البطالة في العراق بين واقعها وآثارها والحلول المؤملة

هذه معالجة موجزة في أزمة من الأزمات الطاحنة التي يعيشها العراق اليوم. ولكن النظر إليها يعاني من أسس قراءتها ومن يقرأها وما التعريف الذي تتحدد به، ومن ثمّ يعاني من انعكاس ذلك في تسجيل حجمها الحقيقي والبناء عليه في رصد آثارها السلبية وأسس معالجتها.

فمع الرأي القائل بتحديد البطالة بالعاملين الذين فقدوا أعمالهم ويرومون العودة إليها أو بتعطل جانب من قوة العمل اضطرارياً فقط؛ سنضطر مع هذا التعريف وتحديده أنْ نُخرج قطاعاً واسعاً من طاقة العمل، من دائرة إحصائها في قوة العمل المعطلة؛ لأنّ الحديث سيكون عن المسجلين بإطار العمل الفعلي وفقدوه، أي أنّ ما ينجم عن هذا التعريف ومحدداته أننا سنضطر لإقرار فكرة أنه ليس كل من لا يجد العمل يخضع لمفهوم البطالة، ومن ثمّ يجري تضييق رصد الظاهرة والانحراف في قراءة آثارها الحقيقية…

بينما في تحديد آخر للبطالة ذاك الذي يحدد العاطل بالقادر على العمل والراغب فيه والباحث عنه بمستويات الأجور السائدة ولا يحصل عليه، الأمر الذي يوسّع دائرة الإحصاء بشكل يقترب من قراءة الحقيقة الأشمل للبطالة.. وعندما نقول يقترب فإنّ إشارتنا الضمنية تتجه إلى تسجيل ظاهرة البطالة المقنعة التي تتجاوز عندنا الـ40% من جهة كما تتجه إلى تسجيل مشكلات أخرى تضفي أرقاماً كارثية على إحصاءاتنا..

وعلينا ضمنا للتعرف إلى حقيقة تلك الأرقام، أنْ نقرأ في أسباب وجود البطالة في عراق ما بعد 2003.. إذ هناك ما بين 1.5- 2.0 مليون تم إلحاقهم بجيش العاطلين عن العمل منهم مليون جاؤوا من حل الجيش والأجهزة الأمنية ونصف مليون من تدمير البنى التحتية في قطاع الصناعة وعشرات الألوف من أكثر من مصدر منها على سبيل المثال لا الحصر، وزارة الإعلام… لكن الأمر سيتضاعف مع تذكر حقيقة توقف جوهري للمشروعات الرئيسة الكبرى في القطاعين الصناعي والزراعي مع تدهور الإنتاجية بظروف التركيز على الاستيراد المفتوح [تحرير التجارة الخارجية] بلا شروط ولا محددات ورفع الحماية المناسبة عن المنتج الوطني.. ورقمياً انخفض عدد المنشآت الصغيرة بين 2002 و2007 بمقدار 80% فيما انخفض عدد المنشآت المتوسطة بذات الفترة بنسبة وصلت 55% وهي نسبة غير هامشية في الانخفاض للمنشآت الكبرى إذا ما قرأنا هزال إنتاجية الموجود منها أو تعطله المقنَّع وإذا ما تذكرنا حجم تلك المنشآت في تشغيل الأيدي العاملة.. وقد نجم عن ذلك طرد حوالي 80% من قوة العمل بهذا المجال حصرا…

وإذا كان صحيحاً أنَّ البطالة في حال متحرك صعودا ونزولا فإن من الصحيح أنّ السنوات الأخيرة والوضع الحالي دفع بحشود جديدة إلى صفوفها بعد أن تم استباحة ثلث مساحة البلاد أبرزها الموصل والأنبار من قوى الإرهاب وما أحدثه الأمر من حالات تهجير بمئات الآلاف [أربع ملايين نازح] وتعطيل فعلي لهذه الجموع البشرية التي مازال لا يُنظر إليها حتى بوصفها أرقاما مخيفة في ظواهر وجودها ومعانيه! ليتجه القارئ الاقتصادي الحصيف إلى قراءة تعطيل طاقات أغلبية النساء بوضعهنّ على أرفف ما يسمونه ربات البيوت المنقطعات عن أدوارهن الاجتماعية الاقتصادية!

إنّه لمن السخرية بعد هذه الحقائق أنْ تأتي الإعلانات الرسمية لتتحدث عن نسبة 15% من طاقة العمل هي المشمولة بالبطالة وظاهرتها. ودراستها بهذه الطريقة تحجب الحقيقة وتضلل الأمر الذي سيخدم بالمحصلة حال تمرير سياسات اقتصادية مازالت تقوم على تكميم الأفواه برواتب تُدفع لوجود وهمي غير منتج بقوائم تتستر أيضاً على مصطلح وليد بماركة عراقية بامتياز هي (الفضائيين) بمختلف القطاعات الحكومية الأمر الذي يأكل مبالغ يمكنها أن تمنحنا فرص تشغيل ومكافحة للظاهرة..

وطبعاً  ينشغل هذا القطاع اليوم بصرفيات للجهد العسكري الأمني بطريقة استثنائية بعد ارتكاب أخطاء منحت شراذم وعصابات وميليشيات طائفية إرهابية فرص استباحة مساحات كبيرة واستعباد طاقات العمل وتشغيلها بنظام السخرة فيما تدفع لهم الحكومة مرتباتهم وهو الأمر الذي يخدم بشكل غير مباشر وجود تلك القوى الإجرامية الإرهابية…

إنّ موضوع البطالة يظل قضية خطيرة في وجودنا. وهو أحد مؤشرات الخلل الهيكلي البنيوي في الاقتصاد العراقي. إنه أداة لاستمرار تدوير المشكلات وتبادلها التأثير سلبياً ويؤكد بقاء السياسة الاقتصادية بدائرة الاقتصاد الريعي المعتمد على النفط تحديداً وتقييد الدورة الاقتصادية وتقييد الوضع برمته بتذبذب واردت البلاد منه. وأذكّر هنا بالهبوط الخطير في الأسعار بما نسبته أكثر من 60% حيث وصل سعر البرميل إلى أقل من 40 دولاراً وربما يهبط أكثر في ظروف مستجدة أخرى…

دعوني هنا أحاكم ما أعلنه الناطق باسم وزارة التخطيط من كون نسبة البطالة بلغت 15% متحدثاً عن الوضعين الأمني والاقتصادي للبلد .ولكنه يبرر على وفق ما أوردته وكالة أين، بالقول: إنَّ “ملف البطالة يعد من الملفات المتحركة غير الثابتة يزداد احيانا ويتناقص احيانا اخرى بحسب ظروف العمل”. مشيراً إلى أنّ: “نسبة البطالة في اخر مسح نفذ من قبل الجهاز المركزي للاحصاء في عام 2013 بلغت 12% ، ولكن حاليا بسبب الظروف الامنية والاقتصادية فأن نسبة البطالة ارتفعت لتوقف بعض الاعمال والمصانع والمشاريع”، حيث وعلى وفق المصدر ذاته: “تم تسجيل 800 الف عاطل عن العمل وفق دراسة نفذت في عام 2014 بعد احداث الموصل وتراجع اسعار النفط”. وبين الحديث عن تفشي البطالة بنسبة اكبر بين الشبيبة والحديث عن الظروف المنسوبة إلى الوضعين الأمني الاقتصادي تؤكد التصريحات بأنّ الخطة الخمسية كانت تتطلع لخفض البطالة على وفق الأرقام الرسمية إلى 6% بتوفير 3مليون فرصة عمل بينما فشلت الخطة في ضوء المبررات التي تم الإشارة إليها مع توكيد على محاولة “معالجة المشاريع من خلال دمجها بالاصلاحات التي تقوم بها الحكومة بهدف حل مشكلة البطالة”. فعن أية مشاريع وأية إصلاحات يجري الحديث!؟

إذ حتى اضطرار عشرات الآلاف الالتحاق بتشكيلات التطوعية الرديفة للجيش الوطني لم تحل ولو جزءاً هامشيا من البطالة ونتائجها.. بخاصة في ظروف التراجعات بالقدرات المالية لتسديد مرتبات كثير من القطاعات. وعادة ما يجري تحميل المواطن نتائج العجز من جهة وفشل السياسة الاقتصادية وتبنيها الاقتصاد الريعي وما نجم عنه من خروقات فساد مهولة.. وترقيعاً للأزمة يجري محاصرة إقليم كوردستان بخصم نسبة تتجاوز الـ50% من المستحقات وتأخير مرتبات العاملين هناك لأشهر عديدة! ما يفضي لمشكلات غير محمودة إذا ما استمرت بهذا النهج.

إنّ الاستمرار بتدوير الأزمة اعتمادا على حلول لا تنظر إلى الواقع كما هو عليه، ولا تريد تغيير السياسة الإشكالية القائمة على ريعية التعامل وطفيلية النتائج بما يتفاقم بالوضع ويضعه أمام مزيد انحدار وتدهور، هو الذي سيخلق انهيارا شاملا تستغلق معه الحلول على المستوى الوطني ويصير العراق وشعبه رهن القوى الخارجية وبدائلها التي لا تتضمن مصلحة وطنية في أولوياتها..

إنّ أول بديل يمكن التحدث عنه يكمن في إدارة المشروعات الحكومية بطريقة سليمة تستطيع معالجة البطالة المقنّعة وزيادة الإنتاجية وتصحيح خطى العمل والدورة الاقتصادية بين الصناعي والزراعي من جهة والتجاري المنفلش من جهة أخرى بما يحمي الصناعة الوطنية ويستثمر فيها بطريقة تحسّن فعليا من الأداء وتفعّل القدرات الإنتاجية.. كما تكمن في تحديث القطاعين وتلزم القطاع الاستثماري الخاص الوطني والأجنبي بحصص إنتاجية محددة ومن ثمّ تفرض تشغيلا لطاقة العمل في الميدانين بطريقة صائبة…

من جهة أشمل لابد من إدخال تحويرات نوعية في أداء التعليم ومخرجاته بما يتلاءم وسوق العمل ويخضع لمنهج يضخ خبرات أنضج في هذا السوق بما  يقطع الطريق على تخريج طاقات لا تتناسب وحاجات السوق ويدفع بها إلى التبطل بتلك السياسة غير المحسوبة.. وفي هذا الإطار يمكن الربط المباشر بين مؤسسات التعليم بمختلف المستويات وبين الشركات والمشروعات الاستثمارية الحكومية والخاصة..

إن تركيزنا على ضرورة تشغيل الطاقات تكمن في مخاطر خسارة الخبرات والمعارف للعاطلين عن العمل وهي خسارة مركبة كما يكمن في أن كل نسبة 1% تتعطل عن العمل تعرّض الدخل لخسائر تساوي 2.5% وبحساب نسبة البطالة الأخيرة [على وفق الرسمي فقط] سنقرأ نتيجة تعادل مبلغا يمكنه أن يوفر ما قد يصل إلى مليون فرصة عمل.. فإذا أضفنا البطالة المقنّعة  والسياسات الاقتصادية الجارية والأزمات الأخرى فإننا سنلاحظ طابع الآثار التي منها تعمق جرح ظاهرة الفقر أفقيا وفجوته عموديا بما تنجم عنه تداعيات لظواهر خطيرة أخرى من مثل أطفال الشوارع من الذين يمثلون نسبة تتجاوز سبع طاقة العمل فضلا عما يتضمنه هذا المصطلح من إشارة لمشكلات أخطر حتى من ظاهرة التسرب من المدارس وزيادة نسبة الأمية وعلينا أيضا أن نرصد حال تفشي الجريمة بأشكالها ولعل أبرزها وأخطرها حالات الاغتصاب والقتل والاتجار بالبشر ومنه الاتجار بأعضاء الإنسان والاتجار الجنسي وتفكك الروابط الاجتماعية بخاصة الأسرية وتردي الأوضاع الصحية النفسية والبدنية…

غير أننا نعاود التوكيد على ضرورة وقف ظاهرة الخصخصة وبيع المؤسسات الحكومية وبدل ذلك النهوض بمهمة تحسين أداء المشروعات الحكومية منها والعناية بتوازن سليم بين التشغيلي والاستثماري لصالح الأخير مشروطا بقدرات إنتاجية معلومة.. وتعزيز التخطيط الشامل وإعادة تأهيل العاطلين بتفعيل دور مخطط له في مؤسسات التعليم التخصصية ومراجعة ظاهرة تحرير التجارة وإنهاء ظاهرة تقليص الحماية بالعناية بالإنتاج الوطني ووضع خطط ثلاثية وأخرى عشرية للزراعة والصناعة وإدخال قدرات استثمارية خارجية مشروطة بخطط وطنية مرسومة مسبقا للتحول النوعي الذي ينتظرنا من نسب مساهمتها [كل من الصناعة والزراعة معا] في الدخل الوطني التي تقل عن الـ8% فيما يعمل فيها ما نسبته حوالي 75% من طاقات العمل الكلية!

إن موضوع البطالة سيظل مؤرقا كارثيا في إطار واقعنا المتداعي إن لم يجر التعامل معه بخطة وطنية شاملة تستند إلى الدراسات العلمية من جهة وإلى الإرادة السياسية الوطنية من جهة أخرى وإلى الإجراءات الاقتصادية الحازمة والحاسمة من جهة ثالثة..

فهلا تنبهنا واتخذنا القرار!؟ وهلا تحركت القوى الوطنية الديموقراطية تجاه الظاهرة ودخلت معترك النضال المطلبي والسياسي الأشمل للضغط باتجاه المعالجة!؟

أسئلة أضعها بين أيديكم وعسى تجد تفاعلها المؤمل

...

تعليق واحد على “البطالة في العراق بين واقعها وآثارها والحلول المؤملة”

  1. الأستاذ الدكتور تيسير عبد الجبار الآلوسي الموقر ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأحييكم على مقالكم المتميز: البطالة في العراق بين واقعها وآثارها والحلول المؤملة. وفعلا مؤسف هذا التضليل الإعلامي الكبير الذي يزور الحقائق حول البطالة في العراق ، ومن دواعي السخرية أيضا على حد تعبير رؤيتكم: إنّه لمن السخرية بعد هذه الحقائق أنْ تأتي الإعلانات الرسمية لتتحدث عن نسبة 15% من طاقة العمل هي المشمولة بالبطالة وظاهرتها. ودراستها بهذه الطريقة تحجب الحقيقة وتضلل الأمر الذي سيخدم بالمحصلة حال تمرير سياسات اقتصادية مازالت تقوم على تكميم الأفواه برواتب تُدفع لوجود وهمي غير منتج بقوائم تتستر أيضاً على مصطلح وليد بماركة عراقية بامتياز هي (الفضائيين) بمختلف القطاعات الحكومية الأمر الذي يأكل مبالغ يمكنها أن تمنحنا فرص تشغيل ومكافحة للظاهرة..
    دمتم أخا وصديقا عزيزا ، ومبدعا
    أخوكم محمد عبد الرحمن يونس
    جامعة ابن رشد في هولندا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *