من النبات إلى حدائقنا المعاصرة:  نكوص أم ارتقاء ..؟    بقلم الأستاذ عادل كامل

ألواح سومرية معاصرة تستضيف مادة أخرى للأستاذ عادل كامل نرجو أن تجدوا فيها المفيد في متابعات ثقافية مميزة.

* إشارة:  هناك مثل سومري قديم غدا عابرا ً للزمن والقارات: “لم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط!” ليس لأنه يوهمنا بقبول اشد الحقائق مرارة، أي القبول بالحياة بوصفها تامة البرمجة، ونهاياتها قائمة على مقدماتها، فحسب، بل لأنه يسمح للعقل أن يستأنف إجابات تعيد صياغة الأسئلة بالمضاف من الخبرة، والحكمة، بحسب المصائر، وما آلت إليه المخلوقات ـ بصنوفها وأنواعها ـ من رقي، أو من نكوص…، فالبراءة مكثت شبيهة بالحصول على الخلاص، بعد الاستغفار، وحسابات التسوية…، إزاء عالم الجبر، والضرورة، والقيود….، وانشغالي هذا ـ في مستعمرة الديناصورات أو في (الغزلان في السماء) وفي باقي الحكايات، لم يغوني بالركون إلى السكون، ولا إلى السكينة، فثمة جرثومة ـ سابقة في وجودها وجود الجماد والنبات والحيوان وسابقة أيضا ً في وجودها كل ما سيشكل بنية وآليات عمل القشرة الدماغية العليا للبشر فوق الغاطس من عصور الثدييات وعصور الزواحف ـ لا يغدو إلا مجموعة مخلفات وأثار تركها أصحابها، فرحت أعيد نسجها، بالدافع نفسه الذي للأمل وهو يذهب ابعد من الوهم، وابعد من الإثم، وربما ابعد من: البراءة. انه انشغال شبيه بأعراض المرض، إن لم يكن هو المرض نفسه! فهل كان باستطاعتي أن اذهب ابعد من موتي، أم كان لهذا الموت أفعاله البهلوانية، الشبيهة بما يجري داخل أقفاصنا، في حدائق العالم، إن كانت للجماد، أو للنبات، أو للحيوان، أو لنا، بوصفنا لا نمتلك ذريعة إلا للامساك بالبراءة، كالتي حلم بها السومري، عندما اخترع: جنة عدن…؟ معظم النصوص نشرت في: الحوار المتمدن، القصة العراقية، سومريننت، أدب وفن، وغيرها…، وهي ـ في مجموعها ـ تمثل أصل هذا الخطاب الافتراضي، لكن ليس مجردا ً عن واقعيته، بوصفها وحدها غير قابلة للدحض.

13/10/2015

 [1] وثيقة

   نشرت، إلى جانب سلسلة من القصص المستمدة من الحياة اليومية، إبان سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، حكايات شخصياتها شركاء لنا في الوجود: عصفور، فيل، ذئب، حمل، حصان، بغل ..الخ، فلفتت نظر زميلي (احمد هاتف) ليجري معي ـ بدافع الغرابة أو لأي دافع آخر ـ حوارا ً…، كي يضع عنوانا ً له ـ بدافع الاستفزاز أو لأي قصد آخر ـ : عادل كامل في مملكة الحيوانات….، فما الذي تغير…، وأنا أواصل استكمال هذه الحكايات، سوى متابعة السرد.

عادل كامل في مملكة الحيوانات

الواقعية سلاح ابيض ضد القبح!

 akamil1980

تصوير: جاسم الزبيدي ـ 1980

بغداد: أحمد هاتف

 آخر ما صدر لعادل كامل، بعد كتابه (الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ الستينات) مجموعة قصص تحمل عنوان (ذاكرة البحر) وهي المجموعة الرابعة له.. ويستعد عادل كامل لإنجاز كتاب الرسم المعاصر في العراق.. فضلا ً عن إعداد مجموعة خامسة أبطالها كائنات غريبة: الفيل .. والحصان… والكائنات التي لا تحمل اسما ً.

  • وكان سؤالنا الأول له: لماذا هذا المنحى الجديد في تجربتك.. لماذا الحيوانات؟

ـ ” لست رمزيا ً أولا ً.. فالحيوانات تقاسمني قدري. أنا أحب الفيل والحمار والكلاب مثلما أحب البشر. بل كم اشعر بالأسف لأني لم اعمل في حديقة للحيوان.. بل اشعر، أحيانا ً، بعذاب لأني لم أولد سمكة. هذا لا يعني إني ضد الوعي .. كما إني لست رمزيا ً في هذه الإشارة. كلا .. بل الإنسان يحلم بسعادة تنتمي إليه. وربما لهذا السبب، أصبحت اكتب عن أشياء تنتمي إلى قارات مجهولة: إلى ضحايا بلا أسماء.”

  • انك تريد ان تقول شيئا ً آخر؟

ـ ” مشكلة الكاتب العربي انه مزور كبير.. انه كذاب حتى وهو يروي أكثر الحقائق صدقا ً.. انه لا يعرف، مثلا ً، كيف يتحول إلى حصان مكسور.. والى نمر في مستنقع.. والى سمكة للزينة. أقصد إننا مازلنا في مرحلة ما قبل التاريخ.”

لغة لم تلوث..

 

  • ولكن لماذا الحيوانات؟

ـ ” لأنها تتكلم بلغة لم تلوث بعد. هل تفهم لغة الكركدن؟ كلا. إننا لم نكتب روايات أصيلة عن عذاب مليون صنف من حيوانات امة تعيش مجاعة وتخمة في الوقت نفسه! وهذه للحق دعوة للكتابة عن البشر.. أما أنا فدعوني اكتب عن حيواناتي المعذبة.”!

  • لكنك بدأت تكتب عن النبات والأزهار والأشجار أيضا ً؟

ـ ” سأكتب عن صخرة مهملة في الطريق. وسأكتب عن الهواء. لم لا .. أنا أحب الأشياء البسيطة التي تعلمنا النبل. احد أصدقائي، وهو بطل قصة، قتلته نباتاته ولقد رفضت هذه القصة لأنها لا إنسانية، كما إنها تخلو من الصراع! لكني سأكتب عن صراع بلا معنى: عن زهور تعيش في الصخر.. وعن اسماك متحجرة تعيش معنا. ان التخمة والمجاعة في امتنا لا تحل بالمؤتمرات الزراعية والصناعية، أما أنا الذي ابحث عن سيكارة أدخنها، ولا اعثر عليها إلا بشق الأنفس، فأعود إلى صمتي. دعونا نحتفل بالصمت … فلا معنى للحديث عن أشياء كبيرة جدا ً.”

  • بعد روايتيك (رغبات قيد الاستيقاظ) و (أعوام الشمس)هل ستعود الى الرواية؟

ـ ” لا أعظم من الرواية إلا الصمت. ومادمت من المخلوقات الناطقة، فالرواية خلاصي الأجمل. إنها سيدة الفنون بلا منازع، بعد السينما ..”

  • هل لديك تجربة جيدة؟

ـ ” من الأفضل ان نتعلم .. لا ان نصبح أساتذة! ان الرواية تظهر عندما لا يستورد الشعب، أي شعب، القمح ويوزعه على الفلاحين! أجل ..السومريون كتبوا ملحمة جلجامش .. ومصر القديمة العظيمة شيدت ملحمة الأهرامات.. لكن تلك الشعوب كانت لا تستورد اللحم أو البيض.. ان هذه المفارقة وحدها تدعونا إلى الأسئلة. نحن امة بحاجة إلى أسئلة وإجابات أصيلة. ترى أين نحن من العلم المعاصر؟ من الطب المعاصر؟”

  • اذا عدنا إلى الفن.. أعرف انك أقمت ستة معارض شخصية.. ودرست الرسم أكثر من عشر سنوات، وبعد أشهر ستعود إلى مقاعد الدراسة أيضا ً.. فماذا عن الرسم؟

ـ ” الرسم لؤلؤة.. نجمة..ذكرى عصر ذهبي.. هل تصدق إني أخاف من الرسم! مع ذلك لدي ّ مئات من اللوحات الكرافيكية التي لم تعرض.. وأكاد احسد نفسي عليها! لكني سأعود إلى الرسم..”

من رأى الشمس مرة ..

  • لديك ستة كتب في النقد.. وأنت عضو رابطة نقاد الفن الدولية التابعة لمنظمة اليونسكو .. فضلا ًعن نشاطك النقدي في الصحافة.. فهل تنوي ترك هذا المجال؟

ـ ” لا. ذات مرة قال جدي: من رأى الشمس مرة لا يفكر ان يعود إلى الظلام. النقد الفني جزء من بناء الشخص. والثقافة لا معنى لها إلا  بالنقد.. والجهد المبذول في هذا المجال لا ينفصل عن بناء حضارتنا. ولكن للنقد أسبابا ً وشروطا ً.. مثلما للناقد .. في البدء لا بد من زمن .. ولا من رؤية ثاقبة أصيلة لا علاقة لها بالأهواء .. والرغبات العابرة. نحن اليوم بحاجة إلى مليون ناقد في الشعر والفن والأدب ولسنا بحاجة إلى مليون شاعر يحمل هوية زائفة للشعر. إني أؤمن، واكرر هذا دائما ً: علينا ان نعمل بدل الانتظار. [كودو] لن يعود … وهؤلاء الذين ذهبوا إلى العالم السفلى، حسب الأساطير السومرية القديمة، يذكرونا باستحالة الرجوع. النقد اليوم يمثل وضع حد للقبح، لا في مجال الفن أو الإبداع عامة، بل على مستوى أخلاقيات البشر.. فإذا كان الفن لا يخدش البشرة الرقيقة لأصحاب الثروات الخانقة، فعلينا ان نقذف بهذا الفن إلى جهنم. الفن الذي نريد، مثل النقد، لا بد ان يدخل معركة بالسلاح الأبيض..”

  • في هذا السياق.. كيف تنظر إلى ظاهرة استلهام الفنان العربي للحرف؟

ـ ” هذه واحدة من مظاهر الترف! فالفنان يرسم في عصر ما بعد الوفرة! بل في عصر الخيال! لكني لا ادعوا إلى أسلوب موحد، ولا إلى مليون أسلوب.. ببساطة علينا ان نبدأ من الشعب.. ومن ضميره الداخلي.. كي نتلافى تقدم العالم علينا، أي علينا ان نتذكر إننا ننتمي إلى أعظم الحضارات في العدل والإبداع والعلوم والشرائع، وان نبدأ، عندما نبدأ، من عمق التاريخ وليس من سطح العالم. عودة إلى السؤال لا اعتقد ان ظاهرة الحرف إلا تجربة لا يبقى منها إلا القليل.. بل والقليل جدا ً..”

  • هل تدعو إلى واقعية في الفن؟

ـ ” أنا أتمسك بأصالة التجربة: الوعي بها، علميا ً، تاريخيا ً..وانظر بإعجاب للإبداع الذاتي الذي يعدل حتى من مسارات النقد.. إلى هذا الإبداع الذي يصنع النقد في الأخير.. ولا أريد ان أتحدث عن مدارس واقعية أو غير واقعية، ولكني لا اعتقد ان هناك إبداعا ً لا ينتمي إلى واقعه الروحي والإنساني. كل الفنون، وحتى منها السوريالية والدادائية واقعية إلى حد بعيد. لا توجد واقعية على الضفاف.. بل هناك واقعية تمثل، أو لابد ان تمثل، حركة أعماق البحر.. الضمير البشري.. وجماله.. ورسم آفاق لا يمكن ان تذهب سدى، وبلا معنى. ان الواقعية تعني، كما أرى، ان نحارب بالسلاح الأبيض القبح، فالواقعية تعني، في البدء، وفي الأخير، ان نبقى عشاقا ً للجمال، والفن الواقعي هنا، هو ديمومتنا، على الرغم من إننا نتحدث عن أزمنة الفناء.”

[اليوم السابع ـ باريس. الاثنين10 آب (أغسطس) 1987]

[2] إشارة/1

     وأنا لا أجد إلا اختلافات، في النوع، تميزني عن الآخر ـ الجماد، النبات، الحيوان ـ في الجذور ـ أو ما قبلها ـ كي انتسب إلى مخلوق فاق الجميع ـ بما يتمتع به من وعي وإرادة بلغت حد الإصرار في استحداث مصائر لا تحدق إلا في رمادها. فالبركان غير مسؤول عما يسببه من أذى للحياة، لكن مع استحالة إحصاء فوائده! كالنار، والماء، والريح …الخ، لكل منها توازنها في الموجودات، وفي الوجود. النبات، هو الآخر، يتمتع بنظام البذرة ذاتها، معنا ـ من الخلية الأحادية إلى رأس أفلاطون أو دماغ  اينشتاين ـ فهو يأخذ بالقدر ذاته يعطي، الحيوان، بآليات عمله، محكوم بالديمومة ذاتها، وجد ليقاوم الاندثار. انه مهد لنا ـ بفعل التخصص في عمل الأعضاء ـ هذا التحول نحو: سيادة النوع البشري.

   فانا ـ إذا ً ـ لا امتلك قدرة وضع فواصل بيني وبين أي عنصر من هذه العناصر في الوجود، فانا أتشكل منها، باستثناء هذا (الوعي) الذي راح يراقب ما يؤديه الوعي من أفعال ـ وقرارات…؛ وهو استثناء يخص (النوع) بما يمتلكه من خامات، تجمعت،  وانصهرت، وسمحت لنا بالاختلاف، مع إننا ننتمي إلى فصيل راح يتحكم بالأدوات، ويمتلك امتيازاته: الأرقى.

   فهل انتمي ـ حقا ً ـ له، كي أتمتع بهذا الامتياز، مع إنني، بسخرية برنارد شو، أتأمل تاريخنا، فازداد إعجابا ً ليس بالكلاب، فهي مؤذية، وإنما بأي كائن آخر اجهل هويته، ولكن لا مناص الاعتراف بعدم وجوده!

    إنما هذا ليس محض اعتراف للتخفيف من الذنب، بسبب إنني وجدت هكذا، حسب، بل لأن الحرية لدي ّ لن تسمح لي إلا ان أكون شريكا ً في الإثم! وعلامة التعجب ذاتها، هنا، لا معنى لها لولا إنها دالة على المحنة: فانا احمل جنازتي كلما توغلت بالانفصال عن صفاتي، بل وعن صفات العناصر، مادامت ليست مستقلة، وخالصة، ومادامت وجدت بمعزل عن حريتها في هذا الوجود، فماذا عن حريتها في الاختيار…؟

    وأنا اجهل تماما ً من منا كان يحرص على صداقة الآخر: أنا معها أم هي معي …، ولكنني سأبقى اشعر بأنني معاقبا ً لأنني لم انس ـ في ذات مرة ـ قد تم التشهير بي لأنني كنت لا استطيع ذبح دجاجة! لأن هذا لا يخفف من وجود شركاء لي كانت قسوتهم، إزاء الأطفال والنساء وباقي الاعمار، لا تقارن ببركان يطمر مدينة ويخفيها من الوجود، أو بطوفان يجهز على ملايين الكائنات، أو عاصفة تشرد ما لا يحصى من الكائنات …الخ فهناك شركاء لي اجهل الأسباب التي جعلت من ممارستهم القسوة بإفراط لذّة خالصة طالما اقترنت بمبررات يصعب العثور على أسباب لها…

      فمن ذا يعلم ماذا كنت سأفعل لو قدر لي ان امتلك أكثر من غرفة في بيت صغير، وأكثر من بضعة كتب، وبضعة دنانير لا تدعني استجدي…، وقصة شيخنا محي الدين بن عربي شاخصة عندما طلب من مريديه إقامة ضريح للملك بعد اعتراضهم أو سؤالهم…، فقال ان الملك قهر إغراءات السلطة كما قد يفشل فيها سواه.

   فانا إذا ً باختيار هذه (الحديقة) الافتراضية، وأنا في نهاية عقدي السادس من العمر، لم أتوخ كتابة المواعظ، أو إشغال ساعات الفراغ، تجنبا ً للهموم، والعزلة، ولا لمحاورة النفس أو تسليتها أو معاقبتها،  أو تقصي خلجات هذه الكائنات التي تشاركني، الحدود ذاتها، القفص، وإنما لأن ثمة هذا المستحيل الشبيه بأطياف الحرية وغوايتها، والشبيهة بصداقات أو مؤانسات تخفف أوزار اختياراتنا التي نقوم بها …، فثمة إرادة تدحض كل محاولات الانعتاق مكثت تعمل عمل أية غواية من اجل عدم التوازن بين الحياة والموت، بل لها امتياز احدهما على الآخر، بحجة ما من الحجج، لديمومة كل ما نراه يغيب، فهل لا تتألم العناصر وهي تنصهر الأفران الكونية، وتستبدل هويتها، هل لا تتألم البذور بدفنها، والذبائح بقطع رقابها، أو بقتلها، كي نرى الدب يرقص، والأسد تحول إلى بهلوان، والنمر إلى مخلوق ظريف، والدولفين إلى لاعب باليه …الخ هل يتألم البغل باستذكار غواية والده الحصان لوالدته الأتان، وهو يعيد قراءة تحول الأنواع الأخرى، من نوع إلى نوع آخر…؟

      أم ان هذه الحكايات، ضمن هذه (الحديقة) تحكي الذي يعيد استحالة وضع زمن، للفاني، والزائل، في هذا السياق، إزاء  المتشبث بالبقاء…؟

[3] إشارة/2

   لا فجوات/ مسافات/ فراغات بين ان تكون هذه (الكائنات) داخل كياني، من الرأس إلى أخمص القدمين، أو خارجه، أو أكون أنا هو من اخترعها، لمحض الاختراع، أو هي التي ألحت علي ّ، باليات عملها، من اجل هذا الحضور..، أقول لا مسافات/ فجوات بين ان أكون قد افترضت وجودها، وسكنتها، وتركتها تستنطق ذاتها، عبر ذاتي، في وهم وجود هذه (الحديقة)، أو عبر وجودها الافتراضي ـ الواقعي، والتاريخي.، أو إنها هي سكنتني، فالمسافات استحالت إلى صفر.

    فانا ـ ربما ـ كنت أكثرها عدم تقيّد بالهدوء، السكينة، والصمت، فرحت أدوّن عوائي، طالما القيود، لها صوت شبيه بصوت مرور المفتاح بالقفل، في باب من أبواب البيوت القديمة، والسراديب، أو السجون، وهو يبعث صريرا ً للحفاظ على ما يريد ان يذهب ابعد من صداه.

    كائنات شكلت هيأتي: يد قرد، عين تمساح، ذيل أرنب، ريش حمامة، منقار نسر، مخالب ذئب، أنياب أسد، جلد ضفدعة، سم عقرب، فحيح أفعى، ثغاء بقرة، عواء ابن أوى، وشوشة خنافس، طنين ذباب…الخ، كي أتتبع الدرب الذي لم يبق منه لا الغائب ولا أثره، متتبعا ً الأصداء، بإرادة وليد وجد انه بلغ من العمر أرذله، كعمر اتنوبشتم، لم تبق من ذكراه إلا لقى نقشت عليها كلمات، تارة، أو ارتد كي يتلقى الصدمات، والمحو، تارة أخرى.

     إنها المسافات ذاتها التي يختفي المسافر فيها وقد استحالت إلى ممرات، وبراري، ووديان، كي يجد انه أسير حدود تنتهي وتمتد بما هو ابعد منها، من فجوة إلى أخرى، أكثر اتساعا ً ..، فكلما ضاقت اتسعت: من بدء نشوء حلم النجاة، مرورا ً بعثرات الدرب، وليس انتهاء ً بالجحيم، فثمة هذا كله يغدو استغاثة، أو صمتا ً، مادامت المؤجلات محكومة بحكم ماضيها، عبر جسور لا مرئية كونت الدورة بتمامها الممتد في كل فعل من الأفعال، وقد استحدثت تجددها بالمستحيلات.

   وقد لا أكون عبرت إلا عن مكنونات خلايا هامدة في جمجمة ديناصور تحجرت  وهلك صاحبها قبل ملايين السنين، وبزغت، وراحت تبث، مثل جنين غادر ظلمات (حديقته) نحو الظلمات الأشد إنارة، وسطوعا ً، بما تمتلكه من الضوء، باحثا ً عن قليل من السكينة، كي لا يجدها، إلا وقد غدا منجذبا ً للعبور إلى ما بعد الموت، وهو يعيد سرد حكاية أسد امسك بغزال، أو ثور وقع بين فكي تمساح، أو حمل صار فريسة ذئاب جائعة، ليجد انه تحول إلى اثر في كتاب، في متحف، كلمات يعيد غزلها مخلوق ينظر إلى العالم عبر نافذة يجهل ما اذا كانت الشمس تنسج منديلا ً للبكاء، أم كفنا ً للموت؟

     فثمة ممرات تجرجر الأصابع التي بدورها تجرجر الجسد الذي بدوره يكمل سلسلة الومضات وهي تارة تنبثق من الرأس، وتارة تتوارى فيه، إنما الأصابع مازالت تنقش أمامنا هذا القليل من أصداء ما جرى لها في زوايا هذه الحديقة، في مستنقعاتها، سراديبها، وأجنحتها السرية…؛ حكايات تحكي كم تقلصت المسافات إلى نقاط، حروف، فواصل، وكلمات…، وسرد يماثل في عمله، عمل الأسرى داخل الظلمات، وعمل الومضات التي تجهل إنها كلما اتسعت فإنما لتحافظ على ديمومة الامتداد.

    يا لي من (كائن) توزعت سماته، صفاته، ذراته، وتناثرت، وقد كان قصده هو البحث عنها..،فتجمعت لديه هذه الحكايات، ليعيد سردها، لنفسه، وهو كلما حاول الانعتاق، ضاقت به الفجوات باتساعها، وإنما للتسع إلى ما لا نهاية في ضيقها! فراح يكرر نغمات طير في قفص، أو عواء ذئب جريح، او فزع غزال أمام الصياد، مادامت الحديقة لم تغلق أبوابها، مع إنها ليست أكثر من كلمات نسجتها الأصابع التي لم تخلق إلا لتلمس ومضات القلوب، وليس غيابها.

[4] إشارة/3

     عندما قررت الببغاء إصدار جريدة “هيا نرقص” بتكليف من الثعلب، وبأمر مباشر من السيد المدير، لم يتم استدعائي للعمل فيها، أنا ذهبت، بنفسي، فسألني الببغاء: غريب ان تأتي للعمل في المكان الذي طالما انشغلت بإدانته، والتشهير به، حد تقويضه! فما الذي دعاك إلى هذا القرار…؟ أجبت بسؤال: ومن قال إنني انشغلت بهدمه!

ـ لدينا ما يكفي من الأدلة على ذلك.

نهضت، للمغادرة، لكن رئيس التحرير سألني:

ـ ستعمل ضدنا، أليس كذلك…؟

ضحكت، وأنا أتمتم:

ـ ها أنت تتحدث مثل البشر..، يقولون لا يوجد إلا اله واحد ثم يطلبون منك ان لا تعبد سواه!

نهض مسرعا ً نحوي وأغلق فمي:

ـ اشش!

   نطقها بفزع تام، هامسا ً:

ـ منذ هذا اليوم، أنت واحد منا…!

ـ لا ،  يا سعادة المدير، لا أنا معكم، ولا انتم معي!

ـ جميل! حقا ً هذا هو مفتاح المناورة، ان تقول نعم لأنك تقول لا، وتقول لا لأنك تقول نعم، وبينهما، تمتد المسافة، فلا نعم هناك، ولا … تختتم الموقف بها!

   لم انس إنني دشنت عملي بزيارة إلى مرافق الحديقة، ووحداتها العلنية، والأخرى القابعة في الظل: من المحرقة إلى السراديب، ومن المتاحف إلى صالات العرض، من المصحات إلى مراكز المعلومات، ومن المعابد إلى المواخير، ومن المدافن إلى المتنزهات، فضلا ً عن المغارات، الجحور، الثقوب، الأقفاص، الحظائر، الزرائب، وما بينها من برك، وجداول، وبحيرات، ومن مخفضات ومرتفعات ومستنقعات..

    ولم انس أبدا ً إنني، خلال سنوات عملي الطويلة، والشاقة، لم اترك أحدا ً، ولا مؤسسة، ولا دائرة، ولا مكانا ً مخفيا ً إلا وذهبت إليه، ولا مخلوقا ً إلا وحاورته. فنلت وسام “هيا نرقص/ هيا نلهو” من الدرجة الأولى ـ ذئاب.

    كان هذا قبل الطوفان الأعظم …، عندما كانت هيئة التحرير متمثلة بأعضاء تم استدعائهم من الفصائل كافة، من غير استثناء، فالأسد يعمل بجوار الكركدن، والبغل مع التمساح، والبلبل بجوار وحيد القرن، النملة مع النعامة، والهدهد مع الكلب، الغزال مع الذئب، والنورس مع الدب ..إلى آخر زملائي من الأساتذة الكبار، أو من هم بعمري، أو من صغار العهد بالعمل في إسطبل الخيول …، وتشاء المصادفات ـ بالمعنى المتداول وإلا فانا حيوان أدرك تماما ً استحالة وجود مصادفة من غير مصادفة في القانون الذي ينفي المصادفات ـ ان اعمل مع جناح القرود، لفترة وجيزة من الزمن، بعدها عملت في جناح الأفاعي، ثم الضباع، ثم العقارب، حتى أدركت استحالة بقائي حيا ً لو لم أجد عذرا ً مشروعا ً للاستقالة، والعودة إلى جناحي، بجوار الأسماك، والقنافذ، والسحالي، والطيور.

   ثم حل الطوفان الآخر، وبدأ العصر الذي حمل شعار: الانعتاق الشفاف، لتدب الحياة مجددا ً كأنها القسم الآخر من الرواية التي تنتظر من يكمل فصولها. فانا نفسي أدركت استحالة وجود (أنا) خالصة، باستحالة وجود مرآة لا تتستر على ما لا يحصى من المرايا، واللا مرئيات، فالأنا ـ هنا ـ اعتراف بواقع الحال، للتداول، واستكمال تتابع هذا الذي يمتد بإرادة الامتداد، وإلا هل ثمة (أنا) يمكن عزلها عن فجوتها الواقعة بين مقدمات مسبوقة بالمقدمات ونهايات ليس لها نهاية…؟ وهذه ليست مداعبة، ولا مناورة، فانا ارتكبت من الأخطاء بعدد الأفعال المغايرة، فنسجت للثعلب خطابات، وللببغاء قصائد وظيفتها دحض الوظائف، وسردت للكركدن بطولات لم يفعلها حتى في أحلامه، وغردت للفيل حكايات فاقت أحلام العصافير نشوة، وقمت بما يدحض ذلك كله أيضا ً، تاركا ً أمر الحقائق للرمال، لعلها تحضي بالنبش، والتعقيب، والتفكيك!

   فعادت جريدة “هيا نرقص”  للصدور بالعنوان نفسه، فترة وجيزة، ثم ليسدل ستارها، وتذهب مع الريح؛ مع من هاجر، أو مات، أو قُتل، أو توارى داخل جناح من أجنحة حديقتنا، وتشاء الملابسات والمفارقات  ان يكون معنا قرد اشتهر بلحيته الشعثاء، عديمة اللون، كأنها مكنسة متهرئة، ممسحة مراحيض، طالما افتخر إنها ليس مزورة، بعطنها، ونتانتها، وبرأس صغير كأنه رأس دبوس، وأصابع كستها بثور وقشور وزعانف ركبت ومكثت خليطا ً بين أصابع الضفادع ومخالب الضباع، وقد دبت شائعات لا تحصى عنه، لم تؤد إلى طرده، بل سمحت له بالعمل بوصفه واحدا ً منا! فعاد شعار “هيا نرقص/ هيا نلهو” إلى الوجود، من غير غبار، أو شكوك.

      ومثلما بدأت عملي بأسئلة طالما أعقبتها أسئلة صارت الإجابات تعقبها إجابات…؛ الأسئلة راحت تحفر في ّ والإجابات راحت تكون صدماتها، فراح الفراغ يمتد حتى بانت مساحات مشغولة بالدورة ذاتها بعد ان غدا الخلاص منها بمثابة التوغل فيها، من الصفر إلى اللانهائي، ومن المطلق إلى العدم. وهل كان باستطاعتي البوح بما توارى عميقا ً فيما كانت دوامة الشغل لا تسمح لنا إلا بمراقبة الدوامة تمضي ابعد منا، وهي تجرجرنا معها، حيث الإفلات منها أصبح مستحيلا ً كالبت في أمر وجودنا بعد ان تحول غيابنا إلى لعبة يومية تجري كالمشي فوق الحبال الوهمية من تركها سقط ومن تشبث بها هلك …، لتتكدس الوثائق والصور والأدلة كأنها شبيهة بالعقد ما تنتهي الأولى حتى تفضي إلى الثانية حتى تزداد متانة، وحبكة نسج…، فالصدمات الأشد صارت علامات عبور في الدرب ذاته دامجا ً محونا ً بالضلال، وبالظلال، بعد ان انتزع منا كل الإرادات إلا إرادة الولاء له.

     فهل كان باستطاعتي ان استبدل ذرات ذاكرتي وخلايا عمري بدرب آخر وقد بان إنها كلها قد نسجت قبل ان تكون هناك سفينة، وطوفان، ونجاة!

    سخر زميلي القرد صاحب اللحية الشعثاء مني زاعما ً انه وحده من امسك بالمفتاح، مثله مثل الآخر المنحدر من الأفاعي، لم يترك عقوبة إلا وأصدرها ضدي، حتى أصبحت الإنذارات والتهديدات خزانة صحف شبيهة بمدوّنة لم تترك واردة إلا وضمتها مع الشاردات في سجلي الشخصي.

     صحيح إنني ـ و(أنا) ـ هنا ـ تأتي بمعنى مجموع الممحوات والمندثرات وليس الأنا التي طالما تبجح بها الكركدن أو وحيد القرن أو القرد الذي زعم إنني كنت أتتلصص عليه لصالح الببغاء أو من اجل دكتاتورية القائد الثعلب أو الزعيم الأبدي مديرنا الذي ظله امتد ابعد من حساب القرون ونهايات الزمن ـ أبصرت كيف أبصر في الفراغات، إلا إنني كنت لم أتخل عن ولع رؤية هذا الذي توزع علينا جميعا ً، من الفاقة إلى الذعر، من الكوابيس إلى المرض، ومن الشرود إلى الذهول، فهل كنت أثما ً أو باغيا ً كي يكون الأخر ملاكا ً، أم أنا هو الغزال وهو الضبع أو النمر…؟ الأسئلة تتعثر بالإجابات، والإجابات لا تترك لنا إلا ان نمضي في تدشين ما لم يدشن، وما كان ذلك اختيارا ً مني أو عنادا ً أو بسالة، كما لم يكن هشاشة، أو رخاوة، بل كلاهما توحدا حيث أصبح قدرنا يحملنا كجنازة مغذاة باللغز نفسه حملناه معنا في الطريق وهو يقطع مسافاته وأقدامنا مازالت لم تتقدم ابعد من نهايات مقدماته، ومتاهاتها. كان الأعمى يتكأ على الأعرج، والذي فقد الإصغاء يصغي إلى من فقد فمه، العاقل يلهو مع العناكب، والمجذوم ينتصب وسط الساحات ندور من حوله بإصرار قهر المجهول والقفز فوق السراب، حبال حول الحبال تمتد سابقة خاتمتها مقدماتها، وما كف الميت يستغيث طالبا ً الموت.

   خرجت من السرداب وأنا ألهو بشعار: هيا نذهب ابعد من مدانا، ابعد من دربنا، ابعد حفرتنا. فلم يكن لدي ّ ما اخسره، غير الذي نهايته شبيهة ببدايته: حديقة راحت تعصف بها حنكة اللعبة وتقذف بها حيث يتلقاها الأمهر لعبا ً والأشد مكرا ً، والأكثر انحدارا ً من الرذائل. فما أوشيت بأحد، وما سرقت زاد احد، ولا  تمنيت ان أكون غير هذا الشارد، يتلعثم داخل أسوار الأفران، وغليان براكينها، مع إنني مكثت وحيدا ً أداري عزلتي بالوحدة، مشذبا ً الضوضاء بالسكينة، والخسران أرممه بالخسران، إلا إنني لم اعتد شتم احد، ولا الذي أوشى بي زورا ً، أو اتهمني بالتلصص على موبقاته بوصفه ً تعلم ما كانت تفعله البغال بالبغال، وليس ما كانت تفعله الكلاب مع الذئاب، فانا بطبعي تطبعت على حمل ما حمله الهواء، والماء، وما كانت تحوله النار إلى أثير.

   أكانت الديناصورات  تخفي بجيناتها ومشفراتها مصائرنا، أم كان الغبار اقل أذى من الموت يوزع لدغاته علينا بركات، وهبات لم تفض إلا إلى تشبثنا بمغارة من المغارات، أو بجناح نوصد قفله علينا كي نموت…؟ لقد راح الجدب يسمح لنا بالفائض منه: مصائرنا تتآكل، تذوب، تتعفن، تتجمد، تتناثر، تلغم، تفكك، وتتبخر في نهاية المطاف…..، فهل كان باستطاعتي الحفاظ على لغز تشبثي بأكثر من وهم سمح لي ان احفر مدفني داخل أسوار هذه الحديقة وليس ان أتشبث بها حسب…؟

   وأنا اقبع تحت تراب هذه الحديقة أبصرت ما جعلني لا اصدم بما أبصرته عبر الحظائر، الأجنحة، الزرائب، الأقفاص، المحرقة، المصحات، الزنازين، الأفران، المعابد، المغارات، الوديان، الآبار، الملاهي، المسالخ، المواخير، الكلجيات، البارات، الخرائب، المزابل …الخ، فالأسرار مكثت تبخل بمد ذراعها ابعد حتى من مدانا الشحيح…، فلم يبق مني ما يكفي إلا للمرور فوق تراب كان ذات يوم مشغولا ً برقصات الغزلان، وبتغريد البلابل، وصهيل الخيول …، فلم يعد للأمل إلا ما للوهم الدوافع نفسها تسمح لليد ان تمسك بالحبل تارة ليدور حول الشمس وغالبا ً ما كانت الشمس تدور حول اليد، فلا المحو أدرك ما دوّن، ولا المدوّن كف عن التوغل في المحو.

[5] ثناء وشكر

[1]

     مازالت الكلمات طرية، مرتبة بعفوية، عناية، بوضوحها وسحرها وبما فيها من أسرار، فقد كانت جدتي ـ لامي ـ واسمها (صفية) تروي لي ان الصخور، في الجبال والوديان، شبيهة بنا، لها أم وأب، فهي مخلوقات تولد، وتنمو، ولها أجنحة….، كانت تروي لي تلك القصص عن الجماد، والنبات، والحيوان، كي لا اغفوا! لأنها كانت لا تعمل عمل “الملقن” ولا تعمل عمل “الواعظ”،  فكانت تقول ان الشمس مثل الإنسان الطيب، لها عقل وقلب وعملها ان تهب ضوءها للحياة …، فبقلبها تفرح الكائنات، وتّعيد، وبعقلها، يتم البناء. فبدل ان اخلد إلى النوم ـ وأنا في سن الثالثة من عمري ـ كنت انتظر قدوم الليل كي تمتد ساعات النهار، لتروي حكايات مستمدة من حياتها، وخبرتها، وحكمتها، حول قصص الدببة والذئاب والصخور والأشجار والريح…

   فماذا تبقى…، كي يتسلل إلي ّ منها،  أكثر من سلاستها، وهي تصور لي حديقة (نوح) ـ أو سفينته ـ مثل حياة خالية من الأوهام، والقسوة، والآثام.

[2]

    هل قرأت “كليلة ودمنة” قبل سن العاشرة من عمري، أم بعد ذلك بقليل…، لا أتذكر..، عدا ما رسخ في ذهني من مشاهد لا تفرق بين الحيوان والإنسان…، ولم أتعامل معها بوصفها مواعظ أو وصايا، بل تركتها تتسلل إلي ّ وأنا ازداد شغفا ًبها، كي اصدم، عندما عرفت، بما آل له مصير ابن المقفع، وان يكون مصيرنا، كمصير شركاؤنا، في هذا الوجود!

[3]

    ولم يكن حيوان الجاحظ مادة للتسلية، أو حتى لتعلم كتابة الإنشاء، بل ممرا ً للذهاب بعيدا ً في اللغز ذاته: الحيوان الذي مازالتا نشترك معه بالخصائص، والعذابات، بالخامات والألغاز: أصلنا المتمثل بما رواه الجاحظ، كأقدم عالم نفس في دراسة أغوار اللاوعي السحيق ـ الذي هو لاوعينا، رغم دور (الوعي) الذي مازال يشتغل باليات لغز وجوده، واندثاره، وانبثاقه أيضا ً.

[4]

    وغير حمار الحكيم، وغير حمار سرفانتس، وغير مزرعة جورج أرول، لا تعد الحكايات ولا تحصى، ففي كل نص من نصوصها ثمة محركات، وبالدرجة الأولى: نظامها البنائي: الفكرة/ السياق/ الأسلوب. فثمة خلاصة تعمل عمل الضوء وهو يتحول إلى طاقة، والزمن إلى مكان، والأصوات إلى كلمات.

     ثنائي لهؤلاء، ولنصوصهم السحرية، البلاغية، ولفاضل العزاوي، ومدني صالح، وبهنام أبو الصوف، ود.عبد الستار الراوي، ورعد عبد القادر، وعدنان المبارك، وكل منهم يلتقي عند اختلافه مع الآخر، لا يدعني اغفل كل من تحمّل لساعات وساعات العوامل التي صاغت تجربتي….؛ فلولا العثرات، الهفوات، الأخطاء، الشطحات، هل كان باستطاعتي ان احتمل وجودي…، من غير مساندتهم، وعونهم المباشر، والرمزي.

[5] اعتذار

     ربما أكون قمت بالدور نفسه ـ ككل مخلوق آخر يتخلق بصفات الملائكة ـ بعلم مني، حد العناد، أو بشرود، أو بغباء، أو ببراءة، فواجب الاعتذار، لمخلوقاتي التي عاشت في ّ، وعشت معها، يسمح لي بالمرور منحنيا ً لها، للغزلان ولأضدادها، وللمفترسات وأضدادها، مادامت الأسماء كونتها أفعالها، قبل ان تأخذ عبورها نحو البعيد، ثم الأبعد. فالاعتذار علمني إنني لم أتعلم إلا القليل…، وجعلني أتقدم، في كل لحظة، للاعتذار للجميع، من النمل إلى الأسماك، ومن القرود إلى الأرانب، ومن الذئاب إلى الفئران، ومن بنات أوى إلى الطيور…الخ، بمثابة تخفيف من وزر آثام لم انوي ارتكابها، وفي الوقت ذاته طالبا ً الصفح، وربما الغفران، منها، حتى لو جاء هذا بعد فوات الأوان، أو لا يساوي لحظات عذاب ثور يشم رائحة الموت في السكين. إنما هذا ما دار برأسي، وأنا داخل جدران حديقتي، بعد ان صار التشبث بالأمل أقسى من التشبث بالسراب، وبعد إدراك ان اللغة، بموت المتلقي، وبما لا يحصى من الميتات، أصبحت خارج الاستخدام، مثل فأس صنعتها الآلهة، بعد تشكل القرى الأولى، ولم تعد سوى اثر في متحف. فهل لصمتي رائحة عواء ديناصورات تسللت جيناتها إلى رأسي، والى رؤوسنا، في هذه الحديقة، ولكنها لم تمنعني من الاعتراف بتحمل كامل المسؤولية، وأنا أحدق في المجهول!

13/10/2015

Az4445363@gmail.com

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *