مهامنا في توكيد الفصل بين المدني والديني

لقد تنامى وعي المواطن بأسباب الخلل الذي وقف وراء جملة مآسيه وكوارثه طوال المدة منذ 2003.. وأدرك عبر ما وقع على كاهله من مشكلات ملأت تفاصيل يومه العادي أنّ ظاهرة الإسلام السياسي وأحزابه الطائفية هي التي أوقدت نيران احترابه وسط وباء تفشى مع سطوة بلطجية قوى التأسلم على الواقع برمته. وجاءت الهبَّة الجماهيرية في بغداد ووسط العراق وجنوبه لتشكل حراكاً مدنيا عالي الصوت وواضح الهدف ممثلا في شعار دولة مدنية.. عدالة اجتماعية.

وقد انعكست قوة الحراك المدني وتأثيره بوضوح في تلك الطقوس الدينية السنوية التي تُمارس في عاشوراء فتجسدت بظهور مواقف احتجاج سليمة المنحى، نابعة من ضمائر المشاركين في تلك المواكب والطقوس الحسينية ومعبرة عن تلك الاحتجاجات التي جسدت صواب التعبير عن مواقف حاسمة ضد الفساد والمفسدين..

وفي إطار الصراع الدائر اليوم بين الحركة الاحتجاجية المدنية وبين قوى الطائفية والفساد تحاول قيادات التأسلم السياسي البحث عن وسائل نجاة من مأزق انكشافها وافتضاح ألاعيبها ومخادعاتها التضليلية.. مواصِلةً استغلال آليات ممارسة الطقوس ومحاولتها تجييرها لمآربها ومطامعها. إنها اليوم تضخ مجدداً ادعاءً بأن الآلاف المشاركة في الطقوس هم جمهورها! وهو ما ألغته الأصوات الاحتجاجية لتلك الجموع عندما حولت الطقوس من بكائيات تريد إثارة الانكسار والسلبية إلى منبر إيجابي فاعل لا يخضع للاحباط بل لإطلاق المطالب بوجه فساد الحاكمين.

 وما يُلغي تأثير ادعاءات التضليل الطائفية بشأن تجيير جمهور الطقوس الدينية لمصلحتها أن هذه المشاركة ظهر فيها المدنيون أنفسهم ليلغوا ما تضخه الماكنة الإعلامية من تشويه لهم عندما تحاول وضع المدني بتقاطع مع الدين.. بمحاولة لتصوير قوى التأسلم السياسي كونها المفوضة إلاهيا والممثلة لله على الأرض والمعبرة عن جموع الناس المؤمنة! فانتهى وهم تجيير الشعب وحجزه في خانة عبيد هذه الفئة الطائفية أو تلك أو هذا الزعيم الطائفي أو ذاك.. ذلكم ما قاله وجود عناصر مدنية في تلك الطقوس وما أكدته الشعارات المرفوعة…

ومجدداً ودائماً هناك توكيد من القوى المدنية على أن فلسفتها توفر الغطاء الأبهى لممارسة الطقوس الدينية بحرية تامة وتحميها من الابتزاز والتجيير وتبعدها عن أن تكون أداة أخرى بأيدي قوى العنف من أجنحة الطائفية السياسية.. هذه أمور لا حاجة للإطالة بها، فهي واضحة عند قوى الشعب..

وما يطمئن أكثر أن قيادات الحراك المدني سارت بنهج احتضان متنوع القوى والتيارات وتمسكت بحوار مفتوح مع الجميع بغاية تأمين سلمية المسار وسحب البساط من القوى التي تريد إثارة العنف والاحتكاكات سواء بقصد أم من دونه وربما من دون إدراك بغضهم ما ينجم عنه راديكالية المواقف عند ذاك البعض.. ووصلت حوارات القوى المدنية إلى اللقاء بقيادات دينية مع احتفاظ تام باستقلالية الموقف ومع محددات الخطاب المدني ومطالب الناس وحقوقهم أساسا للحوار وعدم التساهل في هذا الأمر بأي وجه.

لكننا بالمقابل لا ينبغي أن نطمئن للصورة وكأنها تجري اليوم مثاليةً بلا خلل ولا ثغرة. إذ تحاول بعض العناصر تشويه مجمل الحراك مثلا بإشارتها إلى زيارة وفود مدنية لشخصيات دينية والعمل على تجييرها لخطاب مرضي بإطلاق ادعاءات جوفاء غير حقيقية ولا تمس جوهر منطق الحوار وآلياته ودوافعه الإيجابية..

ومن الصحيح أن لكل ممارسة أوجهها الإيجابية وأخرى غيرها السلبية وعلينا باستمرار أن نحسب الموازنة بين الوجهين كي نتجنب الوقوع بمنزلقات غير محسوبة. مثال ذلك لمن دفع بتظاهرة مدنية لتدخل وسط المواكب مثلما حصل في بابل.. صحيح أنها رفعت شعارات ومطالب عادلة إلا أنّ الممارسة المدنية يجب أن تحتفظ بسلامة أدائها  بالاحتفاظ باستقلاليتها.. وكل اندفاع ومبالغة في ممارسةٍ قد يورط في منزلقات تأتي بنتائج عكسية.

ولابد لنا من أنْ نؤكد على أهمية الالتزام بالفصل بين السياسي والديني وباستقلالية الخطاب المدني والفصل التام بين المطلبي الذي يشمل الحقوق والحريات والدفاع عنهما من جهة وبين الديني وممارسة طقوسه الخاصة من طرف الأفراد وغاياته وآلياته…

وبقدر تعلق الأمر باللقاءات التي جرت مع شخصيات دينية لا يوجد تفريط بالمبادئ والآليات المدنية. ففلسفة الحركة المدنية لا تسمح بمنح صكوك غفران لرجال الدين أو عهودا تضعهم فوق الدولة بل على العكس إذ من أجل التغيير المنشود تعمل قوى المدنية على فضح ما يرتكبه ساسة الطائفية والتأسلم الكاذب باسم الدين بخاصة ممن تزيّا برداء الدين زورا ودجلا وتضليلا…

أما بشأن التداخل بين التظاهرة والمواكب الطقسية وإن حصلت بشكل محدود تماما، فلابد من أن نلفت النظر إلى أنّ الإصلاح والمطالبة بالحقوق والحريات يبقى مكانه الصحيح هو ساحة التحرير وميادين الحرية في المدن حيث توجد مؤسسات إدارة الدولة المعني المباشر بما يدور من أزمات وبما تطالب به الجماهير بهبتها الشعبية..

وعلينا في وقت تُمعِن قوى الطائفية السياسية في تضليل جمهورها باستغلال الطقوس الدينية أن يأتي ردنا الأنجع باسم الحراك المدني بالإصرار على مبدأ الفصل بين الخطابين الديني والسياسي أي بما يحترم الاعتقاد وممارسة الطقوس ويحتفظ بحق المواطن في التعبير عن مطالبه الحياتية وحاجاته وحرياته بأسلوب مدني متحضر، لا بما يضحك على الذقون ويعبث بالحقوق والحريات كما فعلت قوى الطائفية وتواصل لعبتها بلا خشية من أحد…

وعلينا أن ندرك أنّه من دون تخليص الإنسان من الخرافة وآلياتها لن يكون للحرية فرصة ظهور ولن يكون للحراك المدني فرصة انتصار بمعنى أننا يجب أن نحذر من الانزلاق باتجاهٍ يجيّرنا لآليات خطاب الإسلام السياسي الطقسية المضلِّلة…

ويلزم للحراك المدني أن يتمسك بمبادئ خطابه وأهدافه والمحافظة على استقلاليته وسلامة آلياته من تشويه يأتي به أسلوب الخلط بخطابات تعزز تمترس الطائفية السياسية وسطوتها.. فلنحذر من الانجرار إلى خطاب الإسلام السياسي ومداعبته واستغلاله مشاعر ممارسي الطقوس الدينية فالحريات والحقوق تبقى قضية مدنية بحتة لا تقبل مثل ذاك الخلط!

وفي الموازنة بين تيارين هما تيار الحراك المدني وتيار الإسلام السياسي لابد أن نسجل أن الشعب العراقي قد هبّ هذه المرة بوعي وضع مطالبه في الطابع المدني نقيضا للتيار الإسلاموي وأدائه الذي أباح جرائم تشطير المواطنين وإلغاء هويتهم الوطنية وأشاع الفساد وفتح الأبواب على مصاريعها للإرهاب.. من هنا فإن التمسك بتلك الهوية سيظل السند الرئيس للانتصار لمطالب الشعب.

إنّ مضامين الهوية المدنية تكمن في إعلاء الروح الوطني وتعزيز الأداء الديموقراطي حيث شفافية الحوار بين قادة الحراك وقواه بتنوعها وباختلاف الرؤى والمعالجات عند تعلق الأمر بتفاصيل المسار لكن بالاتفاق التام بقدر تعلق الأمر بجوهر الحراك.. ومما يهم هوية الحراك المدني استقلاليته التامة عن مجمل التيارات التي سطت على الأوضاع العامة في البلاد طوال المدة المنصرمة وساهمت في ارتكاب جرائم الدمار والخراب.. فضلا عن كون هذا الحراك ينبع من الشعب وتقدمه على النخب في المبادرة ولكنه الذي يضع ثقته بتلك النخبة وبالعقل العلمي التنويري العراقي ويتطلع إلى تفعيل دوره..

ومن الطبيعي أن يكون الدور المنتظر ممثلا في رسم مفردات الحراك مع تحديد أسقف زمنية لمطالبه ومهمة تلبيتها. بخلافها يلزم اتخاذ قرار الحسم في المواجهة مع السلطة التي تتمترس خلف المفسدين و تعلن عجزها عن أداء المهمة الوطنية.

إن الهبة الشعبية العفوية التي استبقت مجددا قرار القيادات السياسية الوطنية نفسها وبادرت بحراكها المطلبي قد طوت صفحة عفويتها مع انتظامها وتحولها من الأمور المطلبية البحتة إلى معالجة الأسباب التي أودت بحاجاتهم ووضعتهم على حافة الإفلاس ثم لتنتقل مرة أخرى نحو الانتظام بحراك إصلاحي شامل مضمونه (التغيير) في طابع النظام.. التغيير من نظام المحاصصة الطائفية والفساد وإرهابهما إلى نظام الديموقراطية وإحياء العمق الوطني للبنية العراقية.

إن هذه المحددات والاشتراطات هي ما يلزم التنبيه عليها باستمرار والسير بهدي التفاعلات والحوارات المعمقة لقيادة الحراك المدني توكيدا للفصل بين الديني والسياسي ولاستقلالية هذا الحراك ولسلامة أدائه وخطواته باتجاه أهدافه النبيلة سلمياً، لتعود بعداد زاهية بكل أطياف العراق الفديرالي الجديد.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *