً بقراءة حكاية قابيل وقد قطع رأس هابيل، وكان ادم يراقب المشهد وهو يمسك برأسه محدقا ً في السماء….”

[2] البلبل قال:

     ” كان علي ّ أن أغلق فمي..، أن أغلقه إلى الأبد…، بدل أن أغرد لكم، لكم وحدكم، لإمتاعكم، وترفيهكم، وإسعادكم، وإشباع غروركم…، ولغايات لم أكن اجهلها، ولم تكن مجهولة عنكم أيضا ً…، فإذا كنت اعرف لمن كنت أغرد، وأنا طليق في الغابة، فانا اعرف أيضا ًلماذا لا امتلك قدرة على إغلاق فمي، والكف عن النواح، والأنين ….، وأنا في القفص، أمامكم، لأنني مازالت أشيعكم بصوتي، مع إنكم لا تظهرون إلا مسرتكم، ورضاكم……، فكما أنا لم استطع الإفلات من كمائنكم، لا اعتقد إنكم تفلتون من كميني وأنا أراكم  لا تذهبون ابعد من هذا المصير….”

[3] الآن

    ” لاذت العائلة هاربة من بطش الموت، بعد أن أوصدت منافذ الخلاص بوجهها، صوب البحر، للنجاة، لكن الأخير ابتلع الأم والبنت والولد، فأفاق الأب  ليدرك أن عزلته غير قابلة للفهم، ولا للتأويل، فجلس عند قبر العائلة، في البلاد التي طردته، وعملت على قتله، بانتظار أن يأتي الموت، ويضع خاتمة  للحكاية…، فهل جاء…؟”

5/9/2015  

 

 

 

 

 

 

[1] التمساح والدب

    سأل الدب جاره التمساح، بصوت شارد:

ـ هل فكرت بالمصير الذي ينتظر السحالي، والنمل، ورفاقنا البشر؟

   هز التمساح رأسه بحركة آلية لكنها لفتت الأنظار:

ـ لم يعد يشغلني هذا المصير ولا يثير قلقي، يا صديقي، فقد غابت مليارات الصنوف…، وأخرى توقفت عن النمو، وسواها تحول إلى مخلوقات مختلفة ..

ـ آ ….، هذه نظرية عتيقة، يا سيدي، فالبرمجة العامة للأنواع هي التي ستحدث، على حساب التآلف، فضلا ً عن عدم الصلاحية.

أجاب التمساح ساخرا ً:

ـ ما هذه الخواطر، في هذا الصباح البارد، وكلانا تحرر من الخوف، والعدو المشترك لنا، وأصبحنا بمعزل عن التهديد بالقتل!

ـ آ …..، صحيح، حقا ً لا أمتع من الوجود في هذه المحمية، ومن العناية التي نلقاها، وكل ما يضمن مستقبلنا، ونحن نراقب آلاف الزوار…

ـ أكاد أشاطرك الرأي…، لو لم يحشرونا جميعا ً في هذه الحديقة، داخل هذه الأقفاص.

ـ  لا تقل ذلك…، ولا تتذمر، فبعد أن أصبحنا عائلة واحدة، داخل أسوارها، فقد أصبحنا نرى الفيل يتنزه برفقة الذئب، والغزال يمرح مع السبع، والأرنب يقفز فوق جسد النمر، والطيور تلهو مع الحيتان، وابن أوى يلعب النرد مع الكركدن …، بعد هذا كله أصبحنا لا نرغب أن نعود إلى الأسئلة العتيقة: لماذا حشرونا في هذا المكان!

ـ حشرونا هنا، أيها الصديق العزيز، كي لا ننقرض…، ونزول من الوجود، فنحن اليوم لا نشكو من البرد، ولا من الجوع، لا من الخوف ولا من الأعداء…، أليست هذه هي الحرية؟

ـ أكاد أقول نعم…، لكن لا أنت، ولا أنا، من أسهم في صنعها!

ـ هذه نظرية عفا عليها الزمن…، فالجديد إننا أصبحنا عائلة واحدة.

    اقترب مدير الحديقة، مع حشد كبير من الزوار، والعلماء، منهما، وقال لهما:

ـ حتى إننا بدأنا نستحدث لغة جديدة مشتركة بين الأنواع المختلفة، بل نستحدث أنواعا ً لا وجود لها أيضا ً.

    صرخ الدب:

ـ بل أصبحنا نشترك معكم بالتخلص من العالم القديم!

[2] مشكلة

خاطبت الجرادة الذئب:

ـ  أرجوك …، لماذا لم تغلق فمك وتكف عن العواء…، هل أنت مريض، أم جائع، أم تشعر بالخوف؟

ـ لا …، وهذه هي مشكلتي!

[3] عودة

  بمرح سألت السمكة الزرقاء زميلتها السمكة الذهبية:

ـ البحر الصغير، هنا، في هذا القفص الزجاجي، يسمح لنا بالاستمتاع على مدار الساعة…، نستيقظ متى نشاء، نلهو، وننام متى يكون ذلك مسليا ً…!

أجابت الأخرى:

ـ هذا صحيح ….، لولا إننا لا نعرف متى سيعيدوننا، بعد الانتهاء من مهمتهم معنا، إلى البحر الكبير الذي اصطادونا منه!

[4] الطبيب والديناصور

    عندما استيقظ الديناصور الأب، وجد نفسه وحيدا ً، فلم يشاهد الأشجار، ولا السماء، ولا المساحات الشاسعة التي عاش فيها، فدار بخلده، انه ربما لم يكمل الساعات  المخصصة للنوم، أو انه مازال يعاني من الكوابيس القديمة…، ولكن ما أن فكر بالعودة إلى مغارته المخصصة له، حتى شاهد طبيب المحمية يقترب منه، ويخاطبه بدهشة مرحة:

ـ حمدا ً لله، ظننا انك لحقت بأسلافك، وأصبحت نسيا ً منسيا، أما الآن، فأنت تفند نظرية الانقراض، وكل من صدع رؤوسنا بمشكلات الغياب، والزوال!

   هز الديناصور رأسه الكبير، وقال بمرح للطبيب:

ـ أنا أيضا ً كنت أظن إنني لن أراك أبدا ً!

[5] ماموث

    عندما وجد الماموث الضخم جسده مكبلا ً بمخالب الأسود وأنيابها، انتفض بشدة حتى كاد يفلت منها،  ولما كان ذلك ـ فكر مع نفسه ـ بحكم المستحيل، طلب من الأسود الإصغاء له، للحظات لا أكثر، فقالت الأسود بصوت واحد:

ـ تكلم.

ـ المشكلة إننا، نحن الماموثات العظيمة، عندما نقتلكم، ونمسح الأرض بكم، لا نجني فائدة تذكر من هذا …، لأننا نترككم تتعفنون في البرية، أما انتم فتقتلوننا حتى من غير تفكير، لتفترسوننا.

  قال كبيرهم ساخرا ً:

ـ ماموث يفكر!

ـ  إزاء اسود هي ذاتها لا تعرف كم هي نتنة، حتى وهي على قيد الحياة!

[6] حدود

   بعد أن وجد البلبل ثغرة، في القفص، وهرب منها، عاد يبحث عنها، ليدخل، فقالت شريكته:

ـ الآن أدركت لماذا من الصعب التخلي عن القيود!

فقال لها:

ـ الحرية، من غير قيد، كالقيد بلا حرية….، فعندما هربت من القفص، كنت أظن إنني ساجد حريتي في الغابة، وليس بانتظار أن أقع في شباكهم مرة ثانية، أو أن أقع فريسة الصيادين الآخرين….، فقررت العودة إلى قفصي، خشية أن لا اعثر على ثغرة للعودة إليك، يا شريكة حياتي، وهذا أقسى من القيد نفسه، وأقسى من العبودية نفسها!

 ابتسمت وقالت له بمرح:

ـ الآن عرفت لماذا اخترع الناس أقفاصهم!

   صاح، وهو يحّوم حول القفص:

ـ عندما نكون داخل القفص لا نتوق إلا للحرية …، وعندما نصبح طلقاء لا نعرف كيف نحمي حريتنا!

[7] مصير

قال الخنزير لزميله، وهو يتأمل رقبة الزرافة:

ـ  حمدا ً للرب انه لم يخلقنا مثل الزرافات…، لا نعرف أين نحمي رؤوسنا!

ـ ليس المهم، يا زميلي، أن تكون لك رقبة طويلة، أو قصيرة، بل أن يكون في نهايتها رأس!

فقال بغضب:

ـ هل سمعت أحدا ً شتم الزرافة…، مع إنها تخفي رأسها في الرمال…، ليس هربا ً من المفترسين، بل بحثا ً عن التراب البارد!

ـ اعرف …، كذلك نحن نزداد شراهة للطعام الجيد طالما نعرف نهايتنا!

[8] حكمة!

     بعد أن امسك الثعلب بالديك، صاح الأخير:

ـ لن تنجو من أنياب كلابنا ولا من مخالبها…، فأين ستهرب، وأين ستفر، لتنجو من فعلتك الشنيعة..؟

أجاب الثعلب بلا مبالاة:

ـ دعني استمتع بك، أيها الديك السمين، الآن…، وقبل فوات الأوان، أما الباقي فانا غير مسؤول عنه!

[9] لعبة

     سأل الخروف صاحب الصوف الأسود، شقيقه المتبختر بالصوف الأبيض:

ـ هل تعرف لماذا يضاعفون أعدادنا، ويوفرون لنا الطعام الممتاز، ويسهرون على رعايتنا، وحمايتنا من الأمراض، ومن الضواري، ومن اللصوص…، ولماذا يحرصون على تحسين نوعنا …؟

ـ اعرف!

وأضاف:

ـ كي تزداد ثرواتهم!

فسأله:

ـ لكن ..، اخبرني، لماذا يحرصون على الإنجاب، وزيادة أعدادهم، هؤلاء عديمي الشفقة…؟

ـ من اجل الحروب…، فمن سيحارب لولا الفائض من الناس، أليس كذلك؟

ـ زيادة في الماشية، وزيادة في عدد السكان، وزيادة في عدد الضحايا، وزيادة في الثروات…، فقل لي من الكاسب في هذه المعادلة، أو في هذه اللعبة …؟

ـ لا احد!

ـ لا…، المنتصر هو الموت!

ـ يا أحمق …، الموت، مثل الزمن، محض أداة….، فهل سألت نفسك هل تشعر السكين بعاطفة وهي تجتز رقبتك؟!

ـ ما الغاية إذا ً…؟

ـ لو كنت اعرفها، لهربت إلى بلاد يلعبون فيها لعبة مختلفة!

[10] أمل

   بعد الحرب الشاملة، التي جرت في الغابة، لم ينج إلا وحيد القرن، وغزال مبتور الساق، أعمى، منها.  فخاطب وحيد القرن الغزال بصوت رقيق:

ـ لا مناص إننا، أنا وأنت، سننجب ذرية جديدة نأمل أن لا تحمل شعار: نموت، نموت، نموت من اجل الأرض!

[11] ديمقراطية

     بعد أن عقدت حيوانات البرية اجتماعها الاستثنائي، قررت استدعاء دارون، للتأكد من عدم صواب نظريته، وان الزمن عفا عليها، فسألت الأفعى العالم العجوز:

ـ لو كانت نظريتك صائبة، فاخبرنا ما المعنى منها؟

أجاب بصوت مرتجف:

ـ أنا لم أكن ابحث عن المعنى، أنا كنت اهرب منه!

    صاحت الحيوانات بصوت موحد:

ـ لكنك وضعت أبناء جنسك البشر في أعلى سلم التطور…، فهل هذه هي الديمقراطية الشفافة…؟

ـ آ …..، ما أغباني، مع إنني لم أكن اجهل السواحل العفنة التي انحدرنا منها!

ـ اخبرنا إذا ً أيها الفيلسوف المشاغب…، ما هي مصائرنا…، مثلا ً، أنا الأسد، هل سأصبح بعوضة، أم سأصبح كائنا ً اقل شراسة..؟

أجاب بصوت واهن:

ـ يحدث هذا بسبب ما لا يحصى من الاسباب..!

صاحت الحيوانات بصوت واحد، موحد:

ـ سنفترسك إن لم تجب.

ـ وهل لدينا ـ أنا أو انتم ـ إجابة، وأنياب الموت تعمل في مخفيات قلوبنا، وفي ملغزات عقولنا!

[12] بالروح

    وجد الحمل الصغير نفسه قد تحول إلى ذئب، فقال للقطيع:

ـ آن لي أن أكون زعيمكم.

 فهتفت حالا ً:

ـ بالروح…، بالدم.

  فصرخ:

ـ الآن عرفت لماذا الذئاب الذكية لا تعوي!

فسأل كاتب القصة الحمل:

ـ هل تعرف كم لحمك لذيذ؟!

ـ مثلما اعرف شهية الدود وهو يلتهم جسدك!

   قال الكاتب:

ـ أنا أوصيت بحرق جسدي!

ـ آ …..، لكن عليك أن تعرف لماذا تتوهج النيران…، ولماذا تصرخ جهنم: هل من مزيد…؟

[13] لذّة

    قالت اللبوة للأسد بعد أن افترس أبناءه:

ـ ها أنت ترغمني لإنجاب أولاد آخرين…، يا لها من لذّة مرة!

فقال:

ـ أليس هذا هو سر صراع البشر على الكراسي! يذبح بعضهم البعض من اجل إعلاء شأن الموت!

  فسألت اللبوة الأسد:

ـ وما الذي يجنيه الموت؟

ـ لو كنت اعرف الإجابة لما بحثت عنك!

[14] حوار

   غريب أمر سكان هذا الكوكب، لا يتوقفون عن إنجاب المزيد من الضحايا…، والمزيد من الفقراء…، والمزيد من المشردين، والمعتوهين، والخارجين على القانون…؟

    لم يجد الأرنب أحدا ً يرد عليه، فترك رأسه يترنح فوق العشب، ليستمع إلى صوت الأرض:

ـ وأنا من يمنحني سعادتي!

فصرخ:

ـ أيتها ألاثمة …، أنت السبب إذا ً…؟

ـ لا …، لست السبب حسب، بل الضحية أيضا ً!

[15] وليمة

      سأل الكلب البني اللون الذي مازال يتمتع بذاكرة متوقدة، عشيقته ذات اللون الرمادي، وهما بانتظار وليمة المساء:

ـ هل تتذكرين، يا عزيزتي الغالية، ماذا فعلوا بنا…؛ تارة صدرت الأوامر بطردنا، وبإبعادنا، وتهجيرنا، وخلعنا، أو بقتلنا إن لم نفعل ذلك، لأنهم كانوا يخططون للقضاء علينا، ومحو سلالتنا من الوجود، تارة أخرى…؟

ـ آ …، أتذكر بوضوح، وأتذكر انك طلبت مني ان نغادر المدينة، بعد أن أصبحت مقبرة لنا، ولجنسنا، وهناك، أتذكر ان أواصر الصداقة بيننا قد بلغت ذروتها، وأزاد كل منا هياما ً بالآخر، فأصبحنا عشاقا ً، ومتيمن، رغم إننا هربنا مع الهاربين، وعشنا حياتنا مع المشردين، والمذعورين من القتل…، ويا للبشر من أوغاد، وفاسدين، ومنافقين، وقتلة!

ـ كانت حقبة سوداء في زمن اشد سواد ًوفي تاريخ كاد أن يفقد لونه!

ـ لكنها حقبة لم تدم طويلا ً…، فانا قلت لك: لا المسرة دائمة، ولا الشقاء يدوم إلى الأبد.

ـ اجل، أتذكر، فقد عدنا، أنا وأنت، أيتها الغالية، بعد ان انشغل الناس بحياتهم، فعثرنا على مزرعة، عشنا فيها، بعد ان كان الطعام وفيرا ً، ويكفينا…، مما دفع بأشقائنا للتسلل، والعودة إلى مدينتنا الصابرة، والباسلة…، أنت ِ كنت مرحة، منشرحة، وشديدة العناية بمفاتنك، ومزهوة بجمالك النادر!

ـ إن لم افعل ذلك، يا حبيبي، فقد تجد ألف واحدة غيري تغرم بك، وبفطنتك، وقوتك الاستثنائية!

ـ آ …، ثم أنجبنا ذرية صالحة، وكدنا نمضي ما تبقى من زمننا الوجيز بهدوء تام…، لا يشغلنا أمر الناس، ولا هم انشغلوا بأمرنا…، لولا دخول غرباء غزوا مدينتنا…

ـ آ …، أتذكر، أتذكر بوضوح، فقد حلت الكارثة، ووقعت النكبة علينا.

ـ غريب أمر هؤلاء الغرباء، فقد جعلونا في بالهم.

ـ اجل، تركوا لحم الحملان، والماعز، والغزلان، والإبل، والثيران، والجاموس، والطيور…، وراحوا يصطادوننا، الواحد بعد الآخر، حتى كدنا نتعرض للانقراض، ونصبح نسيا ً منسيا!

ـ أنا طلبت منك الهرب، مرة ثانية، كي ننجو بجلدنا.

ـ بل أنا هو من أقنعك بالهرب والعودة إلى البرية، والبساتين البعيدة.

ـ عشنا بعيدا ً عن بيوتنا، وأزقتنا، ومزابلنا…

ـ ومر دهر حتى كدنا نفقد الأمل بالعودة..

ـ ثم…، هرب الغرباء، بعد ان اشتعلت الحرب، وبعد ان وقع العدوان على مدينتنا، فراح الناس يقتل بعضهم بعضا ً، يترصد احدهم الآخر، ويغدر به، ويذبحه من الوريد إلى الوريد…، الجار نكل بجاره، والأشقاء تحولوا إلى أعداء، وصاروا يبدعون، ويتفننون، بشهامة، وبسالة، وبطولة بطرق القتل، والانتقام، والاجتثاث، حد الحرق، والسحل، والمحو.

ـ  أنا قلت لك، أيها الغالي، يا أوفى الأوفياء، لم تعد البرية صالحة لنا، فقد وصلتنا أنباء مؤكدة لم تكن تخطر حتى بالبال، ولا في الأحلام!

ـ وعدنا، نزهو بالنصر!

ـ انتظري…، علينا ان نراقب، فليس الوقت وقت ثرثرة، حتى لو كانت بهذه الرهافة، انتظري، فقد يلقون بجثث طرية، جديدة..

ـ آ …..،  رغم ان اللحم البشري ممتزج بالمرارة، مج، وفيه زيادة بالملح، والصلابة، ومشوب برائحة عفن كريه، إلا انه ليس طعاما ً فاسدا ً جدا ً….!

ـ المهم، المهم إننا سنمضي شيخوختنا بهدوء، لا احد يتعرض لنا، ولا غرباء يفترسوننا، مادام الناس فقدوا عقولهم، وصاروا مهووسين بهذه الاحتفالات!

ـ مع ذلك، أيها الغالي، لا توجد سعادة تدوم إلى الأبد!

ـ عدت، يا أيتها الغالية، مشغولة بالأفكار العتيقة، وبما عفى الدهر عليه، فهل دامت لأحد، كي تدوم لنا، آيتها الجميلة!

[16] نذور

    قالت السمكة العمياء لجارتها إن البحث عن مكان امن، في هذا البحر، غدا أكثر استحالة من انتظار الموت نفسه. فقالت لها بصوت متلعثم:

ـ أنا اقدر حكمتك، يا جارتي، عميقا ً، ولكن انتظار الموت يخلو من الفطنة، وسيؤدي إلى هلاكنا..

ـ حسنا ً، لنعترف بأننا مازلنا نتمتع بأشعة الشمس الذائبة في الماء، وقد غدت نعمة لا تجحد، ونقدر ان الوحل يوفر لنا طعاما ً نتغذى عليه…، مثلما نقدر ان الحيتان العظيمة سمحت لنا بالبقاء داخل هذه الحفر العميقة، البعيدة عن سطح البحر، بمنأى عن المفترسات وشباك الصيادين التي تجوب البحر ليل نهار..

ابتسمت الأخرى:

ـ أنا لم اطلب منك التحدث عن وجودنا كأسماك ولدت عمياء، كي نتجنب رؤية ما يحدث لنا، في هذا البحر، أنا طلبت منك البحث عن حفرة نمضي فيها ما تبقى لنا من أيام .

أجابت بأسى عميق:

ـ أنا لا استخف بك، وبذكائك، كي اطلب التريث، وعدم البحث عن مكان اقل خطرا ً، ولكن ما يجري للحيتان، والمفترسات الكبرى، ولباقي المخلوقات، ومنها هؤلاء الصيادين أنفسهم…، لا يمكن أن يقارن إلا بما يحدث في الجحيم! فالكل يواجهون الخطر الغامض ذاته يا شريكتي في هذه المحنة!

ـ أنت تعرفين إنني اعرف هذا تماما ً، الكل يواجهون حتفهم، ولكنني لم أسالك لماذا ولدنا من غير بصر…، بل أسألك لماذا رضخنا لهذا الحال، حتى أصبحنا ننشد، ونرقص، ونغني، بل ونؤدي طقوس الاحتفال كأننا في عيد؟

    هزت رأسها الصغير باستسلام تام، ورددت بصوت بلغ مداه حافات السماء:

ـ نموت، نموت، نموت .. من اجل بقاء البحر!

[17] أسئلة

     بعد أن زار الطفل حديقة الحيوان، مع والده، وذهب إلى السوق، صاح:

ـ بابا..، انظر: هذه دمى اسود، ونمور، وفيلة، وأخرى للتماسيح، والذئاب…

ـ ما الغريب في الأمر؟

ـ قبل قليل شاهدناها في الحديقة، فلماذا يصنعون لها مثل هذه الدمى؟

ـ ليقولوا لك: انك انتصرت عليها، وإنها لم تعد شرسة، بل أصبحت وديعة، وأليفة!

  صمت الطفل قليلا ً ليسأل والده:

ـ لهذا كانوا، في الزمن القديم، يصنعون التماثيل للآلهة؟

ـ لا، لا يا ولدي، بل كانوا يصنعونها للاتقاء من شرها، من ناحية، وترضيتها، وطلب الرحمة منها، من ناحية ثانية!

ـ وهل كانت آلهة الزمن القديم شريرة؟

   أجاب الأب بصوت متلعثم:

ـ وهل كانت الأسود، أو التماسيح، أو الذئاب، في الحديقة، شريرة…؟!

ـ لا! لكن دمى الأسود، تصدر زئيرا ً مخيفا ً، وكذلك التماسيح، والذئاب لها أصوات حادة ومخيفة!

ـ لا تذهب ابعد من هذا …

  لم يغلق الطفل فمه:

ـ عندما كانت هناك كثير من الآلهة، للماء والنار والتراب والأشجار والهواء…، كانت تشتبك في حروب دامية، وما أن أصبحت البشرية تؤمن باله واحد…، استمرت الحروب، ولم تتعض البشرية، وتكف عن سفك دماء الأبرياء؟

ـ آ ….، دعنا نرجع إلى البيت، فهناك سأخبرك بالجواب.

ـ تقصد …، بعد أن نعود إلى أقفاصنا، ونغلق الأبواب على أنفسنا، تخبرني بالرد؟!

[18] أحلام

   كانت الحيوانات تنظر بشرود، من وراء أقفاصها، إلى مشاهد الحرب، عبر شاشة كبيرة وضعت في وسط الحديقة. فقال الذئب لجاره الحمل:

ـ لا يخجلون…، الناس لا يخجلون، يقتلون هذا العدد الكبير من الأطفال، من ناحية، ويهتفون بالكرامة، والعزة، والقضاء على الطغيان، من ناحية ثانية!

أجاب الحمل:

ـ كلما نظرت إلى هذا العدد الكبير من الضحايا الأطفال، أسأل نفسي: لولا هذه الأقفاص الحديدية، المتينة، فهل كنتم ـ أيها الذئاب ـ ستتركوننا نعيش بأمان، وسلام؟

ـ آ …..، من ذا الذي يعيد هؤلاء الأشرار إلى أقفاصهم إذا ً….؟

  قال الحمل:

ـ لا تكترث …، تمهل، فنحن ـ الحملان وصغار الحيوانات ـ سنصبح طعاما ً لكم، أو لسواكم، أيضا ً…، أما الأشرار فلن يتركهم الموت يقتلون الأطفال، والنساء، والشيوخ، إلى الأبد!

قال الذئب:

ـ عدت تفكر، أيها الحمل الماكر، كما يفكر هؤلاء الذين يهتفون بالكرامة، والحرية!

أجاب الحمل:

ـ لا! فربما يأتي اليوم الذي نتصالح فيه معكم، أيها الذئاب، ويتصالح فيه الناس أيضا ً!

ضحك الذئب:

ـ وأنا أقول لنفسي: ربما سيأتي اليوم الذي سنعود فيه إلى البرية!

[19] الأسد والفأر

  خاطب الأسد الهرم الفأر الذي عضه وهرب بعيدا ً عن القفص:

ـ في الغابة…، عندما كنت تعضني، كنت تهرب وتختفي في جحرك…، فلا امسك بك، أما الآن، فقد حجزوني خلف هذه القضبان كي تنجو مني أيضا ً!

ضحك الفأر:

ـ لا ..، لا يا سيد الغابة، لا تتوهم كثيرا ً …، فعندما كنت تهرم، في الغابة، كانت الثعالب تبول عليك، حتى كانوا يقولون، وأنت في هذا الحال: كلب على قيد الحياة خير من أسد عجوز!

ـ ملعون …، لو كنت اعرف كيف استدرجت الإنسان ليخدمك، ويرعاك…، وجعلته يمنحك هذه الحرية، لكنت تعلمت الكثير!

ـ لن تتعلم! لأننا كنا ـ نحن الكائنات الصغيرة ـ أكثر غباء ً من الإنسان نفسه! وإلا لكان الإنسان اجتثنا من الوجود، أو اكتفى بمشاهدتنا كما فعل معك، داخل هذه الأقفاص، وقد حولكم إلى دمى ملونة!

[20] مقارنات

    سألت اللبوة الأسد، وهي تتأمل الغزلان، والحمير، والماعز، والثيران، وغيرها من حيوانات الغابة، سجينة داخل أقفاصها:

ـ ونحن سجناء خلف هذه القضبان، أليس هذا ظلما ً، وسلبا ً للحقوق…؟!

  أجاب الأسد بصوت متقطع:

ـ يا عزيزتي…، يا لبوتي الغالية…، فعلوا ذلك كي يمنحوننا حريتنا!

ـ الحرية خلف هذه القضبان؟

ـ بدل أن نلقى حتفنا في البراري وفي الغابات، أو نموت من الجوع، ومن البرد، ومن الحر الشديد!

ـ السنا ـ نحن ـ أسياد الغابة، والبرية، أيها الأسد العظيم!

ـ لا تكترثي …، فماذا يقول الإنسان، وهو يعيش أسير الأقفاص التي يسمونها: ناطحات السحاب، والمجمعات السكنية، وبيوت الصفيح؟

بحزن تمتمت:

ـ إذا نحن مازلنا نتمتع بالحرية؟

ـ هذه الكلمات لا يستخدمها سوى البشر..، لخداع بعضهم البعض الآخر…، الأفضل أن تقولي، كما تقول الحمير، والماعز، والأرانب، والثيران: لولا هذه العبودية، خلف هذه الأقفاص، فماذا كانت الأسود قد فعلت بنا!

[21] الدب الحكيم

   هز الدب العجوز رأسه، وهو يخاطب أحفاده، داخل القفص، في المحمية:

ـ سابقا ً، يا أحفادي، كنا نمضي أزمنة شاقة في صيد سمك السلمون، وفي البحث عن خلايا عسل النحل، وفي العثور على مملكة من مملكات النمل….، أما الآن، في هذه الأزمنة، فيأتينا الطعام جاهزا ً، نظيفا ً، وطريا ً، ومن غير جهد، أو تعب، أو عناء!

فقال احد الأحفاد يخاطب جده:

ـ يا جدي، لا اعتقد أنكم، في ذلك الزمن القديم، كنتم تتسلون بمشاهدة الناس، وقد كفوا عن معاملتنا كأعداء لهم…، الآن تغير الموقف، يا جدي، فقد أصبحنا نمضي أزمنة سعيدة ونحن نتسلى بمشاهدتهم، فلم نعد نراهم أعداء ً لنا، وما عادوا هم يعاملون أعداء َ لهم أيضا ً!

ـ هذا صحيح، لكن الحرب، بين الناس، قد تمتد، وتمتد، لتصل إلينا، في هذه المحمية، آنذاك قد لا نجد مكانا ً نهرب له، وننجو.

صمت الأحفاد طويلا ً، ثم نطق احدهم متسائلا ً:

ـ ولكن لماذا انقسم الناس إلى أعداء ما بينهم… ؟

ـ وأنا أيضا ً لا اعرف…، ولكنهم بعد ان وضعونا في هذه الأقفاص، ظنوا أنهم يتسلون بنا، ولكن الحقيقة، لا نحن حصلنا على السعادة، ولا هم فقدوا الأمل بالحصول عليها!

[22]   إسراف

    تابعت السحلية، بصوت مرتبك، تخبر زميلتها، إنهما، في البركة، يحصلان على الطعام، والماء، والعناية الطبية، والأمان التام ….

فقالت لها زميلتها، وقد شعرت بما يشغلها:

ـ فلماذا الحزن، والقلق، إذا…؟

ـ أنا لا اعترض على هذه الرفاهية، التي كنا نحصل عليها، بجهد شاق، في البرية…، بل الإسراف فيها!

[23]  ترف

     ما الذي يجري لنا، في هذه الحديقة…، كذلك سألت السلحفاة زميلتها، وهي تراقب، من وراء المشبكات الحديدية، كيف يتم توزيع الطعام، على الجميع، من الأسود والنمور والتماسيح، مرورا ً بالثعالب والذئاب وبنات أوى، وصولا ً إلى الغزلان والأرانب والطيور…، ثم العناية بالنظافة، والوضع الصحي، والبيئي، تماما ً كأننا في مستشفى، أو في الفردوس!

ـ هل تعترضين، يا زميلتي، ان هذه العناية الباذخة قد تؤدي بنا إلى الترف، والى الهلاك، في نهاية المطاف…؟

ـ لا.

ـ ما الذي يشغل بالك إذا ً، ويقلقك…؟

ـ لو تعلم الناس هذا النظام الذي تتوفر فيه هذه العدالة..، لكنا أكثر سعادة!

فقالت الأخرى بصوت مرح:

ـ مع إننا لا ننتج شيئا ً يذكر، كما ينتج النحل، وكما تنتج الخراف، والأبقار، إلا ان عنايتهم بنا تدفع عنهم تهمة الشراسة، والعدوانية، وما يقال عن وسائلهم الشريرة في سفك الدماء!

ـ هذا صحيح…، لكنني أتساءل: لماذا لا يطبق الناس هذه النظام…، فلا يموت بعضهم جوعا ً، ولا يموت البعض الآخر بسبب التخمة، والإفراط في البذخ؟!

[24]  محنة

      للمرة الألف أخبرتك، تابع الذئب يقول لقرينته ذات اللون الرمادي، بصوت متوتر:

ـ أنا لم أقع في الفخ، ولا في شباك الصيادين…، فالصحراء مترامية الأطراف، وجحورها وحفرها ووديانها لا تحصى..

ـ أنا اعرف ذلك..، ولكن ماذا تريد ان تقول…؟

ـ لقد أصبحت، بعد تم القبض عليكم، وحيدا ً، فلم اعد احتمل فراقكم، والعيش بمعزل عنكم!

أجابت:

ـ أنا قلت للجميع: انك ستأتي طواعية! وتشاركنا حياتنا الجميلة!

ـ آ ……، حقا ً إنها جميلة، وباذخة، ولا خطر فيها…، ولكن هذا هو ـ تحديدا ً ـ يجعلني لا اصدق: ما الذي يخبأه الإنسان لنا…؟!

[25] ذكاء

   وخاطب السنجاب الأسد، بصوت شارد:

ـ طالما قلت لك، يا سيدي، عندما كنا في الغابة: يا للغرابة ان يولد مخلوق ذكي، مثلك، وسط حشد من الأغبياء…، فكنت تقول لي: لا تتعجل!

وسكت السنجاب، فخاطبه الأسد:

ـ ها أنت تعتقد جيدا ً لولا وجود هؤلاء الأغبياء، لكان لذكائي فائدة…! ولكن عليك ان تدرك،، في الوقت نفسه، ان الأغبياء لم يفلحوا بعمل يستحق الذكر، ولا ذكائي كان له معنى!

ـ من ….، أيها الأسد الذكي الذي ولد في حشد من الأغبياء، يلام على هذه النهاية؟

ـ لا احد! فالجميع شركاء ليس في حصول ما حصل، وليس في بلوغ هذه النهاية، بل في استحالة حصول خاتمة مختلفة، أو أخرى!

ـ لكن …، يا سيدي، هل البشر أذكى منا؟

ـ  في نهاية المطاف، لا احد ينتصر على احد، ففي الغابة، طالما بالت الثعالب علينا، عند الهرم، وهنا، في هذه الحديقة الجميلة، طالما سمعنا الناس يرددون: كلب أجرب على قيد الحياة، خير من أسد أسير!

[26] ديمقراطية/1

     خاطب الغزال النمر، بصوت لا يخلو من الشماتة:

ـ هذه هي النهاية …، النمر أسير بجوار الحمير، والثعالب، والثيران، والغزلان …، مكتفيا ًباستعادة أحلام العودة إلى الغابة!

ـ لا ….، أيها الغزال الأنيق، الناعم، الطري، فانا وجدت من يؤدي ذلك الدور بتوفير الطعام لي…، كما كان يحصل في الغابة، بل وأكثر …!

ـ ملعون، أيها النمر…، كم تبدو ذكيا ً، وشاطرا ً، وقد استأجرت من ينوب عنك في اقتراف الإثم!

ـ ربما …، لكن لولا الديمقراطية، التي سمحت لك بالكلام، أيها الغزال الظريف، لعرفت إنني مازالت ولدت مفترسا ً، حتى بكلماتي!

[27] ديمقراطية/2

    مكثت اللبوة تغازل الأسد، حتى بعد ولادتها، فخاطبها الأسد بصوت رقيق:

ـ هذه هي فوائد الذكاء المكتسب، وربما المستحدث…، ففي الغابة كنت مضطرا ً لافتراس الجراء، أولادك، كي لا تهجريني،  وتتوقفي عن ملاحقتي بغزلك، من اجل الإنجاب …، لكن ـ هنا ـ وبعد ان ابعدوا الجراء عنا، أولادي،  فلم يعد لديك مسوغا ً للحزن عليهم!

[28] ديمقراطية/3

   خاطب الدب باقي حيوانات الحديقة:

ـ هذه هي الديمقراطية…، التي كنا نحلم بها، فهنا يستطيع الأرنب، مثل الأسد، ومثل النمر، ومثل الذئب، ومثل النعامة، ومثل البلبل، ومثل الكلب … أن يرفع صوته، ويتحدث بطلاقة، ويقول كل ما يدور رأسه، من غير خوف، أو معاقبة، أو قتل…، بل ولا حتى من تأنيب الضمير!

أجابت زوجته بصوت خفيض:

ـ ليس عليك ان تشكر الديمقراطية، يا زوجي الغالي، بل الأقفاص التي عزلتنا!

  وراحت تتمتم مع نفسها:

ـ لا الحياة آمنة في الغابة، ولا سماع أنين الأسود، هنا، يتركنا نشعر بالهناء!

   عاد الدب إلى إكمال موعظته، وكان يقف فوق مرتفع يطل على الجميع:

ـ  فانا لا اعتقد، رغم شكوى البعض منكم، ان ديمقراطيتنا ستنتهي بكارثة…، كما آلت  حياتنا في البراري، والمستنقعات، والغابات له…، وحشرنا في هذا المكان!

 لكزته زوجته هامسة:

ـ أنا لم اطلب منك ان تفرط بالحديث عن المستقبل…، حد انك رحت تشتم أصلك، وتجهل انك انحدرت من عفن المستنقعات!

[29[ ديناصور

   مد الفار رأسه من ثقب في المشبك الحديدي، وخاطب الأسد:

ـ سيدي…، بعد ان تجولت في الحديقة، بحريتي، لم اعثر على وجود للديناصور …، معنا، فهل عجزوا عن إرغامه كي يكون معنا ليتمتع بالرفاهية، والسعادة، والعناية التي منحوها لنا…؟!

ـ يا نذل…، لو كنت اعرف من أين تأتي بهذه الأفكار، لرشحتك ان تكون قائدا ً لنا!

ـ لا اعتقد ان إجابتك حاذقة كي تتملص من الرد المطلوب..!

ـ يا ملعون …، أنت تعرف ان الديناصورات تعرضت للانقراض، قبل ملايين السنين، فهل باستطاعة البشر نبشر الماضي، للعثور على ديناصور..، أم اكتفوا بعرض هياكلها في المتاحف، ووضعها في أقفاص من زجاج!

ـ من أخبرك بذلك…؟

ـ المستقبل!

ـ إذا كنت، يا سيدي، تتمتع بمثل هذا الذكاء، فلماذا وقعت في الأسر، ولم تنج من كمائن الصيادين…؟

ـ فكرت طويلا ً في الأمر …، فأدركت، إن الإنسان لن يترك مكانا ً آمنا ً لنا …، لا في البرية، ولا في الغابات…، فقلت لنفسي: آن لك ان تستسلم بشرف!

[30] الفيل والنملة

    سأل الفيل نمله رآها في الطريق:

ـ أراك حزينة، شاردة الذهن، حيرى…؟

أجابت النملة بصوت خفيض:

ـ  خرجت ابحث عن طعام لصغاري…، فوجدتك تسد الدرب علي ّ.

ـ آ ….، آسف، تفضلي بالمرور .

   لكن الفيل لم يخبرها، بأنه، هو الآخر، خرج يبحث عن طعام لصغاره، وانه اكتشف كمينا ً كاد يودي بحياته، وانه لا يمتلك إلا أن يرجع إلى بيته من غير طعام، بدل أن يهلك برصاص الصيادين.!

[31] أمل

  همست الحمامة في آذن الصقر:

ـ انظر، أيها الصقر، الدب يرقص مع الثعلب، والأفعى تتسلق رقبة الزرافة، الغزال تلعب النرد مع الذئب، مرحة، والنمر يداعب صغار  الماعز، بمسرة، الضفادع غير مكترثة للسحالي، والتمساح يحاور الحمل…، وكأن أنيابها شذبت، وهذبت مخالبها أيضا ً!

ـ لا يا صديقتي الحمامة، لم تشذب الأنياب، ولم تهذب المخالب، إنما وجودهم داخل هذه الأقفاص هو من أغلق أفواههم!

ـ إلى الأبد؟

ـ أرجوك ِ، أيتها الحمامة الوديعة، لا تتكلمي مثل الناس، كي تخدعيني أو تخدعي نفسك…، أو تستغفليني أو تتغافلي، فأنت تعرفين ان الصيادين أسرونا، وسلبوا اغز ما نمتلك، وهو حريتنا، من اجل أهداف لا نعرف شيئا ً عنها.

ـ وهل سيدوم هذا إلى الأبد؟

ـ قلت لا تتكلمين كالبشر!

ـ لكن ليس لدينا إلا هذا الأمل الذي لا يجمعنا معهم، وقد رضخنا له جميعا ً!

ـ أنا مثلك لا امتلك إلا تأمل المشهد، من وراء الأقفاص، بعد ان لم تعد لدينا إلا هذه الحرية!

[32]الحفيد وجده

    نظر الشبل إلى جده، فرآه شارد الذهن، في قنوط، وغير راغب في الكلام، بعد ان انزوى في ركن القفص الفولاذي، بعيدا ً عن أنظار الزائرين…، أقترب منه، وسأله:

ـ أيها الأسد المعظم، كأنك في ورطة؟

    قال الجد الهرم بصوت واهن، مرتجف:

ـ  لقد أمضيت شبابي في البرية، وفي الغابات…، وأنا اختار فرائسي، إن كانت من الغزلان، أو الثيران، أو حتى لو كانت من جرابيع الصحراء، أو الماعز الجبلي، أو من الجاموس …، أما الآن فانا لم اعد أميز بين لحم الشاة عن لحم الحمار…، ولم اعد افرق بين أوقات الليل عن أوقات النهار…، فانا مقيد بهذه المسافة داخل هذا القفص، وأصبحت بلا عمل، عدا تأمل من ينظر لنا بسخرية، وشماتة، وتندر…، وكأن البشر يقولون لنا: مضى زمنكم، وولى مجدكم إلى الأبد! فلم يعد لوجودي قيمة، ولم تعد لكلماتي معنى…، فانا لا استطيع الهرب إلى البرية، وفي الوقت نفسه، يا حفيدي العزيز، علي ّ ان أؤدي دوري في السيرك، مثل القرود، والدببة، ومثل القطط والنمور والكلاب…، فهل يسرك هذا، وقد أصبحت هزأة، وفائضا ً حتى مع نفسي؟

ـ ولكن، يا جدي، الم تستطع البقاء في الغابة، والهرب من الصيادين…؟

ـ وهل تركوا، هؤلاء الأشرار، لأنفسهم رغبات سوى الاستيلاء على السماء، بعد الاستيلاء على الغابات، والبحار، والبراري…!

ثم ـ بعد صمت ـ أضاف:

ـ أنت تعرف ان أجدادك مازالوا أحرارا ً، وطلقاء، في الغابات وفي البراري…، ولكن …، كلما فكرت بين تلك الحرية، وبين القيود هنا، أدرك ان النهايات شبيهة بمقدماتها…، فلا الحرية  هناك حرية، ولا القيد هنا قيدا ً!

ـ أرجوك، يا جدي الحكيم، هذا كلام صعب …، فانا ولدت في هذه الحديقة، ولا اعرف شيئا ً عن الحرية، ولا عن القيود!

ـ اقترب مني.

  اقترب الشبل منه، قال الجد:

ـ أنت مثل معظم الناس الذين ولدوا في المدينة…، فهم أحرار بالهيمنة على قيودهم، وهم عبيد في ممارسة حريتهم! أما نحن فليس لدينا إلا ان نمضي حياتنا لتسلية الآخرين، وإشباع فضولهم، وربما دهشتهم أحيانا ً! ولهذا تراني، مثل بعض الناس، احلم كأنني أعيش في مكان آخر، بعيدا ً عن هذه الأقفاص!

  فسأل الحفيد جده الأسد بفضول:

ـ أتحلم بالخلود؟

ـ هذه هي أوهام البشر….، يتسلون بنا، بعد ان استولوا على أرضنا، وغاباتنا، وأسرونا، وقيدونا داخل هذا المكان، ثم فرضوا علينا شروطهم: متى نستيقظ، ومتى ننام، متى نتغذى، ومتى نتناسل…،وأخيرا ً دربونا على الرقص أمام الناس …، كأنهم هذبوا مخالبنا، وشذبوا أنيابنا، وجعلونا مثل أبناء المدن…، احدنا يغوي الآخر بالكلمات!

ـ الآن فهم لماذا اعتزلت، ولماذا انزويت في هذا الركن بعيدا ً عن الأنظار!

  رد الجد:

ـ لا …، لست أنا هو من انزوى، وترك الدنيا، يا حفيدي، بل هم من استبدل مصائرنا، بمصائر أخرى، وحولونا إلى عبيد من اجل نزواتهم، ورغباتهم، وهذا كل ما في الأمر!

   بعد صمت، سأل الشبل جده الأسد:

ـ وهؤلاء الأشرار، من يتحكم بمصائرهم؟

ـ آ ………، هذا هو السؤال الذي لا نجد إجابة عليه، إلا بعد الموت!

[33] محنة

 ـ غريب يا أمي…، ابن الغزال يشبه أمه، وابن الفيل لا يشبه ابن الأسد، السمكة ليس لها جناح، والطائر لا يغوص في الماء…، لكن أنا ولدت مثلك، يا ماما، لا أجيد الطيران، ولا الجري، ولا العوم، ولا حتى الغطس في ماء البركة …

ـ اسكت يا حماري الصغير …، فانا طالما حلمت لو كان أبي أسدا ً، ولو كانت أمي غزالة، أبي من النمور وأمي من الذئاب …، لكن ما جدوى الحلم، ومصائر الجميع، في نهاية المطاف، تامة النهايات!

ـ لم افهم قصدك يا أماه!

ـ لأنك حمار!

ـ لا تشتميني، فأنا لم اختر ان أولد حمارا ً…،  كما لم اقدر على استبدال صنفي بأي صنف آخر، فانا لست مسؤولا ً عن ذلك!

 فسألته بصوت مرتبك:

ـ أتحلم أن تكون دبا ً، أم تمساحا ً، أم فيلا ً …؟

ـ لا …..، تلك كائنات شرسة، مؤذية، لها أنياب حادة ولها مخالب توجع….، لكنني طالما حلمت بالطيران في الأعالي!

ـ وما ان تستيقظ، يا ولدي، حتى تكتشف انك، مثلي، ولدت لتحمل أوزار الناس، وأحيانا ً، تصبح وليمة للضواري!

[34] ثمن

   استدعاه المدير، ذات صباح، فراوده شعور ما بوجود مكيدة، فقال الثعلب مع  نفسه، انه يتوجب ألا يبدو ذكيا ً بإفراط، فيتم استغلاله ، وان لا يتظاهر بالبلادة فينكشف سره. قال المدير مرحبا ً:

ـ تفضل بالجلوس، أيها الصديق العزيز!

   وانتظر الثعلب ما سيقوله المدير، بعد ان لوح بملفات كانت مخبأة بجواره في الخزانة الحديدية:

ـ فهي تتضمن شكاوى ضدك …،فثمة من أكد انك سطوت على بيت الشيخ ك، وافترست ديكه، ودجاجاته، كما سطوت على بيت الأرملة ن…، ومنزل الحاج ص…، ولم ينج منك حتى بيت الأيتام، وبيوت العبادة، والمشفى…

     رفع الثعلب ذيله قليلا ً، ومد رأسه إلى الأمام، مبتسما ً:

ـ وأنا اعتقد ان هناك ملفات أخرى…، ضدي، ولكن، اخبرني أيها السيد المدير، ما المطلوب مني ان اعمله؟

فأجاب المدير باستغراب، وتندر:

ـ ومن قال انك مكلف بتنفيذ أوامر جديدة!

ـ فلماذا تم استدعائي وأنا مركون في زاويتي المنسية، في أطراف الحديقة؟

ـ كي نحررك، لأننا نسعى لحصول على أمر إطلاق سراحك!

    لم يستطع الثعلب تجنب الضحك، إنما ضبط نفسه، وخفض من صوته، متسائلا ً:

ـ ومن قال إنني سعيت للعودة إلى البساتين، هل كي تلاحقني الكلاب، بحجة إنني من الخارجين على القانون…؟

ـ للمرة الأولى، في حياتي، أكاد لا اصدق انك أذكى مما كانوا يقولون عنك….

فتساءل الثعلب:

ـ أيها المدير اشعر بالآسف انك مازالت منشغلا ً بالإشاعات، وبتقارير المخبرين، وتصدقها، بعد ان أسرتم حيوانات الغابات، والبراري، والبحار…، فأرجوك اخبرني بماذا تريد ..؟

ـ نعم لدي ّ..

صمت المدير لحظات، وقال متابعا ً:

ـ إن رغبت بالحصول على الحرية، فعليك ان تتعاون معنا!

ـ غريب! انك تستدرجني إلى الخيانة!

ـ لا، بل للتعاون معنا، من اجل إنقاذ باقي أفراد عشيرتك واهلك من الثعالب…، فبدل ان تؤذيها الكلاب، وبدل ان تهلك جوعا ً، ان تدعوها للسكن معك في هذه الحديقة، بعد ان خصصنا لكم مساحة كافية من الأرض!

ـ آ ……..، أيها المدير الشاطر، لكن لو أطلقت سراحي فما الذي سيضمن عودتي إلى العبودية؟

ـ أنت اذكي من ان تسأل مثل هذا السؤال…، ليس لأنك ستكون زعيما ً فحسب، بل ستضمن مستقبل أحفادك أيضا ً!

 همس الثعلب بصوت خفيض:

ـ اخبرني، أيها المدير الشاطر: عرش من دام، كي يدوم عرشي؟

ورفع ذيله، مبتسما ً، ووقف عند الباب:

ـ مع إنني اقدر مدى الضرر الذي سيلحق بي، والأذى، ومع معرفتي التامة بأنكم لن تدعوني حيا ً، إلا ان تعاوني معكم سيكون اشد مرارة، واكبر إساءة، تلحق ليس بنا، نحن الثعالب، بل بسمعة هذه الحديقة أيها المدير الشاطر، ومستقبلها!

[35] إضراب

ـ آن لنا ان نعلن الإضراب العام عن الطعام ..

   كذلك تابع طائر النورس خطابه وهو يحرض باقي الطيور:

ـ فالعودة إلى ضفاف الأنهار، والى الحقول الشاسعة، والى البراري الفسيحة…، سيخلصنا من قيود هذا السجن!

   فسأله البلبل:

ـ ومن يضمن إنهم لن يتركونا نموت جوعا ً، أو إنهم سيبيعوننا في الأسواق، أو يجرون علينا تجاربهم في المختبرات…، أو يصنعون منا وجبات طعام للحيوانات المفترسة؟

أجاب النورس:

ـ حتى الحكماء الذين أرسلتهم الآلهة لهداية البشر، أما يقتلون، وأما يشردون، وأما يسجنون…، فهل ترغب بثمن بخس للحرية؟!

ـ ملعون ….، أيها النورس، أصبحت تتحدث مثل الناس، الكل يخدع الكل باسم الحرية، وبشعار التحرير، ولا احد فكر بملايين الضحايا وهم يدفعون الثمن، من اجل غايات لا نعرف شيئا ً عنها!

ـ إذا ً عليك أن تدفع ثمن عبوديتك، وحدك، ولا تحبط من هممنا في إعلان الإضراب! فإذا كنا خسرنا ماضينا، وحاضرنا، فنحن لا نريد خسارة مستقبلنا!

ـ جميل، ولكن قل لي أين تدربت على هذا الكلام، وأنت تعرف إن البرية لم تعد آمنة، بعد أن استولى عليها البشر؟

ـ كأنك تقول ما أحلى مذاق الموت من غير حرية، في سجننا، هنا، ولا تريد أن تقول: ما أكرم من يكون فداء ً لها!

[36]  الحرب

    همست البقرة السمينة في إذن الثور، شريكها في الزريبة، عند تناول وجبة طرية من الأعشاب:

ـ سمعت، أيها العزيز، إن الحرب الكونية الثالثة ستندلع…، بعد التمهيد لها، طوال السنوات الماضية!

قال الثور بلا مبالاة:

ـ يا سيدتي البقرة البدينة، وهل استطيع منع وقوعها؟

ـ لا!

ـ وهل ثمة جدوى من الاعتراض، أو التذمر، أو الأسى؟

ـ لا!

ـ وهل لو مت من اجل عدم وقوعها معنى ما في الأمر؟

ـ لا!

ـ إذا ً….، أيتها البقرة العزيزة، دعينا نحيا، كما قدر لنا، وكما هو مقدر للغزلان، والأسود، والفيلة، والحمير، والضفادع، وللآخرين شركاؤنا البشر!

ـ سيدي الثور، كلماتك تؤكد إن الحرب واقعة لا محالة!

فقتال متندرا ً:

ـ بل أنا أراها قد انتهت أيضا ً!

ـ كيف؟

ـ إيمانك بوقوعها يجعلها واقعة لا محالة، والعكس صحيح تماما ً!

ـ اخبرني يا ثوري الغالي، ما الصواب، فانا فكري اضطرب كثيرا ً؟

ـ أن تشاطريني التفكير بالعثور على حل مناسب، لا يقول باستحالة وقوعها، من ناحية، والعمل كأنها وقعت ووضعت أوزارها، من ناحية ثانية!

ثم راح يضحك، فسألته:

ـ ما المضحك في الأمر؟

ـ سأفترض إننا نجونا منها، إن وقعت، ولكن من يضمن سلامتنا، إن لم تقع، إنهم سيطلقون سراحنا، وينتهي زمن الذبح، بعد أن أصبح شركاؤنا يرفعون شعار اذبح قبل أن يصلك الدور!

[37] موت ذئب

   عندما راوده الشعور بان أيامه في الحديقة قد بدأت بالنفاد، جمعّ الذئب العجوز قواه، استعدادا ً للبوح بكلماته الأخيرة، فلعلها ـ دار بباله ـ ان تكون مفيدة لأفراد أسرته، ومستقبلهم، لولا انه وجد الأمر برمته غدا قبض ريح، فدار بباله أيضا، ان السنوات التي أمضاها في البرية، وهو يكافح من اجل البقاء على قيد الحياة، لا تقارن بما حصل عليه بعد الوقوع في الأسر، والامتيازات التي حصل عليها، وتعرفه ـ عن قرب ـ على ما لا يحصى من الفصائل والأنواع المختلفة، وهي تنعم بالأمن والرخاء والرفاهية…، فاعترف لنفسه، انه لا معنى للأرض التي كان نفوذه قد فرض هيمنته عليها، ولا لغياب السلطة في الحديقة، له معنى إزاء ما كانت تؤول له النهايات في الصحارى، حتى تندر من هؤلاء الذين كانوا يتصورون الأمور بوصفها راسخة وغير قابلة للدحض. وها هو وجد نفسه يتخلى عن فكرة الاعتراف وإسداء المواعظ ما دامت حياته، في الماضي، و خلال سنوات الأسر، مضت كأنها لم تحدث إلا وكأنها ومضات تخللتها بقع رمادية بلغت ذروتها عندما اعترف لشريكته ـ في البرية وفي الحياة وراء القضبان ـ انه لا يمتلك إلا أن يجد زاوية يضع رأسه فيها وينام إلى الأبد: فانا غير مسؤول أو قلق لو حدث أن بعثوني من الموت، بعد ذلك!

[38] الحرب

ـ لن تفلت، أيها الجربوع، فالحديقة محاطة بالأسلاك، ومحصنة بالسواتر، وفي الشارع مازالت المواجهات محتدمة بين الفصائل المختلفة…، ثم لماذا تفكر بالهرب؟

ـ سنموت جوعا ً، هنا، بعد ان هرب الجميع، وتركونا نواجه قدرنا!

ـ آ …، اقدر رغبتك، لكن بدل ان تسحقك الحرب، وأنت لا تعرف من معك، وأنت لا تعرف مع من أنت، فتهلك في الحالات كلها.

ـ ها، ها، كأنك تقول إنهم يعرفون لماذا يذبح احدهم الآخر.

ـ لا، لم اقل ذلك، بل قلت: عليك ان تمكث في مكانك، وتحتمي بجحرك، مثلي، حتى تنتهي هذه الحرب اللعينة.

ـ تقصد …، حتى نموت!

ـ يا صديقي، وهل كنا ولدنا كي نعيش إلى الأبد؟

ـ إذا ً….، دعني أعود إلى البرية، فلعلي أجد من احتمي به، بعد ان أصبحت حديقتنا مقبرة! فالواحد بالألف، للنجاة، لا يقارن بـ999 من حتمية الموت قبل نهاية هذه الحرب!

[39] أمل

ـ يا صديقي الدب، أنا سمعت المدير يطالب السلطات بحقوقنا.

ـ أنا سمعت أيضا ً، ومنذ سنوات، هذا النداء!

ـ المهم، هناك من يطالب ..، وهناك من يعد بتلبية الطلب، فهناك الأمل، فما الجدوى من البكاء على غابة لا وجود لها؟

ـ آ ……، سنوات طويلة أمضيناها بانتظار العمل في السيرك، في هذه المدينة، فأضعنا الغابة، وأضاعتنا المدينة، لتطلب مني ألا أولول أو أنوح على خاتمة أعدت لنا حتى قبل ان نولد في هذه الحياة!

[40] عواء

ـ أيها الذئب….، لماذا لم تعد تعوي، كما كنت تفعل في البرية؟

ـ لأنك، يا عزيزي، لم تعد تسمع!

ـ أكنت تعوي كي أسمعك؟

ـ لا! بل كي اعرف لماذا أغلقت فمك إلى الأبد!

ـ أنا لم أغلقه…، لكنك لم تعد تصغي إلى صمتي!

ـ ها ……، لا خاسر ولا أكثر خسارة، فانا وأنت شركاء في اللعبة.

ـ أية لعبة؟

ـ التي كنا نظن إننا نلعبها؛ اللعبة التي لا وجود لها، والتي علينا ان نكملها  حتى النهاية!

[41] حرية

    قال الأرنب للحمار، الذي انتخب زعيما ً في الاستفتاء الأخير:

ـ للأسف، مكثت تعاملني بوصفي أرنبا ً…، والحقيقة، أنا ولدت حمارا ً، ثم أصبحت حملا ً، وبقرة، وبعدها نبتت لي قرون، فصرت ثورا ً…، ثم استيقظت أخيرا ً كي أجد نفسي أصبحت أرنبا ً…، فانا اجهل متى تفترسني الذئاب، أو الكلاب، أو حتى بنات أوى…، تخيل!

قال الزعيم:

ـ لولا الديمقراطية…، أكنت تستطيع ان تتكلم بحرية، ولا احد يقطع رأسك؟

ـ لا ! لا أبدا ً…، فلولا الديمقراطية لكنت اجهل إلى الأبد كم مرة مت، وكم مرة سأولد كي أموت!

[42] ومضات

    قال الأرنب لجاره:

ـ الصيادون…، تخيّل، لم يتركونا أبدا ً …، في السابق كانوا يقتلوننا، من اجل فرائنا، وجلودنا، ولحمونا…، أما الآن، فصاروا يدرسوننا، ويتباهون بقدراتهم على إقامة عصر ما بعد الصيد!

ـ تقصد …، إنهم مازالوا يحلمون ..

ـ نعم، ويحلمون ابعد من الأحلام،  فإذا كنا اليوم لا نمتلك إلا مساحة ضيقة من الأرض، في هذه الحديقة…، فان أحلامهم بالاستيلاء على الفضاءات مازالت قائمة!

فأجاب الآخر بحزن عميق:

ـ في المدى البعيد، يا صديقي، الكل أثير، وومضات تتخللها بقع رمادية، وإلا لدامت جمهورية النمل، أو إمبراطورية النوارس، أو دولة العصافير!

[43] مستقبل

     عندما شاهد الأسد الفئران تتنزه، وتلهو، طليقة فوق العشب، لم يخف حشرجة كادت تمنعه من التنفس، فقال لمن كان يقف بجواره، خلف القضبان:

ـ في الأزمنة القديمة، كانوا يلعبون، ويرقصون، لكن برعايتنا! أما الآن، فقد أصبحوا لا يكترثون حتى لوجودنا!

قال الأخر بلا مبالاة:

ـ إنها ملهاة بدأت في البراري، والغابات، والمستنقعات، والوديان…،ولا اعتقد إنها ستدوم، إلى الأبد، في هذه الحديقة، لا لهم، ولا لنا…!

ـ حسمتها، هكذا …، ببساطة؟

ـ لا، المستقبل هو من حسمها، شرط ان لا تنخدع بالأوهام، والتمويهات، والأكاذيب!

[44] التمساح والظبية

ـ قتلوا الجميع، جدي وجدتي، الأب والأم، ولم يبق، من الأولاد والبنات، إلا أنا …، فقد أصابوني بجرح بالغ، فأسروني…، وها هم يشرفون على علاجي، وتخفيف آلامي…

  وأضاف التمساح يخاطب الظبية الواقفة بجواره:

ـ بل سمعت إنهم سيأتون برفيقة لي للتخفيف من عزلتي…!

ضحكت الظبية:

ـ لكن ليس للانتقام، والعودة إلى عاداتكم القديمة.

ـ انتقم من من…، هل من الذين يشرفون على صحتي، وغذائي، ورفاهيتي؟

 لم تقل الظبية له: اسكت، بل قالت:

ـ حتى انك لم تعد تتذكر ماذا فعلتم بنا؟

   فأجاب التمساح بمرح:

ـ وهل ابقوا لنا ذاكرة…، يا أيتها الظبية الجميلة!

[45] حلم

     قال النمر للدب، وهما يستعدان لأداء رقصة البلابل، أمام آلاف المشاهدين، وأمام عدسات المصورين:

ـ هناك، في البرية، كنا نتدرب على الجري، والمباهاة بحدة أنيابنا، وقوة مخالبنا…، عندما كان شعارنا: اقض على عدوك قبل ان يقض عليك، فمن لم يكن معنا، فلا يستحق إلا السحق!

فقال النمر:

ـ دعنا نؤدي أدوارنا، فنقوم بتسلية الناس، بأعمالنا البهلوانية، وفي الوقت نفسه، نتسلى بحضورهم هذا العجيب…، فأنت لا تعرف الآن من يتسلى بالآخر، أو عليه …، على خلاف أزمنتنا الأولى: لا تعرف من يقتل من، عندما ساد قانون: حرب الجميع ضد الجميع! وشريعة: افترس جارك قبل ان يفترسك!

   ضحك الدب:

ـ كأنك لا تريد ان تتطرق إلى الحروب المشتعلة بين الناس اليوم…؟

ـ آه يا صديقي، في الماضي كنا نقول: أنياب من اشد فتكا ً، الأسد أم التمساح أم النمر، وكنا نقول: مخالب من أقسى أهي مخالب الصقر أم قبضات فم الحوت….، أما الآن فلا أنت ولا أنا أدى رقصة البلابل إلا ونحن مازلنا نتدرب على القفز قليلا ً فوق الأرض!

ـ آ …، هذا صحيح، للأسف.

قال الدب كمن يحدث نفسه:

ـ  آ …، طالما حلمت بالطيران.

فقال النمر بصوت وقور:

ـ عندما لا تستطيع التحليق عاليا ً، أيها الدب، فما عليك ان تستيقظ من الحلم!

[46] حرية

ـ أخبرني، يا سيدي، هل خُدعنا..؟

    سأل الغزال الذئب، وهو يراه وحيدا ً يقبع خلف القضبان:

ـ لا! لا احد خدع احد!

فقال الغزال:

ـ ها أنا أتجول طليقا ً في هذه الحديقة، حتى لم اعد أشم رائحة الخوف، ولا البرد، ولا الموت…، ولا حتى بالذنب!

    رفع الذئب رأسه قليلا ً وهو يتأمل الغزال، ليسأله:

ـ لا تشعر حتى بالذنب؟

ـ نعم، لكن ليس لأنك أصبحت أسيرا ً، وليس لأننا طلقاء…، بل لأن حياتنا أصبحت مثل الحلم، لا تعرف متى بدأت ومتى ستنتهي!

ـ وما الخطأ في الأمر..؟

ـ ان نستيقظ، في ذات يوم، ونراك طليقا ً، ليتم اصطيادنا ووضعنا خلف هذه القضبان!

ـ أتعرف أيها الغزال بماذا  أفكر…؟

ـ نعم!

ـ بماذا؟

ـ  ان لا يمتد بك زمن هذا الكابوس طويلا ً!

ـ لا.

ـ بماذا كنت تفكر إذا ً…؟

ـ لم أكن أفكر، ولم أكن احلم أيضا ً…، بل كنت أتساءل: كيف روّضت الكلاب وصارت تحميكم منا، وهي لا تكف عن التلويح بمعاقبتنا!

ـ الكلاب ….، أتراها ـ هي الأخرى ـ خُدعت ..؟

ـ المشكلة لا احد يريد الاعتراف بذلك…، ولا الذين أوقعونا في كمائنهم…، ولا حتى الذين يشرفون على حجزنا، وترويضنا، والتسلية بنا، بل في الذين يعتقدون إنهم وحدهم على صواب.

فقال الغزال:

ـ لا تكترث…، الجميع، سجناء هنا، وأكثرهم عبودية، كما ترى، هم الأحرار!

ـ لم افهم؟

ـ أنت ترغب بالعودة إلى البرية…، وهذا وحده يمدك بالصبر، وبالانتظار…، أما أنا، بعد ان منحت لي هذه الحرية، فماذا افعل بها؟

[47] ادوار

ـ هل تتخيل، يا صديقي الفيل، كيف أصبحت ترقص، بمهارة، وخفة، والناس يصفقون لك؟

ـ وأنت، يا صديقي النمر، تحظى بالإعجاب نفسه، فما ارشق جسدك، وهو يجذب أنظارهم!

قال النمر:

ـ بل حتى القطط، والقردة، والكلاب البرية، ومعنا هؤلاء البنات، والفتيان، يلعبون بمهارة فوق الحبال، ويجتازون الأقواس النارية!

صمت الفيل برهة، وأجاب متمتا ً:

ـ هذا مثال جيد للانتقال من الغابة إلى السيرك…، بدل حياتنا التي أمضيناها احدنا يفترس الآخر، ويهرب منه…، فها هنا أصبحنا كائنات ظريفة!

لم يجب النمر، فسأله الفيل:

ـ هل عدت تحلم بالعودة إلى الغابة، تحلم بالبرد، والبحث عن فريسة، وبالخوف من الوقوع في كمائن الصيادين، أو ان تمزق باقي الضواري جسدك الجميل؟

لم يجب النمر أيضا ً، فتابع الفيل:

ـ أم مازلت تفكر بزحف الإنسان على أراضينا، واحتلالها، وأسرنا، وتدمير أوكارنا؟

ـ لا! أنا لا أفكر في ما مضى، ولكنني لم اعد نمرا ً، كما كنت، وهذا كل ما في الأمر!

فقال الفيل حالا ً:

ـ ولا الإنسان مكث إنسانا ً أيضا ً!

ـ آ …، ماذا قلت، فكلماتك بددت حزني …؟

ـ لم اقل شيئا ً، بل ادعوك، أيها النمر الجميل، ان تثير إعجابي، وإعجاب هذه الملايين وهي تراقب وثباتك السحرية!

ـ شكرا ً، أيها الفيل الحكيم، وأنا انتظر ان أراك تحلق، حتى لو قليلا ً بعيدا ً عن الأرض!

[48] غياب

    بعينين شاردتين، راقب الذئب كيف سحبوا جسدها من القفص، ووضعوه في العربة، ثم أوصدوا الباب الحديدي عليه. لم يقدر على فتح فمه، ولا حتى ان ينطق بكلمة وداع. كل ما فعله انه حشر جسده في زاوية مظلمة، وترك رأسه يستقر فوق التراب. فانا الآن لا أتذكر إلا كيف سقطنا في الكمين، الواحد بعد الآخر، أولا جدي ومن ثم جدتي، وبعد ذلك سقطت أمي الحبيبة مضرجة بدمها، والدي وحده توارى، وأشقائي قتلوا…، أنا هو من وقع في الشباك، ونقل ليوضع في القفص، أنا الوحيد الذي نجا، بعد هرب ولدي، من الموت. وأنت؟

ـ مثلك….

تذكرها تقول:

ـ رأيت المشهد ذاته كاملا ً!

    سنوات لا يتذكر عددها، خلت، وأعقبتها سنوات.

    سمع صوت الباب الحديدي يئز، أتراها تتألم، دار بباله، وهو يشاهد عمال الحديقة يدفعون بجسد جديد إلى داخل القفص. لم يرفع رأسه، ولا هي اقتربت.

     سنوات أخرى مضت، تلتها سنوات، عندما رآها تجرجر جسدها وتذهب إلى المكان ذاته الذي قبع فيه، رآها تحدق في عينيه، من غير صوت، كأنها كانت تبحث عن كلمة، ولم تجدها، فتركت فمها منغلقا ً.

    عندما همّ بالنهوض، أحس انه أصبح جزءا ً من الأرض، فراها تقترب منه:

ـ اعرف …!

    ذلك لأنه قرأ في عينيها قصة تماثل القصة التي حدثت، وأصبحت من الماضي. فأومأ لها ان تجلس بمحاذاته، ريثما لا تجد شيئا ً تنشغل به، عداه، وريثما لا يجد سواها، كي ينشغل بها، سواها، قبل أن تكون ساعة الغياب قد حانت. لأنه لا احد يقدر ان يؤكد، إن كانت المصادفات وحدها لها المغزى ذاته، الذي لا يمكن دحضه!

[49] ذكاء

     قال الثعلب لشريكته القابعة معه في القفص:

ـ غريب أمر الناس، كلما ازدادوا قوة، وثراء ً، ومكرا ً، وذكاء ً، ازدادوا قسوة، وخساسة، وجورا ً!

ضحكت بفم نصف مفتوح:

ـ لسنا اقل قسوة، ومكرا ً، وجورا ً منهم!

ـ آ ….، يا ملعونة، حتى اقل الكائنات ذكاء ً، ومكرا ً، وبطشا ً…، لديها ما تتناهى به وتفتخر!

[50] كمين

    سأل الأسد الحمار، من خلف قضبان القفص:

ـ وأنت …، أيها الحمار، كيف وقعت في الأسر؟

ـ لا …، أنا لم اشترك في الحرب، ولم أتورط في الدخول فيها.

فقال الأسد:

ـ ولا أنا.

فسأل الحمار الأسد:

ـ وأنت كيف وقعت في الأسر، كيف اصطادوك، لتشاركني هذا المصير؟

ـ  أنا كنت أتتبع أصداء خطاك، وأتتبع رائحتك…، وأنت تتنزه في الغابة…، حتى أدركت، بعد فوات الأوان، إنهم جعلوا منك كمينا ً لي! فاصطادوني!

   ضحك الحمار، وقال للأسد:

ـ القضية مازالت قائمة …، فبدل أن تفترسني في الغابة، سيقدمون لحمي وليمة لك، هنا، في هذه الحديقة!

ـ مسكين…، أيها الحمار، أمضيت حياتك كلها تحمل أثقالهم، وتجر عرباتهم، وتحرث أرضهم، ثم بعد ذلك، يصنعون منك وليم لنا، أو يتركوك تموت كما تموت الكلاب السائبة!

عاد الحمار إلى الضحك بصوت أعلى، وبلا مبالاة:

ـ وتضحك، أيها الحمار، أيضا ً؟

ـ هذا هو الفارق بيننا، أيها الأسد العظيم، أنا أدركت الحكاية قبل أن تبدأ، لكنك لم تدركها حتى بعد أن تكون قد انتهت!

 

القسم الثاني

[51] خلود

    سأل ابن أوى الذئب، وهو يتأمل الأفعى غارقة في الحزن، خلف القضبان:

ـ هل حقا ً هذه هي التي سرقت وردة الخلود…؟

ضحك الذئب:

ـ كنت أظن انك أذكى مما يقال..

ـ هكذا قرأنا، وسمعنا، أيها الذئب الحكيم.

ـ في الأساطير، وفي الحكايات، وفي الكتب..؟

صمت ابن أوى لحظة متابعا ً يسأله:

ـ إذا كنت تزعم انك أكثر ذكاء ً مما أنت عليه، ومما يقال عنك، فهل لديك قدرة على تفنيد هذه الأساطير، وهذه الحكايات، وهذه الكتب…؟

ـ آ …..، اثبت أنت العكس، كي أخبرك بالجواب!

ـ ها أنت، مثل الأفعى، تظن انك سرقت وردة الخلود أيضا ً!

    بعد صمت، سأل الذئب ابن أوى:

ـ لو كانت الأفعى قد حصلت على الخلود، كما جاء في أساطير الأولين وكتبهم، فما الذي دعاها للبقاء وراء هذه الأصفاد؟

ـ كنت أظن انك اذكي من أن تسأل هذا السؤال!

وأضاف:

ـ والآن عليك أن تسأل القفص: أأنت طليق؟

ـ تقصد أن اسأل من صنع هذه الأقفاص، وهذه القيود؟

ـ لا…، فالإنسان عرف الإجابة، منذ زمان بعيد، لكن اسأل هذا المعدن الصلب…، كم سيدوم؟

[52] سقراط

ـ طالما سألت نفسي…

ودار بخلد البلبل مخاطبا ً الثعلب:

ـ ماذا لو لم يتجرع سقراط كأس السم؟

   لم يجب الثعلب. فقال البلبل:

ـ لمكث، مثلك، أسير هذه القضبان.

   قال الثعلب بصوت غاضب:

ـ آ …..، لو لم تحتم بقفصك، بعيدا ً عني، لعرفت ماذا افعل؟

ـ أيها الثعلب الشاطر، أولا ً عليك أن تغادر قفصك، وأنت تحلم أن تنال مني، وثانيا ً، فان سقراط ارتوى بالسم كي لا يشتغل بصناعة القيود! لقد اخذ المفتاح معه وتركنا بانتظار أن يبلغ السم ذروته، ونموت!

[53] سؤال

    بعد أن أصبح وحيدا ً، في أرذل العمر، سأل الأسد باب القفص المصنوع من الفولاذ:

ـ مع إنني اعرف انك جماد، لا تسمع ولا تنطق، لكنني اقدر كم تتعذب في صمتك، فاخبرني من منا أكثر عزلة؟

[54] الثور وأنثى الفيل

ـ بالأمس رأيت الحصان يهمس في آذن الأتان وهو يسفدها: عساك أن تلدي مهرا ً عداء ً ، مثلي، فلا تجعليه كالحمار الذي ينوء بحمل الأثقال!*

وأضاف الثور يخاطب أنثى الفيل، مبتسما ً:

ـ هل يروق لك ان نجرب؟

 ضحكت أنثى الفيل:

ـ حتى لو أنجبنا أسدا ً، فهل باستطاعتنا أن ننجبه خارج حدود أسوار هذه الحديقة. أرجوك، أيها الثور الجميل، أغلق فمك، واغرب عن وجهي، فقد اججت في ّ الرغبات التي حسبتها وضيعة!

* من الأمثال السومرية.

 

 

[55] رصاصة

    سأل الغزال الرصاصة التي استقرت في ساقها، ومنعتها من الهرب:

ـ ماذا فعلت لك ِ، حتى كدت أموت بسببك؟

   قالت الرصاصة:

ـ وأنا ما هو ذنبي، كي أجد نفسي في جسد غريب!

[56] إثم

  قال البغل لرفيقه في الحقل:

ـ أنا لن ارتكب الإثم ذاته الذي ارتكبه والدي الحصان، ولا التي ارتكبته أمي الأتون!

فأجاب الآخر:

ـ مادمنا لا نمتلك قدرة على منعهم من ارتكاب هذا الإثم…، فما الجدوى من عدم قدرتنا على ارتكابه، وما الفائدة من براءتنا، في نهاية المطاف؟

[57]  عار

    اقتربت الحمامة من الهدهد، وسألته:

ـ يقولون انك عملت مخبرا ً سريا ً، ألا تشعر بالخجل؟

ـ وماذا ستفعلين؟

ـ سأوشي بك، لدي المدير!

ـ وماذا ستكسبين؟

ـ اخبرني ماذا كسبت أنت؟

ـ العار!

[58] خسارة

   بعد أن اضرب العصور عن تناول طعامه، اجتمعت الطيور، لتثنيه عن قراره، وهو يوشك على الهلاك. فسأله اللقلق:

ـ ما الذي تريد ان تقوله لنا….؟

    رفع العصفور رأسه بصعوبة، متمتما ً:

ـ كنت استطيع ان ارمي بجسدي في فم الثعلب، أو في فم أي حيوان مفترس، أو اغطس في الماء، أو حتى اسلم مصيري إلى أي قط مشرد…، وأموت، لكنني قررت الامتناع عن تناول الطعام، وهو وفير، كي أبرهن لكم، إنني لست عاطفيا ً، وإنني صاحب إرادة!

   أجاب اللقلق باستغراب:

ـ لمن تبرهن ..؟

ـ لنفسي..!

ـ ومن تكون أنت أيها العصفور الصغير؟

ـ هذا هو الفارق بيننا، فرغم حجمك الكبير أيها اللقلق، لكن قراراتك مازالت صغيرة!

ـ ولكن ماذا لو اضربنا جميعا ً عن الطعام ومتنا…، ماذا سنكسب؟

ـ آنذاك لن نخسر شيئا ً!

ـ عصفور صغير يعلم الآخرين كراهية الحياة، وبغضها؟

ـ لا…، أنا اعلم الآخرين احترام الحياة عندما تكون جديرة بذلك!

[59] شقاء

   سألت الضفدعة الصقر:

ـ لماذا، هؤلاء البشر، في كل مكان، ومنذ أول الزمن، يحلمون بالعدالة، ولا احد يعمل على تحقيقها؟!

   أجاب الصقر:

ـ مع انك ِ تعرفين الإجابة….، لكنني أقول: ماذا يعمل القاتل إن لم يجد من يقتله..، ماذا يعمل الطبيب بغياب المرضى، ماذا يعمل الجلاد من غير ضحية، وماذا يعمل السجان عندما لا يوجد لصوص، وفاسدين، وآثمين، ماذا تعمل النار إن لم تجد حطبا ً، ماذا يفعل الدجال إن لم يجد أحدا ً يصدقه، ماذا يعمل الكاتب لو لم تكن هناك كلمات، ماذا يفعل الأعمى لو لم يجد من يمشي خلفه، وماذا يفعل الأعرج إن لم يجد من يعلمهم الرقص، ماذا تفعل جهنم لو ذهب الجميع إلى الفردوس، ماذا يفعل الحكيم لو سمع الناس صوت الله، ماذا يفعل المرابي لو كانت أرزاق الناس متساوية، والقاضي ماذا يعمل لو ساد العدل…؟

ـ آ ……، أيها الصقر، أرجوك لا تختتم حكمتك وتجعل مني وليمك لك في هذا الصباح الجميل!

ـ الآن، أيتها الضفدعة، لست جائعا ً، لهذا اغربي عني، حالا ً…، فلونك جذاب، مثل رائحة لحمك تحت جلدتك الناعم!

ـ آ …، الآن عرفت لماذا لا احد يعمل على إقامة دولة العدل!!

[60] رغبات

 باستغراب همست الغزال في آذن الذئب:

ـ انظر ….، تعّلم النمر الرقص، والدب أجاد القفز، والفيل التبختر، والثعلب اللعب على الحبال، والأسد اجتياز حلقات النار….، وأنت مازلت تحلم بافتراسي؟

 أجاب بصوت وقور:

ـ سألحق بهم، أيتها الغزال، بعد ان نهبوا بريتنا، واستولوا عليها! ولكن أنت أيضا ً ستتعلمين الباليه، والوثبات الذكية، كما يفعل البشر!

ـ هل هذه موعظة أم حكمة؟

ـ لا، لا ليست حكمة، وليست موعظة، بل هذا هو واقع الحال…، فالناس عندما اخترعوا الحلبة راحوا يعلموننا الرقص، وعندما كونوا مدينتهم فأنهم راحوا يتباهوا بتفوقهم علينا!

ـ أنا لا اصدق كم أنت تتمتع بمثل هذا الذكاء؟

ـ أنا لست أذكى من هؤلاء الذين أدركوا ان مصائرهم لن تذهب ابعد من هذا الغباء!

ـ كأنك تلعن القدر الذي جمعنا معا ً؟

ـ من أكون كي العن القدر، وقد جعلوني أتلقى تدريباتي معك يا أيتها الغزال!

[61] أمنيات

    سألت الحمامة البلبل:

ـ أراك تغرد وكأنك حصلت على الحرية؟

أجاب بصوت ارق أعذب وأكثر نشوة:

ـ وماذا افعل بالحرية عندما أكون فيها هدفا ً للصيادين، والكواسر، والمفترسات؟

ـ آ ….، الآن أدركت لماذا يرغب بعض البشر قضاء حياتهم في السجون!

فقل البلبل معترضا ً:

ـ بل كان عليك ان تقولي: ما أحلى الحياة عندما لا تجدين أحدا ً يعتدي عليك!

[62] مفارقة

ـ لماذا أراك، أيها الذئب، تنظر إلى الخراف، في القفص المقابل لقفصنا، بحزن..؟

  أجاب جاره القرد:

ـ لأنني أصبحت ارثي لحالها! فهي لا تعرف ماذا تفعل بلحمها الفائض، وأنا لم اعد مكترثا ً لنحول جسدي!

[63] نصر

   كانت الحديقة تسمع قهقهات الأرنب، وهو يقفز، ويرقص، ويلهو ….، داخل قفصه. اقترب المدير منه وسأله:

ـ ماذا جرى لك أيها الأرنب وكأننا في عيد؟

ـ تذكرت النملة التي ركبت فوق ظهر الفيل فاعتذرت له ان تكون أثقلت عليه، فقال لها: من أنت ِ؟

ـ لكن هذا لا يثير الضحك!

ـ لا …، فانا عندما عرفت ان أعدائي قد تم أسرهم، وزجهم وراء القضبان، قلت لنفسي: الم اقل ان الحرب ستنتهي، وإننا سننتصر!

[64] كفاية

ـ لماذا عدت ِ، أيتها الحمامة، بعد أن بذلنا جهدا ً كبيرا ً بفرارك من القفص؟

ـ لا اقدر إلا أن أقول: أنا هي التي رأت ما لا يرى …، فالناس يقتلون بعضهم البعض الآخر، بشراسة، وقسوة، حتى ان جثثهم تناثرت في طرقات المدينة، وأزقتها، وتكومت فوق المزابل، مثل النفايات…، وإنها صارت جيفا ً تنهشها أنياب الضواري، والكلاب…، والقطط، بل وحتى الجرذان! فأينما ذهبت، لا أرى إلا الكل يطارد الكل، والكل يهرب من الكل، والجميع يذبح الجميع …، فقلت لنفسي: ما الذي افقدهم صوابهم، ولم يعد احدهم يحب مدينته، ولا وطنه …، لكن لا احد سمع صوتي، ولا احد فكر ان يعرف، إننا، هنا، وبقليل من الفطنة، وبقليل من المودة، حصلنا على ما يكفي من الحياة!

[65] الأفعى

    خرجت الأفعى تسعى بحثا ً عن طعام لصغارها، فلم تجد. كانت تنظر إلى الأسود، ثم النمور، ثم الفيلة، ثم نظرت إلى البقرات السمان، والخرفان البدينة، والطيور تغرد وتزقزق …، ولم تجد فأرا ً واحدا ً غادر قفصه! فعادت إلى بيتها حزينة…، لكن صغارها استقبلوها بفرح ومسرة:

ـ ماما عادت….، ماما رجعت بسلام!

فسألتهم:

ـ ماذا جرى، وماذا  يجري…؟

فقالوا بصوت واحد:

ـ زارنا المشرف، وقال لنا: هذه هي حصتكم من الحليب….، وقولوا لامكم أن غادرت جحرها، مرة ثانية، فسنعيدها إلى البرية!

ـ نعم، لن افعلها، فماذا افعل في البرية، وأعدائي طلقاء!

[66] شكوى

    تقدم الحمار بشكوى الى المدير متضمنة مطالبته ببعض الحقوق، بحسب القوانين الدولية، فكاد المدير ـ بعد الاطلاع على شكواه ـ ان يفطس من الضحك. فسأله الحمار:

ـ هل تضمنت عريضتي ما يضحك؟

ـ لا! لكنني فكرت ماذا لو استبدلنا مواقعنا، كي تحصل على حقوقك كاملة!

 صمت الحمار قليلا ً وقال:

ـ فهمت، فهمت .. لكن يؤسفني إنني ذكرتك انك تشاركنا المصير ذاته!

قال المدير بصوت غاضب:

ـ أتعزيني أم تسخر مني؟

ـ كلاهما، أيها السيد المدير! فانا كنت احلم بالحصول على ما حصلتم عليه…، وها أنا اكتشف استحالة ان تحصوا على ما حصلنا عليه! ولكن …، أقول الحق: لا احد منا حصل إلا على ما أصبح ليس بحاجة له!

[67] بحر

ـ ما المضحك، وقد تجمهر الخلق من حولنا، ونحن داخل هذا القفص، وأنت تكاد تفقد رشدك؟

  لكن الثعلب لم يكف عن الضحك:

ـ تذكرت قصة جدنا الأكبر، الذي كان عاش في الزمن القديم، ففي ذات مرة بال في البحر، وعندما نظر قال متعجبا ً ومتباهيا ً: أكل هذا البحر من بولي؟

  فخاطبه جاره الثعلب بأسى:

ـ بدل ان تنوح، وتبكي، أراك تسرف في قلة الحياء!

ـ ألا ينبغي ان تسألني لماذا الضحك، قبل ان  تتصرف كما يتصرف غالبية الناس!

ـ تفضل، جد لي عذرا ً…

ـ كيف لا امرح، وأقهقه، وقد أوقعنا جميع الناس في هذا الكمين! ففي الماضي كنا نهرب منهم، ومن بطشهم، ونبالهم، وسيوفهم، وحجارتهم، أما الآن، إلا ترى إننا أصبحنا نراهم عن قرب، ولا يفصلنا عنهم إلا هذا المشبك الحديدي، ولا احد يستطيع الاعتداء علينا!

ـ وهذا ما جعلك تضحك؟

ـ أجل، فبدل ان يصطادونا، ويسلخون جلودنا، نجحنا بجرجرتهم نحونا، كي نتسلى برؤيتهم، والسخرية منهم!

 فسأله بشرود:

ـ أنا نفسي لم اعد اعرف: من هم الأحرار…، ومن هم العبيد؟

ـ آ ……، دعونا من النظريات، والشعارات، والكلمات….، لأننا جميعا ً داخل أسوار حديقة لا مناص إنها ملاذنا الوحيد!

[68] مفارقة

    قال الثعلب لجرائه حديثي الولادة:

ـ حتى في البرية، كانت هناك حدود فاصلة بيننا وبين جيراننا، فلا احد يعتدي على احد، كالفواصل التي تعزلنا الآن عن الآخرين، وتضع مسافات بيننا.

فسأله احدهم:

ـ وما هي ضرورة وجود هذه الفواصل الحديدية بيننا، في هذه الحديقة… ؟

   تأوه الأب، وقالت بحزن:

ـ في البرية كنا نستطيع تجاوز هذه الحدود، والعبور إلى المناطق المجاورة، بل والأبعد …، حتى أن جدكم اضطر للهجرة إلى بلاد بعيدة ولم يعد منها …، أما هنا، يا أولادي، فالجميع يولدون، ويعيشون، ويموتون في أقفاصهم، حتى لا احد يعرف ماذا يجري بجواره!

ـ إذا ً….، لماذا لا نعود إلى وطننا القديم؟

ـ آ …، في وطننا القديم كنا لا نشعر إننا اخترنا سجوننا، أما هنا، فلا نستطيع الهرب منها! في الماضي لم نكن نحصل على الحرية إلا بشق الأنفس، أما هنا، فهم يفرضون علينا الحرية ولا نقدر إلا على قبولها!

[69] سرقة

ـ النذل، المسؤول عن هذا الجناح، يسرق نصف حصتنا من اللحم!

    قال الذئب يخبر صغاره، فأجابه احدهم:

ـ ربما لديه صغار يتضرعون جوعا ً يا أبتاه!

ـ اسمع، واجبه أن لا يسرق!

   فهمس مع نفسه بصوت خفيض: يبدو انه لا يريد ان يتذكر كم حملا ً افترس؟

   فقال له بعد أن قرأت ما دار بخلده:

ـ أنا لم اعتد عليهم، كلابهم لم تحرسهم!

بعد صمت، تشجع الصغير ورفع صوته:

ـ هكذا تشّرع الوصايا، وتدوّن القوانين، وهكذا يجتهد الجميع بالعمل على دحضها!

[70] لعبة

     نظر السنجاب إلى قفص الأرانب، ثم رفع رأسه وحدق في عيني الصقر، ضاحكا ً بسخرية:

ـ لا احد هزم الآخر!

فقال الصقر للسنجاب:

ـ مثلما حصلت الأفعى على الخلود، لم يخسر الفأر هذا المجد!

فقال السنجاب للصقر:

ـ الآن عرفت لماذا من المستحيل القضاء على الشر!

ـ آ ….، أصبحت تتحدث كأصحاب الرؤوس الجوفاء!

ـ في هذه الحديقة، ما الذي يمكن ان نعمله، ولا شغل لنا سوى ان نتسلى بالناس، وسوى ان يتسلى الناس بنا!

ـ يا لها من محنة..

ـ لكن الدولة هي التي تجني الثمن! لأنها تأخذ الحصة الأكبر، ولا تمنحنا سوى الفتاة لديمومة هذه اللعبة!

ـ وماذا تفعل الدولة بالمال الأكبر!

ـ كي يدوم الشر!

[71] حلقات

ـ بعد ان سلبوا منا البحار، والغابات، والجبال، والصحارى، وحتى المستنقعات…، لم يبق لدينا إلا هذه البقة من الأرض، نلوذ بأقفاصنا في هذه الحديقة.

فقال الأيل لرفيقه:

ـ ماذا جنينا من الماضي، كي نأمل أن يكون المستقبل مختلفا ً!

[72]

   نظر الكركدن في المرآة، مخاطبا ً نفسه:

ـ ها أنا لا اختلف عن القرد الكثيف الشعر.

    أجاب القرد الذي كان يقف خلفه:

ـ بل قل…، ها أنا من أصبح يشبه الكركدن!

فخاطبه الكركدن:

ـ قبل آلاف السنين قالوا…، الكلب الحي، خير من الأسد الميت!

[73] البغل والأسد

     سأل الأسد البغل الذي كان يتجول طليقا ً في ممرات الحديقة:

ـ عجيب أمرك …، لديك فرصة للهرب، لكنك مازالت تتشبث بالبقاء معنا؟

    نظر البغل إلى الجهات المختلفة بحثا ً عن الطائر الحر، فوجده يقف فوق غصن شجرة، فقال البغل للأسد كي يسمع الآخر:

ـ اسأل الطائر الحر لماذا لم يفر، وهو طليق؟

 فدار بخلد الأسد:

ـ أنا نفسي لو خيرت بين الهرب وبين البقاء لاخترت قفصي!

فسأل البغل الطائر:

ـ وأنت لماذا لم تهرب وتعود إلى الصحراء؟

ضحك الطائر، وسأله:

ـ اجبني أنت أولا ً.

   قال البغل:

ـ شقيقي، بعد ان  ُمست كرامته، ألقى بجسده في الوادي، ومات. وأنا اعرف قصتك أيضا ً، فما ان وقعتم في الشباك، حتى انتحر رفاقك أنفسهم حالا ً، إلا أنت!

ـ ها، كالذي حدث لك…، أنت لم ترم بجسدك في الوادي، وأنا لم اختر الموت!

قال الأسد:

ـ الآن فهمت تماما ً لماذا تحتم علينا الإصغاء إلى هذه القصص!

فقال البغل للأسد:

ـ بل تحتم علينا ان نهلك من اجل صياغتها!

[74]  الفيل يتكلم

    ثم نطق الفيل العجوز، بعد ان جمع قواه، يخاطب أحفاده:

ـ ظنوا …، بعد ان هجرونا، وشتتونا في بقاع المعمورة، إننا سننقرض، ونزول…، ولكن، يا أحفادي، ها نحن نؤسس إمبراطوريتنا، هنا، كما يفعل رفاقنا في مختلف بقاع الأرض.

   اقترب احد أحفاده منه، وسأله:

ـ وهل هذا القانون ينطبق على النمل، والبعوض، والقمل، والخنافس، والصراصير…؟

ـ بل حتى على الناس!

ـ على الناس أيضا ً؟

ـ اجل …، فأنت لو ذهبت إلى المدينة، لعرفت انك لا ترى إلا خليطا ً من الأجناس، والألوان، والأشكال، والمذاقات، والاختلافات.

ـ آ …، ولكن كيف لا يفترس احدهم الآخر؟

ـ لو فعلو ذلك فأنهم سيلقون حتفهم بلا استثناء.

  تراجع قليلا ً وسأل جده:

ـ ولكن بعض الشعوب مازالت مهووسة بحرب الجميع ضد الجميع؟

ـ هذه سحابة صيف!

ـ لم افهم.

ـ ستزول، بزوال الجميع!

ـ وهل سينقرضون إلى الأبد؟

ـ لا…، وإلا ماذا سيعمل الموت؟

[75] شبح الموت

  همس النمر في إذن رفيقه:

ـ لطخ وجهك بالوحل، لطخه، أسرع، فقد لا يتعرفون علينا!

ـ ماذا حدث..؟

ـ فرق الموت تبحث عنا!

ـ عنا…؟ وماذا فعلنا، كي نتعرض للقتل؟

ـ هل نسيت إننا كنا في حديقة السلطان، والآن أصبحنا في حديقة الشعب؟

ـ آ …..، فهمت، فبعد أن خلعوا السلطان، وصلبوه…، جاء الدور على حاشيته، ونحن منها!

[76] عودة

    بعد أن نجح الغراب باستحداث فجوة في القفص الكبير، بدأت الطيور تتسلل بعيدا ً عن الحديقة، حتى لم يعد هناك سوى الغراب، لم يهرب. وكان ذلك تحديدا ً ما شغل بال مدير الحديقة، وحيره …، فاستدعاه:

ـ أنت فتحت الفجوة، وأنت ساعدت الطيور على الفرار، ولكنك لم تغادر …، فماذا يعني هذا…؟!

    اعترف الغراب انه اضطر تحت التهديد للقيام بذلك، وأضاف: لكن أين تراها تذهب؟

تساءل المدير:

ـ لكنك لم تهرب..، ولهذا أنا بحاجة إلى إيضاح؟

   اقترب الغراب من المدير:

ـ المشكلة لا تتعلق بالتاريخ، فأنت تعرف انه مضى، لأن الاتكاء على الماضي كالإصغاء إلى حفرة! والمشكلة لا تتعلق بالغد أيضا ً، لأنها تماثل من ينتظر نزول المطر من العدم! المشكلة تكمن في الحاضر، بحسب تعبيركم، يا معشر البشر!

ـ جيد …، لكنك لم تخبرني…، لماذا لم تهرب؟

ـ لأنني، ببساطة، انتظر عودة الطيور!

   ابتهج المدير، مصغيا ً له:

ـ فانا أخبرتك باضطراري للخيانة! وممارسة عملا ً لا شرعيا ً، لكن ليس بسبب تهديد الطيور حسب، بل للبرهنة على ان المشكلة إن لم نجد لها حلا ً، في الواقع، لم تعد ثمة مشكلة!

ـ أصبحت تتحدث مثل الفلاسفة!

ـ دعك من الماضي.

ـ إذا أصبحت تتحدث مثل هؤلاء الذين يفكرون بالمستقبل؟

ـ دعك من الحالمين، الخياليين، الفنتازيين!

    ساد الصمت برهة، بينهما، حيث بدأت الطيور بالاقتراب من الحديقة، والدخول من الفجوة ذاتها، التي في القفص.

قال الغراب:

ـ الآن بالضبط امسكنا بالماضي والغد!

ـ لم افهم!

ـ أيها السيد المدير، دعني اجري الحديث مع الطيور على الهواء، من غير تهديد، ووعيد، ومعاقبة!

     استدعى الغراب زعماء كل صنف من الصنوف. فسأل الحمامة:

ـ لماذا عدت ِ؟

أجابت:

ـ لم أجد مكانا ً صالحا ً للسكن.

   واستدعى زعيم البلابل:

ـ وأنت؟

ـ الدخان ملأ السماء، فلا مكان لنا فوق الأرض.

   واستدعى زعيم العصافير، فأجاب بان الحرب لم تترك شجرا ً ولا حجرا ًفي المدينة.

   تمدد الغراب فوق الأرض، من شدة الضحك، بعد ان فقد قواه، وطلب من المديران يعيد النظر بنظام الحديقة. أما المدير، فحدق في المرآة، في غرفته، وخاطب نفسه:

ـ لم يعد لدي ّ إلا ان أتشبث بعملي، هنا، بعد ان كنت انتظر فرصة للفرار! تبا ً للفم لا يتكلم إلا عندما تكون الكلمات قد فقدت معناها!

[77] حلم

 

 

 

adilkamil

 

 

ـ رأيت حلما ًمن غير رموز!

  أصغت له بفزع، وسألته:

ـ ماذا رأيت إذا ً؟

ـ رأيت الريح تهدم أسوار المدينة، تقتلع الأشجار، وتجرف المنازل، والكل تناثر وتحول إلى ومضات وذرات …، ورأيت الفراغات تمتد، وتتسع، وتتوسع، وتفقد حافاتها…، وعندما حاولت ان اعرف أين أنا، سمعت من يهمس في رأسي: لم يعد لك وجود، ولم يعد للأرض حضور!

ـ تقصد…، وقعت الحرب؟

ـ لا…، حدث اضطراب أو تشوش في البرمجة…، فالشمس توارت، والقمر اختفى، ومعهما باقي الكواكب…، وكأن المجرة اتسعت حتى تقلصت حد الصفر!

ـ وماذا فعلت؟

ـ أفقت من الكابوس…،كي اعثر عليك، يا حبيبتي، بجواري!

   فقالت السلحفاة لرفيقها:

ـ وأنا رأيت الحلم ذاته ..، كي أراك تذكرني بالرموز التي لم تفقد صلاحيتها بعد: الماء، النور، العشب، الصخور، الأشجار، والهواء…

فقال بمرح:

ـ وحتى لو غابت هذه جميعها، فسنغيب معها…، آنذاك يكتمل الحضور برموزه الغائبة!

[78] ماذا افعل؟

   عندما رأته مكفهر الوجه، شارد الذهن، لم تحتمل اللبؤة الصمت، فسألته:

ـ ما الذي يجعلك حزينا ً، وحائرا ً، حتى انك لم تعد تكترث لوجودي بجوارك، يا أسد البراري..؟

  هز الأسد رأسه وتمتم بصوت خفيض:

ـ سأخبرك بالخلاصة التي بلغت ذروتها لدي ّ: ان من يبلغ نهاية المعرفة كمن هو في القاع!

ـ جيد! هذه النتيجة تستحق ان تنال عليها أرقى الجوائز!

ـ ها، ها، هذا هو المثير للسخرية، فالحمار استبدل جلده بجلد النمر، والثعلب غدا يؤدي دور الدب، والفأر صار يتحكم بمصائرنا، الأعمى يسبقنا في المشي ليقودنا، والأعرج يعلمنا الرقص، والمجذوم أصبح قدوة لنا! فماذا افعل يا سيدة البراري، والوديان …؟

ـ لنتقدم بشكوى إلى السيد المدير…؟

ـ ولكن ما الذي علي ّ ان اخبره، والأمور بلغت نهايتها، وهو يجهل لغتنا، أو يتجاهلها، هل اخبره بسرقتهم لغابتنا، وبريتنا، وإنهم أسرونا، ووضعونا في الأقفاص، وبدل ان يقتلوننا راحوا يعلمونا الرقص على الحبال، والغناء مع القطط!

ـ هل هذا هو سر حزنك، واساك؟

ـ لا! ليس هذا حسب، بل لأن من معنا، في هذه الحديقة، يجهل انه ماض َ إلى المجهول!

ـ تقصد إننا سنموت؟

ـ الكل سيموت، سقراط والكلب وأنا، لكن ما سيحدث فهو اشد فظاعة من الموت!

ـ وهل هناك ما هو اشد قسوة من الموت….، إذا ً اخبرني بهذا السر؟

ـ إنهم منحونا الحرية!

  قهقهت اللبؤة وهي تسأله:

ـ وهل تخاف من الحرية؟

ـ نعم! لأن الحرية لا تعطى، لا تمنح، ولا توهب…، إنها تنتزع، تُؤخذ، بالجهد والكد والشقاء….،  فهل حريتي ان أدبك مع القردة، وأتمايل مع الكلاب، واغني مع الضفادع ؟

   اقتربت منه، وسألته مجددا ً:

ـ وماذا كنا نفعل في البرية، وفي السهول، وفي الغابات…، غير الهرب من الصيادين، والبحث عن مناطق اقل خطرا ً، وكل هذا غدا قبض ريح، يا أسد الغابات، والآن الجميع يقتدون بك، ويتعلمون منك، الفار هو من يحلم ان يرتقي درجة نحو مجدك، وكذلك الذئب، وليس هو أنت من يفكر بالتراجع، والارتداد، كي تصبح ثعلبا ً، أو ضبعا ً!

ـ لم اقصد هذا أبدا ً…، فانا أدركت ان السعادة ذاتها أصبحت عبئا ً لا يحتمل، ووزرا ً ثقيلا ً…

ـ لكن العودة إلى البرية يعني نهايتنا…، فأنت حر في الاختيار؟

ـ هذا هو تحديدا ً سر شقائي، فلا أنا ولا أنت، ولا من معنا في هذه الحديقة، يمتلك هذا الحق: حق تقرير المصير! مع ذلك، علينا ان نردد: عاش الفأر، عاش الهر، عاش الأعرج، كي لا نفقد ـ في هذا السيرك ـ هذا القليل من العبودية؛ حريتنا بالبقاء على قيد الحياة!

[79] خالدون

     أسرع الفأر مهرولا ً بأقصى ما يمتلك من القوة، ليتوارى داخل جحره، مذعورا ً، بعد ان شاهد الأفعى تسعى نحوه، كي يفلت منها، أخيرا ً. فسأله جده:

ـ ما الذي جرى لك يا حفيدي؟

ـ كادت الأفعى ان تبتلعني.

ـ الم ْ أخبرك، مرات ومرات، ان تكون حذرا ً منها، ومن القطط، والنسور…؟

ـ آ …، يا جدي، اخبرني هل حقا ً ان الأفعى خالدة، لأنها سرقت وردة الأبدية من جلجامش…؟

ـ  لم افهم قصدك؟

ـ هذه الأفاعي اللعينة، أتراها لا تموت، رغم إنها ارتكبت إثم السرقة، واعتدت على الآخر…؟

ـ آ ..، فهمت قصدك أيها الفار الفطن، ولكن فكر ـ معي ـ كيف اجتزنا ملايين السنين، ولم ننقرض، ونصبح من الماضي!

ـ ها هو ذهني يضطرب، ورأسي يزداد تشوشا ً…، فمن منا الخالد، ومن منا الفاني: الأفعى الشريرة أم نحن الفئران؟

 قال الجد بصوت رزين:

ـ لولانا، يا حفيدي، لما حملت الأفعى عنوان: أسد التراب! ولولانا، لكانت هذه الأفاعي  حفنة رمل تتقاذفها الريح!

ـ أي خلود هذا الذي عبر الأزمنة ولم يقدر على إبادتنا، ولكن لم يقدر على تهذيب تلك الكائنات عديمة النفع، أي خلود اكتسب هذا الشهرة وهو لم يدم إلا على مصائرنا الفانية!

[80] هديل

ـ يا للهول…!

تابعت الحمامة تروي ما شاهدت في المدينة، وهي ترتجف ذعرا ً:

ـ امسكوا بالرجل وكبلوه ثم قطعوا رأسه…، وكان الناس من حوله يصفقون، يرقصون، يبتهلون، وينشدون: عاد من حيث أتى!

فسألتها زميلتها:

ـ وما الجديد في الأمر….، فهذا يحدث منذ أول الدهر…؟

أجابت بصوت مازال مرتجفا ً:

ـ لقد رأيت رأس الرجل، هو الآخر، يرقص، ويتمايل، ويغرد!

   فتمتمت مع نفسها بصوت شارد:

ـ آ …، ماذا يفعل الخوف عندما يبلغ ذروته، فانا رأيت ما هو أكثر غرابة: فقد سمعت الرجل يقول لهم: لو قطعتم راسي، ألف ألف ألف مرة، فانا لن ألوذ بالفرار!

ـ ها، الرجل على حق، فبدل ان يموت ككلب، فضل ان يموت كبطل!

   هدأت الحمامة المذعورة، وسألت زميلتها:

ـ ونحن ماذا سنفعل…؟

ـ نروي القصة بهديلنا لعّل هناكً من يسمعها!

ـ آ ……، الآن عرفت لماذا لم نغلق أفواهنا منذ أول الزمن!

[81] انتظار

ـ اهربوا…، اهربوا …

وأضاف زعيم الأرانب بصوت مذعور:

ـ فالموتى خرجوا من المدافن….!

ـ أين نهرب…، أيها الزعيم، وليس أمامنا إلا الأحياء، ومن خلفنا هذا الجيش الجرار من الموتى؟

   صمت برهة وقال: تجمدوا!

   ثم بدأت المعركة بين الموتى والأحياء.

 سألت واحدة من الأرانب الزعيم:

ـ لكن هذه هي فرصتنا للهرب!

ـ لا….، علينا ان نراقب بصمت…، فبعد ان يفتك الموتى بالأحياء، والأحياء بالموتى، نبحث عن ارض لا موتى فيها ولا أحياء!

ـ كأنك تفكر بالذهاب إلى كوكب آخر؟

ـ لا …، سنعود إلى حديقتنا، ونعقد صلحا ً مع المدير! آنذاك نتدرب على عدم العصيان!

ـ نخون نوعنا، أيها الزعيم الخالد؟

ـ وهل للموتى بطولات تذكر…، عدا شواخصهم تحت الريح!

[82] قرار

ـ الأفعى تبتلع الفأر، الذئب يفترس الحمل، النمر يصطاد الغزال، والأسد ينهش الثور، والسيد المدير يتأملنا عبر أجهزة الرصد بلذّة، وشغف، ولا يحرك ساكنا ً!

ـ كأننا في غابة، ولسنا في حديقة! لكن ماذا يفعل المدير…، وهو يعرف ان الأمور لو لم تجر هكذا، فانه سيطرد من عمله!

[83] جلود

     همس النمر في إذن زميله الحزين، وهو يتذكر كيف كان يجتاز حلقات النار، بخفة، ومهارة، وإتقان، أمام الجمهور الغفير:

ـ آ …، النسوة المترفات، الجميلات، يزددن زهوا ً وهن يستعرضن مفاتنهن بارتداء جلودنا! مثل بعض الرجال حولوا جلودنا إلى معاطف!

ـ أنا لست حزينا ً لأن لنا هذه القيمة، والأهمية…، بل أفكر بالسؤال الذي لم يخطر على بالك: هل يحافظ هؤلاء، النساء أو الرجال، على جلودهم من السلخ، وهم يرتدون جلودنا الجميلة..؟!

ـ آ …..، في الحرب الأخيرة، أنا شاهدت الجثث متناثرة تلهو بها الضواري!

ـ بل قل: تفترسها! فلا تحزن لمن سلخ جلدك، وارتداه، فقد لا يجد حتى فرصة ان يبقى له جلد صالح للسلخ!

[84] النمر والموت

صاح النمر:

ـ أيها الموت، أرجوك لا تسرع، أرجوك خذني معك!

ـ لم يحن دورك، أيها الضبع، بعد!

ـ من السعيد الذي طلبك…؟

   نظر الموت شزرا ً في عينيه:

ـ أنا لا يطلبني احد، أو يستدعيني، فانا هو من يقرر!

ـ أرجوك إذا ً …، ارحمني!

ـ مع إنني لا أود أن يمتد العمر بك، لكن قل لي: أين اذهب بالموتى؟

   بحزن عميق قال النمر يخاطب نفسه:

ـ حتى الموت لم يرحمنا!

[85] السلحفاة والزرافة

    في صباح يوم ممطر، سألت الزرافة السلحفاة:

ـ بماذا تحلمين…؟

ـ قسما ً بالماء والتراب، بالسمك والطحالب، بالرمل والحجر، أنا لا احلم ان يكون لي رأس أجوف كرأسك!

ـ سأضاعف قسمك بباقي العناصر، وبكل رموز هذه الحديقة، ولا أقول لك إنني احلم برأس غاطس طوال الوقت، في الوحل! ولكن اخبريني ما الذي دعاك للغضب، والإجابة غير اللائقة …؟

ـ زهوك! مع إننا نعرف انك ِ طالما تقومين بإخفاء رأسك تحت الأرض!

[86] بهدوء لطفا ً!

    لم يرفع الثور نظره عن الأقدام التي كانت تدك الأرض، فقد تحول صداها إلى دوي ّ، كأنه انفجار ألغام، أو سقوط قذائف، فود لو اخبر زوار الحديقة، ليس المشي بخفة، وشفافية، وعدم إيذاء التراب، وما تحته…، بل عدم إيذاء الجلد الذي يحمي أقدامهم!

    كانوا صبية، وصبيات، راحوا يتأملونه بشغف، وفضول. فود لو اخبرهم بحكاية الشاعر الذي أصغى إلى الاسكافي يقول له: لن اشترك بالحرب، فسأله الشاعر: كيف؟ أجاب: لن اصنع للجنود البساطيل! ضحك الشاعر، دار بخلد الثور، وأنا بودي ان اطلب منكم ان لا تصنعوا من جلدي أحذية تتباهون بها وانتم تمشون فوق رفات أسلافكم!

[87] غربة

     رفع فرس الماء رأسه، ونظر إلى الطيور:

ـ من منا أكثر سعادة…، المخلوقات الثقيلة، أم التي تحّوم في الفضاء…؟

    قال الغراب الذي قرأ ما دار بباله:

ـ لا تدعني اروي أسباب حزني، وأساي! فانا، قبل لحظات، كنت أحسدك على المستنقع الذي لا اعرف كم يمنحك السعادة، والمسرة!

   فقال فرس النهر بصوت متردد:

ـ إذا كان من المستحيل استبدال أدوارنا…، لكن عليك، منذ الآن، ان تخبرني بماذا تحلم، كي اروي لك بما احلم..؟

   قال الغراب:

ـ آ …..، انك تثير مشاعري، يا فرس الماء، فانا منذ زمن بعيد لم اعد احلم إلا بوسيلة اكف فيها عن الأحلام!

ـ غريب!

ـ الغريب انك مازالت تشعر بالغربة!

[88] طيران

   نادى الأسد، من وراء القضبان، غزالا ً مر من أمامه:

ـ نعم، يا سيدي، تفضل.

 رفع الأسد رأسه وقربه من الغزال مستمتعا ً باستنشاق رائحة البرية، والحقول، قائلا ً:

ـ اذهبي إلى المدير…، واخبريه: أنا سأعود إلى التدريب على المناورة، اخبريه إنني سأتعلم سريعا ً، مثلما تعلمت الرقص على الحبال، فأنني سأتعلم الطيران!

   ابتهجت الغزال، وسألته بشغف:

ـ وهل ستمنحني جناحا ً للقفز عاليا ً؟

ـ بل اقسم لك إنني سأعلمك كيف لا تعودين تشعرين حتى بالأرض!

[89]  مجسمات

    سأل الدب الأبيض زميله الدب الأسود، في قفص الدببة ذات الألوان المتعدد:

ـ اخبرني هل جاءوا بنا إلى هذه الحديقة للاحتفاء بنا، أم لمعاقبتنا…؟ أنا أتوا بي من القارة المتجمدة، وأنت من الجبال، وذاك من السهول، والآخر من الغابات، والأخير من المستنقعات…؟

     لم يتفوه أحدا ً منهم بكلمة. فاضطر ان يلكم الدب الأسود بقوة، فوجده صلدا ً، لا يتحرك، ليكتشف انه صنع من الحجر. فتذكر فجأة:

ـ وأنا في الطريق إلى هنا، رأيت أسدا ً فقلت لنفسي: ماذا يفعل هذا الحيوان في المدينة. ها، ها، كي أدرك الآن، أو بعد فوات الأوان، إنهم، بعد ان أموت، سيصنعون لي مجسما ً، لكن بلون الثلج!

[90] بذرة

   في القفص الكبير، كان الببغاء يتأمل الطيور، بمختلف أنواعها. كان يقف بمحاذاة شريكته، فقال لها:

ـ ما دمنا جميعا ً داخل هذا القفص..، فلماذا تسرف بعض الطيور بالزغردة، وبعض الحمامات بالهديل، وبعض البلابل بالتغريد…؟

أجابت بسلاسة:

ـ آ ….، لو كنت أغلقت فمك بدل هذا السؤال العقيم..؟

قال لها بعد لحظات تفكير:

ـ ترغبين بكلمة مفيدة، آ …، لو تعرفين كم أعشقك!

ـ أنا لم اطلب منك النطق بها!

ـ آ …..، فهمت، إذا ً أنا احبك بسعة هذا الكون!

ـ تقصد …، بضيق هذا القفص؟

ـ آه …، هكذا تنبت بذرة الشقاء، وتنمو، لتصبح معضلة كلما فكرنا بالحد من اتساعها ازدادت استحالة على العلاج!

[91] البقرة والثور

ـ اقسم بالماء، والهواء، والحجر، والنار..

ـ لا تسرف بفضح يقينك المضطرب!

فقال الثور للبقرة:

ـ بل اقسم بالحديقة، وبهذه الأشجار!

ـ كل ما تريد ان تقول يجعلني مضطرة إلى تصديقه، فماذا تريد ان تقول؟

ـ فكرت، انك، مع الأبقار السمان الأخريات، تنجبن العجول، للذبح…، فأي ظلم حد الجور هذا الذي لا نهاية له وقع علينا؟

ـ لا تحزن، نحن ننجب العجول، وهم يرسلون أولادهم للموت في الحرب!

ـ كنت آمل ان اسمع منك كلمة تطمأن قلبي المضطرب، وعقلي الحزين! فانا كلما شعرت بدنو اجلي ازداد تهيجا ً ورغبة بك، يا بقرتي العزيزة!

    بعد ان شعر بالسعادة، والهدوء، قال يخاطب نفسه:

ـ هم يرسلون أولادهم للموت في الحرب …، بعد ان يسلخوا جلودنا، ويحولون لحومنا إلى وجبات شهية!

قالت له:

ـ هكذا تكون أكثر القضايا استحالة على الحل، قد اكتسبت شرعيتها!

[92] ماذا عنا؟

   قال مساعد المدير لمديره:

ـ من المستحيل على احد ان يجتاز أسوار الحديقة، او الفرار من قفصه، فقد تأكدنا من سلامتها، ولم نترك مكانا ً غير خاضع لكاميرات المراقبة، والرصد…

    نطق الببغاء الواقع بجوار المدير:

ـ لا اخفي عليكما إنكما في وضع حرج!

قال المدير:

ـ ما العمل…، وهناك من يخطط لهرب!

فسأل الببغاء المدير:

ـ لِم َ تخف علي ّ ما ذكرته لي في وقت سابق…، الم تقل انك تبحث عن فرصة للهرب…، والبحث عن ملاذ آمن..، وانك لم تعد تحتمل البقاء…، فماذا عنا أيها السيد المدير؟

[93] مصائر

ـ أمضيت شبابي في الصحراء، طليقا ً فيها، كأن الآلهة خصصتها لي، وأنا وجدت لها!

وأضاف الذئب العجوز يحدث زملائه:

ـ والآن لا أجد سوى مساحة لا تكفي حتى للموت!

واساه احدهم:

ـ ألا تتذكر إننا عندما كنا نتأمل السماء كنا نقول: كم هي شاسعة، ولا تحصى نجومها، وكواكبها، ثم سرقوها منا، فلا تنح على الأرض، يا صاحبي!

فقال الذئب العجوز بصوت واهن:

ـ أنا أخشى ان نفقد حتى الأمل بالبقاء في هذا القفص أيضا ً!

 ـ وهل ثمة أبشع من هذا الانتظار…؟

ـ اجل، ان تطلب الموت، فلا تجده!

[94] مستقبل

ـ لا تفقد الأمل.

   قال الغزال للثور:

ـ  فحتى لو ذبحت، فالأبقار ستجد ثورا ً آخر.

ـ هذه هي المشكلة، فانا عندما أمضيت حياتي اجر المحراث، قلت: ماذا سيفعلون بعد موتي؟

ـ وماذا حصل؟

ـ الأبقار ولدّن ثيران أقوى مني!

 فقال الغزال:

ـ لا تكترث..، فانا ادعوك للموت بإرادة المنتصر، الذي حرث الأرض، وخاض  الحروب، واشتبك في حلبات المصارعة، وجر العربات، مزهوا ً بقوته، فأنت عندما تموت منتصرا ً خير من ان تموت وأنت تدرك ان جلدك سيسلخ ليصبح أحذية!

ـ آ ….، لم يخطر ببالي هذا أبدا ً…، فهل سيصنعون من جلدي أحذية حقا ً

ـ ومحافظ، وبساطيل، وحقائبا ً، وربما ـ بسبب متانته ـ دروعا ً أو قربا ً، أو خيما ًللمحاربين!

ـ لكن، أيها الغزال، لا أناقتك، ولا جمالك، ولا شفافيتك، تمنعهم من تناول لحمك اللذيذ! وتصبح من الماضي!

ـ الم اقل لك دعك من الماضي…، لأن  الماضي لا يلد إلا مستقبله!

[95] شماتة

خاطب الصرصار التمساح:

ـ كلما رأيتك أفكر بالصيادين!

فقال التمساح بصوت غاضب:

ـ لا تشمت…، فمن ولدت في الحضيض، لن يستنشق العطر!

[96] بيض

خاطبت الدجاجة الديك:

ـ الحقير، مدير هذا الجناح، يوفر لنا الطعام، والتدفئة، والرعاية، والعناية الصحية، كي يسرق بيضنا!

بحزن أجابها الديك:

ـ ومدير الجناح يقاسم المال مع مديره، بعد ان يبع البيض، والمدير، بدوره،  يحرص على إرضاء الأعلى منه!

ـ كل هذا بسبب البيض؟

ـ نعم، وليس بسبب صوتي، فانا أصيح، منذ أول الدهر، ولا احد أصغى لي وأنا ابكي وأنوح!

قالت الدجاجة:

ـ دعني ابيض…، فهو صوتنا الوحيد الذي يوفر لنا الطعام، وبعض الراحة!

[97] عيد سعيد

     لمناسبة بدء السنة الجديدة، ذهب الفأر إلى الأسد، وخاطبه بصوت رقيق:

ـ كم أتمنى ان تكون السنة الجديدة أكثر سعادة، ومليئة بالمسرات عليكم!

حدج الأسد الفأر، متمتما ً:

ـ وأنا كم كنت أود لو سمعت هذه الكلمات منك في الغابة!

[98]نصيحة

     مر الثعلب من أمام قفص النمر، في يوم شديد الحرارة، فراه يدير قفاه للزائرين:

ـ لم أر نمرا ً في حياتي يدير قفاه لنا! كأنه يستعرض مهارات نجهلها!

ـ أيها الجرذ!

صرخ الثعلب:

ـ بدأت تخلط، لأنك هرمت، وفقدت ذاكرتك!

ـ لا…، لو لم يكن أصلك وضيعا ً..، لاحترمت هيبتي، ومكانتي، في هذه الحديقة!

 فقال الثعلب:

ـ ولو كنت استذكرت ماضيك، أيها النمر، لأغلقت فمك ومت بوقار!

[99] صفحات

     استدعى المدير الذئب، بعد أحداث الاضطرابات التي حصلت مؤخرا ً، وطلب منه ان يأخذ قسطا ً من الراحة، بعد ذلك بوقت غير قصير سأله:

ـ ماذا افعل لك أيها الذئب كي تستعيد مسرتك..؟

ـ لا تقدر أيها السيد المدير!

ـ لا اقدر…؟

ـ نعم….، لأنني، أنا الآخر، عندما فكرت وسألت نفسي: ماذا افعل لك كي تستعيد هيبتك، وسعادتك، وجدت ان حديقتنا، لا تختلف عن البرية، في شيء…! فلا أنت تستطيع ان تفعل لي شيئا ً، ولا أنا استطيع ان افعل لك شيئا ً!

ـ آ ……، كأنك تقول: كلانا لا يعمل إلا على محو الآخر، أو، بالمعنى نفسه: كلانا لا يعمل إلا على طوي صفحته!

ـ أجل!

ـ يا للهول!

ـ لا تخف.؟..، لا تقنط، ولا تهن…،  فهناك، صفحات لم تدوّن ستجد من ينجزها، بعد غيابنا أيها السيد المدير!

[100] دعاء

ـ يا ربي متى تمنحيني الراحة، بعد هذا العمل الطويل الشاق، في هذه الحديقة…؟

أجاب الببغاء الذي اختاره المدير مساعدا ً له:

ـ دعائك غير مستجاب، أيها السيد الموقر!

سأله بصوت حزين:

ـ لماذا لا يستجيب ربي لدعائي أيها الصديق العزيز؟

ـ   لأنه لا يستجيب لدعائك  باجتثاث الجميع، ومحوهم من الوجود في هذه الحديقة! وحتى لو فعل وساعدك على ذلك، كما فعل في مرات لا تحصى وأرسل الطوفان، والكوارث، وكما بعث الجذام والطاعون، وكما لم يضع حدا ً للفاسدين وأمراء الحروب وتجار السلاح……، فانه لن يتخلى عن حديقته إلى الأبد، ليعيد لها الحياة مرة ثانية، ولكن من غيرننا!

Az4445363@gmail.com

**********************

 

قصص قصيرة جدا ً     مستعمرة الديناصورات      عادل كامل

القسم الثالث   

[101] أسرار

     عندما تم استدعاء الثعلب، بوصفه المحرض على أحداث الشغب الأخيرة، التي كادت تقود إلى العصيان، والحرب، سأله المدير:

ـ بالتأكيد انتم تمتلكون الأسباب للتمرد، ولكم بعض الحقوق المشروعة، ولكن، بنظرك الثاقب، هل تقع المسؤولية علينا وحدنا، ، من اجل تلبية مطالبيكم المشروعة،  بدل هذا التمرد؟

ـ وهل ستتركني على قيد الحياة لو بحث بالحقيقة؟

ـ لك الآمان أيها العزيز!

ـ وكيف اصدق، وأنا مكبل بالسلاسل، والقيود، وحرسك يصوبون فوهات بنادقهم نحو رأسي؟

   أمر المدير بفك القيود، ورفع السلاسل، وإخلاء الغرفة من الحرس الخاص بالحماية. قال الثعلب:

ـ وكيف اضمن انك لن تومئ لهم بإشارة  بسلخ جلدي، أو إرسالي إلى الجحيم؟

ـ هل ترغب أن اهدم أسوار الحديقة، أم ادعك تغادر كي تتصل بي هاتفيا ً وتخبرني بمطالبيكم …؟

     نهض الثعلب، وقرب رأسه من المدير، مبتسما ً بسخرية، وقال:

ـ المشكلة انك، يا سيدي، أصبحت واحدا ً منا!

ـ لم افهم؟

ـ اقصد … انك أصبحت عاطلا ً عن العمل، فعندما لا يكون لك إلا أن تغلق أفواهنا، فهذا يعني انك لا تمتلك إلا أن تغلق فمك! فأنت تراقب، ونحن نراقب، لأنك لا تنتج شيئا ً، ولا نحن ننتج شيئا ً، لهذا لا احد يستطيع إخماد النار التي ستحولنا جميعا ً إلى رماد!

[102] مصير

   أرسل الذئب بصره إلى أجنحة الحديقة وزواياها المختلفة، مرددا ً مع نفسه: فيل من الهند، أسد من أفريقيا، كنغر من استراليا، زرافة من كندا ، دب من القطب المتجمد، ذئب من الصحراء، عصافير من إقليم ألواق واق…، بغل من أصول مختلطة، وغزال من السهول الخضراء…

متابعا ً بصوت أعلى وهو يخبر زميله الذئب:

ـ عدا البعير والحمار وبنات أوى …، فقد أصبحنا ـ في هذه الحديقة ـ  نشبه فريقا ً حديثا ً لكرة القدم يتكون من لاعبين من بلدان مختلفة، عدا بلدهم!

 أجاب الآخر:

ـ أرجوك لا تقع ضحية ماضيك !

اعترض بصوت متوتر:

ـ هل ترغب أن أغلق فمي وأنا أرى هذا الخليط العجيب؟

  بعد صمت غير قصير أجاب:

ـ لم تكن القارات، في الأزمنة السحيقة، منفصلة بعضها عن البعض الآخر! فماذا عن عالمنا اليوم، وقد أصبحنا نجهل ما يحدث غدا ً، وليس ما حدث وصار من الماضي؟ فلماذا تحكم على مصيرك بالموت، بدل أن تضعه جانبا ً، وتحتفل مع أفراد عائلتك بالمصير المجهول؟!

[103] جدران

     قال وحيد القرن للأيل الذي يقف بجواره:

ـ كأننا في سجن، فما الذي يحدث لو هدموا المشبكات الحديدية الفاصلة بيننا ..؟

ابتسم الأيل:

ـ يا سيدي، لن يرحم احدنا الآخر أبدا ً، وهذه هي حسنات الجدران، في هذه الدنيا، لا تدعك إلا أن تراقب بفم مغلق!

ـ يا لها من حياة لا تسمح لك إلا أن تجهل معناها!

ـ سيدي، لو كان لها معنى، فلا تتصور إننا نقدر على معرفته، حتى لو  كان صريحا ً بهذا الوضوح!

[104] دوامة

ـ أصغيت إلى الأخبار وهي لا تتحدث إلا عن الفساد، والفوضى، وسرقة المال العام، وعن نهاية العالم، وعن ملايين المهرجين، والمهجرين، والمغيبين، وقتلى الحروب الوهمية، والحقيقية، وعن ملايين النازحين، والأرامل، والمفقودين، وعن ملكات جمال الإبل، والخنازير، والقطط، حتى تضطر أن تخفي راسك في الوحل!

   أجاب ابن أوى على تساؤلات الخروف الواقف بجواره:

ـ ما شأنك بمتابعتها…، وهي لا تهدف إلا على إيذاءك! أليس عليك أن تفكر متى ترسل إلى القصاب، وتنتهي الحفلة!

ـ يا صديقي…، منذ أول الدهر، وحتى يومنا هذا، كانوا يغووننا بغد لائق! فلا هم كانوا صادقين، ولا نحن صنعنا شيئا ً يستحق الذكر!

[105] اعتراف

ـ سيدي، استطيع إعادة قراءة المخلفات المتحجرة التي ترجع إلى العصر السابق على ظهور الفقريات، والزواحف، والثدييات، و…

ـ آ ……..، المخلفات ذاتها، وضمنا، بفعل النقص في عدد مكونات عناصرها، فإنها انشغلت بالتهام بعضها البعض الآخر، حتى إنها لم تترك إلا ما لا يمكن التعرف عليه!

ـ ولكنني منشغل بما يحدث لنا في الحاضر..

ـ سيدي…، بحسب نظريتك، فان تفكيك بنية المؤجلات تعني إننا لا نمتلك إلا نحدد زمن انقراضنا!

ابتسم الآخر متمتما ً بصوت شارد:

ـ كأن ما قمنا به، ليس إلا ما نجحنا في اكتشافه! لقد حصلنا على المفتاح كي ندرك ان عملنا الحقيقي لم يبدأ بعد..!

ـ بالضبط…، فما ورد في الخلايا المتحجرة يقودنا إلى …

ـ فهمت!

   رفع البرفسيور رأسه وسأل زميله:

ـ الآن عرفت لماذا يهتفون بحياتنا!

ـ أنا لن اعوي!

ـ لن ادعك تؤدي دور الذئب…، أنا سأدعك تغرد أو تغني، أو تزقزق…،لأن زمن الطيور لن يدوم طويلا ً، فضلا ً عن انه يمح أثره ذاتيا ً طالما لم ينشغل بالعواء!

[106] سوء فهم

    سمع مسؤول الجناح الأيسر، في الحديقة، ضجة آتية من وراء الأشجار، حيث المكان المخصص للمفترسات العليا، فهرول، وفجأة تسمر أمام أسد اعترض طريقه، فصوب بندقيته نحوه، لكن الأسد لم يدعه إلا أن يتجمد، تاركا ً سلاحه يسقط فوق الأرض:

ـ أترغب بقتلي؟ وأنا جئت أخبرك….، إن بنات أوى، وطيور المستنقعات، بالاتفاق مع الأرانب البرية، وماعز المرتفعات،  مع عدد من أفاعي الرمل، دون أن أنسى ذكر دور النباتات المحاذية لضفاف البركة، وحشرات الهواء، كلها، أيها السيد المدير…، أعلنت التمرد، بغية إعلان العصيان!

ـ آ …..، آسف، كنت أظن انك حديث العهد معنا!

    هز الأسد رأسه متمتما ً مع نفسه، بصوت مسموع:

ـ لأنني قصدت أن اخبره بأنهم سيهدمون الدنيا علينا! والسيد المدير يقول لي: كنت أظن انك حديث العهد …، لكن، من ذا يقدر أن يقمع ثورة تشترك فيها الأشجار، والتراب، والهواء؟

[107] الحقيقة

ـ لِم َ خنت؟

   كانت الذئاب قد أمسكت، عند اشتداد العاصفة، بالذئب وهو يسرب معلومات للجناح المجاور.

    لم يفتح فمه، فلم تكن لديه قدرة على النطق، إلا بعد أن منحه الزعيم عفوا ً لو أدلى بما ينقذ حياته:

ـ اقسم لك …

   وراح يتحدث عن سلسلة حلقات تكمل الواحدة منها الأخرى، متوغلا ً في أدق مفاصلها، بعد أن غاص في مناطقها النائية الشديدة الظلام…

   فأمره الزعيم بالصمت، فجأة، بعد أن دار بخلده، انه لا يقول إلا الصواب.

فقال للحرس:

ـ ولأنه أكثركم استبصارا ً في  الممحوات، خذوه …

    وأومأ بحركة من رأسه أن تكون نهايته ناعمة وشفافة. فقد دار بباله: إن السافل لو واصل الاعتراف، فانه لن يقول إلا الصواب!

[108] الحمل والذئب

   قال الذئب للحمل:

ـ عندما لا تجد مكانا ً تذهب إليه، تكون عرفت الحقيقة كاملة!

ـ أنا في بحثي عنها، يا سيدي، أضعت المكان!

ـ  كلانا، إذا ً، أنا وأنت، لا نمتلك ما نخسره، لا المكان، ولا الحقيقة.

   تساءل الحمل:

ـ والموت؟

ـ أرجوك…، فهذا الذي اسمه الموت، هو سابق في وجوده علينا، فهو ملأ المكان، مثلما لا يبحث عن الحقيقة.

ـ كم أود لو تركتني ارجع إلى القطيع الذي اختطفتني منه، لأنني سأروي باقي الحكاية، فمن يرويها سوى الشاهد عليها؟

ـ الم أخبرك: عندما تجد الحقيقة تدرك انك فقدتها!

ـ ولكن عندما أموت، لا احد يصفق لك، ولا احد يمجدك!

ـ كأنك تغويني بالتراجع، كي اصدق ان الموت ارتوى، وشبع، أو وهن، وغاب!

ـ لا احد منا يمتلك الإجابة.

ـ تقصد إن الحقيقة سابقة على وجودها الزائل، وهي عبر الزوال، تذهب ابعد من وجودها؟

ـ مثل حضورك، وحضوري…، الذي يماثل وجود الهواء في الأعلى والتراب في أسفل سافلين! لا مودة بينهما ولا رحمة!

ـ آ ….، لو عرفت من يخبرني: ما ضرورة هذا الشقاء، مادامت الحقيقة سابقة ـ ولاحقة ـ على ما نراه يزول…! فلا أنت باستطاعتك أن تترك أثرا ً لحمل وديع، مثلي، ولا أنا امتلك قدرة ان اروي ما حدث!

[109] الغزال والكركدن

ـ كم تبدو جميلا ً، أيها الكركدن، وأنت تدك الأرض..!

   رفع الكركدن رأسه قليلا ً وخاطب الغزال:

ـ ليس مثل جمالك، وأنت تلعبين الباليه! كأن الجاذبية تخلت عنك!

ـ ليس مثل ثقلك، وأنت تصد الريح، مثل صخرة كأن الكون كله جعلها لا تتزحزح، فأنت ليس مثلي، لا تجد مأوى تستقر فيه.

ـ بالعكس، فأنت أينما تذهبين، يبحث عنك الناس، فتسكنين قلوبهم، أما أنا، فلا ينشغل برؤيتي إلا كبار السن!

ـ هذا بالضبط هو الفارق بين حياتك الآمنة، التي لا تثير الفضول، وبين حياتي التي لا اعرف أين أخفيها عن الأنظار، فحياتي وجيزة، فإذا كانوا يهربون منك لغرابة منظرك، فانا وجدت ملاذي في هذه الحديقة، بسبب رشاقة جسدي!

ـ  يا فاتنة، أنت حقا ً مثل الشرنقة ما ان تصبح فراشة حتى تتوحد بالضوء…، كم جميلة وأنت لا تتركين أثرا ً يتتبع خطاك! فأنت تولدين وترحلين لا أذى لك حتى على الأرض. فلا تربكين أحلام النائمين! أما أنا فثقيل حتى صار جسدي مأوى للأحزان، فتنهش الطيور لحمي، والحشرات جعلت منه مستقرا ً لها. أما أنت، فمثل الضوء، لا مسافة تتسع لمداه، مثل عشق تنصهر فيه المسافات! أنا أتلقى القدح من العابرين، وأنت لا تكترثين لمن يمجدك…!

[110] رائحة السكين

   في فجر يوم بارد، استنشق الثور رائحة نصل السكين قبل ان يرى القصاب، فأدرك ان أيامه في الزريبة لن تطول، ففضل ان لا يستعيد سنوات حياته التي أمضاها في جناح الماشية الوطنية، كي ينشغل بتأمل وردة رآها تشع بياضا ً لم يره من قبل، كانت تتوهج كأن الشمس مازالت تسكنها. قرّب رأسه منها، كانت خالية من الرائحة، إنما أحس بها تعمل في قلبه، لأنها كانت تتمايل ليس مع نسمات الريح، ولا مع ضوء الشمس، بل مع رائحة السكين! أغلق الثور فمه تماما ً، مدركا ً انه لا يقدر على إسكات الأصوات داخل رأسه،  لكنه لم يخدش مشاعرها، لأنها نبتت بفضل الروث، بل لأنها غير معنية بما سيحل له، فأحس ان الدم يجري داخل تلا فيف ذاكرته، متقطعا ً، ثم يسرع، ليتوقف، ثم ليغلي، وفي الوقت نفسه، سمع الوردة تخبره ان أيامها القصيرة جدا ً قد امتدت طويلا ً! فانا أيضا ً لا احد يكترث لموتي.

    عندما شاهد القصاب يقترب منه، لم ير السكين، الوردة قالت له: هذا لا يعني انك كسبت حياتك، فهي، مثل حياتي، خرجت من الدمن، واليه تعود!

[111] كآبة!

     اخبر الذئب الطبيب الذي يشرف على علاجه، إن انعدام شهيته للطعام، نتيجة وليست سببا ً:

ـ فبعد أن اضطررنا للفرار، في ليلة عاصفة، لم نجد أرضا ً بديلة. البعض غادر إلى البعيد، والبعض الآخر نفق، والبعض فر إلى المناطق المجاورة، وأنا وقعت في المتاهة.

    فقال الطبيب له ان تدهور صحته ليس نتيجة بل سببا ً!

ـ لأنه من الصعب التحدث عن النتائج بمعزل عن أسابها، ولا عزل الأسباب عن نتائجها. فالمقدمات لا تحدث كي لا تبلغ ذروتها، ولا النهايات تبقى سائبة بمعزل عن مقدماتها!

    مكث الذئب يستعرض ما حدث له بعد ذلك، ثم رفع رأسه وسأل الطبيب:

ـ فأنت لا تعاني من الضيق مثلا ً…؟

أجاب الطبيب:

ـ أنا أؤدي عملي، بالدرجة الأولى، فليس لدي ّ الوقت الكافي لإضاعته …

ـ جيد! فأنت تعرف إننا لم نهزم، إلا بعد ان أدركنا إننا لا نمتلك ما نخسره…

أصغى الطبيب بانتباه، فتابع الذئب:

ـ فعندما أسرونا، كان الجميع قد فروا، حتى لم يعد هناك احد لا من البشر ولا من الذئاب، بل حتى النبات اختفى وتحول إلى غبار!

قال الطبيب:

ـ بالتأكيد ليست مهمتي ان أموه عليك، أو أوهمك، أو أخدعك…، لكن لو عدت إلى تناول طعامك بانتظام…، فان إحساسك بالخسران لن يكون حادا ً…

أجاب الذئب بوقار:

ـ كأنك تريد ان تقول: انه لا يمكن قهر الأسباب، إلا بقهر نتائجها ، وأنا لا اختلف معك في هذا التشخيص، لكن اخبرني هل فقدان الشهية، إن كانت نتيجة أم كانت سببا ً، يمكن ان لا تدعني اشعر بأنني بت وحيدا ً تماما ً ومنفصلا ً حتى عن نفسي، أم ان مهمتك ما هي إلا إدامة هذه العزلة؟

[112] كلاب

ـ هل تتذكر الكلب الذي هرب من بلادنا، إلى البلاد البعيدة؟

ـ وماذا يعنيني بعد أن هرب، وتركنا؟

ـ انه يشتمنا، ويشتمك؟

ـ دعه يعوي! فإذا كنا نعوي بسبب الخوف، فهو يعوي لأن البلاد البعيدة وفرت له الطعام، ومنحته الآمان، ثم أن الحياة، كما يقولون، دورة! هذا إذا لم نفقد أملنا بماذا سيقال عنا، بعد نهاية عصر الكلاب!

ـ وكأنك لا تخاف من القتلة؟

ـ وماذا قلت….، سوى قول الكلمات التي لا يقرأها احد، وإن وجدت متابعا ً، فلا يكترث لها، أو لا تعنيه، وإن وجدت من يستسيغها، فلا يعمل بها، وإن وجدت من يعمل بها، فما فائدة عمله بعد أن لا يكون لدينا ما نخسره!

[113] مسافة

ـ هذا هو سقراط…!

   واخرج الأسد رأسه من وراء القضبان، وسأله:

ـ ما الذي جاء بك أيها الفيلسوف العظيم، إلينا، بعد أن فضلت الموت على الهرب؟

ـ من قال لك إنني خرجت من عالم الموتى ….، ولكنني جئت اعرف كم هو عدد الذين يميزون بين النور وبين الظلمات؟!

ـ آ …..، وماذا عرفت؟

ـ لو كنت عرفت، لكنت مكثت في بيتي، مع زوجتي، أتعلم منها الحكمة!

ـ آ …..، الست أنت القائل….، الزواج مفيد، في الحالتين، فالزوجة الصالحة تمنح زوجا السعادة، وغيرها، تصنع منه فيلسوفا !

ـ والآن أخبرك: أن الفاصل بين الحياة والموت، يماثل هذا المشبك الحديدي، بيننا، فلا أنت تعرف هل أنا طليق، ولا أنا اعرف أأنت مقيد؟!

[114] عودة

  قال الحمار ـ الذي عاد إلى الحظيرة توا ً ـ مذعورا ً، لزميله:

ـ أنا لا اعرف لماذا لم نولد عميان؟

أجاب الآخر بهدوء:

ـ وبماذا تحصي النعم التي لا تحصى؟

ـ ولكنني رأيت، بهذا البصر، مذبحة جرت بين الناس، ورأيت جثث الضحايا متناثرة، بعد ان فر آلاف الأطفال، والنساء، والشيوخ، هاربين إلى البرية.

فقال الآخر بلا مبالاة:

ـ عادوا إلى وطنهم الذي هربوا منه، للاستيلاء على مدينتنا، وقد ظنوا إنهم وصلوا، وأحرزوا نهاية الحرب!

[115] أنفلونزا

     بعد أن شاهد كبير الطيور، تشييد المحرقة، في زاوية بعيدة عن الأنظار، لم يقدر ان يخفي ما سيحدث لهم، بعد انتشار شائعات تؤكد انتقال وباء الأنفلونزا إلى الحديقة، فتمتم مع نفسه:

ـ كنت أظن ان الجحيم يأتي بعد الموت!

    سمع المدير صوته، فاخبره، إن المحرقة لم تعد لهم، بل لأمر آخر! ضحك كبير الطيور:

ـ أيها الماكر…، ولكن ماذا عن أنفلونزا الطيور؟

ـ اقسم لك…إنها خاصة بنا!

[116] نابليون

ـ أغلق فمك، يا كبير الضفادع، ألا ترى الإمبراطور جاء ليتفقدنا!

ـ آ ….، نابليون! ماذا يفعل هنا؟

ـ ربما جاء ليستمد مخططاته من أحلام جنوده الموتى!

ـ ولكننا لم نمت بعد؟

ـ اسأله؟

    خرج من الماء، ورفع رأسه، وسأل الإمبراطور:

ـ هل حقا ً أرسلك الرب إلينا؟

ـ من أنت؟

ـ لو أخبرتك من هو أنا..، لعرفت أن الهزيمة قد كتبت علينا جميعا ً!

ـ أنا لم اهزم! لأن المعركة لم تنته!

ـ غريب….، لابد انك مازلت غارقا ً في الأحلام، أو أن أميرا ً من أمراء الحرب دعاك للاحتفال باليوم الأبدي للنكبات!

[117] عدالة

     بعد جلسات امتدت طويلا ً صدر الحكم ببراءة الذئب، فاعترض الحمل:

ـ إذا كانت عدالتكم لا تميز بين المعتدي، وبين المعتدى عليه، فانا لا امتلك إلا ان ارفع رأسي إلى السماء!

   طلب القاضي من الذئب الحديث، فقال الأخير:

ـ كنت أغط في نوم عميق، عندما استنشقت، يا سيدي، طراوة عطر بالغ الرهافة، فأمرت نفسي بالتجلد، لكن العطر غدا مجسما ً بأبعاد رباعية، رشيقا ً، مركبا ً، يتمايل مع نسمات الفجر، مع ذلك أمرت نفسي بالصبر، إنما الهالة المعطرة الرقيقة اقتربت حتى لامستني…، فأفقت، مضطرا ً، فرأيت هذا الحمل الوديع الجميل يتبختر أمامي فإذا به يصرخ في وجهي: لم استنشق رائحة كريهة راحت تعمل كما تعمل السكاكين في القلب، مثل رائحتك! فلم احتمل، يا سعادة القاضي، إلا ان اغضب، لكن ليس عليه، بل على نفسي!

فسأل القاضي الحمل:

ـ هل لديك ملاحظات؟

ـ كيف أميز بين الحقيقة والوهم، وأنا تجمدت بسبب نظراته ورائحته التي شلت حركتي، وحولتني إلى تمثال…، حتى استنجدت بعدالتكم!

   بغضب خاطب القاضي الحمل:

ـ خسرت قضيتك! وأمرت بحجزك، ، ريثما تصبح خروفا ً، فوجودك أصبح مثيرا ً للفتنة، والغوايات! وقد تستطيع استئناف الحكم، لكن بعد انتهاء الحكم!

[118] ولادات

     اخبر طبيب الجناح الخاص بالولادات زميلته حديثة العهد بالعمل في الحديقة:

ـ لم أر ولادات غريبة كالتي حصلت يوم أمس، فالبقرة ولدت تمساحا ً، واللقلق باض ثلاثة مكعبات، واللبؤة أنجبت تسع ضفادع، وولدت الناقة بلابل بمناقير معدنية، والفار ولد جنينا ً غير مكتمل، والدبة أنجبت أرنبا ً بذيل حصان وآذان قرد وأسنان سمكة…

ـ وما هو الغريب في الأمر …، ونحن نعمل على استبدال القديم بالجديد، وأحادي النوع بالمركب، والمتزمت بالمرن، والصريح بالمتعدد الصفات، باختصار لا أجد ثمة غرابة عدا في موقفك الغريب هذا…!

     رفع رأسه وسألها بصوت مرتجف:

ـ هل أصبحت عتيقا ًإذا ً…؟

ـ أقوالك وحدها تؤكد ذلك، فانا لم أوجه تهمة لك!

سألها بفزع:

ـ هذا يعني إنني أصبحت من الماضي؟

ـ تجلد! اصبر! أيها الطبيب، فانا سألحق بك، عندما اكف عن مواكبة هذا العالم!

ـ وماذا عن قسم ابوقراط؟

ـ آ …..، ها أنت تؤكد مجددا ً انك أصبحت باليا ً، ومن الماضي السحيق!

[119] الديك يعترف

ـ هل ستعترف…، أم أرسلك إلى المحرقة؟

     قال المحقق يخاطب الديك، فرد الأخير بصوت متلعثم:

ـ وهل هناك من يمتلك ذرة من العقل يصدق إنني أنا هو من اعتدى على بنات أوى، وعلى الثعالب، وعلى الذئاب…، ثم كيف يخطر ببالك ان اعتدي، وأنا لم أغادر قفصي، كما ان عملي، في جناح الدواجن، مكبل بشروط قاسية، فرضت علينا، من لدن إدارة هذه الحديقة…؟

أجاب المحقق بصوت واثق:

ـ إن لم تكن أنت هو من اعتدى على تلك الأطياف الشفافة…، فمن يكون هو المعتدي …، هل هو أنا، أم الكركدن، أم التمساح، أم الطنطل، أم وحيد القرن، أم الفيل، أم الخنزير الوقور…؟

أجاب الديك مذعورا ً:

ـ أنا لا اتهم أحدا ً من تلك الكيانات، ولا من تلك المكونات، ولكنك تستطيع، يا سعادة المحقق، ان تتهمني بتهمة إزعاج أحلام الأسد! حيث تكون عقوبتها ان أغلق فمي، وأنا بدوري سأغلقه إلى الأبد، فهذا معقول…، أما ان أكون قد حاولت الاعتداء على النمر، والدب، والديناصور، فهذا قرار لا يخلو من القسوة!

ـ أخبرتك إنني قد استبدل قراري لو …، اعترفت!

ـ سأعترف، سأعترف، سأعترف شرط ان لا ترسلني إلى الجحيم، وأنا على قيد الحياة!

[120] امش!

     امش، قال الخروف للذي يسبقه: فالصوف الذي على جسدك، ليس لك، وجلدك، هو الآخر، سينتزع منك، ليصنعون منه بساطيل للجنود، وأحذية للأطفال، لحمك ليس لك، ولا عظامك، ولا دمك…، ولا رأسك لك!

استدار الخروف وسأل رفيقه:

ـ بالرب عليك كيف عرفت هذا كله …، وهو لن يحصل إلا بعد الموت؟

ـ يا أحمق، الم تر هذا في الإعلانات، وعبر وسائل الاتصال الحديثة…؟

فقال:

ـ لا!

، أنا رأيت..، فأمس عرضوا ما يحدث في المدينة، صورا ً للدخان والخراب وللجثث  الموتى متناثرة في الطرقات!

ـ فقال بألم عميق:

ـ بعد ان يسلخون جلودنا، ويفترسوننا، لن يفلتوا من العقاب!

ـ هم يقولون: بشر الطاغية بيوم لا لون ولا طعم ولا رائحة له.

ـ كيومنا هذا…؟

ـ امش، امش، امش فحتى التراب الذي تمشي فوقه سيسلب منك!

[121] جهنم

    بعد ان أوقع ابن أوى الديك في الكمين، واستسلم له، اخبره:

ـ سأرسلك الآن إلى جهنم!

   فكر الديك وسأله:

ـ ماذا فعلت لك، وأنا اعرف انك ستلحق بي!

ـ من أخبرك بذلك؟

ـ افترسني …، كي ترى نار جهنم باستقبالك.

   أخلى ابن أوى الديك، وراح يهرول خلفه:

ـ متى يرسلونني إلى الجحيم؟

   طلب الديك منه ان يقترب، وهمس في آذنه:

ـ عندما تكف عن نصب الكمائن لنا.

   أدرك ابن أوى الخدعة، لكن بعد فوات الأوان، فقال متمتما ً:

ـ الدرب مازال طويلا ً!

[122] الحمار والذئب

   نادى الذئب حمارا ً طليقا ً رآه يمر من أمام قفصه:

ـ أنت مكثت آلاف السنين، أيها الحمار الجميل، تحمل أثقال البشر، وتحرث أرضهم، وتنقل بضائعهم، ثم أخيرا ً أسروك ووضعوك في هذا السجن!

فقال الحمار:

ـ مع إنني لا اشعر بالعار، ولا بالخسة، بسبب ما قدمته من خدمات…، إلا ان الحرية التي تتحدث عنها، ليست إلا وهما ً!

ـ أتسخر مني، وأنا أنصحك، وأرشدك، ولا انوي إلا تحريرك!

ـ لقد تركوني طليقا ً، لأنني هرمت، كبرت، حتى ان لحمي لم يعد يصلح طعاما ً لكم أيها الأحرار، فدعني اعثر على زاوية ارقد فيها، بدل إضاعة الوقت بالإصغاء إلى هذا الكلام!

[123] الغراب والحمامة

     سأل الغراب الأسود، من وراء القضبان، الحمامة البيضاء:

ـ وأنت يا حمامة ماذا فعلت كي يسلبونك حريتك؟

ـ اعتقد إننا جميعا ً لم نرتكب ما يستحق هذا العقاب….، لكن اخبرني ماذا فعلت أنت؟

ـ لم يخبروني بالسبب!

ـ أنا اعرف!

ـ ستقولين لأنني علمت قابيل كيف يحفر حفرة لأخيه، ويدفنه فيها! لا…، هذا لا يكفي، وليس لأنهم أذكى منا، وأكثر مكرا ً، أو اشد بسالة …

   استغربت الحمامة من كلماته، فسألته:

ـ ما السبب إذا ً…؟

ـ لو كنت اعرفه لكنت عرفت كيف لا أقع في الأسر!

ـ هل تسخر من عقلي؟

ـ لو كان لك عقل، لكنت عرفت السبب.

ـ صديقي أيها الغراب الأسود، لا تحزن، فحتى أذكى العقول، مع التي لا عقل لها، تشاركنا المصير ذاته!

ـ الآن عرفت لماذا تنوحين ليل نهار!

ـ وأنا عرفت لماذا كنت لا تتوقف عن النعيق!

[124] سعادة

   قبل بدء الاستعراض الأسبوعي لرقصة” كلنا سعداء أبدا ً” سأل القرد الأسد، وهما يستمتعان بمراقبة الجمهور الغفير لهما:

ـ في اعتقادك، يا زميلي، من أكثر تعرضا ً للانقراض…، نحن أم هم؟

     همس الأسد في آذنه ان وقت الأسى لم يحن بعد، وان عليهما أداء العمل بنجاح لا أكثر ولا اقل.

   تراجع القرد خطوة إلى الخلف، وقال لزميله النمر:

ـ مازال يؤكد بضرورة إغفال ما جرى لنا…

   هز النمر رأسه وأكد له انه غير مؤهل للإجابة.

     بعد الاستعراض، طلب القرد من المدير ان يسمح له بقضاء يوم في جناح الحيوانات الوضيعة.

أجاب المدير:

ـ هذا هو تقديرك لأبناء جنسك؟

ـ أنا لم اقصد أهانتم…، والتقليل من شأنهم، ولكنني كنت ارغب بمعرفة هل هم سعداء في أداء دورهم في رقصة باليه” الحياة سعيدة إلى الأبد”؟

قال المدير:

ـ لم نقل إلى الأبد…، قلنا: أبدا ً!

فسأله في الحال:

ـ هل أنت سعيد؟

ـ بسعادتكم يا سعادة القرد!

ـ أتسخر مني؟

ـ ولماذا اسخر منكم وانتم تؤدون أدواركم بذكاء!

     في طريقه إلى جناحه، شاهد الأسد يجلس منزويا ً في ركن بعيد، فلم يسأله: هل الحياة سعيدة دائما ً؟  بل اصطدم بالنمر، فسأله الأخير:

ـ ما الذي يشغلك؟

ـ ان أتعس المخلوقات وأكثرها بؤسا ً لا عمل لها إلا ان تؤدي رقصة: “الحياة سعيدة إلى الأبد”!

[125] أحلام

ـ جدك الأكبر هرب عبر البحر، والآخر هرب إلى  الصحراء، أما جدتك، فاعتقد إنها هلكت، بسبب الإشعاعات، الأولاد واجهتهم مشاكل لا تحصى، فالبرية ضاقت بهم، وهم ضاقوا بها، فلم يعد لدينا ـ  نحن الذين بقينا أحياء ًـ ما نفعله، فاستسلمنا، والآن عليك، يا حفيدي، ان تستعين بما ارويه لك….، عن الفضاءات، والشمس، والغابات، والبراري، والبحار…

ووجد انه أسرف في التمويه، فقال لحفيده الثعلب الصغير:

ـ والآن عليك ان تكتفي، وتقتنع، باستنشاق رائحة الطرائد!

فقال الثعلب الصغير لجده:

ـ أنا لا احلم بالفضاءات، ولا بالشمس، ولا بالفرائس…، أنا أفكر كيف استطاع البشر أسرنا، وكيف وضعونا في هذه  الأقفاص؟

ـ وضعوا أنفسهم فيها، أم وضعونا فيها؟

ـ لم افهم؟

ـ الم أخبرك ان تستعين بما ارويه لك….، فالبشر، في قديم الزمن، كانوا طلقاء في البراري…، يشتركون معنا في الغابات، والبحار، والبراري.

ـ أرجوك…،لا تتوقف عن الكلام، أرجوك أكمل…

ـ دعني اخذ قسطا ً من الراحة..، فالحديث عن البشر لا يورث إلا الأحزان، والقنوط!

بعد صمت عاد الجد للحديث:

ـ صار الناس يشيدون أقفاصهم!فصار الكبار يخترعون قصصا ً لصغارهم!

ـ لكنهم لا يفكرون إلا بالمستقبل..؟

ـ وهذا ـ هو ـ ما افعله معك، يا حفيدي، ان تصنع وهما ً يمتد ابعد من زمن زواله!

[126] سلام

    بعد ان شاهد القرد، عبر شاشة الحديقة الكبرى، فلم “بزوغ عصر القردة” همس في إذن زميله:

ـ ألا تعتقد إننا جميعا ً انحدرنا من العناصر ذاتها التي كونتها عوامل نشأة الحياة؟

ـ مع إنني لا أكن احتراما ً لأصحاب المخالب، والأنياب، ابتداء ً من التماسيح إلى البشر، ومن العقارب إلى الدبابير…، إلا ان ما يوحدنا هو إننا نشترك في النهاية  التي تختلط فيها العناصر ذاتها التي كونتنا! فما جدوى غضبنا عدا انه لا يدعنا نرحل بسلام!

[127] رماد

ـ اسمع …

وأضاف الجد يخاطب حفيده:

ـ وحتى لو لم يظهر البشر، لظهر أي نوع آخر.. لأن التراكم شكل مبدأ التمايز…، بين الأنواع، في المكر، والجور، لكن فكر كم سيدوم زمن هذه الحديقة، وأنت تتأمل ما يحدث من تصادمات لن تترك خلفها إلا الرماد، والأثير!

ـ كأنك تطلب مني ان لا أقاوم هؤلاء الماكرين وهم يديرون اللعبة…ظ

ـ أبدا ً…..، لكن ليس لدي ّ قلب يحتمل فقدانك!

[128] صمت

ـ منذ سنوات وأنا لم أسمعك تنطق بكلمة، ولم أرك ابتسمت أو دخلت في حوار؟

    هامسا ً أضاف الفهد، يسأل النمر:

ـ ولم أرك تناولت طعامك بشهية، كأن الحديقة ضاقت بك، وأنت ضقت بها؟

    بعد صمت طويل، وبعد محاولات أخرى لاستنطاقه، تمتم النمر:

ـ أتود ان تسمع جوابي الذي لا يسرك، ولا يسرني أيضا ً؟

    ابتسم الفهد:

ـ كلما سجناء!

ـ مادمت تعرف هذه الحقيقة، فما معنى كلامي، عدا إضاعة الوقت؟

ـ وهل صمتك يفضي إلى غير الصمت؟

ـ  في الأقل…، لا أحاول الوقوع في الوهم، كما لا أوهم غيري!

ـ أي انك لم تعد تحتمل حتى ان تتحدث مع نفسك؟

ـ ومن قال لك أنا أتحدث مع نفسي؟! أم تنتظر ان أفرحك أكثر مما فعلت وأنا أغوص داخل الوحل الذي خرجت منه، والذي لا مناص سأعود إليه.

ـ آ …..، الآن فهمت لماذا لم تنضم إلى السيرك!

ـ أتظن إنني لو لم اشترك، أكون قد نجوت بجلدي؟!

[129] ألوان

   سأل الحمل البقرة:

ـ أنت تأكلين العشب الأخضر، لكن حليبك، أيتها البقرة الجميلة، يخرج بلون آخر، فهو ابيض صاف ٍ مثل الثلج؟

   فكرت البقرة قليلا ً، لتسأله:

ـ كيف خطر ببالك هذا السؤال الذي لم يدر بخلدي أبدا ً…؟

صمت لحظة وقال:

ـ لكن لدي ّ سؤال آخر: هل سنبقى إلى الأبد نسمن، في هذه الزرائب، كي نذبح ونصبح طعاما ً للآخرين؟

ـ وهذا السؤال، هو الآخر، لم يخطر ببالي!

تمتم بحزن:

ـ  هكذا تصبح أقسى الأفعال، عابرة، إن لم تصبح بابا ً من أبواب العدالة، والرحمة…!

ـ ماذا قلت أيها الحمل اللعين؟

ـ ها أنتِ، أيتها البقرة السمينة، تبغضيني وتلعنيني لأنني سعيت كي نبقى نأكل العشب الأخضر، ولا نقدم للآخرين، إلا البياض! لكن، واآسفاه، كلما عملت عملا ً صالحا ً، أجد من يلوح لي بالذبح، هذا إذا لم أرسل إلى المجهول قبل ان استنشق حتى رائحة الهلاك!

[130] قسوة

ـ ماما…، لا أريد ان أرى…، اسلبيني النظر!

استفسرت  الأرنب الأم من صغيرها:

ـ ماذا حدث لك، حتى تكاد تموت رعبا ً؟

ـ رأيت، عبر الشاشة الكبيرة، الثلج يتساقط كثيفا ً فوق خيام المهجرين، والفارين، والنازحين…، ويغطيها…، ورأيت الأطفال الموتى ….، فوق الثلج الأبيض، إحدى البنات لم تغمض عينيها كأنها تحدق في السماء!

ـ آ …..، دعك من هذا…، لأنها حكاية تمتد إلى عصور ما قبل الطوفان.

ـ ماما…، أي قلب أعمى، أي عقل شرير، أمر بقتل الأطفال وتركهم يحتضرون وينفقون في العراء، بلا رحمة، وبلا شفقة؟

ـ كنت أتصور انك تسألني عن قسوة الثلج…، ولكن حسنا ً فعلت..، لأن عليك ان تعرف حدودك..، فبعد ان وضعوا الثعالب، والذئاب، وباقي المفترسات، في الأقفاص…، قلنا: نجونا من الأشرار. أما الآن فما معنى ان توجد مثل هذه الشاشة الكبيرة وسط هذه الحديقة وهي لا تترك خبرا ً سيئا ً إلا وعرضته علينا؟

  أجاب بصوت مرتجف:

ـ لن أغادر مغارتنا هذه أبدا ً!

ـ لا يا ولدي، فلم يعد لدينا ما نخشاه، إلا خطر الطيور الجارحة، وما تبثه هذه الشاشة…..، قبل ان يرسلوننا طعاما ً للذئاب الجائعة القابعة خلف القضبان!

[131] الذئب والكبش

   بعد ان هرب الذئب العجوز وغادر قفصه، وابتعد عن أسوار الحديقة، وجد نفسه محاصرا ً، بين قوى كانت تشتبك بالأسلحة كافة، وقد تناثرت الجثث، جثث النساء والأطفال والشيوخ والفتيان، مضرجة بالدماء، بعد ان مزقت، واسودت جراء الحرق، وعمت الفوضى، لم يعد لديه إلا العودة إلى الحديقة، ملاذه الوحيد. آنذاك لم يذهب إلى قفصه، مباشرة، بل حشر جسده الهزيل وسط أجساد دافئة حالما رأته حتى ذعرت من وجوده الغريب معها، ولكن الذئب، هو الآخر، شعر بالخوف درجة انه يتكلم، ولم يفتح فمه، إلا بعد ان استعاد قواه، وبعضا ً من الطمأنينة، مرددا ً مع نفسه بصوت مسموع: فانا اشعر بالعار أيضا ً! وقد رفع صوته:

ـ لأنني كنت ارتكبت الخطيئة، والآثام، والمعاصي!

هز الكبش رأسه، وبسخرية خاطب الذئب:

ـ ولكنك، يا صديقي، لا تستطيع ان تكون إلا ذئبا ً.

ـ آ …..، لكن دعني، أيها الكبش العنيد، ويا أيتها الخراف الطيبة، ان اعترف لكم بما رأيت..

قال الكبش حالا ً:

ـ رأيت الحرب بويلاتها، بخستها، وخرابها..؟

ـ نعم لقد رأيت الإنسان الذي طالما عمل على قتلنا، واجتثاثنا، ومحونا من الحياة، رايته وهو يجتث نفسه بنفسه! فانا رايته على صورته الحقيقية.

ضحك الكبش من غير ان تغادره السخرية:

ـ وما الغريب في الأمر…، مادمت، أيها الذئب العجوز، طالما كنت تؤدي الدور ذاته إزاءنا؟

ـ أرجوك لا تدعني افقد الأمل…

اقترب الكبش منه:

ـ هل تقدر ان تقاوم رائحة لحمي..، إذا قلت نعم، فانا سأمتنع عن أكل العشب، ولا اسبب له أذى؟!

   تراجع الذئب خطوات مبتعدا ً عن القطيع:

ـ عدنا إلى سر الخطيئة! فمادمت لا تقدر ان تستسلم لموتك بهدوء، قانت لا تقدر إلا على …، ارتكابها!

    ثم راح يتمتم بصوت مسموع:

ـ حتى لو عدت إلى قفصي، وامتنعت عن الافتراس، فانا غير قادر على اختيار الموت .. جوعا ً!

    اقترب الكبش منه:

ـ وما الجديد…ظ

ـ لا جديد…، فانا كنت اعرف من هو الإنسان، واليوم ازددت إيمانا ً بأنه لا يمتلك إلا ان يكون هو نفسه.

ـ وما الجديد …؟

ـ أرجوك…، ابتعد عني…!

ـ سأبتعد، لكن من يضمن انك لن تفترسني …؟

  ولى الذئب مذعورا ً، بعد ان راح القطيع يهاجمه من الجهات كلها، ليتأمله عن بعد: الآن عرفت ان أقسى الاختراعات لا تزول إلا بزوالنا …، لأنها وحدها للأسف لن تسمح للعدالة حتى ان تكون حلما ً، أو أملا ً، أو حتى وهما ً!

[132] أنت وأنا!

   اقترب الفار من الأسد، وسأله:

ـ بماذا تختلف عني …، أنت لديك ذيل وأنا لدي ّ ذيل، أنت لديك أنياب وأنا لدي أنياب، أنت لديك لحم وعظام ودم وأنا لدي عظام ولحم ودم…، أنت تريد ان تبقى على قيد الحياة وأنا أريد ان أبقى على قيد الحياة أيضا ً…، فاخبرني، أيها الأسد العظيم، بماذا تختلف عني؟

   ضحك الأسد لفترة طويلة من الوقت، وقال:

ـ أنا في القفص وأنت طليق.

ـ اعرف هذا … فماذا لديك؟

ـ أنت من تسأل وأنا من يبحث عن الجواب…؟

ـ اعرف هذا…، فماذا لديك أيضا ً؟

ـ أنت تستطيع ان تبول علي ّ، عندما أموت، وأنت تستطيع ان تحقق أحلامك بالنصر، في الوقت الذي أكون قد فقدتها إلى الأبد.

ـ وبماذا كنت تحلم؟

ـ بالتأكيد لم أكن احلم ان تجري معي هذا الحوار!

ضحك الفار وسأله:

ـ ولكن ماذا ستفعل بي في العالم الآخر…؟

ـ آ ……، أيها الفأر، لو كنت تخشى العالم الآخر، لكنت عرفت حدودك في هذا العالم!

[133] الأسماك عارية!

   سأل الطفل والدته وهو يشاركها مشاهدة الأسماك في القفص الزجاجي الكبير:

ـ لماذا، يا أمي، الأسماك تسبح عارية، ألا تخجل منا؟

   مدت أصابعها إلى فمه كي تغلقه، خشية ان يسمعه الآخرين، فصرخ:

ـ ماذا قلت …،  وأنا اقصد ألا تشعر بالبرد؟!

  ابتسمت الأم، وقالت مع نفسها: حسبت انه سيذهب ابعد من ذلك!

لكنه خاطبها:

ـ في الواقع كنت اقصد أيضا ً، يا أمي، ألا تخجلين من النظر لها وهي تستحم عارية!

[134] مصالحة!

    اجتمعت القنافذ وقررت ألا تؤذي الأفاعي. فأرسل زعيمها برقية بذلك، فجاء الرد، قراءه حفيد قائد الأفاعي على القنافذ: من أسد التراب إلى القنافذ الشوكية، نبارككم إصدار قرار المصالحة! فكتب القنفذ الأكبر رسالة جوابية، أعطاها للصل، كي يحملها إلى جده. لكن لا الحفيد وصل ولا الرسالة وصلت. فغضب الجد وجاء بنفسه، وخاطب القنافذ:

ـ أرسلت حفيدي إليكم، ولم يرجع …، فهل هذه نواياكم  للمصالحة؟

 قال كبير القنافذ:

ـ المصالحة، يا سيدي، تحتم على كل منا ان يعرف حدوده وان لا يغادرها!

  فصرخ كبير الأفاعي:

ـ وما فائدة هذه الأقفاص إذا ً…؟

ـ هذه…، يا سيدي، للدعاية!

[135] الظلم والعدالة

قالت اللبؤة لشبلها:

ـ يا ولدي…، في الغابة كنا نموت من اجل الحصول على الحرية، وهنا، في هذه الحديقة، تهبنا الحرية ما كنا نحلم به!

فقال ساخرا ً:

ـ كي نرقص، ونلعب على الحبال، مع القردة؟!

كادت تصفعه، لكنها قالت بصوت غاضب:

ـ أي شرير علمك هذه الكلمات؟

أجاب بثقة:

ـ الناس يقولون إننا، معشر الأسود، أصبحنا مثل القردة، والحمير، والقطط…، لا عمل لنا إلا المشي فوق الحبال، والرقص مع الدببة!

بعد صمت غير قصير أجابت:

ـ هذا أفضل من ان ترى، في نهاية العمر، الثعالب تبول علينا!

   ابتعد الشبل عنها، وقد أدرك استحالة العثور على جواب، فتمتم مع نفسه: أنا لم أكن احلم بالعودة إلى الغابة، ولا الخروج من هذه الأقفاص، أنا كنت أفكر بما قاله لي الحمار: أينما وليت وجهي، فلا احد أمامي إلا الناس، ولا احد خلفي إلا الضواري! أما انتم، أيها الأسود والنمور والذئاب، فقد أفلحتم بكسب ود الجميع!

    ثم سأل الشبل نفسه: ماذا لو لم أكن قد ولدت…، أكنت فكرت لماذا أنا موجود…، وها أنا وجدت، فهل لغيابي معنى؟

    مر الحمار:

ـ ها لو …، أيها الشبل الثرثار…، أما زلت منشغلا ً بالعدالة؟

ـ لا! اقسم لك لا…، فانا مشغول بأمر آخر.

ـ بماذا …؟

ـ ما الذي يحدث لو دام الظلم إلى الأبد…؟

ضحك الحمار:

ـ لا يمكن للظلم ان يدوم إلى الأبد، ولكن يبدو  لا معنى للعدالة من غير هذا الظلم!

قرب الشبل رأسه من الحمار:

ـ ماذا تقصد…؟

ـ لو عدت ونظرت إلى الماضي، فستعرف ان ما لا يحصى من أسلافنا، لقوا حتفهم، وانقرضوا، كطرفة عين، لكن شيئا ً ما كان يجتاز أقسى الكوارث، حتى وصل إلينا، وحتى وصلنا إليه!

ـ آ ..، فهمت، لا احد استطاع دحض إرادتنا في الذهاب بعيدا ً في المجهول!

صمت الحمار لحظات، وخاطب الشبل:

ـ كما إننا لم ان نحرز تقدما ً يذكر!

  ضحك الشبل:

ـ أليس هذا الحوار، يا صديقي، بحد ذاته، خطوة صحيحة في الدرب؟ ثم تمتم مع نفسه: حتى لو كنا لا نعرف شيئا ً عن هذا الدرب!

[136] كابوس

   ـ مرة ثانية استنشقت رائحة دماء جافة، حادة، وقد راحت تمتزج بومضات موخزة وأصوات تتناثر داخل فراغات رأسي…

    وأضاف الحمار يخاطب رفقائه، في الزريبة:

ـ كأن الحديقة برمتها تحولت إلى عاصفة ترابية، معتمة …

أجابه احدهم يطمئنه:

ـ ربما أسرفت، يا صديقي، في الطعام.

ـ لا…، فأنت تعرف إنني لم اعد مولعا ً بالأكل…

 قال آخر:

ـ هل هناك ما يشغلك…، يقلقك، ويفزعك…؟

صفن لحظات وأجاب:

ـ في الواقع لم اعد منشغلا ً بمصيري، الشخصي، بل ولم اعد منشغلا ً بمصائركم، يا رفاقي…، فنحن نولد، هنا، للذبح، طعاما ً لتلك البهائم الخاملة …!

سأله الآخر:

ـ ربما شعرت بالبرد؟

فقال غاضبا ً:

ـ أخبرتكم بأنني لم أر ما يثير القلق…، فقط استنشقت رائحة دماء جافة..، فلم اسمع أصواتا ً، ولم أر ألوانا ً، بل تلمست سكينا تبتر عنقي!

صاح الأكبر سنا ً:

ـ طالما نصحتك ان لا تشاهد ما يعرض عبر شاشة الحديقة اللعينة…، لتنشغل بما يحدث، فتضطرب أحلامك، يا ولدي، ما دمت عرفت إننا كنا نولد كي تفترسنا الضواري، في البرية، ثم أصبحنا نعمل على حمل الأثقال، وبعد ذلك جاءوا بنا إلى هنا ..، فما الذي سيكون عليه المستقبل؟.

ـ آ ….، أخبرتكم، بصدق، إنني غير مكترث للحتميات، فما من احد  عاش إلى الأبد، ولكنني مشغول بهذا اللا معنى الذي راح يصدع رأسي بأحلام سلبتني لذّات النوم!

[137] أنت أم أنا؟

     اقترب عجوز من حظيرة الحمير، فشاهد احدهم يقترب منه، فرحب العجوز به وخاطبه:

ـ اقسم لك…، أنا اعترف بأنك أذكى مني، وأكثر ثقة بنفسك، واحتراما ً لها، واعترف لك انك تتمتع بالرهافة، والشفافية، حد انك لم تفرط  بهما، ولا بمشاعرك، ولا بما يدور بخلدك ..

   وتراجع العجوز خطوة إلى الوراء، لأن الحمار قرب رأسه كثيرا ً منه، فتابع العجوز:

ـ واقسم لك …، انك تمتلك تصورات جديرة بالتقدير، والثقة، والاحترام، ولكنني أود ان أخبرك، واعترف بمرارة، انك إذا كنت تذبح، لمرة واحدة، لتصبح طعاما ً للبهائم الخاملة، وغير النافعة، في هذه الحديقة، فانا، يا صديقي، ذبحت آلاف المرات، ومازلت اذبح، وأنا أصر ان ابقي رقبتي بانتظار السكين!

هز الحمار رأسه الكبير، استجابة لكلامه، فخاطب العجوز نفسه، بصوت مسموع: ربما قصد إنني لم اعد أر خلاصي إلا بالاستسلام، والخنوع، واللامبالاة!

نهق الحمار:

ـ لا! لا، أيها العجوز، لم يخطر ببالي هذا أبدا ً، بل قصدت انك لم تفعل شيئا ً من اجلي، كي تفعل شيئا ً من اجل نفسك!

ـ أصبت! فأنت لا تموت إلا مرة واحدة، وتنتهي حفلتك، أما أنا، فبعد كل موت، تجدني بانتظار الموت القادم، من غير ملل، ومن غير ضجر، وأحيانا ً بابتهاج!

[138] وليمة

     لامست  النعجة بجسدها جسد الكبش، لتخبره، من غير كلمات، وبلا صوت، ان الببغاء، في الصباح، ألقى نظرة خاطفة، ثم تبعها الثعلب، وتفحص القطيع، ليأخذ حذره، ولا يجادل، أو يدخل في حوار، فالمدير لديه معلومات عن الخروف الذي سيصبح وليمة.

   أجابها الكبش انه لا يمتلك ما يفعله، فان لم يتم اختياره اليوم، فغدا ً…، فانخرطت ببكاء صامت، خشية ان تلفت نظر السيد المدير. لكن الأخير خاطب القطيع:

ـ الأوامر صدرت بإخلاء الزريبة، بغية ترميمها، ونصب سقوف تقيكم من المطر، والبرد..

   خاطبها الكبش النعجة:

ـ ها هو يفند سوء ظنك ِ!

    هزت رأسها ولم تخبره انها كانت تخشى ان تفقده، إنما القرار شمل الجميع.

قرأ المدير بخلدها، فطلب منها ان تقترب:

ـ نعم.

خاطبها المدير:

ـ حقا ً أنت ِنعجة ذكية، وأنا سعيد بفطنتك…، ولكن كيف تمت معرفة  ما دار بخلدي..؟

  أجابت من غير تردد:

ـ بسبب اللام التي كتمتم صوتي، ولم تسمح لي حتى بفتح فمي.

قال المدير بصوت جهوري:

ـ آن لكم ان تعودوا إلى البرية، فانتم طلقاء!

    تجمّد القطيع فجأة وتحول إلى كتلة متراصة نطقت بصوت موحد:

ـ أيها المدير…، اختر أي واحد منا، بدل ان تمزقنا الضواري، في العراء!

[139]  تهديد!

     جرجر الطفل البالغ خمس سنوات من عمره، يد أمه بقوة:

ـ دعينا نغادر هذه الحديقة!

ـ لكننا لم نر الأجنحة الأخرى، لا جناح الغزلان، ولا جناح الطيور، ولا جناح البرمائيات..

ـ أماه، يكفي إننا شاهدنا هذه المخلوقات لا تخجل منا، وقد تركت عوراتها بلا حجاب، وستر، وكأننا في ناد ٍ للعراة!

صرخت:

ـ ماذا تقول…؟

ـ أقول إذا كانت هي المخلوقات لا تخجل منا، فلماذا لا نخجل، نحن، منها…؟

تمتمت مع نفسها بشرود:

ـ ماذا عساه يقول، ماذا عساه يفعل يفعل، بعد سنوات؟

حدق في عينيها شزرا ً:

ـ لن اسمح لك بالخروج من البيت أبدا ً!

فقال بذهول:

ـ من علمك هذا …، يا ولدي، فأنت ولدت عاريا ً، وستدفن، مثلما خلقت.

وأضافت:

ـ فالمعايير الحقيقية، يا صغيري، يحددها العقل، ولا تحددها هذه العورات!

صاح بإلحاح:

ـ دعينا نخرج، وإلا فانا غير مسؤول عما سيجري….!

[140] أسباب أخرى

     بعد ان اجري الطبيب فحوصاته المختبرية، وبعد إجراء معاينة مباشرة له، قال الطبيب للأسد:

ـ صحتك ممتازة، فلماذا فقدت شهيتك لتناول الطعام…، وكأنك تخفي الأسباب علي ّ….، تكلم، فهذا هو اليوم الثالث…، حتى ان هناك إشاعات تتحدث عن نيتك بإعلان الإضراب عن الطعام؟!

اعترض الأسد بصوت حاد:

ـ هذه وشايات، وأخبار كاذبة…، تنم عن دناءة هؤلاء المخبرين وخستهم عندما يشهرون بكائن مثلي، عاش سنوات طويلة في هذه الحديقة من غير شبهات!

أجاب الطبيب:

ـ وهذا ما أقوله أنا، فنزاهتك فوق الشبهات!

قرب الأسد رأسه من الطبيب، هامسا ً:

ـ منذ سنوات وأنا ارقب…، وقد تأكد لدي ّ، أيها الطبيب، ان القرود، مع فصائل أخرى، قد استولوا على مخازن السلاح،  بأنواعها كافة، وإنهم شرعوا يجرون تدريبات عليها…، وهم الآن يمتلكون كميات كبيرة من المتفجرات، والعبوات الناسفة، والألغام، والأحزمة الناسفة من ناحية…

وصمت، فحثه الطبيب:

ـ أكمل، تابع، أرجوك…، فهذه المعلومات خطيرة؟

أجاب الأسد بصوت واهن:

ـ لكن هذا لم يثر مخاوفي، ويمنعني عن تناول الطعام، فهناك قضية أخرى بالغة الخطورة، يا سعادة الطبيب!

ـ قضية أخرى…، بح بها أرجوك.

ـ ان ترسانة الأسلحة الفتاكة أصبحت تستحوذ على عقول البشر، وهي التي تتحكم بإرادتهم.

ـ  أتقصد ان الإنسان الذي صنعها لم يعد يتحكم بها؟

ـ اجل..، اجل، الإنسان صنع الأسلحة التقليدية، التي سرقت منه، أما الآن، فالأسلحة الفتاكة، المدمرة، هي التي أصبحت تتحكم بالعقول، والمشاعر، والإرادات!

صعق الطبيب، فعاد الأسد إلى الكلام:

ـ فإذا كنا سابقا ً نأمل بحياة مشتركة، فان هذا الحلم قد تبخر تماما ً، لأنه لم يعد لدينا ما ننتظره، بعد ان بدأت الأسلحة عملها، في التخريب.

صاح الطبيب:

ـ سأخبر السلطات بالأمر.

أجاب الأسد:

ـ فات الوقت …! فلا فائدة ترجى…، بعد ان أصبحت مخازن الأسلحة مشرعة، وبعد ان استولى الغوغاء عليها، لان الأسلحة المدمرة هي التي ستصدر أوامرها للعقول، وللإرادات! فلا القردة ستنتصر، ولا البشر يمتلكون قدرة  السيطرة على استيقاظ البراكين وقد أفاق من سباتها العميق!

تمتم الطبيب، يخاطب نفسه، بصوت مرتبك:

ـ ها أنا أجد إنني لا ارغب حتى بتنفس الهواء!

لكزه الأسد:

ـ لا تكترث، أيها البرفسيور، فهذه ليست هي المرة الأولى …، ولا اعتقد إنها ستكون الأخيرة!

[141] ابتهاج

     وهما يشاهدان عربة نقل الموتى تتجه نحو المحرقة، تحمل جثمان وحيد القرن، لمح القرد زميلة يقهقه بصوت متقطع، فسأله باستغراب:

ـ هل هكذا نودع شركائنا الوداع الأخير…؟

أجاب حالا ً:

ـ إنهم يأخذونه إلى المحرقة! كما سيأخذوننا نحن أيضا ً.

ـ وهل هذا ما دعاك إلى الضحك؟

ـ لا اعرف لماذا شعرت بالابتهاج! ففي الأقل، يا شريكي، سنتخلص من الدفن في الوحل، فلا احد ينوح علينا، ولا احد يشهر بنا، ولا احد يتذكرنا، بل ولا تكون هناك فرصة للكلاب ان تتبول علينا!

[142] مزاح

   داس فرس النهر فوق ساق الضفدعة، فراحت تصرخ:

ـ كم مرة أخبرتك أنا لا أحب مثل هذا المزاح! فارفع ساقك وإلا فإنني سارد بالمثل!

     سمعتها جارتها فقالت لها:

ـ اهربي من غير ساق، قبل ان يسمعك فيكمل مزاحه معك!

[143] الديك وابن أوى

     وهو يتخلص من مخالب ابن أوى، صرخ الديك موعدا ً، بعد ان أصبح في أعلى الشجرة:

ـ إذا كنت نجوت مني، الآن، فأين ستذهب من نار جهنم، بعد الموت…؟

   رفع ابن أوى رأسه وقال له ساخرا ً:

ـ كم سأكون سعيدا ً بتناول لحمك مشويا ً!

ـ أتسخر من نار جهنم؟

ـ معاذ الله، أيها الديك الشاطر، خاصة انك تخليت عن دجاجتك ولذت بالفرار…!

     عوت الكلاب مهرولة نحوهما، فهرب ابن أوى، فراح الديك يخاطبه:

ـ لا تهرب، انتظر…، ستضطر للاعتراف بجرائمك كاملة!

[144] الحصان والأتان

     مرت الأتان(1) تتبختر نشوانة من أمام الحصان، في الإسطبل، حيث أخفى ابتسامة لمحتها الأتان، فاقتربت منه كثيرا ً، حتى استنشق رائحتها، فسألته:

ـ أتسخر مني، أيها الحصان الجميل؟

ـ بالعكس…، فانا استعدت أزهى أيامي، عندما بذلت كل ما كان بوسعي ان أقدمه للآخرين!

   لم تخبره بما اسر في إذنها، قبل سنوات طويلة، وهو يسفدها: عساك ان تلدي مهرا ًعداء مثلي، فلا تجعليه كالحمار الذي ينوء بحمل الأثقال(2) لتقول:

ـ ماذا نفعل غير حمل الأثقال..، فانا نفسي لو افعل ذلك لتخلصوا مني، وجعلوني وليمة للمفترسات!

ـ هذا هو الصواب.

ووجد صعوبة في متابعة الكلام، فسألته:

ـ أراك مهموما ً، حزينا ً، وتنظر بشرود …، ولا مبالاة؟

أجاب بلا بعدم اكتراث:

ـ كنت أود لو مت بدل ان انطق بكلمة أسف، على ما مر…، ولكنني سأعترف لك، يا صديقتي القديمة، مادام الكلام، في نهاية المطاف، كالصمت، محض مرور من المجهول إلى المجهول، فها أنت ِ تستنطقيني!

ـ ها أنت أصبحت فيلسوفا ً، تفكر مثل القدماء؟

ـ لا، أيتها الأتان السعيدة، فانا لم اعد اجري في ساحات الوغى، ولا في ساحات المنازلات الكبرى، ثم لم اعد اجر العربات، بعد ان شغلوني بجر عربات الموتى، ثم عربات الزبل، ثم حمل الأثقال، رغم تقدمي بالعمر بعد سنوات طويلة من الخدمات التي قدمتها!

ـ وماذا بعد ذلك..؟

ـ الجواب وحده سيبقى لغزا ً…، فانا لم اقتل، ولم أمت…، بل وجدت مصيري ينتهي بي في هذا الإسطبل، في هذه الحديقة، وقد وضعوا لافتة تقول: حصان أصيل!

نطقت بنشوة:

ـ وها أنا أجدها مناسبة كي نعيد صداقتنا الحميمة القديمة…، يوم ولدت بغلا ً!

قالتها بخبث، فأجاب بصوت واهن:

ـ آ …، أيتها الجميلة، مهما تقدم العمر بك، فأنت مثار للدهشة، والغواية…، ولكن لماذا تبعثين في الأسى، بعد ان غاب عني عقلي، وفقدت جذوته!

فقالت بحيرة:

ـ  وماذا افعل بعقلك…؟

ـ لا تسخري مني، فالعقل وحده مسؤول عن الغواية، والخطيئة!

ـ لو كان ما تقوله صحيحا ً، لكانوا أرسلوك إلى المسلخ طعاما ً للضواري، أو تخلصوا منك بإرسالك إلى المحرقة!

  فقال بصوت حزين:

ـ لن يطول الأمر …، فعندما لم اعد قادرا ً على عرض مهاراتي، للزائرين، بوصفي أصبحت أثرا ً، كما قالوا ذلك، ستنتهي حفلتي في هذا الوجود!

ـ يا للخيبة، لن أتذوق عسلك!

فنطق بصوت مرتجف:

ـ لكن خيبتي اكبر …، أيتها الغالية، عندما لا أجد ساحة للجري، ولا أجد ساحة للمنازلة، ولا أجد قدرة للتمتع بزمني…، عدا الاحتفاء بوجودي وقد صار هيكلا ً…، بعد سنوات بذلت فيها كل ما كان بوسعي ان ابذله من اجل الآخرين، ولكن اخبريني..

صمت فترة غير قصيرة، ليسألها:

ـ أين ولدنا الغالي؟

اكتأبت، وبصعوبة وجد الرد:

ـ افترسته الذئاب.

ـ آ ….، فهمت، لهذا ترغبين بابن…! إذا ً…، لن ادع الحزن يؤذيك، بعد ان  ملأت رائحتك عقلي!، لكن ما الذي يضمن ان بغلنا السعيد، ابننا، لن تفترسه الكلاب، أو ينتهي به المطاف إلى هذا الإسطبل، في هذه الحديقة؟!

_________________________________

1 ـأتان: ( اسم )

الجمع : أُتُنٌ ، و أُتْنٌ
الأتان : الحِمارة ، أنثى الحمار

2 ـ طه باقر ” مقدمة في أدب العراق القديم” أدب السخرية والغزل والتراتيل. جامعة بغداد ـ كلية الآداب ـ 1976 ص182

 

[145] نواح

     ـ مرات، ومرات، ومرات لم تستطع ان تمسك بي، وها أنت، أيها النمر، تقبع خلف القضبان، بانتظار قطعة باردة من اللحم!

    متابعا ً، أضاف الأرنب:

ـ فأي مجد واه ٍ، خاو ٍ، شيّدت عليه سمعتك، وأنت تفترس المخلوقات الوديعة، الرقيقة، المسالمة..؟

   قرب النمر رأسه من الأرنب:

ـ أيها المغفل، لن تستطيع، مهما تمتعت بالحرية، الا ان تصبح وليمة لي…، فلو لم تكن موجودا ً، ومعك مخلوقاتك الرقيقة، الشفافة، لكنا نرقد مع الديناصورات!

فسأله الأرنب:

ـ وهل دام زمن الظالمين إلى الأبد..؟

رفع النمر صوته:

ـ اقترب..

ـ ها أنا بجوارك، لا تعزلنا سوى القضبان.

ـ من علمك هذا الكلام…؟

ـ لا أقول لك ان الحرية علمتني، ولا أقول ان الظلم هو الذي علمني!

ـ كيف تعلمت إذا ً…؟

ـ لو كنت اعرف…، لأغلقت فمي، قبل ان يمنعوني حتى من النواح!

[146] مصائر

    عندما اقترب الحمل من الذئب، كان الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة:

ـ يا لها من نهاية!

ود الذئب لو قال له: انتظر. ولكنه جمع قواه ليقول:

ـ ما نطقت به أيها الحمل الوديع، أقسى من الألم الذي تحدثه السكين وهي تفصل رأسك عن بدنك!

أجاب الحمل بصون حزين:

ـ اخبرني ما الفائدة من موتك…، وأنا موتي كله منافع للآخرين!

   لم يتمكن الذئب من النطق، بل دار بخلده، في لحظة الموت، وإلا ما فائدة وجود هذا العدد الكبير من الضعفاء، والعبيد!

[147] الأسد يتكلم

ـ لم تترك غزالا ً، ولا كبشا ً، ولا ثورا ً، ولا حتى أرنبا ً…، إلا وافترستها..

وراح الفأر يخاطب الأسد الصامت:

ـ والآن رُوضّت، فصرت تجيد الرقص، وتمشي فوق الحبال، وتجتاز حلقات النار، بل رحت تعزف وتغني مع الجوقة، نشيد: من البراري إلى الحدائق، سائرون….!

  وصمت الفأر، فلم ينطق الأسد بكلمة. فرفع الفأر صوته:

ـ هل لديك ما تريد ان تقوله، أم ستحتمي بالسكوت؟

عبس الأسد، ثم ابتسم، ولم ينطق. فسأله الفأر:

ـ أكنت تريد ان تبوح بسر…؟

    لم يجب، منسحبا ً إلى ركن بعيد في القفص. فاقترب الفأر منه كثيرا ً، غير آبه بالرد. تابع الفأر يقول:

ـ لهذا السبب، ربما، تركت أنيابك تختزل الكلام، ولكن ما هو سر صمتك، يا إمبراطور الغابة؟

لم يجب. فاقترب الفأر منه وعضه:

ـ آن لك ان تفترسني!

ضحك الأسد، ونطق:

ـ آه…، لو كنت غزالا ً..!

ابتسم الفأر وسأله ساخرا ً:

ـ ماذا كنت ستفعل..؟

أجاب بصوت خفيض:

ـ سأدربك على الرقص!

ـ آ …..، ماذا فعلوا بك..؟

أجاب الأسد:

ـ أيها المغفل…، أنا وأنت، في المصيدة، فماذا تريد مني ان أقول؟

   هرب الفأر، فدار بخلد الأسد: ربما جاء لاستنطاقي؟ ثم استدرك: وهل يوجد غير هذا القفص، والرقص فوق الحبال؟

مستعيدا ً صوت الفأر: ما أقسى الحرية عندما لا تكون إلا الاختيار الوحيد!

فقال لنفسه بصوت متلعثم:

ـ وما أقسى ان تولد كي لا تمتلك إلا ان تدافع حد الموت عن سجنك!

[148] رائحة

ـ ما ان راني حتى توارى، خلف الأشجار…، لكنني رأيتها تلحق به!

    ساد الصمت، في الحظيرة، ممتزجا ً بالذهول، والترقب، فطلب زعيم الحمير ان يكمل شهادته، قال الجرذ متابعا ً:

ـ ومكثت أتلصص، عن بعد، وقد كان الظلام حالكا ً، والبرد شديدا ً…، لكن كل منهما عثر على الآخر.

متابعا ً أضاف:

ـ وبدأ يجامعها، كأنه يسفدها! فكانت تهز رأسها إلى اليسار تارة، والى اليمين تارة أخرى..، حتى شهقت، وهو تأوه بصوت عميق مسترخيا ً …، ثم اختفى …!

فسأل الزعيم الأتان:

ـ هل لديك كلام يؤكد أو ينفي هذا الادعاء..؟

ـ طبعا ً أنا لا انفي، ولا أؤكد …!

ـ غريب.

ـ أيها الزعيم، أنا لا اعرف من كان السبب، فأنا لا اعرف هل هو الذي أغواني، أم أنا هي التي هرولت خلفه….، فثمة رائحة كانت لا تقهر جذبتنا، وصهرتنا…، لكنما علاقة هذا الجرذ بنا، كيف رآنا، ومن اخبره بأمرنا؟

 سأل الزعيم الجرذ:

ـ حقا ً، من أمرك بهذا العمل…؟

أجاب بصوت واثق:

ـ السيد المدير…، والسيدة مستشارته، الببغاء، بتوجيه مباشر من السيد القائد، الثعلب!

قالت الأتان:

ـ صدقني …، كنت غارقة في الحلم، درجة الاستحالة الإفاقة منه، ويا للخيبة، لم يدم…، فقد عضني هذا الكلب!

صاح الجرذ:

ـ أنت سمعتها ماذا قالت…!

    فطلب الزعيم من الأتان ان تخاطبه بأدب، واحترام.

صفق الجرذ، قائلا ً:

ـ  أسألها أيها الزعيم ماذا فعلت بعد ان شعرت بوجودي…؟

قالت الأتان:

ـ سيدي، وهل ادعه يفسد علي ً مثل هذا الحلم…؟

ـ أثمة…، آثمة…!

لكنها تضرعت:

ـ الم تفعلها معي، مرات ومرات، أيها الزعيم، بل ومعنا جميعا ً!

خاطب الجرذ الأتان:

ـ يا لها من وقاحة…، لو كانت الخيانة مع حمار أو حصان لهان الأمر …، لكنك لم تفعليها  إلا مع عابر سبيل…، ومع من…، مع سكير أبله مشرد …!

فسألها الزعيم:

ـ آن لك تحاكمي وتنالين جزاءك، فاذهبي وقفي عند المحرقة، فلم يعد لحمك صالحا ً حتى للكلاب!

ـ أمرك، يا زعيمي..، لكنني…

قربت رأسها من الزعيم وهمست:

ـ سأخبر السيد المدير بأنك، يا زعيمي، كنت تفعلها مع السيدة زوجته، وأنا شاهدة على ذلك!

صرخ الجرذ:

ـ يا للكارثة، هل هذه حديقة، أم مبغى عام؟

   فرد الزعيم على اتهامها:

ـ إنها فعلت ذلك برضاها، ورغبتها، ويمكنك ان تسأليها!

قالت الأتان:

ـ يا له من حلم أفسده علينا هذا النذل الخسيس!

وحاولت رفسه، لولا انه ولى هاربا ً. فهمست في آذن الزعيم:

ـ سأمكث باقي الليل، معك، أيها الزعيم، أم اذهب ـ بنفسي إلى المحرقة واعترف …؟

[149] ظلمات

ـ سيدي، إذا كنت تود ان يمتد حكمك طويلا ً، في هذه الحديقة، فلا تدع فترات انقطاع التيار الكهربائي تطول!

ـ ماذا افعل…؟

   أجاب المستشار:

ـ سيدي المدير…، دع الضوء يفيض عن الحاجة!

ـ ولكن هذا سيسمح لهم برؤية المحجوب، والمستور، والمخفي!

ـ لا، لا، لا يا سيدي، دعك من النظريات العتيقة، والحديثة منها أيضا ً، ذلك لأن فترات الظلام الطويلة وحدها تحدث التمرد…، وما ان يحدث التمرد، حتى يصبح عصيانا ً، والعصيان ما إن يبدأ  فسرعان ما يتحول إلى ثورة، وما ان تحدث الثورة، فما عليك إلا ان تضطر للهرب، هذا إذا نجوت من القتل، وما يعقبه من أفعال شائنة!

فكر المدير طويلا ً:

ـ إذا ً علينا ان نمنحهم المزيد من الضوء…، كي يدوم حكمنا ً طويلا ً…؟

ـ نعم…، لأنهم لن يفطنوا للحكمة التي تقول: القيادة هي فن العثور على إجابات على أسئلة لا وجود لها! ذلك لأن  القليل من الضوء ـ سيدي المدير ـ سيدعهم يكتشفون كم الظلمات بلا حافات! أما المزيد منه، فلا يفندها، أيها القائد، ولكنه لا يدع أحدا ًيفكر فيها، أو يبحث عنها،!

[150] سعادة!

     عند البركة، لم يجد الغزال من يتحدث معه، عدا سمكة وجدها ترفع رأسها قليلا ً من الماء:

ـ هل وصلتكم الأخبار…؟

من غير تفكير أجابت:

ـ علمنا أن السيد المدير قد باعنا!

ـ لم يبعنا فحسب، بل هرب بما باع! والآن يبحثون عنه.

 تساءلت السمكة:

ـ وما الجديد في الأمر…، فأنت طليق تحّوم في الفضاء، ونحن سعداء في بركتنا!

ـ آ ….، قد يأتينا مدير يجهل نوايانا، أو نجهل نواياه!

فضحكت السمكة:

ـ وهل للمدير صلاحيات سوى تنفيذ الأوامر…؟

ـ وهذه هي مشكلتنا، يا عزيزتي، فليس لدينا إلا الطاعة!

ـ عندما لا نمتلك إلا التنفيذ، والتنفيذ، والتنفيذ…، فهل للتمرد معنى، غير منحهم صلاحيات أقسى!

*********************************************

 

قصص قصيرة جدا ً

 مستعمرة الديناصورات

 

  عادل كامل

القسم الرابع والأخير

kkkamil 

151] اعتراف

ـ تم إخلاء سبيلي…، بعد حجز دام سنوات طويلة، بكفالة!

تمتم الغراب يخاطب حفيده:

ـ فقد تأكد لهم بالبراهين والأدلة والشهود إنني لم أكن المحرض، ولم أكن طرفا ً، ولم أكن الجاني…

فهز الحفيد رأسه:

ـ لا تكترث…، يا جدي الحكيم، مادمت حصلت على البراءة!

مشى الحفيد أمامه باتجاه العش، عش العائلة، فرد الجد:

ـ ولكن ما فائدة البراءة، يا حفيدي، وكلانا سيمضي باقي حياته خلف قضبان هذا القفص، في هذه الحديقة، فإذا كنت سجنت، في المرة الأولى، بسبب الشك، والظن، والوشاية، ففي المرة الثانية، فانا اسجن باليقين، باليقين الذي لن يسمح لهم بإطلاق سراحنا، ومغادرة هذه الأقفاص، إلا بعد أن تكون حياتنا قد بلغت خاتمتها، إن كنا أبرياء أو أثمين!

 

 

 [152] خوف

مكث الفأر شارد الذهن، منشغلا ً بمراقبة الثيران تعبر النهر، تقفز، هائجة، مسرعة، وقد وقع احدها بين فكي تمساح كبير…

تجمد الفأر تماما ً، من غير حركة، وكاد يغيب الوعي عنه، لولا ان زميله لكزه قال له:

ـ لنرجع إلى جحرنا، فانا أخشى ان لا نفلت من مخالب الهررة وأنيابها.

أجاب بصوت حزين:

ـ انظر ماذا فعلت التماسيح بالثور …، لقد مزقوه.

ـ اعرف…،هذا ما يحدث في البراري، والمستنقعات، أما هنا…، فالهررة تؤدي الدور نفسه.

كف عن متابعة الفلم، ونظر إلى البركة، فشاهد احد التماسيح يراقب غزالا ً تقترب من الماء…، فصاح بها:

ـ ابتعدي!

قال زميله له:

ـ تماسيح الحديقة كفت عن الافتراس!

ـ انظر..، لقد أمسكت بها، وها هو يجرجرها إلى الأعماق…

ـ حتى في هذه الحديقة لا نعرف ماذا يحدث.

وأضاف، متمتا ً مع نفسه بشرود:

ـ إن خرجت من الجحر أما تبتلعك الأفاعي، وأما تفترسك القطط..، وإن لم تخرج، فستموت جوعا ً…، فماذا تفعل؟

رد الآخر:

ـ لو كانت الغزال، اقل بلاهة، لما قتلها جمالها!

ـ ونحن، ماذا فعلنا، كي يشن الجميع ضدنا حملات اجتثاث: الأفاعي، القطط، الكلاب، وحتى التماسيح أصبحت خطرا ً علينا!

فقال الآخر محذرا ً:

ـ دعنا نتوارى…، فهناك حملة إبادة منظمة ضدنا…، فبعد ان تركوا التماسيح طليقة، أصبحنا لا نأتمن أعمال هؤلاء البشر!

عاد يتابع الفلم في شاشة الحديقة:

ـ الثيران مازالت تعبر النهر ، والتماسيح مازالت تتربص.

رد الآخر:

ـ لو لم تفعل التماسيح ذلك، فان الثيران ستملأ الأرض، وتدوسنا!

أجاب بعد تفكير:

ـ ولولا الأفاعي، والقطط، والكلاب، والبشر….، لملأنا الأرض إذا ً!

ـ آ …..، دار رأسي، دخت، ولم اعد أرى…، فان نجونا من الأعداء، فهل سننجو من الخوف؟

 

[153] حرية

شاهد الذئب، بعد ان هرب من القفص، الأسد منتصبا ً أمامه:

ـ ماذا تفعل هنا…، هل هربت أنت أيضا ً؟

لم يجب الأسد، فاقترب منه:

ـ لماذا لا ترد علي ّ، أتراك تعلمت من الناس الغرور…؟

اقترب كثيرا ً منه، لمسه، فأدرك انه يخاطب حجرا ً:

ـ حتى أنت لم تسلم منهم، فصنعوا منك دمية!

فسمع الأسد المصنوع من الحجر يزأر:

ـ لا تفسد علي ّ لعبتي، فانا الآن أصبحت طليقا ً!

 

[154] شكوى

عندما حاول الأرنب ان يخلص جسده من كماشة المصيدة التي وقع فيها، وفشل في التخلص منها، نظر إلى قرص الشمس فسمع أنينها يرن داخل رأسه:

ـ كنت أظن انك ِ معاقبة فتتألمين وما أشعتك إلا شكوى، والآن آن لك ان تشاركيني مصيبتي، وتنوحين علي ّ، فكلانا في المصيدة!

سمع أشعة الشمس تهمس في آذنه:

ـ لا احد يبكي على احد …،  فانا بألمي أنرت لك الدرب، لكن ماذا افعل وأنت كنت تمشي من غير بصر!

 

[155] حدود

ـ لقد وقعت الكارثة، ولا مناص، إنها نهاية العالم!

اقتربت اللبؤة من شبلها:

ـ ماذا حصل…؟

ـ الدبة ولدت فأرا ً، والتمساح ولد نعامة، والكركدن ولد عصفورا ً، والزرافة ولدت حمارا ً…!

ـ شبلي الغالي، هذه ليست هي الكارثة…، فالعالم لا ينتهي ويزول لأسباب واهية كالتي ذكرتها.

فقال الشبل باستغراب:

ـ كأن نهاية العالم لا تخيفك؟

ـ يا شبلي، وما الذي جنيناه، لو دام العالم إلى الأبد، إن ولدت الماعز ماعزا ً، ووحيدة القرن ولدت وحيدا، والثور عجلا ً، والنعجة حملا ً، العقرب ولدت عقارب…، فهل يفزعك ان ولدت أمك اللبؤة قردا ً، أو اختلطت ادوار الذكور بادوار الإناث، والإناث بادوار الذكور، وماذا سيحصل لو حبل، أو حبلت، البغل، وولدت حمامة؟

ـ الآن بدأت أفكر: هل أنا ابن أسد…؟

ـ وماذا لو عرفت…، إن كان العالم سيدوم إلى الأبد، أو سيغيب غدا ً، فانا وأنت لن نذهب ابعد من قضبان هذا القفص؟

 

[156] تحقيق

جاءوا به عنوة، جرجروه من المزرعة، ملثما ً، وطلبوا منه ان لا يفتح فمه، بعد ان وضعوه في غرفة الانتظار، وسمحوا له بالنظر حسب. تجمد، منشغلا ً بمراقبة حركة الدخول، إلى سرداب التحقيق، والخروج منه…، فازداد ذهولا ً، وشرودا ً، وفزعا ً فقد لاحظ الاختلافات بين النمر قبل الدخول، وبعد خروجه وقد صار كلبا ً، والبعير غدا ً هرا ً متوحشا ً، ولا حظ، بشرود تام، ان وحيد القرن أصبح يزحف كسلحفاة، والأفعى خرجت من غير ذيل بعد ان انتزع جلدها عنها.

فراح ينبش في رأسه بحثا ًعن ذنب، أو خطأ، أو هفوة ارتكبها، أو دناءة مارسها، فوجد انه لم يفعل شيئا ً منها: فانا لا أتذكر شيئا ً ما عن حياتي في البرية، وفي الغابات، وفي الوديان…، فحياتي كلها قضيتها هنا في هذه الحديقة، ولا أتذكر إنني تجرأت وقلت لا، أو رفعت رأسي، أو حتى سمحت لنفسي بحلم ما من الأحلام!

وتابع يشاهد، فراى البغل يخرج حمارا ً، والدب ثورا ً، والديك خرج برأس خنزير، وابن أوى برقبة زرافة، والدلفين تحول إلى سحلية…

فدار بخلده: ما الذي يجري في السرداب…، ثم ما الذي فعلوه كي يحدث لهم هذا كله؟ لم يجد جوابا ً، ليجد نفسه أمام المحقق وجها ً لوجه. قال المحقق:

ـ لم نأت بك لارتكابك خطيئة، أو فرية، أو هفوة، أو ذنبا ً، أو معصية.

تنفس الصعداء، لبرهة،  مصغيا ً للآخر:

ـ إنما جئنا بك كي لا ترتكب واحدة من تلك الأخطاء أو الشطحات أو الهفوات أو الزلات…، حتى آخر يوم من أيام حياتك في هذه الحديقة!

ليجد انه لا يستطيع استنشاق الهواء، وعندما بحث عن كلمة للرد، وجد فمه قد غاب.

بعد مليون عام، ومليون سنة مضاعفة، وملايين أخرى من السنين والأعوام، أفاق ذات يوم، ليجد جسده تحول إلى تمثال، من حجر، ينتصب في الحديقة ذاتها، وثمة آلاف الطيور تحوّم في السماء، من حوله، والأرض امتلأت بالغزلان، والضفادع، والنمور، والخنافس، وأنواع أخرى لم يرها أبدا ً في حياته، تجمعت متراصة  تتهامس بلغة لم يفقه من كلماتها غير همهمات، فدار بخلده، ربما انه لم يرتكب، في حياته، غير الحكاية التي لا يتذكر انه حكاها لأحد، بل ولم تدر حتى بخلده.

 

[157] طرفة

شاهد الحصان الأتان توشك ان تهلك من الضحك، فاقترب منها، وسألها:

ـ هل خطر ببالك طرفة رويتها لك قبل عصر الطوفان! فالحمير، عادة، كما يقول الناس، تضحك بعد إسدال الستار على الطرائف، والنكات؟

ـ لا ….، بل سمعت طرفة ستروى بعد الطوفان!

ـ أأصبحت ِتسمعين الكلمات التي لم ينطق بها احد؟ وتتحدثين عن أشياء ستقع قبل وجود من يفعلها …؟

فسقطت أرضا ً من شدة الضحك:

ـ لا أريد ان اروي ما سمعت، كي لا أفقدك!

ـ آ ….

فراح الحصان يضحك، حتى سقط فوق الأرض، فسألته الأتان:

ـ هل سمعتها….؟

ـ نعم، وإلا سأفقدك حقا ً!

 

 

[158] وصية/ اثر

 kkkamil123

ـ ان تولد من غير ذنب، وتعيش بلا خطيئة، كأنك لم تعش!

ـ ليس لدي ّ رأس يقدر على سبر أغوار هذا اللغز: فما أنا سوى حلقة في السلسلة التي مقدماتها مسبوقة بمقدمات، ونهاياتها متواصلة الامتداد. لكن عندما أكد وأشقى لمعرفة: هل عشت….، أجد ان غيابي وجد قبل حضوري، وقبري ليس سوى الباب الذي سأخرج منه. لكنني مع ذلك لم أجد عدالة تامة بين أسد يتلهى بغزال، أو تمساح يتلمظ وهو يبتلع بقرة، وبإنسان نشوان وهو يطلق النار على أطفال، وبين شمس تضيء، ومطر يسقي الزرع، وبإنسان يعاقب نفسه، لأنه بلا ذنب! فانا لا امتلك قدرة معرفة ما حدث ويحدث كي اعرف ما الذي سيحدث، وما هو أكثر استحالة على الفهم ان لا احد، كما قلت، ولد من غير ذنب، ولا احد عاش من غير خطيئة، فذاك تراه متبخترا ً، مزهوا ً، وكأن ارتكابه للآثام واجب، والذنب سلوى، والخطيئة عطر ورود!

وأضاف الحصان العجوز يحدث ولده البغل:

ـ ولأنك لست مسؤولا ً عن الأسباب التي تكتوي بنتائجها، فلا احد باستطاعته البت بما ستفعله، حتى لو أسرفت بالزهد، وتطهرت من النذالات! لأنك من غير ذنب لن تحصل على الغفران!

 

[159] تحقيق/1

سأل المحقق:

ـ في خطابك الأخير، أيها الحمار العنيد، قلت: كل العناصر وجدت من غير نقص! فما معنى حديثك عن الفائض …، فيها؟

بعد صمت وجيز، عثر الحمار العنيد على الرد:

ـ سيدي، في حديقتنا هناك جدارية نقشت فوقها واحدة من أقوالك النادرة: العبقرية ان تجد حلا ً للقضية التي لا حل لها! ومعنى هذا تحديدا ً استحالة وجود حل إلا باستحالة وجود قضية..!

ـ لا تخدعني بالسفسطة، وببلاغة التمويه، ومهارة خلط النهايات بمقدماتها، وديمومة توازنات الفراغات المشغولة بالفراغات…؟!

ـ اقسم لك: العناصر وجدت تامة….؛ أي وجدت كأن النقص الحاصل فيها ما هو الا بمثابة زيادة! فكأن (الزيادة) تعني تحديدا ً، في هذا السياق، السابق واللاحق معا ً، نقصا ً تام النهايات!  فأنت ـ هنا ـ بماضيك وقد عبر نحو مصيرك، لأن مصيرك ليس مؤجلا ً للحاق بما اندثر، بل لأن السلسة تامة بتحولاتها، فلا اضطراب ولا عشوائية ولا مصادفات إلا بتوازن تام بين الذي لا ينتهي وبين الذي مقدماته مسبوقة بالمقدمات. فالظلم هو احد أوجه العدل، لكن العدل لن يكون تاما ً إلا بالمرور من الظلم إلى ما بعده …، وهذا يساوي بين الفائض ومكوناته!

ـ كدت افهم …، لولا الدوران!

ـ سيدي، لو أصدرت امرأ ً بالقضاء علينا، ومحوتنا من الوجود، بحجة ما من الحجج، فلن يبقى لديك إلا ان تكتشف انك أصبحت فائضا ً!

 

[160] تحقيق/2

ـ أنت قلت، أيها الغراب الذي يدعي الحكمة …؛ ان العبقرية ما هي إلا ان تجد حلا ً للمشكلة التي لا وجود لها!

متابعا ً، سأل الثعلب الغراب:

ـ فان لم تخبرني بالحل…، فهل هناك معنى لوجود هذا العدد الكبير من العباقرة، وبوجود ما يسمى بالعبقرية..؟

رد الغراب بسلاسة:

ـ سيدي، واحدة بواحدة، أولا ً: ضع فاصلا ً بين العبقرية وبين العبقري. ثانيا ً: لا تسأل بحثا ً عن جواب. ثالثا ً: ولا تنتظر إجابة وأنت، في الأصل، لا تمتلك أسئلة!

ـ كدت تساعدني على الفهم، ولكنني اعتقد انك ذهبت ابعد من المطلوب!

ـ هذا، يا سيدي، هو مفتاحها…، لأنك ما ان تضع المفتاح في القفل، ليدور، حتى تدخل في المكان الذي لن تخرج منه، إلا والمكان برمته يكون خارجك! فمادمت أنت هو من يسأل، فلا تنتظر مني العثور على جواب…، وإذا أجبتك، فهذا يعني تحديدا ً انك لست بحاجة إلى السؤال!

ـ حقا ً ….؛ العبقرية هي ان تجد الحل بعيدا ً عن المشكلة، ولا تتحدث عن المشكلة إلا بعد ان يكون حلها فائضا ً…!

ـ آ ….، أيها الزعيم، هذه هي الحقيقة، ما ان تحصل عليها، حتى تدرك انك وجدت شيئا ً آخر، غيرها، آنذاك لا تأسف انك أضعت حياتك من اجلها!

 

[161] سر

بعد ان أتمت النعامة سردها لحكاية النجاة من الغرق بعد الطوفان الأعظم، تابعت:

ـ لكن هذا لا يعني ان الخطر زال…، لأنكم،  يا من نجا من الغرق، تدركون استحالة فك ملغزات السر!

ـ أي سر…، أيتها الأم الكبرى؟

ـ سر الماء!

ـ وهل للماء سر…؟

تابعت تكمل خطابها:

ـ قبل الطوفان كنا أعظم دولة على وجه البسيطة، لا احد سوانا له الأمر وله النهي…، وازدادت قواتنا حتى ملأنا الدنيا صخبا ً، وارتكبنا الآثام، فغضبت علينا السماء، فأرسلت الطوفان، فمات من مات…، ولم ينج منا إلا هذا الذي يستمع إلى حكايتي الآن…، وينتظر ان اخبره بالسر…؟

ـ أيتها الخالدة…، إننا بالانتظار.

ـ إن الماء الذي غاب عنا، وحول أرضنا إلى صحراء، تمتد مساحتها بين غروب الشمس إلى مشرقها…، إن هذا الماء سيغرق أرضنا مرة أخرى.

صفقوا لها طويلا ً، فقالت بحزن:

ـ أتصفقون لي، أم للماء، أم للرمال…، فأنا لم أخبركم…، حتى الآن، بالسر!

ولم تتوقف عن الكلام، حتى بعد غروب الشمس، لأن أحدا ً لم يدعها تعلن عن السر، وهي لم تبح به أيضا ً.

 

[162] الأرنب والذئاب الثلاثة

وأخيرا ً وجدت الأرنب نفقا ً فتوارت فيه، لتجد نفسها، حالا ً، أمام ثلاثة ذئاب. فلم تستطع التراجع…، قال الأول:

ـ أهلا ً..

وقال الثاني:

ـ ما الذي جاء بك إلينا.

وقال الثالث:

ـ كأن السماء أرسلتك ِ!

صعقت الأرنب، وشرد ذهنها. فسألها الأول:

ـ والآن اخبرينا من أرسلك…؟

بصعوبة فتحت فمها:

ـ لا احد.

ـ إذا ً أنت اخترت الحضور بإرادتك…؟

ـ لا!

ـ لا …. تقول لا، فما الذي حدث…؟

بعد ان استعادت قواها، تمتمت:

ـ وأنا اخرج من مغارتي، حدقت في قرص الشمس، فسمعتها تنوح، وتبكي، وهي تتألم، فرأيت دموعها تملأ الفضاء..!

صاح الذئب الثاني:

ـ الشمس تتألم!

ـ نعم، سيدي، فهي تتعذب في الجحيم، كأنها تعاقب عن ذنب عظيم!

استفسر الثالث:

ـ وتنوح..؟

ـ نعم، سيدي ..، أنا سمعتها، ورأيت أشعتها تستغيث كأنها تتضرع، وتطلب الغفران!

خاطبها الذئب الأول:

ـ أأنت ِ فيلسوفة أم أصابك ِالمس، أم ماذا …؟

ـ أنا لست سوى ضحية…، وقد شعرت ان الشمس، مثلي، تبحث عن ملاذ آمن لها، فراحت ترسل أولادها بحثا ً عن وطن لا تشتعل فيه النيران!

هز الذئب الثاني رأسه:

ـ آ ….، منذ زمان بعيد لم نلتق بأرنب مثلك!

ـ أقسم لكم، أيها الزعماء، أنا سمعت الشمس ثكلى تنوح وهي تفقد فلذات كبدها!

ابتسم الثالث:

ـ كلماتك مثيرة للشهية…!

ـ كنت احسب إنها ستسد شهيتكم، وتثير روعكم، وتذكركم بالموت!

أجاب الثالث:

ـ لكننا كلما ازددنا ذعرا ً، فزعا ً، يتضاعف إحساسنا بالجوع، وتزداد شهيتنا للفرائس.

قال الأول:

ـ لن نفترسك الآن، لأننا نود ان نستمتع بخيالك ِ النادر!

تجمدت الأرنب، ووجدت الكلمات تموت في رأسها، عندما اضاءات أشعة الشمس المغارة، ليصدم الذئاب، فجأة، وتتجمد أوصالهم، وهم في ذعر تام، فقد ابيضت وجوههم حتى تحولت إلى أثير..!

 

[163] عواء

قرب الأسد رأسه من القفص الذي مازال الذئب يعوي فيه، طوال الليل، وانتظر ان يغلق فمه، ولم يفعل. فقال الأسد يخاطب نفسه: لن تبقى تعوي إلى الأبد، فطالما فعلت ذلك، في الغابة، وزأرت، حتى وهنت قواي، فأغلقت فمي. فخاطبه الذئب:

ـ وأنا طالما عويت في البرية…، ولكننا الآن أصبحنا أسرى أقفاصنا، فماذا نفعل، إن لم نعو، وأنت لم تزأر، والكلاب لا تنبح…؟

ـ يا رفيق الغابات والبراري، أصبح هذا  من الماضي، لأننا اليوم، حصلنا على رفاهيتنا، فلماذا الشكوى…؟

ـ آ …، أيها الأسد، حتى أنت لم تعد تفهم كلماتي، ولم تعد منشغلا ً بفك مشفرات صوتي؟

ـ إن فهمت، أو لم افهم، هل للفهم وللمعرفة معنى، ونحن داخل هذه الأقفاص…؟

ـ هذا هو سر الترويض، فحتى الأشجار لم تعد تتكلم، ولا الصخور تستغيث، ولا الهواء يعلن عصيانه!

قال الأسد:

ـ عد بذاكرتك إلى البرية، والى الغابات…، يا رفيقي، ماذا جنينا منهما، سوى الشقاء، وأخيرا ً سوى الوقوع في الأسر، كي نعاقب بهذه الرفاهية!

ـ آ ..، عندما تصبح الحرية قيدا ً، والحلم مرارة، والانعتاق وهما ً..، آنذاك تصبح العبودية سلوى، والأمر الواقع رفاهية!

وأضاف:

ـ فانا ليس لدي ّ إلا ان اعوي!

ـ أنا فعلت ذلك، زأرت، وغضبت، وكدت افقد حياتي…، ثم انتهى الأمر بي إلى هذا الحال، فماذا افعل عندما لم تعد تقدر على فك مشفرات صمتي!

 

[164] حفلة

جرت الحفلة التنكرية على النحو التالي: ارتدى النمر وجه الذئب، ووحيد القرن خرطوم الفيل، والتمساح استبدل وجهه بوجه البوم، والكبش بقناع الأرنب، والماعز بوجه النعامة، والثور بقناع حمار، والغزال بوجه أسد.

وما ان بدأت الموسيقا تعزف، حتى لم يعد بالإمكان وضع حدود بين الأشكال، والهيئات، للعثور على اختلافات، أو التفرقة بينها.

فأبدى المدير إعجابه بالفكرة، وطلب من مساعده ان يجعلها فعالية دورية، مادامت نالت رضا الجميع، وكسبت ودهم.

ضحك الثعلب وقال مستدركا ً:

ـ سيدي، لكننا كنا نفعل هذا منذ زمن بعيد!

فسأله المدير:

ـ وماذا عن العنف الذي كان يخرب مشاريعنا..؟

ـ تلك فترات استراحة، تستخدم للتحفيز!

تابع المدير يراقب: البقرة خلعت قناعها فظهرت دبا ً، والديك راح يرقص بقناع الطاووس، والحوت الأسود صار يتلوى مثل الأفعى الرقطاء، فطلب من ضيفه كلمة يقولها بشأن الصفقة. قال الآخر:

ـ لا مانع لدي ّ، فقد هذبتها بعناية، مع إنني سأعيدها إلى البرية، وأطلق سراحها، بحسب الاتفاق!

قال المدير:

ـ لا شأن لي بهذا الأمر، فانا روضتها لك، وهذبتها، حتى إنها أصبحت تحمل صفاتنا!

ـ هذا يعني انك موهت علي ّ؟

ـ لا، بل حرصت على مراعاة الأصول والحفاظ على الأعراف!

ـ أنا سأدعها تتحرر من أسرها.

ـ وأنا سأعمل على إعادتها إلى حديقتنا!

ضحك الآخر:

ـ ملعون…، أيها الإنسان الماكر، فأنت لن تخسر شيئا ً، لا في البيع، ولا في استعادتها مرة ثانية!

ـ اجل، يا سيدي، فكما فعلت الطبيعة،  معها، عبر ملايين السنين، فتركتها تتناسل، وحرصت ان لا تدعها تنقرض، سأعمل على جذبها  إلينا، لتشهد ـ سيدتك ـ حفلة تنكرية أبهى، وأكثر بذخا ً!

ـ أخشى ان تستبدل وجهي بقناع؟

ـ وهل كان لك وجه؟

 

[165] نصيحة

ــ أينما اذهب اسمع الهمس يدور من حولي: أهذا أسد أم جرذ..، فأقول لنفسي: حتى هذا الجرذ يأنف ان يبول علي ّ!

هامسا ً تابع الأسد يحكي لحفيده الصغير:

ـ الزمن الطويل الذي أمضاه أسلافك في الغابات والبراري لم ينته بهزيمتنا، ولم ينته بنصرهم! لقد تم أسرنا لأننا لم نعد نمتلك إلا ان نكمل مسيرتنا.

قال الشبل:

ـ أينتهي زمننا بالرقص مع الخنازير والقرود والأرانب…؟

هز الأسد رأسه من غير اكتراث:

ـ وهل كان علينا ان نلقى حتفنا جميعا ً بدل الاستسلام…؟

ـ آ ..، يا جدي..، اخبرني: لماذا الخسارة موجعة؟

ارتج جسده، وبعد صمت، أجاب:

ـ اعترف لك ان النصر اشد قسوة ووجعا ً، فعندما لا تعرف ماذا تفعل بنصرك، الذي حسرته، تصبح الخسارة دافئة مثل مضاجعة لبؤة تائهة!

ـ غريب!

ـ على من تنتصر..؟ أنا انتصرت على الغزلان، والثيران، والأرانب…، انتصرت على الحمير والزرافات والضباع…، فهل كان هذا نصرا ً أم كان هزيمة لتلك الكائنات الضعيفة ..؟

صاح الشبل:

ـ هذه هي قواعد اللعبة!

ـ يا ولد! هل ترفع صوتك علي ّ…؟

ـ آسف..، أيها الزعيم الخالد، لكن لو كنت مت بصمتك وما استسلمت.

ـ وهذه هي المحنة …، أقترب.

اقترب حفيده منه:

ـ أنا الآن  استطيع ان امسح بك الأرض، بما امتلك من قوة، ولكنني لم افعل…!

ـ لم اقصد أهانتك يا جدي، بل كان عليك ان تقول: ذهب زمني. وعندما يكون زمنك من الماضي، فما معنى ان تتشبث بالوهم؟

ـ طه…، كيف عرفت إنني أتشبث بالوهم..

ورفع الأسد صوته، لكن ليس زئيرا ً:

ـ فبعد ان انتهى زمن الغابة، والبرية، انتهى زمني…، والآن أنت ترى زمنك، وتعيشه، وتعرفه…، ولكن حذار ان تبول على الجرذان، أو الثعالب!

 

[166] حكمة

وهما تتأملان تمثال الفيل البرونزي في الحديقة، سألت النملة زميلتها:

ـ لو مات هذا العملاق، فمن سيحمله، ويرسله إلى المحرقة…؟

ضحكت الأخرى:

ـ سيشيدون محرقة بالقرب منه!

فسمعهما فيل كان مارا ً بالقرب منهما، وقال:

ـ الحديقة تتسع لنا جميعا ً!

 

[167] النشيد

قرأ والدي وصية جدي، بالرغم من ان أحدا ً لا يعرف إن كان فارق الحياة، أم لا، قبل اتخاذ أي قرار بتنفيذ ما جاء فيها من فقرات، فطلب واحد من العائلة ان يعيد قرأتها بهدوء، كلمة كلمة، ومن غير عواطف زائدة، فبدأ:

ـ فانا لا أريد جنازة تقام لي، ولا أريد خبرا ً يذاع، أو ينشر، فانا كنت انسحبت من الحياة برمتها، كما تعرفون، منذ زمن بعيد، فلا أريد ضجة، ومشاعر كاذبة، لا أريد عزاء ً، ولا تستقبلوا أحدا ً للتعزية، فكل ما اطلبه منكم، ببساطة، ان أعود إلى الرمال التي خرجت منها. والسلام.

التوقيع: جدكم.

فقال احد الذئاب:

ـ ان جدنا أصابه الوهن، والإعياء، وربما فقد ذاكرته… فمن ذا سيوافق على تنفيذ ما جاء في وصيته…، ثم لمن وجدت المحرقة؟

قال والدي:

ـ نوزعه علينا!

صعقنا، فمنذ سنوات بعيدة لم نفعلها، والجميع يتذكر إننا اجتزنا سنوات المجاعات من غير أفعال مخلة، وشائنة.

قال آخر:

ـ لندعه يذهب مع الماء، أو ندفنه في حفرة، أو ندعه يجف تحت أشعة الشمس، أو نتركه للريح!

ولم نصل إلى قرار. حتى جاء السيد المدير، ومعه مساعده الثعلب، ومستشارته الببغاء، وعدد غفير من قادة الأجنحة، والمؤسسات، والأقسام، والمنظمات، والأطياف، والأحزاب، فكلها نذر حرب، وخراب.  فتجمدنا. قال المدير:

ـ في اجتماعنا الأخير، بعد وصول أخبار غير سارة، عن قرب اجل جدنا الأعظم، قررنا المباشرة بإقامة صرح له، عند البوابة الكبرى، باستقبال الزائرين، والوافدين من جهة الصحراء…، عرفانا ً بالسنوات التي أمضاها وهو يعمل على صيانة المباديء الكبرى، وتعزيزها …، ثم سنعلن يوم ميلاده عيدا ً لحديقتنا الأبدية، وسيكون يوم رحيله عزاء ً لنا ولأجيالنا حتى آخر يوم من أيام هذا الوجود…، كما أمرنا، بحسب الصلاحيات الدستورية، والأعراف السارية، والمعايير الراسخة، بحفر كلمات وصيته فوق السور الحجري، امتنانا ً لدوره في تعزيز وحدتنا، وبناء غدنا المشترك الحر السعيد والجميل.

واصل السيد المدير إلقاء كلمته التي تحولت إلى خطاب، يوما ً بعد آخر، وأسبوعا ً بعد أسبوع، وشهرا ً امتد إلى عام هو الآخر عبر العقد نحو القرون….، من غير ان يقاطعه احد، لا من الذئاب ولا من الأنواع الأخرى، فالأجيال تعاقبت، وأنا مازلت أدوّن، كلمة كلمة وانقشها في سفر(ذئاب الرمال) كل شاردة، وواردة، حتى أفقنا في ذات يوم، لنشاهد جدي يقف أمام التمثال، متمتما ً بصوت مرح:

ـ ولا احد بال عليك!

ما ان أغلق فمه، حتى هطلت الأمطار، مدرارا ً، ليوم ولسبعة أيام ولأربعين عاما ً متعاقبة، ثم ظهرت اليابسة، بعد ذلك، لنشاهد جدي وقد تحول إلى حمامة، فرحنا، معها، نواصل إكمال النشيد.

 

[168] طفرات جينية

تجرأ الشبل وسأل أمه اللبؤة:

ـ نحن سبعة أخوة، وسبع أخوات…، لكن لا احد منا يشبه الآخر…، فهذا يبدو مثل دب، وذاك له ذيل تمساح، الآخر بلا مخالب، والرابع له خرطوم فيل، الخامس جلده مدرع، والسادس له رقبة زرافة، السابع مثل أختي، يزحف، والثانية تتلوى كأفعى، والثالثة لها أصابع قرد، والرابعة كغزال، والخامسة تكاد تتكلم مثل كلام الناس، والسادسة لها قرون، والسابعة ولدت وهي على وشك الولادة!

شرد ذهنها برهة، وقالت بصوت خفيض:

ـ حذار ان تخبر أحدا ً بالأمر!

ـ أتقصدين لا احد رأى..، ولا احد سمع…، وان الجميع فقدوا حواسهم من الشم إلى التذوق مرورا ً باللمس؟

ـ اخرس، يا عاق، لا تفضحنا…، حتى يبدو لي إنني لم أحبل بك، ولم ألدك! فانا لا أتحدث عن الحواس، لأنها أصبحت من الماضي، عتيقة، بالية، خارج الاستخدام…، ولكن اخبرني من هذا الذي لقنك…؟

ـ يا سيدة الحديقة الأولى …، لا احد…، انه عقلي!

ـ آ ….، لا أتذكر إنني فعلتها مع واحد لديه عقل!

 

[169] كابوس

ـ لا أسوار..، لا أقفاص، ولا حرس!

وأضاف الضبع يقص الحلم الذي أفاق منه توا ً:

ـ رأيت الرمال تمتد إلى ما لانهاية..، وفي السماء رأيت النجوم تتناثر رمادية، وثمة ريح تعصف بأسوار حديقتنا، فقلت: يا للمصيبة، نشبت الحرب مرة أخرى.

سألها الدب:

ـ والجبال…؟

ـ لم أر البحار، ولا الأنهار، ولا المدن، ولا الوديان…، فسألت نفسي: أين أنت يا ضبع..؟ لكن صوتي ضاع، فهرولت ابحث عنه، فتعثرت بالرمل، وسقطت، وما ان رفعت رأسي فلم أر إلا الصحراء تمتد إلى ما لا نهاية.

سأله الأسد:

ـ والأشجار…؟

ـ لم أر شجرة ولا وردة ولا دغلا ً عدا ومضات تصطدم بأخرى…، وكأن نهاية العالم قد حلت، فقلت: ما أسعدني!

ساد الصمت…، فازدادت دهشة الضبع وهو يحدق في الوجوه الشاخصة نحوه:

ـ لكنكم مازلتم على قيد الحياة….، غريب، يبدو ان العاصفة لم تقتلعنا بعد.

ـ أيها الضبع ..، عد بذاكرتك إلى ما قبل زمن الطوافان الأعظم، وعد إلى ما بعد هذا الزمن…، ولا تغفل ما بينهما من نكبات، وكوارث، وإبادات، فلم يبق فوق البسيطة إلا مخلوقات هذه الحديقة!

ـ غريب..، بالفعل، فانا لم أر، قبل ان استيقظ إلا دابات تدّب فوق الرمل، تقترب، لا يحصى عددها، وما ان أحاطت بي من الجهات الأربع، حتى أفقت، كي ترونني، وكي أراكم، وكل منا لا يعرف ماذا حدث بالضبط!

 

[170] استدعاء

لم ينبس الذئب بكلمة، ففترة غيابه وعودته لم تستغرق أكثر من ليلة ظننا انه أمضاها في نزهة، لكنه ما ان سألنا: من أوشى بي…؟ حتى اجتمعت الذئاب من حوله، تحدق بعضها بالبعض الأخر. فالشك راح يحّوم متنقلا ً حتى لم تعد لدى أي ذئب رغبة بالدفاع عن نفسه.

لم يكن الذئب يفكر بالهرب، ولا بتأسيس منظمة سرية، أو علنية، ولا حتى دعا إلى التمرد، أو الاحتجاج، أو إلى الاعتصام، بل ولا إلى الإصلاح، فكل الذي نعرفه انه لم يعد يعوي، أو يتذمر، أو يعاني من آثار الأسى أو الحزن، حتى انه شارك مرات ومرات في فعاليات السيرك، والاستعراضات الأسبوعية، والشهرية، والسنوية، وقد حاز على رضا المدير، ومساعده القائد الثعلب، وحاز إعجاب المستشارة سيدة الحديقة الأولى الببغاء، فلماذا تم استدعاءه، أو اختطافه إذا ً…؟ بعد ان انزوى في قفصه منشغلا ً بمداعبة أحفاده، وسماع طرائفهم.

أنا أخبرته باستحالة وجود مخبر بيننا، رغم وجود شركاء لنا يسهمون بلقاءاتنا الجماعية، ويسهمون بالحفلات، والاحتفالات، ليس تزكية، أو دفاعا ً عن براءتنا، بل لوجود أجهزة بالغة الدقة تتنصت على عما يجري في أدمغة الجميع ، ولديها قدرة نبش المستور من ناحية، وتأشير ما سيحدث قبل وقوعه بدقائق من ناحية أخرى. أجهزة لا مرئية هي في الواقع شبيهة بجسور فوق حسية، تعمل عابرة للضفاف، والفواصل.

صعق العجوز وحدق في وجهي:

ـ كيف عرفت هذا كله…؟

ـ لن أخبرك، ما لم تفصح عما دار في السرداب؟

لا هو نطق، ولا أنا عدت إلى السؤال، فقد أكدت له ان العالم القديم برمته غدا ً مندرسا ً، وان حديقتنا تلفظ  أنفساها الأخيرة.

لم يبتسم، ولم يغضب، ولم يبد أسفه انه أصبح من الماضي، ولم يبد حتى رغبته بمعرفة كيف خرجت سالما ً…، لأنه لمّح لي، عبر صمته، بالذي غطس فيه. فرحت أعيد شرح استحالة وجود ومضة معزولة عن أخرى لا في نوعها ولا في اتساعها، فالجسور لا معنى لوجودها من غير قدرتها على أداء عملها على نحو تام.

ترك رأسه يصعد إلى الأعلى، لأنه لم يعد يرى إلا ما لا يحصى من الموجات تنسج غزلا ً سمح له بالعودة إلي ّ:

ـ تخيّل …، تخيّل إن كل ما طلب مني ـ هو ـ تحديدا ً هذا الذي لا ضرورة لمعرفته!

 

[171] شفافية

ـ سيدي، سيدي القائد، أعلنوا التمرد..!

ـ من …؟

ـ الجميع؛ البهائم، المفترسات، القوارض، البرمائيات، ومعها القمل والبعوض والذباب،  وأحادية الخلية أيضا ً، ومعها التي تعيش في قاع المستنقع، وفي الظلمات…

ـ غريب!

أضاف المدير لمساعده الثعلب:

ـ مع إننا، في حديقتنا، أعتقناهم من عبوديات البرية، وقسوة الغابات، فما هي أسباب التمرد…؟

ـ يقولون…، بحسب التقارير السرية، وقراءة الرأي، ان السماء لم ترسلك، وانك كنت توهمهم بذلك…؟

ـ كلاب!

ـ لا، يا سيدي، هذا ليس من فعل الكلاب، ولا من فعل الطيور…، فانا اعتقد ان يدا ً غريبة دست السم في الرؤوس! وقد تتبعت مساراتها ووضعت يدي ّ على منافذها ..، لكن …، للآسف، تحول التمرد إلى عصيان، وسيتحول العصيان إلى ثورة!

ـ وحصل هذا بوجودك..؟

ضحك الثعلب:

ـ سيدي، انتهى عصر الكلام…، والكتابة، كما أصبحت وسائل الاتصالات من الماضي…، فالبهائم جائعة!

ـ آ ….، فهمت، الم تعد صياغة حكمة: إنهم سيحصلون على الطعام في العالم الآخر ..

ـ نعم، لقد أعدت تفسيرها، وتأويلها، لكن البهائم مازالت جائعة!

ـ ماذا افعل؟

التفت الثعلب وسأل الببغاء:

ـ تدخل.

ـ وهل سمحت لي بذلك…؟

ـ آ …، إذا ً، سأعيد تشغيل المصانع، وأعيد البث للشاشات العاطلة، وسأوزع ما لدينا من ثروات مجمدّة.

رد المدير:

ـ افعل، افعل.

قال الثعلب:

ـ لن افعل، سيدي، فقد ترى البهائم في الأمر خدعة.

ـ لا تفعل…! ولكن ماذا ستفعل؟

ـ سنضعهم أمام الأمر الواقع، ونجعلهم يختارون منزلة بين الموت جوعا ً وبين الموت تخمة!

ـ جميل.

قال الببغاء:

ـ عدت إلى الحل الأول.

ـ ليس لدينا إلا ان تغرقهم في الضوء، تغرقهم بالرفاهية..ّ

تساءل المدير:

ـ قد يبصرون المحجوب، والمخفي…؟

ـ سيدي القائد…، لم تعد هناك مخفيات يمكن التستر عليها…، من ناحية، كما ان شدة الضوء، تعيد للظلمات موقعها!

ـ أحسنت!

ثم بدأ الثعلب بتفقد أجنحة الحديقة، وحظائرها، وزار الزرائب، والمشاغل، والأقفاص، والبرك، والبحيرات، مؤكدا ـ للجميع ـ ان المدير اصدر عفوا ً عاما ً عن المحرضين على التمرد، والعصيان، خطوة للسير بدروب الحرية …

متابعا ً:

ـ فما فائدة الثورة…، وماذا لو تحررتم من القيود، وعدتم إلى البرية، حيث الضواري بانتظاركم، مثلما البرد، والجفاف، والعواصف، والطاعون، والقمل، والأفاعي المتوحشة….

ساد الصمت. فعاد الثعلب يتكلم:

ـ فلا أقوياء ولا ضعفاء، لا أغنياء ولا فقراء، لا موتى ولا إحياء، وإنما نحن جميعا ً في سفينة عابرة إن غرقت فحتى الطيور لن تجد يابسة تسكنها! سنعيد لكم الطاقة الكهربائية، ونضاعف وجبات الطعام، مع المزيد من الخدمات، والعناية …

لم يفتح احد فمه، ولم تصدر كلمة عن احد. فعاد متابعا ً لتلافي اللامبالاة:

ـ وإلا ما الذي سيحصل….، سوى الموت سيعصف بهذه الأقفاص، وبباقي أجنحة الحديقة، وأنفاقها، وممراتها، وبركها، ومغاراتها…، حيث الأقوى ينهش لحم جارة نيا ً، وأمكركم سيمكر بأقلكم مكرا ً، ستتفشى البغضاء بينكم، وتنخر عظامكم، فلا تفيض القلوب إلا كراهية، وقسوة …، يدب الوهن، والتراخي، وتنهار أجهزة المناعة، لا أسواق ولا تجارة، لا زراعة ولا صناعة، لا مدارس ولا مستشفيات، لا حدائق ولا متنزهات، لا خمارات ولا مؤانسات…!

رفع الدب يده المرتجفة وطلب الكلام:

ـ تكلم أيها الزعيم. قال الدب:

ـ أعيدوني إلى الجبال، والى وديانها..، فانا لا استطيع محوها من ذاكرتي.

قال الدولفين:

ـ وأنا أرجعوني إلى البحر الذي ولدت فيه، وأمضيت زهرة شبابي فيه.

وقال الكنغر:

ـ وأنا، مثلهما، احن إلى الرمال، والبراري، والأنهار، والى الفضاء.

ثم جاء دور البعير، فقال:

ـ وأنا أين اذهب…، كلا، أنا سأمكث مع رفاقي! فبلادي تحولت إلى ساحة حرب، هجرها سكانها، وما عادت صالحة إلا لسكن الأشباح، والغرباء.

زأر الأسد بصوت خفيض:

ـ  أيها البعير، انتبه، هذه ليست هي الشفافية، فاستيلاءك على الصحراء بمساحاتها الشاسعة يعد خطيئة، وإثما ً.

خاطب الثعلب الأسد:

ـ سنعيدك إلى غاباتك، هل جئت من أفريقيا..؟

اعترض الأسد:

ـ لم اقصد ذلك، سيدي، بل قصدت ان لا تسلب حقوقنا السلسة، منا، كالتجول طلقاء مع شركائنا في هذه الحديقة الغناء!

رد البعير:

ـ عن أي حقوق تتحدث، يا فخامة الأسد، بعد ان أصبحت، لاعبا ً ماهرا ً على الحبال…، فلماذا لا ترجع إلى غابتك، حتى لو بالت عليك الثعالب، بدل ان تذهب إلى المحرقة، بعد قضاء حياتك في الأسر، داخل هذه الأقفاص؟

صاح النمر:

ـ أنا أطالب بإنهاء هذا التمرد، لأننا، لو واصلنا العصيان، فلا احد سيضمن لنا البقاء على قيد الحياة. حتى القمل والبعوض والعقارب ستهرب، ثم ما مصير القنافذ، والنمل، والجاموس، والنعاج، والذئاب، والماعز، والتماسيح …؟

زعق كبير التماسيح غاضبا ً:

ـ لا …، أنا وجدت فردوسي في هذا المستنقع.

وامتد الحوار فترة طويلة تخللتها فترات استراحة، وهدوء، سنوات وعقود وقرون. قال الثعلب:

ـ لن ندع أحدا ً يفر، أو يهرب…، أو يبحث عن ملاذ آخر غير البقاء معنا، في هذا الفردوس، بل على العكس، سنستقبل مخلوقات الدنيا بأسرها، في حديقتنا!

ـ لا، لا، لا ، !

صرخ سكان الحديقة بصوت موحد. قال الثعلب:

ـ والآن …، تدركون إنكم أحرار، وطلقاء، فلكم الحق كاملا ً في اتخاذ القرارات الحكيمة.

همس الدب في آذن الغراب:

ـ هنا أو هناك…، هناك أو هنا، أنا سأبقى ابحث عن سمكة.

فقال الغراب:

ـ وأنا لن استبدل ريشي بريش الطاووس، ولا لوني بلون طيور الحب، ولا نعيقي بتغريد البلابل!

صاح الثعلب:

ـ أولادي …، فلذات كبدي، أيها الجمع الطيب…،علينا ان نشيّد لزعيمنا صرحا ً يليق به في المساحة الواقعة بين غروب الشمس ومشرقها:

لم يعترض احد. فقد تم تشييد الصرح في وسط الحديقة: شامخا ً أعلاه يلامس حافات السماء وأسفله يمتد بامتداد الأرض.

قال التمساح:

ـ لا بأس من وجود أجنحة للأسد، وخرطوم للنمر، وذيل طاووس للدب، لا بأس ان يحصل الذئب على وبر، والغزال على أنياب، والعصافير على مخالب صقر…، كي لا يشكوا أحدا ً من الغبن، ولا من الظلم!

فقال المدير يسأل الثعلب:

ـ كيف عالجت الأمر، أيها الماكر العنيد؟!

ـ ها، ها، ببساطة، قلت لهم ان كل ما فوق هذه البسيطة هو، بمعنى من المعاني، يقع تحت السماء! وكل من ولد في القفص، هو في القفص وليس خارجه، وقلت لهم الكل لا يساوي مجموع أجزاءه إلا لأن الأجزاء لن تقدر ان تنفصل عن الكل الذي هو مجموع الأجزاء! وقلت: العبقرية لا تكمن في العثور على الدرب إلا إذا كان الدرب هو الحقيقة. وقلت: الثروات للجميع ما دام الجميع يعمل على مضاعفتها. فأخذت من كل ذي نفس نفسا ً وقلت لهم هذا هو البيان الذي لا بيان آخر إلا به، فكل بهيمة، وحيوان، وطائر، وبرمائي، ومفترس، وأحادي النوع، إن كان بحجم الحوت أو لا مرئيا ً كالفيروسات، يأمل ان يبقى يرقص فوق خشبة المسرح، وان سيادتكم ـ أيها المدير الخالد ـ أمرتم بذلك، فأدرك كل من لديه بصر ان الظلمات بلا ضوء ليست إلا ضوءا ً يتموج داخلها، فالمحيط بلا ساحل يوازي الساحل بلا محيط، وكل من يولد لن يموت، وكل من يموت سيبقى يولد، فلا مسافة بينهما، عندما لا تغادر حدودها  بين الولادة والموت!

ـ حقا ً، أيها الماكر، إنك هبة المجرات النائية إلى هذه الحديقة!

 

[172] دخان القائد

هل كان غبارا ً أم غيوما ً …، أكان دخانا ً أم عاصفة …، ذلك الذي بدده أزيز مرور عربة نقل الموتى، في ذلك الصباح، الشديد البرودة،  فقد توجهت الأنظار، والآذان، إلى ما خلفته من أصداء، هي الأخرى، سرعان ما تلاشت، فلا غبار، ولا عربة، ولا أصداء.

فدار بخلد أكبرهم سنا ً: فقد ظننا إننا نستطيع محو ذكراه من رؤوسنا! متابعا ً: فهو لم يترك وكرا ً، ولا مغارة، ولا زريبة، ولا حظيرة، ولا جناحا ً، ولا جحرا ً، ولا كهفا ً إلا وحول ساكنيه إلى مجموعة أرامل وأيتام ومعاقين، والى خائفين حزانى والى هاربين ومهاجرين….، كان ذئبا ً استثنائيا ً بين مخلوقات الحديقة، اجتمعت فيه شراسات أشرس المفترسات، ومكر أمكرها، وسم أكثرها فتكا ً، وقسوة من ولد وقلبه خاليا ً من الرحمة…، وعقله من غير حكمة…،  ولد كي يمحو سابقيه ليكون قدوتهم في الجور، والبطش، والمحو.

مرت العربة التي حملت جثمانه نحو المحرقة. فقلت مع نفسي:

ـ  مرت العربة وهي لم تترك إلا أزيز عجلاتها الصدئة، تأز، كأنها لم تقدر على كتمان أساها، مثلما أصبحنا نجهل ان كانت السماء أمطرت دخانا ً أم رملا ً، مثلما تلاشت اشد الأيام هولا ً، فماذا انتظر…، وأنا استطيع ان الهرب …؟

ـ يحق لك، يا سيدي، ان تفكر بالهرب…، ولكن ما هو مصيرنا، في هذه الزرائب، والمغارات، والأقفاص، والجحور، والأوكار المظلمة…؟

ـ أخي الكبش، وأنت أيها الحمار، وأنت ِ أيتها الغزالة، وانتم جميعا ً، بلا استثناء….، إن لم نهرب، فالنهاية أعدت لنا قبل مولدنا، وإن هربنا، فهناك أمل وحيد وهو ان نبقى نبحث عن أمل بالعثور على أمل بالملاذ….!

اقترب الحصان منه:

ـ اخبرني…، هل تستطيع ان تقول للسماء: لا تمطري غبارا ًبدل المطر…، هل تستطيع ان تسأل التمساح من طلب منك ان تنتهك حقوق الضعفاء…؟ وها هو جثمان القائد يذهب، حيث تصعد روحه دخانا ً رماديا ً إلى المجهول…!

صاح الأرنب:

ـ دعك من هربنا الآن…، دعونا نشهد نهاية زعيمنا، على أمل ان لا يأتي اخر يتفوق عليه!

تساءلت الغزال:

ـ من أتى بزعيمنا الجائر، سيأتي بآخر اشد جورا ً منه.

عاد الثور إلى الكلام:

ـ لن أتراجع…فانا أمضيت حياتي انتقل من متاهة إلى متاهة أخرى، على أمل ان أجد نهاية لهذه المتاهات..، ولكن من ذا يستبعد السكين عن رقبتي؟

صاح البلبل:

ـ حولتم نهارنا إلى مأتم!

فضحكت الغزال:

ـ ومتى كنا في عرس، ومتى كان لنا عيد؟

ـ صحيح..

وأضافت الأرنب:

ـ هيا، أيها الجمع الطيب، يا سكان هذه الحديقة، لنذهب إلى المحرقة ونرى ما يحدث.

رفع الجميع رؤوسهم إلى الأعلى، حيث ثمة حلقات بيضاء تصعد إلى السماء، مندمجة بدوائر رمادية، وأخرى حمراء، وثالثة فسفورية شديدة التوهج،  فوق الحديقة:

ـ الم اقل لكم، أيها الضعفاء، لن تترك السنوات العجاف، حتى علامة لها، فلا شاخص يحمل ذكراها، ولا اثر…، سوى دخان الملعون يتلاشى في الهواء.

فتساءل الكبش:

ـ ولكن ماذا حصلنا عليه سوى انتظار الموت القادم….؟

قال الفأر:

ـ سيدي، ألا تكون نهاية الطاغية درسا ً لنا…

أجاب الثور:

ـ ولكنها لن تكون درسا ً لسواه من القادمين…، فالسلطة هي السلطة، والكرسي هو الكرسي، فهل تستطيع السكين ان تقول لا ليد القصاب، وهل يستطيع القصاب ان يمتنع عن ذبحنا، ويمتنع عن تلبية طلبات الجائعين…؟

قالت الأرنب:

ـ دعوني استمتع برؤية دخان زعيمنا يتلاشى مع الغبار…، لعلها تذكرة نافعة لنا.

عاد الثور يتمتم مع نفسه: إن استسلمت فستموت آلاف المرات قبل الذبح، وإن لذت بالفرار فلا مناص…

صرخ الثعلب:

ـ إلى أقفاصكم، يا أبنائي، فهناك بشرى ….!

عادوا جميعا ً إلى حظائرهم، وأقفاصهم، وأجنحتهم، وجحورهم، بانتظار البشرى. امتد الوقت، نهارات بلياليها، ونهارات بلياليها، عقود أعقبتها قرون، ومرت حقب تلتها دهور، ولم تفطن أصابع النقاش إنها كانت تمحو ما كانت تدونه، وتدوّن ما كانت تمحوه، بعد ان ضاع اسم الكاتب من الكتاب.

 

[173] رسالة

وصلت الرسالة حالا ً، نقلها طائر السنونو، إلى جناح الطيور، اخبرهم ان جدهم مازال يعيش في الغابة التي لا حافات لها، تحيط بها البحار، وتتخللها الانهار، والشمس لا تغيب حتى عند حلول الليل، الماء وفير والطعام غزير والهواء عليل…

فاعترضت إحدى الحمامات:

ـ أيها السنونو، فما هي شكوى جدنا إذا ً…؟

، انه يقول مادمت لا ترغبون بالهجرة إلى الفردوس، فنه عزم ان يكفر عن ذنوبه ويعود إليكم.

ـ غريب.

وتساءل الغراب:

ـ جدنا يشبه بعض الناس لا يميزون بين الجنة والجحيم…، فما اغرب الدنيا، ان تجد فيها من يبذل أقصى الجهد للحصول على المزيد من الشقاء…؟

أجاب السنونو:

ـ ها أنا أخبركم ان جدنا بلغ أرذل العمر، وأصبح وحيدا ً لا يعرف ماذا يفعل بسعادته…، فهو لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتمتع بالضوء، ولا بالهواء …، فقد اخبرني انه لا ينوي العودة إلى الجحيم، بل ان يلتقي بمن مكث فيه!

ضحك الحمار:

ـ يا لها من طرفة …، كائن يعيش في الفردوس يرغب بالعودة إلى جهنم! ثم يقول: اشتقت للقاء ملائكتها الأبرياء!

رد الحصان عليه:

ـ تريث، يا ابن الأتان، اسأل شقيقك أيرغب بالسفر إلى جنّة جده؟

أجاب البغل:

ـ لن استبدل وطني حتى بالفردوس!

ضحكت النعامة:

ـ اعتقد إننا اجتزنا حدود الحلم! كما كان جدنا قد اجتاز حافات الجنون!

ـ ونحن…؟

تساءل الحمار:

ـ نحن أصبحنا منزلة بين منزلتين الأولى اشد مرارة من الثانية؛ فلا احد اختار ولادته، ولا احد استطاع ان يختار نهايته!

قال السنونو:

ـ أرجوكم …، أيها الأعزاء، فانا عشت هناك، وها أنا أعيش هنا…، مع إنني أمضيت حياتي كلها بين السفر بين هنا وهناك، وبين هناك وهنا، إلا ان جدكم كان قد لاذ بالفرار للنجاة بنفسه من الموت …

قالت الحمامة:

ـ ولكننا لم نهرب، حتى عندما حصد الموت اعز أبنائنا..

فسألها الحصان:

ـ كم كانت خسائركم..؟

ـ سيدي، لولا الخسائر، لكان الربح بلا معنى، إن لم يكن فائضا ً! وأنتكم تعرفون ماذا يحدث للأسماك في البحار…، فكم أعدادها الهالكة من اجل قليل من الحيتان؟

ـ مثال يكدر النفس!

عاد السنونو إلى الكلام:

ـ لا مشكلة، أيها الشركاء، لأن جدكم عزم العودة!

صاح الأرنب:

ـ كي يختتم حياته بأرقى درجات السعادة.

قالت الأتان:

ـ كلها أمور غريبة: يتخلى عن وطنه الذي وفر له كل سبل الحياة،  ثم يتخلى عن فردوسه..

أجاب السنونو:

ـ لا جدوى من هذا الاختلاف: فمن يرغب بالذهاب إلى جدنا، فانا ساداكم على الطريق…

ـ كم المسافة…؟

وتساءل النورس:

ـ التي تفصلنا عن الفردوس…؟

ـ ليست بعيدة، فالأبدية تبدأ بصرخة الوليد..!

ضحك البغل:

ـ وتنتهي بقطع الرأس!

ـ هذه هي المصيبة: لا تسمحون بعودته إليكم، ولا تذهبون انتم إليه.

اعترض احدهم:

ـ لا ..، المشكلة ليست هنا، أيها السنونو، بل هل تضمن بهجرتنا جميعا ً، ونتخلى عن حديقتنا، مادمنا لم ننقرض طوال أزمنة الإبادة..، من ناحية، وهل لديك ضمانات ان تدوم سعادتنا هناك، في الفردوس، من ناحية ثانية…؟

ـ لا رد لدي ّ…، فانا نفسي أحيانا ً أجد سعادتي في الجحيم، مع أهلي، ومع كل من ولد هنا، وأحيانا ً أجد شقائي في الفردوس، هناك، مع الغرباء…، مع ان حديقتنا لا تبدو اكبر من حبة رمل في بيداء الأرض!

 

[174] هديل

ـ غريب أمر تلك الحمامة.

سأل الذئب الدب الواقف بجواره، فأجاب الآخر:

ـ بل الأغرب انك لم تعد تعوي!

ضحك الذئب:

ـ تركوني اعوي حتى أصبحت لا احتمل سماع احد ينوح أو يولول أو يبكي! أما تلك الحمامة فانا لا اعرف متى تكف عن الهديل…؟

أجاب الدب:

ـ لكنك لم تسألني لماذا لم أبح بكلمة طوال سنوات حجزي في هذه المغارة؟

ـ وما … أدراني..، فأنت عشت وحيدا ً مع نفسك! ثم من قال لك إني اعمل بالسحر..؟

ـ لا …، لأنني أمضيت حياتي احلم إنني أتجمد تحت الثلج، رغم ارتفاع درجات الحرارة، والغبار، والدخان، والضوضاء، في هذه الحديقة،؛حلمت إنني اغطس في البحر المتجمد تحت جبال من الجليد …، وما ان استيقظ، حتى أعود استدرج ممرا ً يدلني إلى القارة البيضاء، حيث لا أجد ضرورة للبوح بالأمر!

فقال الذئب:

ـ ولكنك لم تخبرني لماذا لا تكف هذه الحمامة عن الهديل…؛ أتراها فقدت من تحب، أم خائفة على حبيب ستفقده، مع إنها طليقة، تحّوم في الفضاء..؟

ـ كيف عرفت…، وأنت نفسك تقول ما الذي يعذبها..؟

ـ آ ….، فهمت.

ـ ما الذي فهمته أيها الذئب العجوز…؟

ـ إنها لا تقدر ان تذهب ابعد من سماء هذه الحديقة..

ـ جميل، وماذا أيضا ً…؟

ـ وإنها ترانا من موقعها كيف نولد ونعيش ونموت داخل أقفاصنا، وجحورنا، وأجنحتنا، وحظائرنا، ولا رغبة لدينا إلا بالبقاء فيها!

ـ وبعد …؟

نادى الذئب على الحمامة:

ـ اقتربي.

اقتربت منهما، فسألها الذئب:

ـ ما الذي يجعلك لا تكفين عن النحيب؟

ـ أنا لا أنوح على ما فقدت …، بل على الذي أراه يغيب.

ـ ولكن هذه هي الحياة، أيتها الحمامة: منها نخرج واليها نعود!

ـ حقا ً…، أنت بحت بسر صمتك، أما أنا فلم أجرأ بالبوح بسري، فلعلك، لو أصغيت، لن تكون بحاجة إلى هذه الأسئلة!

 

[175] لغط

ـ ذهبت بنفسي وقلت لسعادته: صحيح إنكم وفرتكم لنا بعض الخدمات، كالعناية الصحية، والطعام، ووفرتم لنا مساحات كبيرة من الأرض، ومنعتم الآخرين من أهانتنا، وشتمنا، وكدتم ان تنهوا عصر العبودية، والكراهية، والبغضاء، فلا احد يستخدمنا للحرث، أو الموت في الحرب، أو في جر العربات، وفي نقل الأثقال…

قاطعه الحمار الأبيض، ممثل الحمير، من غير إخفاء سخريته:

ـ كأنك ذهبت لتمجد أعمالهم…؟

ـ تريثوا، يا أصدقائي الحمير، فالتسلسل في الحوار لم يكن مناورة، ولا زائفا ً…، لأنني لو أخبرته عن أسباب اللقاء، لطردني! وانتم تعرفون النتيجة.

صمت. فاقتربت الحمير منه، بانتظار ان يكمل كلامه. لم يتكلم. كان يحدق في الوجوه، الواحد بعد الآخر، ثم بدأ يبكي:

ـ أخبرته ان حقوقنا سلبت منا، وإننا تعرضنا للانتهاكات، عبر ملايين السنين، وفي مختلف الأزمنة، وصولا ً إلى عصر الديمقراطية، والشفافية، والعدالة الناعمة!

قاطعه احدهم ليسأله:

ـ هل أصغى لك حقا ً..؟

انسحب، وأغلق فمه. فقال آخر:

ـ كان علينا ان نرسل من يخبر المدير، بالحقيقة، ونقول له مباشرة: إننا، بدل حمل الأثقال، وجر العربات، واستخدامنا في الأعمال الشاقة، قبل ان يتم أسرنا …، ووضعنا رهن الإقامة، هنا، في هذا السجن الكبير، ان جنسنا يتعرض للانقراض…، والإبادة، والمحو!

ساد الصمت فترة غير قصيرة، فعاد متابعا ً:

ـ لقد صمدنا زمنا ً طويلا ً ضد الجور، والقسوة، والتمويهات، كي تصدر أخيرا ً لائحة حقوق الحمار…، فما هي الحصيلة، وما الذي حصلنا عليه…؟

لم يجد أحدا ً يتعاطف معه، فعاد يتكلم بصوت غاضب، موجها ً حديثه إلى الحمار الأول:

ـ لماذا لم تخبره بما يحصل لأشقائنا في هذا العالم..، في الوقت الذي أصبحنا نعاني من السمنة، مثل الخراف، والنعاج، والأبقار، نسمن كي نصبح طعاما ً للمفترسات …، لماذا لم بأننا نرغب بالعودة إلى وطننا …!

لمحت الحمير المدير يقترب، بصحبه مستشارته، الببغاء، ومعاونه، الثعلب، والأسد، كاتم أسراره. اقترب المدير…، وخاطب المتحدث:

ـ أكمل، لطفا ً فانا استمع إليكم…!

ـ أنا..؟

، نعم، أنت..

ـ هل أذنبت ..؟

ـ لا! من قال انك أذنبت…، ولكن دعنا نستمع إلى ملاحظات مساعدنا الثعلب:

ـ لقد عملنا لمنحكم حقوقكم كاملة، بعد ان كانت قد سلبت منكم خلال آلاف السنين…

وسأل الثعلب الحمار الصامت:

ـ اخبرهم بما قمنا به من أجلكم.

أجابت الببغاء:

ـ أنا أخبركم ماذا قال: لقد أتمنها بأننا ننسج مؤامرة مدبرة ضدكم! لصالح السادة النمور، والتماسيح، والأسود، والذئاب…، ولم نعاقبه، فالسيد المدير أكد أهمية حق التعبير، كالحق في العمل، وكتوفير أساسيات الحياة، لأنها جميعا ً نشترك في تعزيز الشرعية …، فانتم أحرار أيها الزملاء في استئناف الحوار، بدل الهمس، وبدل الوقوع في الأخطاء…

قال الحمار الأبيض:

ـ  دعونا نستمع إلى توجيهات سعادة المدير ..

ـ قانونا الجديد، المشرع وفق العدل والعقل والحكمة، لا يسمح لي بإصدار القرارات الفردية…، فهناك لائحة العدالة، ولائحة الحقوق، ولائحة الاستئناف…، فهناك المصير الذي نتوخى ان يحقق التوازنات بينا كشركاء أحرار …

ساد الصمت، بانتظار ان يتكلم الثعلب، لكن الأسد قال:

ـ بعد سنوات طويلة أمضيناها في البراري، والغابات، وذقنا فيها الويلات، والنكبات، حتى كدنا نلحق بأسلافنا التي انقرضت، والأخرى التي تتعرض للإبادة، والاجتثاث،  فهل تدركون مغزى ان لا يكون لنا ـ أو لكم ـ وجود…؟ فأنت، أيها الحمار الأبيض الجميل، هل تعرضت للإساءة…، فإذا أجبت بنعم، فمن أساء لك، ومن أساء إلى أي  موطن من موطنينا الأحرار، في هذه الحديقة…؟

أيده الثعلب، قائلا ً:

ـ أما إذا كان اعتراضكم على القانون ..، فانا ـ والسيد الأسد ـ والسيد قدوتنا المدير، ومعنا انتم مادة الوجود، فكلنا سنتعرض للأذى، بل وللانقراض….، فهل تفضلون العودة للمطالبة بحقوقكم التي سلبت منكم…، ام الحفاظ على منجزاتنا والتقدم من غير عثرات نحو بناء مستقبلنا …؟

اقترب الحمار الأول:

ـ سيدي، أنا لم يسمح لي احد بالكلام!

قال الأسد:

ـ تكلم، مع تقديرنا لزميلك الحمار الأبيض الذي أفرط في سمنته:

ـ  كنت أريد ان أقول لهم ان المشكلة لا تتعلق بحقوقنا، ولا بالحمير في الحدائق الأخرى، بل بالعالم ذاته الذي يشرف عليه عدد من الأشرار!

صاح الحمار الأبيض:

ـ لا فائدة من الحوار!

تدخل الأسد قائلا ً:

ـ ها أنت تدعوا لإشعال نيران الحروب!

ـ سيدي، ماذا لدينا غير كرامتنا، فنحن نفضل الموت دفاعا ً عنها، بدل العيش أذلاء، خانعين!

خاطبت الببغاء الجميع:

ـ حسنا ً..، سنعيدكم إلى البرية…، فالذئاب والضباع والكلاب بانتظاركم!

صاح الحمار الأول:

ـ أنا لن ابحث عن وطن آخر، فانا ولدت هنا، ولا أريد ان تفترسني الضواري هناك.

اقترب زميله منه، وصفعه، وخاطب الجميع:

ـ هل تتذكرون لماذا فضل سقراط الموت…؟ أنا ساحبكم: انه قرر اختيار الموت، مرة واحدة والى الأبد، كي يأتي اليوم الذي لا نجرجر فيه إلى الموت في كل يوم.

صفق الثعلب:

ـ لقد انتصرنا!

ـ أتسخر مني…، أيها الماكر، من مكاسبك الشخصية، كما فعل زميلك الأسد، وغدا لاعبا ً جيدا ً على الحبال، ومثل السيدة المستشارة، وأصبحت تجيد المواعظ، تاركين مصائرنا  في مهرب الريح.

خاطب المدير الحمار المذعور:

ـ حقا ً إن الحياة من غيرك، أيها المتمرد، تغدو خالية من الإثارة، وربما من المعنى!

 

[176] ممرات

لم ينبس بكلمة، ولم يذرف دمعة واحدة، فلم يكن رحيل جده زعيم الفئران، صدمة، بل حدثا ً أصبح مألوفا ً، بعد موجة الجفاف، وتعرض الحديقة للإشعاعات، والعواصف الذرية، غير المرئية، وبعد فقدان الطعام، والهواء الصالح للاستخدام.  لهذا لقي قراره بحمل جثمانه إلى النهر، استجابة من لدن الجميع، ليس لأن المحرقة، في الحديقة، بأبوابها الفولاذية، عاطلة عن العمل، وليس لأنه قد ينقل مع النفايات، أو تترك جثته في العراء، أو ترمى إلى المستنقع طعاما ً للتماسيح والضفادع والأسماك، بل لأنه قرر ان يعيده إلى المنبع، المصب، الذي طالما حدثه عنه حيث الأصل لا يرجع إلا إلى الأصل.

لم تكن الممرات، والعمارات، والمؤسسات، والبنايات الحديثة، ولا الشوارع ولا مفارز الحرس والدرك والقوات السوداء، ولا حركة السابلة، والممرات الخاصة، قادرة على غلق المنافذ بين خلفية الحديقة، ومجرى النهر الكبير. فقد مكث، على مدى سنوات، وبعد انتصاف الليل، يذهب إلى النهر، مستدلا ً بعلامات درب صارت ملامحه واضحة لديه.

فاختار زمرة عزمت على أداء المهمة، بلا تردد، ومهما كلفها الأمر، ومعها جرذان الغابات، والبراري، والمرتفعات، وفي ليلة شديدة البرودة، حالكة درجة الصفر، للقيام بتنفيذ المهمة، كما خطط لها، وبنجاح تام.

وضع جثمانه عند حافة الماء، وطلب من الجميع، الصمت حدادا ً، وإجلالا ً، ووفاء ً. ولم ينبس بكلمة، وبعد الانتهاء من فترة الخشوع والإجلال والوقار، أومأ لهم بالانسحاب، والعودة، عبر الممرات ذاتها التي عبروها، بسلام، وسرية.

ـ وأنت يا زعيمنا…؟

لم يجب. فانسحبت المفارز، تحت جنح الظلام، الواحد بعد الآخر.

ـ الفارق بيني وبينك، أيها الجد العظيم …، انك عشت حتى شبعت منها وحتى شيعت هي منك…، أنت أبصرتها في مخفياتها مثلما هي أبصرت في مخفياتك، ارتويت منها وارتوت منك، عذبتها فعذبتك، حتى أصبحت اجهل من أصبح فائضا ً عن الآخر، ومن فسخ العقد….؟!

رفع الجد رأسه هامسا ً:

ـ ليس باستطاعة احد منا، أيها الزعيم المبجل، ان يخبرك…، فكلانا، في الأخير، أكمل الدورة!

ـ بالتأكيد لم تقصد ان تقول لي: بلغت ذروتها!

ـ أحسنت…، فلو كان هناك من يخبرك بالسر، لتطلب ان تعرف سره، لأن الأسرار لا تغيب، ولا تستحدث!

سرت عبر أصابعه النحيلة قشعريرة الماء عبر جسده. فدار بخلده، كم كانت غامضة وناعمة وملغزة، وثمة رائحة ما سرعان ما تحولت إلى ومضات لم تدعه يفكر أيهما كان قد تقدم على الآخر، كي لا يضطر لانتظار من ينشغل بوداعه، وفي الوقت ذاته، لا يجد ضرورة للانشغال بكتمان السر، أو إعلانه.

 

[177] موعظة

ـ اصبر، اصبر….، كي تلقى حتفك بهدوء!

فأجاب الخروف الثور بأسى عميق:

ـ صبر جدي، وصبر ابنه، وها أنا أوصي أحفادي بالصبر….، لكن السكين، أيها الثور العزيز، عمياء! فاخبرني ماذا يدور براسك وأنت تعرف ان جلدك سيصبح أحذية…؟

أجاب بألم  مكتوم، ساخرا :ً

ـ أكاد اسمع أصداء أقدامهم فوق الأرض!

فضحك الخروف:

ـ وأنا أكاد اسمع أصوات قرع الطبول التي صنعوها من جلدي، واستنشق رائحة الصوف من ملابسهم!

ـ الم ْ اقل لك اصبر…، فحتى السكين العمياء تجهل سر اليد التي تمسك بها…، لأن القصاب نفسه لا يعرف كم مرة يموت قبل ان يلقى حتفه.

ـ هل نصحته بالصبر…؟

ـ أنا سمعت السكين تقول له: يا ظالم، أسرع، فرائحة الموت لا تحتمل.

ضحك الخروف:

ـ وأنت ماذا تقول…؟

ـ لولا الصمت، لكنا خدعنا الكلمات!

 

[178] أسرى

ـ ما الذي جاء بكم إلى هنا…؟

سأل الأرنب الغزال، فرد الأخير ساخرا ً:

ـ كما فعلت الأسود، والنمور، والتماسيح..، تخلت عن غاباتها، وبراريها، كي تنعم بالأمان!

ـ كأنك  تقصد إنها لم ْ ُتأسر، رغم انفها، لتمتع بهذا النعيم؟

ـ يا صديقي الأحمق…، وهل هناك احد يختار بإرادته الدخول إلى السجن، أو الذهاب إلى الجحيم…؟

ـ نعم!

وأضاف الأرنب:

ـ نحن عندما فقدنا برارينا وغاباتنا وودياننا…، باستيلاء البشر عليها، وبعد ان طردونا منها، ولم نجد ملاذا ً لنا…، التجأنا إلى هذه الحديقة.

فقال الغزال:

ـ هذا يعني إنكم اخترتم الجحيم بأنفسكم!

ـ لا! نحن هربنا من بلادنا خشية الموت فيها، ولم نجد مكانا ً لنا، رغم اتساع الأرض وغاباتها وبراريها، فلذنا بهذه بأقفاص هذه الحديقة، زعيمنا قال: لننتظر نهاية حروب البشر، ونهاية سطوتهم على الأرض، واستيلائهم على ما فيها، كي نرجع إلى ارض أسلافنا. صحيح دمروا فينا الإرادة، ولكنهم لم ينتزعوا أحلام عودتنا أبدا ً!

رد الغزال، مرة ثانية، ساخرا ً:

ـ لا في المرة الأولى كسبتم شيئا ً، ولا في الثانية، فانتم أينما ذهبتم ترددون مع أنفسكم: لعل الجحيم وحده اقل قسوة منهما!

 

 

[179] العصر الناعم

ـ  لم نترك مكانا ً لم تصله ..

وتابع الغراب قراءة الرسالة، مرة ثانية، بصوت متوتر:

ـ أجسادنا…، فقد اعددنا ما يكفي للمهمة.

أجاب الهدهد:

ـ كانت لدينا معلومات مؤكدة عن تسلل عدد كبير من الفئران الانتحارية، وقد برمجت برمجة متقنة، وبمشاركة فصائل من الجرذان، والصراصير، والخنافس، وأبو جعل، وغيرها من المخلوقات الوضيعة.

تساءل الببغاء:

ـ إذا كان القضاء عليهم لا ينهي الفتنة، ولا يقلل الخسائر، فلماذا لم نمنحهم حقوقهم المشروعة، بدل هذه المناورات التي قد لا تقود إلى الحسم، والسلام…؟

خاطب الثعلب الغراب:

ـ لطفا ً أكمل..

تابع الغراب:

ـ وقد تضمنت مخططاتهم نسف الأسوار، وهدم الأقفاص، وتخريب الأجنحة، والمغارات، بغية إطلاق سراح الجميع.

صاح  الثعلب:

ـ هذا بمثابة إعلان حرب!

أجابت المستشارة:

ـ كما قال خبير المعلومات، السيد الهدد، فان المؤامرة ستذهب ابعد من إثارة الفتنة، وابعد من إشعال الحرب، وابعد من الهدم، والقتل، والتخريب…، فالمؤامرة تستهدف محونا من الوجود!

ارتبك الثعلب قليلا ً، وأجاب بغضب:

ـ أغلق فمك…، فاليأس خيانة، والخوف تخاذل، والتردد جريمة! فكيف وأنت تبث كل ما يحبط العزائم، ويبث روح الهزيمة؟

قال الغراب:

ـ سيدي، لقد تم هدم الجناح الغربي، وما جاوره، ففرت الحمير، والبغال، والجاموس، والإبل، والماعز، وحتى التماسيح تضررت من موجة التفجيرات، والأعمال التخريبية…، ومن القتل العشوائي، واستبدال النظام بالعشوائية!

أجاب الثعلب بصوت بدت عليه الحيرة، والتردد، والأسى:

ـ هل نتخلى عن مجدنا، وحديقتنا…، للجرذان، والضفادع، والفئران…؟

ـ سيدي، إنهم يزحفون، بمساندة الأفاعي، وبمشاركة فصائل من الضباع، والذئاب، وبنات أوى، ومجاميع من القطط المتوحشة، والكلاب السائبة.

قالت الببغاء:

ـ هذا ليس إعلان حرب، بل هو الخراب.

فسأل الثعلب الهدهد:

ـ أين كنت…؟

أجاب الهدهد:

ـ أخبرناكم بأدق المعلومات، ومنها التي لم تقع، والتي مازالت تدور في العقول! فماذا كانت أجراءتكم، سوى التراخي، وعدم التصديق، والشك، وهي التي مهدت للتمرد الذي تحول إلى عصيان، والأخير أصبح ثورة!

صرخ الثعلب مرددا ً:

ـ ثورة، ثورة،  لا أريد ان اسمع هذه الكلمة,

متابعا ً أضاف:

ـ أيها الأسد، وأنت أيها النمر، وأنت أيها الفيل …، لنعقد جلسة طارئة واتخاذ ما يلزم.

ضحك الحمار:

ـ سيدي، انظر…؛ الفئران ارتدت أحزمة ناسفة، والجرذان تحولت إلى ألغام موقوتة، والضباع جاءت بالعربات المفخخة، وفصائل أخرى عزمت على نسف الحديقة ومحو علاماتها، من اجل استبدالكم او قتلكم!

تمتم الثعلب مع نفسه بصوت مسموع:

ـ أنا لا اعرف من اجل من يموتون، الحمقى، لم يفطنوا حتى للمناورة!

أجابت الغزال:

ـ من اجل الكرامة.

وأضاف الثور:

ـ والحرية.

وقال الكبش:

ـ والرفاهية!

سأل الثعلب مساعده باستغراب:

ـ من منع عنهم الكرامة والحرية والرفاهية…؟

لم يجب عليه احد من الحضور. فتساءل مرة ثانية:

ـ من حرمهم من الهواء والماء والضوء والأمن والرخاء ….اخبروني…؟

لم يتفوه احد بكلمة. فصرخ الثعلب في وجه الأسد:

ـ أيها الخائن!

جرجروه عنوة حتى توارى. قال الثعلب:

ـ أعطوهم الرفاهية، ثم وزعوا الكرامة، وانثروا لهم الحرية!

صاح التمساح:

ـ أيها الزعيم، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، ولا بيتا، ولا مؤسسة، ولا مغارة، ولا جناحا ً، ولا قفصا ً…، إلا وأشعلوا النيران فيها، ونسفوها، وخربوها شر تخريب، بعد نهبها، وسرقتها! وما نحن الآن سوى زمرة أشباح ضالة  كأنها جذوع خاوية محشوة بالهواء!

دوى انفجار، تبعه آخر، فقال الثعلب بصوت عال ٍ:

ـ أيها البواسل، أيها الفرسان، أيها الأبطال….، إلى الحرب!

ضحك البغل يخاطب الماعز:

ـ مع من يتكلم زعيمنا الخالد…؟

ودوى انفجار ثالث، ورابع، ثم انهالت القذائف فوق الساحة الكبرى، بعد ان اخترقت الجرذان الممرات المحصنة، حيث بدأت تدوي انفجارات في الأجنحة، والإسطبلات، والمغارات، والزرائب، وقد تم احتلال مركز الحديقة، بعد ان خربت التماثيل، ومزقت الصور، ونسفت شاشة الحديقة، وبعد اقتلاع الأشجار، وتخريب المرافق الأخرى.

في الملجأ المحصن، قال الثعلب لمساعديه، بصوت مرح، رزين:

ـ محض سحابة، هواء في شبك، زوبعة في فنجان…، فما ان تنتهي هذه اللعاب، وما ان تخمد حرب الجميع ضد الجميع، حتى يبدأ عصر الأنوار: عصر المصالحة!

دخل قائد الحمايات مضطربا ً وقال:

ـ، سيدي..، امسكوا بالقائد، ومزقوه شر ممزق، وسحلوه، ومسحوه بتراب الأرض، وهو صار ممحوا ً محوا ً…، والقصة بدأت هكذا ـ سيدي الكبير دام زمنك إلى ابد الآبدين ـ أراد السيد القائد ان يتباهى بمجد حديقتنا، وقوانينها، وقوتها التي لا تقهر، إلا ان الموجات الانتحارية راحت تزحف من الجهات كافة، من الحفر، ومن الشقوق، وتخرج من الأنهار، ومن الآبار، ومن المستنقعات، وتهبط من السماء، تتساقط مثل اسماك تنفجر حال ملامستها الأرض….، فلم يبق شيئا ً في حديقتنا إلا وتحول إلى رماد، وركام، وأنقاض، وغبار!

ابتسم المدير، وسأل الأسد الذي لا يعرف كيف دخل:

ـ ماذا تفعل هنا..؟

ـ سيدي…، طالما أخبرتك ان الحرب لا تجري فوق الأرض..، بل داخل العقول!

كاد المدير ان يفطس من الضحك، حتى لم يقدر على الوقوف، فسقط أرضا ً، ثم لوّح بأصابعه ساخرا ً:

ـ إن كانت الحرب تجري فوق الأرض، أو في العقول، فالبركان انفجر، والأرض زلزلت، والطوفان وقع…، مادمنا نحتمي داخل هذه الملاجئ المحصنة، فليس علينا إلا ان تكتمل دورة الغضب….

ساد صمت، بدده الخنزير بسؤال:

ـ إذا تحولت حديقتنا إلى رماد، وغبار، فعلى من تحكم، أيها الزعيم الخالد؟

نهض المدير، واقترب منه:

ـ وهل صدقت، في يوم من الأيام، ان حديقة كانت هناك…؟!

ـ آ …، طالما قلت ذلك لنفسي!

أومأ المدير لحمايته باستبعاده. فصرخ:

ـ انتظر …سيدي الأبدي، دعني أكمل، فانا قصدت شيئا ً آخر غير الذي دار ببالك!

قال المدير:

ـ انتبه، أتعلب علينا، أم أصبحت تجديد المناورة، والتمويه؟

ـ أنا لا العب، ولا أناور، ولا أموه…، فانأ لا ارقص، ولا اعوي، ولا اشتكي…، فانا طالما استنتجت ان زعامتك شبيهة بالجواهر الخالصة، ولا علاقة لها بما حدث، وما فعله الرعاء، وما ارتكبه القطيع من شناعات، وخساسات، ونذلات، وسفك دماء، والآن …، بعد ان تخمد النار، لن يعد للثعابين، ولا الفئران، ولا الأرانب، ولا العقارب، ولا القمل، ولا الكلاب من وجود، ولا حضور، ولا حتى بقايا أطياف! ذلك لأن زمنك الذي انتظرناه طويلا ً، يكون قد بدأ …، فبعد ان تختفي هذه الزعانف، والزوائد، والدهماء، والرعاع، والفتات،  وبعد ان نجمع رمادها ونذره في الريح…، يبدأ زمنك الجميل، زمن نهاية الجور، والطغيان، فتسود المودة، ويعم الرخاء.

ـ آ ..، آسف…، يا لك من عقل!

فتابع الآخر:

ـ ثم سيولد الجنس الناعم، فانا، مع الدب، والسيدة الببغاء، ومع فصائل النمور الشفافة، فكرنا بعصر ما بعد الرماد، والحرائق، والفوضى. سيدي، فالحقول ستورق، والسماء توزع حلوها، والآبار تتدفق، مثل الينابيع، بالماء الزلال، الخالي من بقايا الجثث، والمواد المشعة، ومن بيوض الضفادع، وبقايا المياه الثقيلة، والضوء سيوزع من غير حساب، بدءا ً بزمن الرفاهية، ونهاية الظلمات!

ـ اقترب.

اقترب الخنزير:

ـ لم يحن الأوان بعد….، أيها العقل العبقري، لأنني انتظر ان تكمل مهمتك.

ـ أمرك سيدي.

ـ لأن عليك ان تغذي الحرب، فلا تدع يوما ً يمضي من غير مذابح، فلا تدع أحدا لأحد، فالخراب لم يبلغ غايته بعد!

ـ أمرك سيدي.

ثم استدرك الخنزير:

ـ لكن ماذا لو …، لم نتمكن من إبادتهم…، ومن محوهم…، وماذا لو لم يبقوا لنا سوى هذا الجحر…؟

ـ آ …!

ثم أضاف المدير:

ـ لا تجزع…، سنغادر إلى كوكب بعيد!

ـ حقا ً، هكذا نجونا…! فبعد ان انقرضت الماموثات، والديناصورات، والوحوش العملاقة، وهكذا ـ يا زعيمنا الخالد ـ سيبدأ عصرك الزاهي المجيد. فبعد ان يكون العالم القديم غير صالح ليس للسلام، بل للحروب، ستكون وحدك الجدير بالزعامة، حيث الشعب الناعم، تأمره فلا يعصي، تنهاه فلا يعترض، ليشيد حديقة لا خراتيت فيها، لا رعاع ولا حرباوات، لا قمل، ولا خفافيش، لا عميان ولا مثلثات ولا مكعبات ولا أوبئة ولا سرطانات، لا إشعاعات تهددنا بالموت اليومي، ولا طوفونات، ولا براكين، ولا أساطير ولا خرافات، آنذاك تهدم الحدود، ولا تردم الفجوات، وتمحى الحافات، فتعود الريح تنشد نشيدك الأبدي: لا أضداد ولا خلافات ولا مخالفات، لا عصيان ولا جنح ولا شطحات، لا شيخوخة ولا علل ولا هذيانات، يا مديرنا الكبير، فأنت قفل الباب، وأنت مفتاحها، يا مديرنا يا مديرنا، العدم عند أسوارك يأتيك بالهدايا، والشموس تهديك الأنوار، وبهائمك الناعمة تمجدك ليل نهار.

 

[180] اعتراف

بعد ان نتفوا شعرها، شعرة اثر أخرى، وبعد ان سلخوا جلدها، وبرزت عظامها، أعادوا السؤال عليها:

ـ من افترس الذئب…؟

لم تقو الأرنب على فتح فمها، فقد بحثت عنه فلم تجده، فأومأت برأسها إنها هي التي فعلت ذلك، ولديها ما يكفي من الأدلة على فعلتها.

بعد سنوات….، شاهدوا الأرنب تتنزه مع الذئب، في ساحة الحديقة. فسأل المحقق نفسه، وهو يراقب المشهد: الآن لا اعرف من كذّب على الآخر…؛ الذئب الذي اتهم الأرنب بارتكاب الجريمة، أم الأرنب التي لم تنف التهمة…، فمن افترى على الآخر…، أم في الأمر لغز…؟

اقتربت الأرنب من المحقق، هامسة بصوت شفاف:

ـ لو لم افعل ذلك…، ربما تكون أنت، يا سيدي المحقق، الجاني الوحيد!

 

[181] أسئلة

سأل الفار الأرنب بحضور الغراب:

ـ ما معنى ضرورة اعترافي  بقوة الأسد، وببسالة النمر، وما هي ضرورة اعترافي بذكاء الثعلب ومكره، وشراسة الدب وعناده، وقسوة التمساح وجوره…؟ أهي دلالة عظمتهم التي ليست بحاجة لمثل هذا الاعتراف، أم هي دلالة ضعفي غير المبرر….؟

ضحك الأرنب قائلا ً:

ـ بالأمس سمعت النملة تخاطب الفيل: أرجوك لا تسد الدرب علي ّ…، فقال لها الفيل معتذرا ً: ومتى فعلت ذلك؟

انفجر الغراب ضاحكا ً، فسأله الأرنب:

ـ أتسخر مني…؟

ـ آ ..، لا، لا أبدا ً، ولكنني تذكرت ان جدي عندما علم القاتل كيف يدفن ضحيته، ان الأخير مكث يتوعده بالانتقام والثار!

 

[182] الحمار والأسد

اقترب الحمار من الأسد، هز رأسه يسارا ً ويمينا ً، ولم يتكلم. فرفع الأسد رأسه وسأله:

ـ لا تتردد…، بح بما دار بخلدك، فقد استطيع مساعدتك!

فقال الحمار بصوت مرح:

ـ لا أنا استطيع مساعدتك ولا أنت تستطيع إيذائي!

اعترض الأسد:

ـ لم يكن هذا هو ما دار برأسك أيها الحمار المسكين!

ـ للحق كنت أود ان أقول لك: لا القفص الذي تقبع داخله يليق بمقامك…، ولا الحرية التي حصلت عليها أنا نافعة!

ـ ولكن ـ تمهل ـ دعنا نبحث عن حل…، لنفترض أنا تحررت وعدت إلى الغابة..، وأنت وضعت خلف القضبان…، فما هي النتيجة..؟

ـ ها، ها.

ـ ما الذي جعلك تضحك…؟

ـ أضحكني انك قلت كلاما ً لا يليق بمقامك، أيها الأسد …، من ناحية، وان كلامك آذاني اشد الأذى، من ناحية ثانية!

ـ لم انوي، أو اقصد ان أؤذيك.

أجاب الحمار:

ـ ماذا لو كنت قلت: ان لم تحرر الأسود الحمير من العبودية، وحمل الأثقال، وان لا يكون مصيرها طعاما ً للضواري، فما هو عملها…، أم انك ستقول: ماذا باستطاعة الأسد ان يفعل وهو خلف القضبان…، أو تطلب من الحمير ان تعتقكم…؟

ابتعد الحمار، متمتما ً مع نفسه: لو كان الأسد طليقا ً فهل كان قد تركني على قيد الحياة؟

غضب الأسد بعد ان سمع أصداء كلمات الحمار، ترن داخل رأسه، فتكلم بصوت خفيض، بعد ان فقد الأمل في الزئير:

ـ لو كان ذلك حكما ً صائبا ً، أيها المسكين، لكانت عظامك ترقد مع هياكل الديناصورات!

عاد الحمار وقال للأسد:

ـ كنت أمل ان اسمع زئيرك!

كاد الأسد ان يزأر، ولكنه تمتم بصوت مخنوق:

ـ الغريب ان الذي قيدني تركك طليقا ً، ومن سلبني صوتي منحك النهيق، لكن الأغرب، يا شريكي، ان حريتك لا معنى لها إلا بحدود وهم قوتي!

 

[183] دار فناء

ـ قرب رأسك مني: أتعرف لماذا لم استطع اتخاذ قرارات حاسمة وذات معنى طوال المائة عام التي عشتها…

صمت الحصان قليلا ً، وأضاف يحدث حفيده المهر بصوت مرتجف، خفيض:

ـ لأنني لم أجد في الأسود، ومن على شاكلتها، ما يصح ان يصبح قدوة، ومثالا ً…، فهي شرسة، مخادعة، ماكرة، وجائرة في ظلمها…، وفي الجانب الآخر، يا حفيدي، لم أجد في الغزلان ومثيلاتها، إلا نزعة الفرار، والاختباء، والهزيمة!

تساءل المهر:

ـ انك يا جدي تقتل الأمل الذي كنت انتظر ان أتعلمه منك!

ـ لا ..، أنا لا اقتل الأمل، بل أنا ابذر…!

ـ آ ….، وهذا يعني علي ّ انتظار ان ينبت …؟

صمت الحصان برهة، ثم قال متابعا ً:

ـ هناك مثل جاءنا من البلاد البعيدة، يقول: إذا أردت ان تعيش يومك، فازرع العشب والخضار، وإذا أردت ان تعيش سنوات أطول، فازرع الأشجار …، أما اذا أردت ان تعيش طويلا ً فازرع الإنسان!

ـ لم افهم؟

ـ يا حفيدي الحبيب، وأنا احتضر، لم افقد الأمل، مثلما لم اعش على الأوهام…، لأن الحكمة لا تعني ان تولد بانتظار ان تموت!

ـ ما هي إذا ً….، إن تكن هي حكمة الحياة ذاتها؟

ـ أحسنت…، ها أنت بدأت تبصر…، لكن عليك ان لا تصدق انك رأيت!

ـ هذا كلام صعب؟

ـ بل لا أسهل منه، يا مهري، لأن حياتنا لا علاقة لها بالولادة ولا بالموت! بل هي بحدود المسافة ما بينهما، وهذا اختلاف كبير!

اعترض المهر:

ـ إنها المسافة التي تماثل قولك لي قبل سنوات: مسافة كل ما هو بحكم الزائل؟

ـ أحسنت…، مرة ثانية، لأن ما يزول، يخصك، ولا يخص الزوال!

فقال المهر بصوت من تلقى الدرس:

ـ كأنك بذرت بذرتك في ّ…؟

هز الحصان الهرم رأسه:

ـ لأن هذه المسافة تمتد، وتمتد، وتمتد، من جيل إلى جيل…، ولكن عندما تتقلص هذه المسافة، فان الحياة تصبح دار فناء، أو لا معنى لوجودها!

 

[184] وصايا

ـ لا تلفت نظر احد…

وراح القرد يعلم ولده ان لا يبدو شاطرا ً، ولا يفصح عن مهاراته، ولا ذكائه، قائلا ً ألا يتحدث عن عملية خزن حرارة الشمس، في البذور، ولا الاستعانة بماء المطر، نقيا ً، في القشور، بدل استخدام ماء البركة الملوث، وان لا يتحدث عن باقي المخترعات، ومنها تعلم لغة الطيور، ولغة الريح، ولغة الأنوار…؛ فالإنسان نفسه يجهلها!

لكن الابن سأل والده:

ـ وان لا اخبرهم بأننا سرقنا الأسلحة، من المسلحين الخارجين على القانون، ومن فرق القتل، استعدادا ً للدفاع عن النفس!

صاح الأب فزعا ً:

ـ أيها المجنون …، متى فعلتم ذلك؟

قال الابن بصوت هاديء:

ـ عندما كنت تفاوضهم حول المصالحة، وحماية أمن حديقتنا!

 

[185] ذكاء

ـ مادمت نجوت من مخالبه…، فأنت، أيها الديك، أذكى منه؟

ضحك الديك:

ـ لو كان ابن أوى ذكيا ً لفكر كيف ينجو، بجلده، من الكلاب، في هذه الحديقة!

ـ إذا ً أنت أذكى منه…؟

ـ مرة ثانية أقول لك، يا شريكي في القفص، لو لم يكن أغبى مني، لما نجوت. ولكن تمهل، وانظر جيدا ً، فهل دامت الحديقة لأحد، كي تدوم للثعالب؟

 

[186] مخاوف

سألت البعوضة الدولفين:

ـ يقولون انك أذكى من السيد المدير…؟

لم يعترض رغم حذره من المخبرين، فقال:

ـ لأننا أصبحنا نرقص مثله!

قالت البعوضة:

ـ أتسخر مني…؟

فقال الدولفين غاضبا ً:

ـ أنا هو من سيخبر السيد المدير، وأقول له: ما مصير الحديقة التي تستعين بالبعوض، والقمل، والذباب، لحماية مديرها، غير الأمراض، والوجع، ثم الهلاك!

 

[187] غضب

ـ ماذا لديك ..؟

وسأل المدير الببغاء الغاضبة، فقالت:

ـ الكلب الذي فر، قبل سنوات، يتهمنا بالتجسس، لسيادتكم..!

وهي تحدث نفسها من غير صوت، مع أن نظامكم لم يترك عقوبة لم ينزلها بنا، عدا الموت!

أجاب المدير:

ـ أتودين ان نقطع رقبته، حتى لو كان في زحل؟

صرخت الببغاء:

ـ إذا قلت نعم، فهذا يعني كم أنا خسيسة حد التشفي بكلب ضال، كهذا الكلب، آنذاك ما الفارق بيننا…؟

 

[188] عصر الحرير

بعد ان تحول الهمس إلى لغط، والأخير إلى قصص تسندها الشواهد، وبعد ان تحولت الإشاعات إلى أدلة، والشك إلى وقائع ملموسة، والظن إلى ثوابت، آنذاك اتسعت مساحة  الفوضى، والجدل، فشملت أقسام الحديقة برمتها، من غير استثناء. لقد بدأ ذلك كله على نحو غامض، فقد تناقلوا ـ قالت الحمامة للغراب ـ أخبار مبهمة، ضبابية، وقيل هوائية، عن ولادات غريبة….؛ فاللبؤة وضعت غزالا ً، والدبة ولدت نعجة، والخنزير ولد فقمة، وابن أوى وضع تمساحا ً، والأسد ولد مهرا ً، والأتان وضعت كومة من الكرات الصغيرة، والكركدن ولد نعامة، والنمر ولد سمكة….

ـ غير سارة هذه الأخبار.

قالت الحمامة فرد الغراب:

ـ لم تعد أخبارا ً، ولا أوهاما ً، ولا ظنونا ً، فانا بنفسي رأيت الفصائل الجديدة تزحف نحو الساحة الكبرى…

ـ لإعلان التمرد أم لإعلان العصيان؟

ـ لا اعرف.

ـ ما الذي وجدته بالضبط، مادمت كنت رأيت المشهد ببصرك؟

ـ ربما هي نهاية عصر حديقتنا!

ضحكت الحمامة ساخرة:

ـ دعنا من النهايات…، فأنت تعرف ان نهاية العالم وضعت عند فاتحته…، فانا لا تفزعني الحقائق، مادامت نهاية عالمنا مقترنة بمقدماته..، لكن ـ أرجوك ـ اخبرني ما الذي جرى بالضبط، من غير وشوشة، أو تهويل..

راح الغراب يفكر، ولم يجب. فسألته الحمامة:

ـ دعني اسمع صوتك.

ذهل، وأجاب بخوف:

ـ لا امتلك قدرة على النطق…، فانا أفكر! لكن كيف حصل ووضع التيس قنفذا ً، والثور حبل وأنجب مخلوقات آلية، والبعوض راح يلد حبيبات تتحول إلى عصافير، والى ديدان طائرة، وكيف ولدت الحوت مخلوقات لا هي برمائية ولا هي مفترسةً…

ـ غريب.

ـ والأغرب ان هذه المخلوقات المستحدثة كانت تطالب باسترداد حقوقها التي سلبت منها…، فانا سمعت زعيمهم يفكر! أي لا ينطق، لا يعوي، لا ينبح، لا يستغيث، ولا يستنجد!

صعقت الحمامة:

ـ أرجوك اشرح لي…، فانا انتمي إلى عصر الثدييات، وأسلافي من الزواحف…، فدمائي خليط من الشوائب والبذور والأضواء والظلمات.

ضحك الغراب، متسائلا ً:

ـ وهل انتمي إلى غير هذه العصور الـ …؟

ـ دعك من المزاح، ومن الغزل، وقل لي ما الذي جرى في حديقتنا الخالدة؟

ـ عجيب…، فها أنا أدرك ان وجودنا غدا  ًعتيقا ً، باليا ً، مندثرا ً…، بالأحرى لا وجود لنا بالمرة!

هز الغراب رأسه، وعبر بالذبذبات. ففهمت الحمامة انه قال لها ان التمرد ليس إلا الشرارة. فطلبت الحمامة منه:

ـ لا تتعجل، لا تسرع .. أرجوك..

فقال الغرب:

ـ هذه الكائنات، يا عزيزتي، ليست وهمية، ولا افتراضية، ولا من صنع الذهن، أو الخيال…، بل ولا من صنع المباديء، ولا من صنع الأيديولوجيات!

تساءلت بشرود:

ـ أن يلد الأسد سحلية، والدب فأرا ً، والحية تلد أرنبا ً برأس كوسج، والنمر يلد قردا ً…وتطلب مني ان لا  أتعجب ..؟

تمايلت الحمامة، وكادت تفقد توازنها، فسألته:

ـ ماذا يريدون…؟

ـ لا يريدون شيئا ً! لأنهم أدركوا ان إعادة حقوقهم لا معنى له، ليس لأن ذلك بحكم المستحيل، بل لأنه غدا ً لا يمتلك ضرورة.

ـ ولكنك لم تخبرني من هم، أصلهم، جذورهم، وكيف امتلكوا إرادة الحضور …؟

ـ هم، هم، هم الضحايا ….، قلت لك، هم الطرائد، والمظلومين، والمغدور بهم، المذبوحين، المحروقين، والممزقين شر ممزق، وهم أجزاء أجزاء الأصل الأول الذي استحال إلى طعام، والى براز، والى تراب!

ـ آ …، فهمت، ولكن لماذا لا تعاد لهم حقوقهم…؟

أجاب بصوت متوتر:

ـ الم ْ أخبرك بان زمنك ولى…، وبرمجتك عفى عليها الدهر، وانك أصبحت عتيقة، غير صالة للاستخدام، ولا حتى للكلام!

ـ أتضرع إليك، اشرح لي، فقد أتعلم وأنا ـ كما تعلم ـ شغوفة بالمعرفة، فانا لا أريد ان أموت ضحية عقلي المفقود، ولا ضحية إرادتي المستلبة، ولا أحلامي الغائبة.

ـ حسنا ً، يا حمامتي،  فبعد ان استبدلت الأدوار، اقصد ادوار الإنجاب والإخصاب والتناسل، وصارت الذكور تحمل بدل الإناث، طهرت الفجيعة! وبدأ العصر الذهبي للظلمات!

ـ ماذا قلت؟

ـ قلت لا نهاية لفعل الغوايات، ولا خاتمة للولادات. فالكل يغتصب الكل كي يمتد المحكوم بالزوال…!

ـ حتى من غير معاشرة شرعية، ومن غير اتصال مباشر..؟

ـ لا حاجة لها بعد اليوم، فهؤلاء هم ضحايا البراري والغابات والمستنقعات والكهوف والثقوب والشقوق والخرائب …، هم الطرائد التي تم اقتناصها، وافتراسها، واغتصابها، أصبحت تتشبث بدفاعات استثنائية، فسكنت أجساد جلاديها، ومغتصبيها…، كي تتكون مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة، والى ما لا نهاية…، لتطالب بالعدالة!

ـ فهمت! فانا للمرة الأولى أفكر! ولكن ماذا بعد ذلك..؟

ـ لم يطالبوا بإنزال العقاب، أو بالثار، أو بالانتقام …، فلو حصل ذلك فستكون النهاية قد بلغت ذروتها، فقد أكدوا ان مطاليبهم تستدعي استحداث فصائل لا تعوي، لا تولول، لا تنوح، لا تزأر، لا نهق، ولا تنبح …، أي الانتقال من عصر الحواس والعقل إلى عصر ..

ـ لا تغلق فمك، تكلم، يا غرابي السعيد!

ـ إلى …، إلى …، إلى …

وسكت، معترفا ً بأنه لا يمتلك أداة للتعبير، والإيصال، والتوضيح.

ـ فالأصوات التي تحولت إلى كلمات أصبحت أدواة متحجرة، بالية، حجرية، لقى، آثار، ونفايات، مثل أكوام من المزابل والخردوات والمخلفات.

ـ ها أنت تؤكد انه آن أوان زوال عهد حديقتنا الغناء؟

ـ اسمعي، يا حمامتي الجميلة..

ـ أنا مصغية لك يا غرابي العاشق!

ـ هناك، في خلايانا، يحدث ما اجهله، فانا أصبحت أفكر في الذي لا أفكر فيه!

فسألته بصوت فزع:

ـ وأنت من ولدك؟

ـ آ ….، بدأت أتلمس  وجودا ً آخر غير وجودي.

ـ ماذا تقول…؟

مسترسلا ً:

ـ دعيني انظم إلى رفاقي…، وأشاركهم المطالبة بحقوقنا.

ـ وأنا ؟

فسألها بشرود:

ـ أكان جدك حمامة؟

لم يفزعها سؤاله، ولم يصدمها، بل بدأت ترفرف، كأنها فقدت ثقلها، وراحت تحّوم، وتدور، ثم اقتربت منه:

ـ طالما أحسست ان في ّ أضواء، وفي ومضات كائنات أخرى، إشعاعات، ملامس حريرية، ذبذبات ناعمة، غزل ابيض…!

ـ ها، أيتها المسكينة، أنت أيضا ً سلبت حقوقك منك…، فكم مرة اغتصبك اللقلق، والنسر، والبوم، والصقر…، ومن يعلم ربما هناك …

ـ تقصد افترسني!

ـ لا فارق، ولا اختلاف إلا بحدود أخطاء التعبير، واللسان، فالاغتصاب مفهوم بلغ ذروته!

لم تجب. كانت تفكر. فراح الغراب يتتبع ذبذباتها الصادرة عن دماغها، حتى لكزها:

ـ أفيقي…، حبيبتي، آن لنا ان لا نعوي، لا ننبح، لا نولول، ولا نغرد أيضا ً.

فسألته بعد لحظة صمت:

ـ أأنت من هذا الجنس المستحدث…، يا ابن الضبع…؟

ـ لا اعرف …، فالحقائق تؤكد ان السيد المدير لم تلده عنزة، ولم تحبل به خنزيرة، لا أبوه فيل ولا أمه بغي، فقد شاهدوه يغطس في البركة ولم يخرج منها إلا برأس سلحفاة، وذيل طاووس، وأصابعه تحولت إلى مجسات، فمه ثقب، وانفه تحول إلى بندول…، وقالوا انه اخذ يمشي فوق الحبال، مثل بطة، ثم تحول إلى حرباء، بعدها باض بيضة سوداء…، فصفقوا له طويلا ً، وهتفت له الحناجر بحرارة..!

قربت الحمامة رأسها من الغراب:

ـ قلت لي ان والدك كان تمساحا ً، وان أمك كانت غزالا ً …؟

ـ آ …، متى تحدث الصدمة، متى تدركين ان الكلمات دفنت مع الديناصورات.

ـ ماذا افعل..؟

ـ دعيني أخبرك بما رأيت…؟

ـ ألا يكفي هذا كي أحبل بكلماتك؟

ـ كم أنت خجولة! كأن أمك من الجن، وجدك من الريح! فانا رأيت التمساح عند البركة يلد من فمه، ومن باقي الثقوب، وقد انشق ظهره أيضا ً، آلاف الثيران ..، الغزلان، والضفادع…، بل وولد كائنات شبيهة بالبشر الأسوياء، فانا سمعت صدمات الولادة، وسمعت نهاياتها. لأن التمساح عاد يسترجع فرائسه، فراح يبتلع، من غير مضغ، كل ما تقيأه.

ـ يفترس أولاده؟

ـ هذه نظرية عتيقة، يا جميلتي، فالأب لا يفترس، ولا يغتصب، ولا يعتدي…، بل يدخر!

ـ آ ….، هذه إذا ً نهاية عصرنا يا سيدي؟

ـ لا …، فالذئاب، مثل الليوث، والنمور، والفهود، والصقور…، راحت تخرج أثقالها…، فتدب فوق البسيطة، حتى امتلأت، وفاضت، فنشبت الحرب، فراح الجميع يشترك في ذبح الجميع، وراح الكل يغتصب الكل، وراح الضعيف يأكل القوي، والنحيل يقطع رقبة البدين، حتى صارت النساء طعاما ً للضواري، والأطفال حرقوا أحياء، وانتشرت بدعة السحل، وشطر الأجساد، وبقر البطون، وقطع الأعضاء التناسلية … عدا بتر الآذان، وجدع الأنوف، وقطع اللسان، وخلع الأسنان، وحشوا المؤخرات بالقنافذ،، فازدهر فرية المخبر، والتنكيل بكل عالم، وفاهم، وحكيم،  لأن الجميع صار يعمل على إبادة الجميع، واجتثاثه، ومحوه من الوجود…، حتى بزغ فجر الاستنارة، وهو ما يسمى بعصر الحرير، قيل انه ارق من شفافية المال الزلال. فبدأت الأسود تستعيد، مثل شقيقاتها المفترسات، الحملان، الأرانب، الطيور، والأسماك…، حتى ظهر المدير، فجأة، برأس نحلة، وأقدام ماموث، له ألف جناح، وخمسة آلاف عين، ومائة ألف قضيب….؛ هائجا ً، لم يترك ذكرا ً، ولم يترك حجرا ً، ولم يترك عذراء، إلا واغتصبهم. وكان هذا هو عصر التراب، ثم أعقبه عصر النحاس…، ليمتد وينصهر بعصر الشفافية.

لكزته:

ـ الم ْ تتعب..، الم تصب بالوهن…، الم ترتو..، الم تشبع…، الم ْ تكتف؟

ـ هو …، هو…، لم يرتو ولم يشبع ولم يكتف، بل قال انه مثل النار كلما توهجت قالت هل من مزيد، هل من مزيد من الأولاد، ومن البنات، من الحجارة ومن الشجر، حتى كاد عصر الشفافية ان يبلغ نهايته، لولا ان السيد المدير عاد ورشح للزعامة…، فحصل على ألف بالمائة، ومليار أخرى هبطت وخرجت ووفدت من كل فج غريب تؤكد طهارته، صفاءه، وانتمائه إلى الخالدين. فلا احد تجرأ أو لمّح بامرأة أو غزال أو لبؤة حبلت به، فهو لم يأت من الهواء، ولم يخرج من الماء، لا شوائب اختلطت بومضات تعاليمه، حجته انه من غير حجة، وبرهانه ليس بحاجة إلى براهين! ولكنه لم يدع الإلوهية، أو النبوة، وإنما عملت الدعاية طوال ساعات النهار والليل بوصفه لا يقل شأنا ً عنهما.

تركت الحمامة رأٍسها يتمايل، بين جناحيه:

ـ أكمل..، أرجوك، فانا أكاد أدمن عليك!

فسألها:

ـ أكان جدك ثورا ً وحشيا ً، أم سمسارا ً ناعما ً، أم تاجرا ً رقيقا ً، أم مدير شركة عابرة للحدود، وعابرة للعبور، عبورية الأصل وعبورية الاستحداث، أم كان أميرا ً للرمال، والدخان ..؟

ـ آه…، وهل أبقيت لي قدرة على الرد؟

خرجت الحروف من غير صوت، تومض، بموجات قصيرة، وأخرى لا مرئية،  مثل إشعاعات فوق ضوئية تداخلت بالمرور والعبور من الأسفل إلى اليسار، ومن اليمين إلى القاع، مكورة، ومقعرة، تدور مع المغزل، فيتضاعف النسج، ويمتد في سواحل المجهول.

ـ كفى، فأنت مثلي …، لم تلدك الكلمات!

وسمعها تولول:

ـ بل أنا ضحيتها.

مسرعا ً أضاف:

ـ لقد أصبحت، يا وردتي، بعد هذا العرس، من الماضي…، فقد انحدرت إلى الفناء!

متابعا ً، قال قبل ان يغيب، يوصيها:

ـ  لا تتركي حديقتك، لا تتخلي عن قفصك، لا تخربي عشك، ولا تتعاوني مع الغرباء!

فصاحت بحزن بالغ:

ـ أين ستذهب، أين تهاجر، ولماذا تهجرني، وتتركني للظلمات؟

ـ سأبحث عن كوكب لا أجد فيه من يصغي إلي ّ، ولا أجد أحدا ً أتكلم معه، لعلي اعثر على ركن لا أجد فيه من يفترسني، ولا أفكر في افتراسه، لا يشي بي ولا ابغضه، لعلي لا أجد من لا يؤذيني، من غير سبب، وان لا أؤذيه مهما كان السبب!

قالت تنوح:

ـ لن تجد ..، يا حبيبي، لن تجد!

عندما غاب، بحثت الحمامة عن منقارها، فلم تجده.

 

 

[189] إجراء اللازم

ـ منذ ساعات، بعد ان أفقت من النوم، وأنت صامت…، تحدق في وجوهنا، كأن الكارثة وقعت.

وأضافت الجدة تخاطب حفيدها الأرنب، وهي تقترب منه:

ـ أم إنها ستقع؟

جمع قواه متمتما ً بفزع:

ـ وأنا اعبر الضفة الثانية من جناحنا، سمعت الطبيب يقول لمساعديه: أرجوكم اكتموا السر…! فاقتربت ـ ليس بدافع التجسس أو عدم احترام حرمات المكان، بل بدافع الفضول، ليس إلا  ـ  كي اسمعه يخبرهم، بان جميع المواليد….

صاحت الجدة:

ـ لا تغلق فمك، أرجوك أكمل.

فقال:

ـ ولدت كفيفة!

ضحكت الجدة:

ـ وما الغريب في الأمر…، إن كان لها بصر أو ولدت عمياء؟

اعترض بصوت رقيق:

ـ لا…، يا جدتي الغالية، في الأقل: نحن رأينا الذي لا يرى..، ورأينا ما لا يراه احد! أما لو كنا ولدنا عميانا ً فهذا يعني إننا أدرنا ظهورنا للشمس!

ـ غريب…، وما علاقة الشمس بنا لو كنا رأينا الذي لا يرى، أو لم نر ْ …؟!

سكت الحفيد، فقالت:

ـ هل تقصدنا نحن …؟

، نعم! وإلا لماذا مكثنا لم نحرك ساكنا ً..، في هذه الظلمات….؟

ـ أسس…، ألا تخشى المخبرين…؟

ـ جدتي، بالأحرى كان عليك ان تحذريني من آلاف أجهزة التنصت التي تتبع ذبذبات رؤوسنا …، وتتحكم بمصائرنا، لكن هذا الزمن غدا عتيقا ً، باليا ً، وانتهى، وإلا لكان الطبيب أخفى السر، ولم يعلن عنه، وإلا لكنت أنا، بدوري، كتمته!

ـ يا حفيدي …، الآن فهمت لغز صمتك، ولكني لم اعد افهم سر بوحك به؟

ـ وهل باستطاعة أرنب، مثلي، ان يجد الجواب؟

فعاد الحفيد إلى الصمت، يحاور نفسه، من غير ذبذبات: ربما تكون الشمس هي الأم العمياء، وإنها لم تلد إلا عميانا ً، ثم من قال إننا رأينا …، ومن يقول: إننا سنرى…؟

ـ ها أنت عدت إلى صمتك، مرة ثانية؟

فزّ ، فقال لها:

ـ أنا توا ً بدأت استنتج أمرا ً مغايرا ً..، فانا اعتقد ان الطبيب قصد، وهو يحدث مساعديه، ان يموه علينا!

ـ لم أفهمك!

ـ لأنني رايته، مع مساعديه، يلوذون بالفرار!

قالت الجدة:

ـ أصبحت تتحدث عن رواية!

ـ لأنني  ..، يا جدتي، ذهبت إلى جناح المواليد الحديثة…، وما ان رأوني حتى راحوا يهتفون: جاء الأعمى..، جاء الأعمى! فما معنى هذا …؟

ـ آ …، لا تصمت، تابع، أرجوك.

ـ فسألتهم، بدوري: من الأعمى ومن المبصر…؟ فقالوا: يا أحمق، المبصر الذي لا يعمل شيئا ً هو كالأعمى الذي يقول: رأيت! فسألتهم: لماذا هرب كبير الأطباء ومساعديه إذا ً…؟ فقالوا: لم يهربوا، يا أحمق، بل ذهبوا واعترفوا بما حصل! وإنهم، أيها المسكين، سيعودون، بعد قليل، لإجراء اللازم!

 

 

   [190] البلبل والفيل

سأل البلبل الفيل:

ـ ما الذي جاء بك إلى حديقتنا..؟

هز الفيل خرطومه وقال:

ـ كنت أظن انك تقول شيئا ً ما وأنت تغرد..، أما الآن…، فقل لي: ما الذي تخفيه في صوتك؟

ـ آ …..، لو كنت اعرف…، لعرفت كيف أعلمك الطيران!

ضحك الفيل:

ـ أيها البلبل الطريف، لو كانت لدي ّ أجنحة، فهل كنت وقعت في الأسر؟

فقال البلبل:

ـ وما فائدة أجنحتي إذا ً…، وها أنت تراني داخل القفص؟

أجاب الفيل:

ـ انتم…، سكان هذه الحديقة، لديكم أسباب السعادة كاملة، إلا السعادة!

رد البلبل بصوت حزين:

ـ آ …، لو كانت السعادة وحدها كافية…، لما غردت، وأنا أنوح على هذه الوفرة التي صرنا بها نبني هذه السجون!

 

[191]  انساب

كانوا تسعة دببة، الأول جاء من القطب الشمالي، والآخر، من الجبال، الثالث من أفريقيا، والآخر من أطراف الصحراء، الخامس جاء من القطب الجنوبي، والآخر من السهول، السابع جاء من الأدغال، والآخر من الهضاب…، أما الدب التاسع فقد كان ولد في الحديقة…،عندما انشغلوا بالحديث عن الأنساب، والأصول، وخرائط الأسلاف…

فقال الدب الأخير، من غير سخرية أو الم:

ـ ربما أنا الوحيد الذي ينتسب إلى هذه القارات،  ولكن من غير حنين لأي منها، فأية إرادة هي هذه التي جمعتنا، هنا، داخل هذه الحديقة، وصاغت…، في الأخير: كائنا ً لا يشبه حتى نفسه…؟

قال الدب الأول:

ـ لا تأسف…، فقد كان أسلافي ينحدرون من البوادي.

ضحك الآخر:

ـ والغريب إنني طالما شعرت إنني استنشق عطر زهور الوديان.

قال الدب الثالث:

ـ كثيرا ً ما كنا نجد لذّة غامضة باستذكار اللون المكون من الألوان كلها: الأبيض.

أضاف الدب الآخر:

ـ كنا عند اشتداد حرارة الظهيرة، نرتجف بردا ً.

قال الدب الخامس:

ـ طالما توهجت النيران عند تراكم الثلوج..، فكانت تكوينا.

فأضاف الدب الآخر:

ـ على خلاف هذا كله…، كثيرا ً ما شعرنا بأننا نتسلق المرتفعات..، ونقيم فيها أعيادنا.

قال الدب السابع:

ـ لم تستطع الأدغال ان تحجب عنا أشعة الشمس، ولا تنسينا لذائذ المياه المتجمدة، ولا رذاذ الأمطار.

أضاف الدب الآخر:

ـ بل كنا نحتفل بالصيد الوفير عند الينابيع، تارة، ونقنط بحلول المجاعة بسبب الجفاف…، تارة ثانية.

ضحك الدب الذي ولد في الحديقة:

ـ أيها الرفاق …، ها انتم تبرهنون ان الأرض، كلما اتسعت، ضاقت! لكن من ذا يقدر ان يرفع عنا هذه الحواجز، ليعيد لنا، في هذه الحديقة، سفينتنا التي أصبحت تتجه إلى المجهول…؟

 

[192] تسلية!

قالت البقرة للسكين:

ـ تعجلي…، أنا أتعذب؟

فقالت السكين:

ـ اقسم لك ِ…، عذابي أشقى من عذابك.

ـ آ …..، بقرة تائهة تذبح بسكين عمياء!

ـ لا ..، لا …، لست أنا هي التي لا تبصر، ولا اليد التي في جسد القصاب، ولا القصاب الذي يعمل في المجزرة، ولا المجزرة …..

صرخت البقرة تتضرع:

ـ إذا كنا جميعا ً نتسلى بهذا العذاب….،  فمن ذا يتعذب بتسليتنا؟

 

[193] البعوضة والفيل

سألت البعوضة الفيل:

ـ من يزن أكثر من الآخر…؟

ضحك الفيل وسألها:

ـ تقصدين من هو أثقل من الآخر…؟

ـ ملعون …، أتريد ان تورطني بزلة لسان؟ أنا سألتك: من هو اخف من الآخر…؟

ـ في هذه الحديقة…، الكل لا يزن جناح ذبابة!

كادت تفطس من الضحك، وهي تتمتم:

ـ حتى الفيل صار يخشى كلمات بعوضة لا تزن أكثر من فيل…؟

عندما بحث عنها، ووجدها غابت، ردد مع نفسه:

ـ كيف يصبح الفيل فيلا ً إن لم يحسب للبعوضة ألف حساب…؟

وهو يلوذ بالفرار، ردد مع نفسه:

ـ وبعد ان أصبحت أسئلتها من غير إجابات؟!

 

[194] الحمامة وابن أوى

عندما فلتت الحمامة من مخالبه، وحطت فوق غصن مرتفع في أعلى الشجرة، سألت الحمامة ابن أوى:

ـ أتعرف من هم أسلافك؟

رفع رأسه قليلا ً:

ـ اعرفهم، فهم سادة هذه البرية، وهضابها!

قهقهة الحمامة …، فسألها:

ـ ومن هم إسلافك…؟

ـ اسمع …، يا من لا يشبه الكلب في وفائه، ولا يشبه الذئب في جسارته، ولا يشبه الفأر في حكمته…، إذا كنت لا تسمع، ولا تريد ان تسمع، فأصغ إلى ّ وأنا أنوح، فأنا أيضا ً حزينة على أسلافي!

استرسل ابن أوى:

ـ في كل فجر أصغي إلى هديلك فأقول لنفسي: ما بها، هذه الحمامة، من آذاها..، من احزن قلبها…، حتى قررت ان أشاركك مصيبتك، وأحزانك!

ـ لا …، يا ابن أوى ..، كلامك غير صحيح، مثل نواياك، فقبل لحظات كدت تفترسني، وتتلذذ بلحمي..؟

ـ اخبريني…، ماذا افعل …؟ بعد ان يشتد الجوع بي…؟ هل التهم التراب، أو اكتفي بأكل العشب، وأتسلى بالهواء…؟

ـ قبل قليل سألتني: ما الذي يؤلمك..؟  فأخبرك: الذي يوجعني لا داء له، لأن موتي سبق ولادتي في هذا الوجود!

ـ وما ذنبي أنا…؟

ـ ذنبك انك مرغم على ارتكاب الذنب..!

ـ هذه شهادة براءة القصد منها إدانتي، وإرسالي إلى جهنم!

ـ آه …، أرجوك اغرب عن وجهي …، فانا لست سجانتك كي أعتقك، فما أنا سوى حمامة اذا غادرت عشها حامت فوقها الصقور والجوارح، وما ان تحط فوق الأرض حتى تفترسها أنياب الضواري والمفترسات…، فدعني شاردة الذهن لعلي استقبل موتي في أوانه من غير كلام!

 

[195] قرار

استدعى السيد المدير بعوضة اشتركت مع البرغوث والقمل والذباب وباقي الحشرات في مسيرة وصفت بأنها ستفضي إلى إعلان العصيان. جاءوا بها مكبلة بالسلاسل والقيود، فتأملها المدير من قمة رأسها إلى القدمين، بغضب، ثم سألها:

ـ لا اصدق انك، أيتها البعوضة، تحرضين الآخرين على التمرد…، وتتهميني بالجبروت، والجور، والطغيان…؟!

تساءلت مذعورة:

ـ أنا..؟ أأنا هي التي تمس مقامكم الكريم، أأنا يصدر عني هذا …؟

ذهل المدير، وتمتم مع نفسه بصوت مسموع:

ـ وهذا ما دار ببالي أيضا ً!

أومأ لها بالكلام:

ـ تكلمي، فحق الدفاع عن النفس، في حديقتنا، من ثوابت والمقدسات!

فسألته:

ـ أولا ً أود ان اعرف: من اخبر سيادتكم …؟

أشار لها ان تنظر إلى الملفات، والتقارير، والوثائق…

فضحكت:

ـ أنا حقا ً قلت ان مديرنا أعلى من ان يكون عاليا ً، وأنزه من ان يكون نزيها ً، وأشجع من ان يكون شجاعا ً…، أفلا يوجد عمل في هذه الحديقة سوى ما تتفوه به بعوضة، أو عصفور، أو غزال…؟

وأضافت مسترسلة:

ـ صحيح…، أنا لدي ّ فم لم افلح بلجمه! لكني طالما قلت ان سيدنا المدير هو أعلى من ان يمس بالكلمات، لأن من هو في الأعالي لا يمكن للكلمات الصماء العمياء ان تمس نوره…، فالكلمات، يا سيدي، محض حجاب، وهل لمن في القاع إلا ان يذهب ابعد منه…؟

ناداها:

ـ غريب…، غريب أمر هذه المخلوقات…، فانا لم اسمع مديحا ً لي كهذا المديح!

فقالت بحزن:

ـ لا تكترث…، فما أتاك من كلام، وتقارير، ووشايات، سوى هواء، فدعه يذهب مع الهواء…!

أمر السيد المدير مساعديه، بنزع الأغلال عنها، وفك قيودها، وإطلاق سراحها من غير كفالة، وشروط، ومنحها حق اختيار أي نبع من الينابيع، وأية بركة من البرك، بدل حجزها في إحدى المستنقعات، أو الزرائب مع البهائم والثيران.

ولم يبق للزيارة إلا ان تتكلل بالثناء. فخرجت البعوضة تتمتم مع نفسها من غير صوت:

ـ قسما ً بالوحل، والرمل، والرماد، أنا قلت ان من هو هناك أعلى من ان يكون عاليا ً، لا تراه أعين العميان ولا تسمعه آذان الطرشان، وان لا علاقة له بما يجري في هذه المستنقعات! فهو أعلى من يكون عاليا ً، ونحن لا مدى لنا ان نغطس فيه غير هذه الظلمات!

عند تحليل ما دار بدماغها، أوصى الحاسوب ذاتي الرهافة، ان كلماتها لا تفضي إلى التمرد، ولا إلى العصيان حسب، بل إلى الثورة.

 

[196] الأفعى والفأر

لم تجد منفذا ً لها تدخل منه وهي تدور حول القفص. فعادت تفكر بوسيلة كي تداري إخفاقها في اصطياد الفأر. دارت للمرة الألف وهي تراقب نظراته شاردة وفمه مغلق، وما ان شعرت إنها لا تقوى على الحركة حتى رأت الفأر يقترب منها، هامسا ً:

ـ لكن هذا لا يمثل هزيمة لك ِ، أيتها الأفعى الجبارة، ولا يمثل نصرا ً لي أيضا ً.

أدركت الأفعى استحالة إحداث ثغرة في المشبك الحديدي، بعد ان تحولت كلمات الفأر إلى جمرات راحت تتأجج داخلها، فترنحت واهنة لا تقوى على التراجع.

عاد الفأر يقول لها:

ـ حتى لو لم استنجد بهذا القفص، وافلت منك ِ، لكنت تسلقت شجرة، أو اختبأت داخل ثقوب الأرض، فمنذ لو الدهر، أيتها الأفعى، لا أنت أفلحت بالقضاء علينا، ولا نحن الضعفاء وجدنا وسيلة للتخلص من شركم!

هزت الأفعى رأسها، وقالت له:

ـ الآن أدركت ان الانتصار عليك يتطلب زمنا ً طويلا ً.

ضحك الفأر وأجاب:

ـ وأنا أدركت ان هزيمتنا تتطلب زمنا ً أطول!

 

[197] الذئب والغزال

خاطب الذئب الغزال التي وقعت في أسره:

ـ أما ان تفترسيني وأما ان افترسك؟!

ردت مذعورة:

ـ ليس لدي ّ ما أقول…!

ـ طلبت منك آخر حق لك في الحياة.

فقالت:

ـ اهرب…، ودعني الحق بك، فان وقعت في الأسر…، فسأخبرك بالجواب!

اقترب منها وسألها:

ـ لماذا يدعون إلى المصالحة إذا ً…، وأنا لو لم اصطادك فسأفترس الحجر؟

ـ سيدي الذئب، أنا أيضا ً كنت أكلت العشب غير المذنب، فانا آثمة بالضرورة!

ـ لكن العشب لم يقدر من الهرب منك…؟

فقالت ساخرة:

ـ بالأحرى أنا لم استطع مقاومة غواية الاعتداء عليه، فانا لم اقدر على الهرب منه، وليس هو الذي من لم يهرب مني!

ـ لم افهم!

ـ لو لم تكن الغواية قد وجدت فينا، ما كنت بحثت عني…، فانا هي السبب، ولست أنت المذنب!

ضحك الذئب حتى راح يتمرغ بالتراب:

ـ سؤال آخر خطر ببالي توا ً: ماذا يوجد في الجحيم وقد غدا قبلة للغالبية منا..؟

قالت معترضة:

ـ باستثناء الذين قهروا الغوايات!

ـ اكرر…، على نحو آخر: أليست الجنة أفضل من الجحيم…؟

ـ هكذا يقولون..!

ـ غريب!

ـ لا غرابة…، فأنت أكدت ان الجحيم غدا قبلة الغالبية…، فأين يكمن السر…؟

ـ كل هذا الكلام نطقت به كي  تجد عذرا ً لافتراسي؟

ـ لا! بل لأنه لا اختيار آخر لدي بإمكانه ان يمنعني من فعل الشر؟

ـ تقصد …، ان الذاهبين إلى الجحيم ليس لديهم إلا خيار الذهاب، واستحالة قهره…، في الوقت ذاته لا احد يجهل ما في الجنة من إغراءات، ومتع، ونعيم، لا قدرة لنا على تصوره…؟

ـ أكاد اجن…، أيتها الغزال…، فكيف يُسمح لذئب متوحش، فاقد للرحمة، ان يرتكب إساءة ضد هذا الجمال…؟

ـ وأنا أتساءل، مثلك، كيف للكائنات البريئة لا تقدر إلا ان ترتكب الشر، والآثام، والخطيئة، ولا تختار النعيم..؟!

 

[198] احتفالية

قال الحمار لجاره الثور:

ـ هل تتذكر يوم المجزرة…، عندما قرر صاحب الإسطبل، ذبح اعز رفاقنا، وليمة للأسود والنمور والذئاب..

ـ كيف لا أتذكر..؟

ـ أتعرف انه فعل ذلك احتفالا ً بعرس ولده الغالي! ثم دعاني للمشركة في أفراحهم!

ـ وماذا فعلت؟

ـ قلت لنفسي: إن ذهبت فانا أكون شاركت فيها، وإن لم اذهب فانا سأكون شاهدا ً عليها.

ـ وما الذي يزعجك في الأمر…؟

ـ الذي يزعجني إنني لا اعرف متى أذبح لأنني لم أشاركهم مباهجهم بإقامة المجزرة…، ولكنني مازلت اتالم كثيرا ً لأنني لا استطيع ان أقيم مأتما ً على أرواح الضحايا!

 

[199]أسباب

اقترب الحمار من قفص الذئاب، وخاطب الذئب الذي ما انفك يعوي، على مدار ساعات الليل والنهار:

ـ لا أحد يسمعك، وإذا سمعوك لا يفهمون مقاصدك، وإذا فهمومها فلا يحركون ساكنا ً، وإذا حركوا ساكنا ً فلا شيء يحدث!

لم يجبه. فخاطب الحمار نفسه:

ـ أنا سألته لماذا تعوي، أما أنا فلا احد سألني لماذا تنهق؟

فقال له الذئب:

ـ ربما عندما تنهق تسمعك الحمير، فتأتي لنجدتك، ومواساتك، ومشاركتك الألم!

ـ وأنت ألا تسمعك الذئاب؟

ـ لم تعد تسمعني لأنها كلّت من العواء وأصابها الوهن! أما أنا فكلما بلغت الذروة اسأل نفسي:  لماذا لا تكف عن العواء …، فأجد سببا ما آخر لا يدعني أغلق فمي، فاعوي لعلي في يوم ما لا أجد سببا ً لهذا العواء!

فقال الحمار بحزن:

ـ الآن عرفت لماذا تنوح الشمس ولا احد يسمعها، ولا احد يواسيها، ولا احد يقيم مأتما ً لها!

فقال الذئب بصوت أعلى بلغ حافات السماء:

ـ بل أصبحت باعثا ً لمباهجهم وأفراحهم واحتفالاتهم!

ـ أنت يا شريكي الحزين أصبحت تسمع عويل الشمس، وتبصر في حزن الماء، وتشاهد فزع النار …، أما أنا فكلما حدقت في الأرض اسأل نفسي: كم ناحت هذه الأرض، تعّذبت، وبكت حتى بلغت درجة السكينة؟

 

[200] حزن

وهم ينقلون جثمانها، كان الذئب ـ زوجها ـ يحدق بلا مبالاة، فسأله احدهم:

ـ غريب…، انك لا تشاركنا الحزن برحيلها…؟

لم يجب إلا جوابا ً واحدا ً:

ـ إنها لم تشاركني أحزان الحياة، فلِم َ أثقل عليها بأحزان إضافية؟

 

[201] حمامة

جلست الحمامة عند قبر ولدها الذي رحل قبل أيام قليلة، تنوح:

ـ لِم َ سبقتني…، الم ْ اطلب منك ان تشرف على وداعي ودفني والدعاء لي بالذهاب إلى مكان يخلو من الأشرار…

فجاء صوته خفيضا ً يخاطبها:

ـ أماه أنتِ تأخرتي…..! وأنا اجهل كيف حصل ذلك….، فانا لم أسرع، هم أسرعوا في إعادتي إلى  المكان الذي خرجت منه!

ـ أنت أسرعت أما أنا فتأخرت فلم يعد للعتاب معنى، فلا  أنت سبقتني ولا أنا تأخرت.

قال بصوت أعلى:

ـ لا تدعيني أغادر …، وأشاطرك أساك، بل شاركيني أحلامي…، فانا، في الأقل، لن أجد يدا ً شريرة تحطم رأسي مرة ثانية!

 

 

 

[202] اجتماع/1

ـ ما الذي يوحدنا..؟

اعترض الضفدع البدين، بضرورة استبدال الكلمة بـ ” يجمعنا: فعدلها الثعلب، متابعا ً:

ـ ما الذي يجمعنا في هذا المكان…، هذا هو محور اجتماعنا، أيها السادة الحضور…؟

أجاب الفهد:

ـ المكان نفسه، بالدرجة الأولى، هو الذي فرض علينا.

فقتال الضبع:

ـ أي إننا لم نعد طلقاء، فما معنى الحديث عن المكان؟

اعترض الأرنب:

ـ آسف، علينا ان نتوقف عند العدالة، وعدم العدوان، الذي نعاني منه، قبل البحث عن إجابات حول سؤالكم!

ضحك الضفدع البدين:

ـ إذا كنتم تواجهون الخطر اليومي، فإننا، معشر الضفادع، نتعرض للإبادة، والانقراض.

عاد الثعلب للحديث معقبا ً:

ـ بعد ان لم تعد البرية، ولا الغابات، ولا الوديان، ولا حتى المستنقعات، صالحة لسكننا، اصطحبنا الناس ….

هز الثور رأسه معترضا ً:

ـ أرجو العودة إلى أساس اجتماعنا، هذا….، بدل الحديث عن التفاصيل.

قال الثعلب:

ـ دعوني أعيد السؤال على النحو التالي: ما الذي لا يجمعنا، كي لا يسمح لهم المضي بعيدا ً في السيطرة علينا، واستغلالنا، حد وضعنا فوق بركان!

أجاب الضفدع البدين:

ـ ما دام الأمر يرجع إلى ملايين السنين، فهل باستطاعتنا إجراء ثورة، أو حتى القبول بمبدأ الإصلاحات!

أيد الفهد زميله الضفدع البدين، قائلا ً:

ـ لكن الإشراف العام، كالغذاء، والصحة، والنظافة، والتربية، والسيرك، وغيرها، كلها مستحدثات لم يكن لها وجود لا في البرية ولا في الغابات…

ضحك الضبع:

ـ ها أنت تستحسن الأسر، وتستبدله بالرفاهية، وتستبدل القيود بالحرية!

صاح الذئب:

ـ هذه ثرثرة! فإذا كان الخطر السابق قد حفزنا على مواجهة الأعداء، والديمومة، فان الرفاهية، والترف، والنعيم، ستصبح خطرا ً حقيقيا ً يجعل مصيرنا مهددا ً بالزوال!

أيد الدب كلمات الذئب:

ـ ليس علينا إلا إعلان التمرد، من ثم العصيان.

صرخ الأرنب:

ـ هم الأقوى، والأشرس…، مما سيقود إلى إبادتنا، وتقسيمنا، وتشتيتنا..

تكلم الدب غاضبا ً:

ـ بالأمس كان الديناصور سيد الأرض، ثم هزم شر هزيمة، لتحل محلها الزواحف ، التي بدورها تعرض للإبادة، تمهيدا ً لظهور الطيور، والثدييات!

تقدم الأسد خطوة متمتما ً:

ـ آسف، أنا أعلن انسحابي، أيها الرفاق!

صرخ الثعلب:

ـ ما هذا القرار الغريب،، وأنت احكمنا، وأعقلنا، ومازلت تتمتع بالهيبة، والوقار…؟

أجاب الأسد:

ـ أرجوك لا تتحدث عن الماضي، فالحال تغير، ومادمت هذه الحديقة، بأقفاصها، تجمعنا، فأحلامنا باطلة!

بصوت حزين تمتمت الحمامة:

ـ حتى القضبان لم تعد توحدنا، وكأن وقوعنا في الأسر غدا قدرنا في الأخير….، فما الذي يجمعنا؟

أجاب الأسد:

ـ وهذا تحديدا ً هو ما دعني للانسحاب، وحفظ ماء الوجه، او بانتظار الاجتماع القادم، بعناوين صحيحة!

رد الثعلب:

ـ سيدي، منذ قرون ونحن لم نجد أملا ً بالخروج من المأزق!

أضاف الضبع:

ـ  أنا أرى ان الحل الأمثل …

جذبت كلماته الحضور بإصغاء تام:

ـ آن لنا ان نحطم قيودنا، ونهتف عاليا ً: الحرية أو الموت!

كادت الضفدعة البدينة ان تفطس من الضحك:

ـ الم نشبع من الهزائم؟

قال النمر:

ـ أود ان أخبركم إنني حلمت ليلة أمس حلما ً رأيت فيه عاصفة سوداء تضرب حديقتنا، وشاهدت رمالها تتكوم فوقنا، ونختفي من الوجود!

ـ آ …، أنا رأيت الحلم أيضا ً.

وأضاف البلبل بشرود:

ـ حيث شاهدت الأرض بأسرها وقد تحولت إلى غمامة رمادية اتسعت حتى اختفت الشمس، وغاب الفضاء!

كاد الثعلب ان يفقد سيطرته في الحديث، فرفع صوته، وراح يصرخ:

ـ   إن لم توحدنا الأقفاص، ولم يجمعنا الأسر، ولا العبودية تلملم شملنا…

قاطعه الأسد:

ـ سيدي الثعلب القائد، هذه هي الأسس التي لا تسمح للحرية إلا ان تبقى لعبة يلعبها الأقوياء، ولا يخسرها إلا ….، من ليس لديه ما يفعله!

عاد الضفدع إلى الضحك:

ـ الم تكن، أيها الزعيم، الأقوى في الغابة؟

ـ سيدي الضفدع الموقر، وهل هناك غابة كي أكون سيدها؟

همس احدهم في آذن الآخر:

ـ جاء المدير..

قال الثعلب بصوت مرحب:

ـ جاء من يمسك بالمفاتيح! فهو وحده يقدر على فك أقفال أقفاصنا!

 

[203] اجتماع/2

تابع الثعلب:

ـ ليس لدينا إلا ثلاثة احتمالات: إما إعلان التمرد، وإما الانسحاب، وإما لا تمرد هناك ولا انسحاب!

ساد الصمت، بعد كلام الثعلب، فقال الضفدع البدين، ساخرا ً:

ـ والاحتمال الرابع؟

أدرك الثعلب ما قصده الضفدع، فقال:

ـ تعني اختيار الاحتمال المناسب في الظرف المناسب…؟

ـ لا، بل اعني إننا لم نعد نمتلك المزيد من الاحتمالات!

خاطب الأسد الثعلب:

ـ أنا لا يعنيني موقفك الأخير، عندما صرحت: من يمسك بالمفتاح يمسك بالقفل! لهذا  علينا العودة إلى الأصل، بدل المتاهة بين اليقين والاحتمالات! فانا لا أجد المنزلة بين المنزلتين إلا منزلة واحدة!

قال النمر:

ـ لا تراجع، لا انتكاسات، بالأحرى ترشدنا الحتميات إلى: الثبات وليس إلا الثبات، فلا تراجع ولا ارتداد، كي لا نغفل أبدا ً ان المستقبل رايتنا! وما دمنا لا نمتلك إرادة مغادرة ما نحن فيه، فليس فقدان الأمل، ولا غلق مدرج الحلم. فمن لا يمتلك قدرة التقدم نطلب منه ان لا يبذر بذرة الإحباط، والكسل!

ضحك الدب:

ـ كلماتك تذكرني بانتفاضة الفئران ضد الهر.

أجاب الثعلب:

ـ يصعب دفع الأبرياء إلى ما هو أقسى من القبول بالهزيمة، أو بالوضع الراهن…، فالموت ليس حلا ً للمشكلة، لأن المشكلة، في الأصل، كامنة في الشرعية التي لم تكتسب شرعيتها بعد! وكل حديث للخروج من المآزق يستثني الإرادة يغدو بحثا ً في الظلمات عن حفنة نور!

صمت بعض الوقت وأضاف:

ـ اخبرني المدير: جميع مطالبكم شرعية: حق الحياة، وحق العمل، وحق الحرية!

صاح النورس:

ـ نموت ويحيا المدير.

رفع النمر رأسه، وحدجه شزرا ً، ولم يتكلم. الضفدع قال:

ـ المشكلة فينا نحن أيها الرفاق! فنحن لا نمتلك تصورا ً خارج حدود مصائرنا. نحن ولدنا في المستنقع، ولا نموت إلا فيه!

ـ آ …

صاح البلبل:

ـ كأنك أغفلت حتمية ان الظالم سيدوم إلى الأبد.

ـ تلك هي المشكلة…، بالأمس حاورت النار حول القضية ذاتها فقالت لي: إذا لم تكن غايتي الحرق فلماذا وجدت…؟ فقلت لها: تهذبي، يا نار، وكوني ضوءا ً! فسألتني بصوت مذعور: هل تعرف ان الظلمات بلا حدود؟ فقلت لها: إنها أمنا الكبرى، ومنها خرجنا، واليها نعود…، فهل ندعها تشقى…؟

وأضاف الثعلب:

ـ أنا أخبرت المدير ان العدالة لا تقع في الماضي، كما إنها لن تأتي بعد هلاكنا، فسألني: هل هناك ضمانات تحافظ على امن هذه الحديقة، وعلى سبيل المثال: ان لا يعتدي الذئب على الحمل، والأفعى تبقى خالدة من غير ابتلاع الفئران والأرانب والطيور، والأسد يصبح قائدا ً للسيرك من غير ندم، وضغينة؟

رفع الفهد يده:

ـ اجب، يا فخامة القائد، هل تقدر ان تستبدل نزعتك الأبدية؟

ـ عدنا إلى الجذر، عدنا إلى الأصل!

انسحبت السلحفاة وغطست في ماء البركة، تبعتها السحالي، والبرمائيات، ثم انسحب التمساح أيضا ً. قال الغراب:

ـ عندما شاهدت المعركة اشتدت بين الأخوين، قلت مع نفسي: لا فائدة من التدخل، فلا احد يصغي إلى غراب، لأنني كنت أدرك تماما ً: ان الحق لا يخرج إلا من الباطل! لتمتد أيامه، وما ان يرتوي ويشبع حتى يهن ويشيخ ويموت. لكن لا احد ذهب ولم يرجع، فالكل يخرج بعد الدخول! على خلاف ما كان يقال: كل من دخلها لم يخرج! ذلك: لأن النور يخرج من الظلمات، كما تخرج الوردة من الدمن، وكما خرجنا من عفن سواحل المستنقعات!

فسأله الثعلب:

ـ وما ـ هو ـ دورك في الجريمة؟

ـ لا دور لي عدا إنني علمت المنتصر كيف يخفي جثمان ضحيته في التراب!

ـ ها أنت تتحدث عن الدورة…؟

ـ أحسنت!

انسحبت الزرافة، تبعتها باقي الثدييات. فقال الضبع:

ـ البشر أنفسهم أدركوا استحالة وضع نهاية إلا بدفها إلى الأمام حتى لو مكثت راسخة في مكانها إلى ابد الآبدين. فإذا كانت النهاية تنتهي بنهاية فهل ثمة قدرات لعقولنا ان تضع مقدمات من غير مقدمات سابقة عليها؟

صاح الثعلب:

ـ ها أنت تلمّح بالاحتمال الرابع!

أجاب الضبع:

ـ لن يدوم الظلم حتى لو كانت مقدماته ظالمة كنهاياته!

ضحك البلبل بشفافية:

ـ ومن قال ان الحديقة ستدوم إلى الأبد؟

رد الثعلب:

ـ هكذا سكنت النار في الماء، وسكنت البذرة في الأرض، وهكذا الجمر يختبأ في الرماد…، فلكل لغز مفتاح، مثلما لكل كهف باب، ولكل قاصة ثقب، ولكل أنثى فتحة، ولكل أحمق شطحات!

أجاب الأسد في محاولة لحسم الأمر:

ـ هذه ـ أيها السادة ـ هي حدودنا، حدود عقولنا وحدود حديقتنا!

لم يبق إلا الثعلب والغراب والنمر والأسد. قالت الضفدعة قبل ان تنسحب:

ـ لا توحدنا إلا خلافاتنا، فانا لا اعرف هل أخذناها من البشر، أم هم أخذوها منا! وما دمنا لا نمتلك مكر بني ادم، ولا قسوته، ولا أحلامه بالسيطرة على السماء بعد ان فرضوا سيادتهم على الأرض وانتزعوها منا نحن سكانها الشرعيين، فلم يبق لدينا إلا ان نغطس في مستنقعنا، ففيه ولدنا، وفيه ترعرعنا، وفيه نموت!

ـ كان سكان الصين القدماء يقولون: ولدنا في الحزن، وفي الحزن نعيش، وفيه نموت!

ـ دعك من أمثلة الأزمنة السحيقة، فنحن نعيش في الربع الأول بعد الطوفان الثالث.

سأل الثعلب الغراب:

ـ هل ستشاركنا، أم تبحث عن وطن آخر، تهرب إليه، كي تشتمنا، وتتهمنا بالفسق والفجور، وإننا نحن من صنع الزعيم الخالد، والطاغية الأوحد، والحاكم الظريف …؟

ـ في السيرك؟

ـ نعم.

هز الأسد رأسه:

ـ أنا، يا سيدي القائد، سأعمل على إعادة الضفادع، والنوارس، والأفاعي، وكل من له نفس، إلى الحظيرة …، فعندما لا نمتلك قدرة على قهر الأعداء،  سنرقص لهم، فالبرقص نقهر الشر! وبالأناشيد نلوي عنق الزمن، وبالشفافية نذل المستحيلات! فانا للحق لا ارغب ان أرى الثعالب تبول علي ّ، عند الهرم، ولا ارغب ان تضرب الأمثال بي فيقال: الكلب الحي خير من الأسد الميت!

راح الثعلب يرقص:

ـ سأخبر المدير بقرارنا الأخير .

هز الأسد رأسه بمرح:

ـ الحياة، السيرك، الحرية!

قبل ان يحلق الغراب عاليا ً، نعق:

ـ أنا سأدرب وحيد القرن على الطيران! ومع كل من يؤيد هذا القرار، قبل ان يتم إرساله إلى المحرقة. فكما قال أسد بابل: حتى لو مت فظلي لن يزول إلى ابد الآبدين!

توارى النمر. قال الثعلب للأسد:

ـ لم يبق إلا أنا وأنت.

قال الأسد بصوت حزين:

ـ حتى لو فروا جميعا ً، وتفرقوا، وهجروا، وانهزموا، وحتى لو تمت تصفيتهم، وإذلالهم، فالحرية ستولد حتى بغياب الجميع.

فقال الثعلب بعد صمت قصير:

ـ كنت اعرف…، منذ البدء: من يولد في الحديقة، لن يقدر على مغادرتها، إن كان أجاد الرقص أو لم يجده، وإن كان أجاد اللعب أو لم يجده، لأنني اسمع صرير مفاتيح الحديقة يدور في أقفاصها!

قال الأسد:

ـ إن كان الغراب قد لاذ بالفرار، فانه، أينما ولى، فالمسافة وحدها غزلت بمغزل هذه الحديقة.

 

[204] اجتماع/ 3

انزوى الأسد في ركن بعيد بجوار قفص الثعلب، فخاطبه:

ـ أنا شخصيا ً لم اعد اعرف هل أصبحت عتيقا ً، باليا ً، غير صالح للاستخدام، وغير نافع، وان دوري انتهى، وعفي عليه الزمن، وإنني أصبحت مخلوقا ً فائضا ً، بل وتحولت حياتي إلى عقبة وأصبحت عثرة أمام تقدم الزاحفين …؟

اعترض الثعلب:

ـ أرجوك لا تسمح للماضي، ولا لمخفياته، ان تشوش على عاطفتك، وأفكارك، ورشدك! فلو كنا خلقنا كي نزول، فلماذا خلقنا..، وأنت احكم من ان  اعلمه حكمة العلي القدير…؟

أجاب الأسد:

ـ دعنا من أوهامك، يا سيدي…، فحتى الضفادع لم تعد معنا، ولا الأبقار، ولا الطيور.

وأضاف بصوت حزين:

ـ  أنا هرمت..، لا أميز بين النهار والليل، والحديث عن الأمجاد، والبطولات، والصولات…، كلها ذهبت مع الريح. وها أنت تراني أصبحت امثل دور الأسد، بعد ان تم تدريبنا على الرقص! فلا علاقة للحاضر بماضيه، كما ان المستقبل، كما ذكرت لك، لا يمتلك إلا ان ينحدر إلى المجهول..

ـ أحزانك تولد الأحزان..، كأنك تستخف بجهودنا في إنقاذ ما يجب ان ننقذه.

ـ يا صديقي، أرجوك، استبعد العاطفة، ولا أقول العدالة، كي لا نصبح أضحوكة، وهزأة حتى من بنات أوى، والفئران، والخنازير، والقمل، والقنافذ!

ـ ها أنت تحبط عزيمتي، وكأنك تفند نظريتنا القديمة: ما من تقدم يحدث إلا بالقوة، والمكر، ورأس مال السيد المدير!

ـ لا أنا، ولا أنت، ولا الفصائل الأخرى تستطيع تفنيد هذا الثالوث: اللا شرعية في تحديها للعدالة! فرأس المال، أو كل ما هو مغتصب، مع القوة، مع كل ما يحاك، ويدوّن، ويحكى…، لا يمشي هذا الثالوث الموحد، المتداخل حد الانصهار، في درب معد، ومعبد، يمكن تلمس مساراته، ونهاياته…، بل هو متقلب، ومتعرج، ولكنه عنيد…، ويعرف ما لا نعرفه، كما ورد ذلك على لسان بعض حكماء الأمس…، أو من سبقهم أيضا ً؟

ـ كأنك  لا تتحدث إلا عن مؤامرة نسجت بإحكام، وسرية، رغم علانيتها؟

ـ بل أنا أتحدث عن واقع الحال…، لأن الصراع أكثر قسوة من محاولات تشذيبه، فهناك قوى تعرف ماذا تعمل في مواجهة قوى تتخبط بأدوات عفى عليها الزمن، قوى مضت، وتحولت إلى ركام، ولقى، ودمى، ومنقرضات…، وهي لا تمتلك إلا العواء، والاستجداء، والتضرع، ذليلة، بل وذليلة حد استجداء الخيانة، والاستمتاع بالموبقات!

ـ ها أنت تفصح عما حدث لنا؟

ـ أجل …، فنحن لا نرى ابعد من حدود هذه الأقفاص، ولا من حدود أسوار الحديقة،  والمدير الذي يمسك بالمفاتيح، في الواقع، هو القفل! هو الدرب المغلق. وقد فهمت البرمائيات الحقيقة فتخلت عنها، بعد المعارك التي خسرنا فيها كل الطاقات التي كان علينا ان نربحها! ملايين الحشرات ذهبت الى المعارك، مع ملايين الطيور، وملايين المخلوقات البريئة …

ـ تجلد، يا سيدي، تجلد، لم نخسر الحرب بعد!

 

ـ تقاتل ضد من…؟  ضد الزمن…، أم من اجل ديمومة الوهم؟

ـ أنا أذكى من ان اذهب ضحية الهزائم.

قال الأسد:

ـ ها أنت تراني هرمت، داخل هذه الجدران، وليس لدي ّ إلا انتظار ان تبول علي ّ بنات أوى أو الفئران؟

صاح الثعلب:

ـ  لا اقدر ان استبدل جلدي بجلدك!

ـ فعلنا ذلك …، قرون طويلة…، حتى إنني تخليت عن منصبي ومكانتي وموقعي لصالح السيد المدير، وعيناه زعيما ً…، فماذا كانت النتيجة: حديقة خربة، معزولة، قذرة، أموالها ضائعة، وحيواناتها ممزقة، خالية من الأمن، والقانون، حتى لم نعد نعرف من يمد بعمرنا، وكيف تدوم الحدائق…؟

قرب الثعلب رأسه وهمس بصوت رقيق:

ـ يا سيدي، لم نخسر، حتى الآن، إلا ما يستحق الخسارة!

فتساءل الأسد باستغراب:

ـ وهل تبيض الدجاجة غير البيض؟ وهل تلد الضفدعة غير الضفادع، وهل يلد الجربوع غير الجرابيع….؟ أيها العزيز…، نحن لا نلد إلا ما نخسره…، فإذا كنت لا ترى، فانا أصبحت أعمى من شدة حفري في المعرفة! فانا لم أر إلا الظلمات تمتد، وبمباركة منا!

ـ يا للكارثة…، عندما تغدو المعرفة أداة مضادة للمعرفة!

ـ لم اقل هذا..، ولم اقصده…، بل قلت: لا مقارنة بين من تعلم كيف يتعلم وبين من تعلم كيف لا يتعلم! وإلا ماذا قدمنا، أيها الواعظ المحنك، غير استبدال اشد الحقائق وضوحا ً بالسراب؟ أخبرني هل لدينا براعة اختراع واحدة…، غير عوائنا، ونباحنا، وخداعنا، وأوهامنا؟

ـ تكاد كلماتك تجهز علي ّ.

ـ ماذا تطلب من مخلوق لم يبق منه غير الجلد؟ وماذا تطلب من رأس أصبح طبلا ً…؟ أم ستعلم القردة كيف يحلقون في الفضاء؟!

ـ دعنا نستدعي الثعبان…، الذي حصل على وردة الخلود، لعله ينجدنا!

ضحك الأسد:

ـ عدت تستخدم الأدوات التي انتهى عملها، فتستخدم الكلمات في مواجهة تراكمات جعلت منا خامات لعملها،  فما الذي يمكن ان تستخرجه من المدافن غير الأصداء، والجيفة، والنتانة، ليتداولها موتى يترنحون في الظلمات!

تم استدعاء الأفعى، وطلب منها ان تقول كلمته. فنظرت الأفعى في عيني الأسد، وسأله:

ـ أراك حزينا ً، مهموما ً، فمن أحزنك وكدر مزاجك، أيها الحكيم؟

ـ أيتها الأفعى الذكية، إن الحرية التي منحونا إياها أصبحت قيدا ً…، فانا امضي أيامي وحيدا ً…، بعد ان مرضت لبؤتي ورحلت…

ـ تذكرتها، كم كانت فاتنة!

ـ ولم تعد لدي ّ ذاكرة تعينني على التذكر.

ـ احلم.

ـ والأحلام، هي الأخرى، هربت مني..، لهذا وجدنا  انضمامنا إلى السيرك بمثابة سلوى، لهم ولنا، فقد تعلمنا الرقص، والمشي فوق الحبال، والوثبات البهلوانية، والاشتراك مع باقي الرفاق بإقامة المهرجانات، والاحتفالات…، من اجل ….

ـ أما أنا أيها الأسد، فقد رأيت حلما ً مفزعا ً!

قال الثعلب:

ـ آن لك ان تروي لنا هذا الحلم، وتفسرينه لنا، بخبرة من قرأ أسرار الأزمنة، ومخفياتها..؟

لكن كبير الجرذان جاء مسرعا ً، فنظر إلى الأسد، والى الأفعى، والى الثعلب، وقال للأخير:

ـ أيها القائد، لا استطيع غلق فمي، فدعني اعترف…

ـ قل ما لديك، رغم عدم دعوتنا لك بالحضور، و تجاوزك الآداب العامة!

ـ دعني اعترف: إننا كلما أنجبنا ذرية، لتأسيس طائفتنا، هجمت علينا الأفاعي، واختطفت فلذات أكبادنا، للمساومة على مصائرنا!

ضحك الأسد، وقال لكبير الجرذان:

ـ هل هذه هي حكمة الخلود؟!

هز الجرذ رأسه المدبب، ساخرا ً، وأجاب:

ـ أصبحت الشائعات تعمل كما تعمل الحقائق…، فالخلود الذي حصلنا عليه، ليس أكثر من خدعة امتدت عبر الزمن.قالت الأفعى:

ـ وهذا هو ما رايته في الحلم!

قال الجرذ:

ـ لا فئران ولا قوارض ولا ضحايا ..

ـ بل رأيت عاصفة بيضاء تأتي من البعيد، فقلنا جاء المطر…، لكنها ظهرت إنها عاصفة سوداء، فأظلمت الدنيا، وتوحدت السماء بالأرض. كانت ثمة حجارة حمراء تتساقط، مثل الشهب، علينا، وقد اشتد البرد… فعّم الخراب.

قال الثعلب:

ـ أكملي، رجاء ً..

قالت:

ـ ثم فجأة بزغت الشمس، فخرجت الأنعام، وخرجت الدابات، وخرج كل ذي نفس مرحبا ً بها، فرحنا نقدم الهدايا، والاضحيات، والتبريكات، لها …، لكن سرعان ما ارتفعت درجات الحرارة، فجفت الأرض، وهلك الزرع، فهرب من هرب، ومات من مات، ولم يبق ـ في البرية ـ احد، باستثناء ذئاب تعوي، وهياكل بهائم متناثرة على امتداد الصحراء …، رفعت يدي وقلت للشمس: كفى! فقالت: وهل تركتم إثما ً لم يقترف، وهل تركتم ذنبا ً لم يرتكب، وهل تركتم براءة لم تدنس…؟

قال الأسد:

ـ أنا أيضا ً رأيت الحلم ذاته…، لكن السيد المدير وجد الحل، فقد لوّح لنا بالمفاتيح!

صاح كبير الجرذان:

ـ غريب…، نحن أيضا ً رأينا الحلم نفسه.

صاح الثعلب:

ـ دعونا نرى النهاية.

قالت الأفعى:

ـ رأيت المدير يتجول، برفقتكم، أيها القائد…، بعد ان أطلق سراحنا من الأسر، ومنحنا الحرية!

صاح الجرذ:

ـ ماذا تفعل بها…، وقد اجتمعت المفترسات ذات الأنياب والمخالب وأحاطت بنا من الجهات كلها!

ـ في الحلم؟

ـ لا ….، لم يكن حلما ً، كما لم يكن خلودنا، نحن الأفاعي، إلا وهما ً…، فقد بدأت الحرب! الأسد افترس أولاده، وخرجت التماسيح من المستنقعات، الذئاب لم تبق حملا ً، والدببة راحت تصطاد السمك بلا رحمة، النسور انقضت على الطيور، والفهود أمسكت بالغزلان، حتى السلاحف راحت تقرض الأشجار، والفيلة بدأت تحوّم باحثة عن ماء السماء، القطط السوداء مع المرقطة شكلت جبهة، والكلاب السمان لم تترك أرنبا ً، فهربت الغربان وتركت الأشلاء متناثرة على مدى البصر…، فولدت أجيال يافعة من الضفادع، والخنافس، والعقارب، كما انتشر الجذام، والزهري، والبلهارزيا، والايبولا، والطاعون …، فعم القحط، وسرى الوهن، وخارت القوى، وانهارت أعمدة المدينة …

اقترب الثعلب من الأفعى وسألها:

ـ وماذا بعد…؟

ـ لم تعد هناك حديقة، ولا أرضا ً، ولا سماء ً!

ـ كيف اختفت؟

ـ توارينا جميعا ً من الوجود!

ـ ووردة الخلود؟

ـ سرقها المدير!

ـ وأين ذهب بها؟

ـ لم يذهب ..،عاد يمسك بالمفاتيح1 ويلوّح بالعقوبات.

ـ ونحن؟

ـ عاد كل منا إلى قفصه! فلا حرية من غير ثمن، ولا خلاص من غير شروط، ولا خلود من غير فناء!

ـ وأنا؟

ـ لم أرك…، رأيت طيفك، وطيف سيدنا الأسد يتستر به المدير.

ـ أصبحنا خرقا ً!

ـ وعندما نظرت إلى الأرض، رأيت الحرس يلبسون بساطيل صنعت من جلودنا.

ـ يا للكارثة.

قالت الأفعى بمرح:

ـ قلت لك أنا لم اعد أميز أكان ذلك حلما ً أم حقيقة إلا عندما استدعيتني، قبل قليل، فأدركت ان الكارثة لم تبلغ ذروتها…، لأن القردة، كما شاهدنا ذلك بأبصارنا، سرقوا سر خلودنا، وانتزعوا السلطة منا، ولكن بتدمير كل أداة جارحة، فقد هدموا مصانع الأسلحة، وخربوا المؤسسات السرية، وبالوا فوق معامل الإشعاعات النووية، وأقاموا صرحا ً للوحدة، فعاد السلام، والوئام، والمودة..!

كاد الأسد يفطس من الضحك:

ـ لم اعد أميز هل انتهى زمننا، أم مازال يدب نحو نهايته، أم علينا ان ننتظر …؟

صاح الجرذ:

ـ يا فخامة الأسد، ابعد عني هذه الأفعى…، فما ان تستعيد قواها، حتى ستبتلعني!

فقال الثعلب للأسد:

ـ لدي ّ عقار يساعدك على النوم، كي تحلم، وترى لبؤتك الغائبة، فيذهب عنك الحزن!

أجاب الأسد بمرح: مع إنني لا أريد ان أراها، ولا أرى السيد المدير، ولا أراك…! إلا إنني أخشى ان يأتي اليوم الذي لا نلتقي فيه!

ضحك الجرذ:

ـ عندما تغيب يا فخامة القائد!

لم يدعه يكمل ما أراد قوله:

ـ لا يجوز مخاطبتي بلقب ذهب مع الريح، ثم ان القائد، مازال يتمتع بالشرعية، حتى لو كانت مغتصبة!

صفق الثعلب:

ـ والآن على كل منكم ان يستدعي أبناء نوعه، وجميع سكان هذه الحديقة، في هذه المحمية، للاحتفال بالنصر!

قال الجرذ:

ـ مع ان الجميع لاذوا بالفرار، وتفرقوا، وتشتتوا…، وهاجروا …، فوق سطح هذا الكوكب الأزرق، الصغير، إلا إنني سأستدعي أطيافهم، وما تبقى من أشباحهم، وآثارهم، ورمادهم، وأصداء عويلهم، ونباحهم، وعواءهم، ونحيبهم، لإعادة تأسيس حديقتنا الجديدة!

لوّح الغراب بمنقاره قائلا ً:

ـ المشكلة…، المشكلة لا احد يمتلك قدرة ان يتعلم، أولا ً، من ثم لا احد يريد ان يتعلم ثانيا ً! فحياتنا شبيهة بالمدفع الذي ينقصه البارود، لكن ليس هذا فحسب، بل ، لأن هناك مئات الأسباب التي تجعله معطلا ً عن العمل!

لوح الثعلب بما يمتلكه من مكر:

ـ وأنت ماذا تعلمت؟

ـ لم تبقوا لي شيئا ً أتعلمه! عدا ان اشهد نهاية عصر لم يبلغ ذروته بعد…! فبعد ان تخمد نيران هذه الفتن، وحرائق هذه الحروب، وتهدأ مشاعر الكراهية، وبعد ان نستعيد عقولنا، ويسود السلام، لن أكون بحاجة إلى المعرفة، لأنها عندما تكتمل، لا توجد ثمة أسباب لسردها، وروايتها، أو تدوّينها!

 

 

 

 

 

[205] كلمات

قالت الكلمة لجارتها الكلمة:

ـ الغريب ان هذا الكاتب، مازال يكد ويشقى في صناعتنا، وهو يجهل، انه ينتج سلعا ً عفى عليها الزمن!

فخاطب الكاتب الكلمات:

ـ هذا صحيح….، ولكن ماذا افعل وزمني أصبح فائضا ً!

6/10/2015

Az4445363@gmail.com

 

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *