إصلاح بمعنى الترقيع أم تغيير بمعنى استبدال البنى والآليات؟

يبرر بعض الكتّاب والمحللين والساسة من القوى المدنية استخدامه عبارات  ودلالات اصطلاحية سياسية فكرية من تيارات أخرى بأن القضية مرحلية وآنية وتحسب الظروف القائمة وقدرات تحقيق هذا الشعار أو ذاك.. ولكنه ينسى الفرق بين استقلالية خطابه وسلامته  وتوظيف التكتيكات السليمة وبين إضاعة استقلالية الخطاب والتورط بتشويهات تأتي من تاثير تيارات أخرى بصورة مرضية.. في هذا الخصوص أتناول جزئيا  هذه القضية بمعالجة استخدام مصطلح إصلاح الترقيعي وواجب استخدام مصطلح تغيير الجوهري، بأمل إغناء هذه المعالجة من الآخرين

انطلقت الاحتجاجات الشعبية في (هبة جماهيرية) واسعة؛ وقد بدأت أولا بأمور مطلبية محدودة، لكنها سرعان ما اصطدمت بإهمال ورفض وتمترس من جانب السلطات خلف آليات اشتغالها، الأمر الذي دفع تلك الهبة الجماهيرية، للانتقال باتجاه مطالب أشمل؛ يمكن بتحققها، أن تستجيب لتطلعات أبناء الشعب.

وبودي هنا في هذه المعالجة العجلى، أنْ أشير إلى حقيقةٍ، باتت قوى وطنية ويسارية ديموقراطية، تحملها شعاراً وهدفاً مباشراً؛ وتدعو جمهورها إلى تبنيها، تلك هي استخدام مصطلح (الإصلاح) تجسيداً للشعار والهدف الآني..

ولعلّ أبرز كتّاب هذه القوى المدنية المهمة، لا يمكنهم إلا أن يسردوا توصيف الوضع العام بما فيه من انهيار شامل وتوكيد تشخيصهم لمن نخر الوضع العام وأمرضه بالــ

طائفية

والفساد

وهو أمر صحيح ودقيق، فكلاهما يحتلان قمة الهرم ويسودان بسيطرتهما على النظام العام…

إنّ الطائفية والفساد وقواهما، يمعنان في تعريض الشعب لشتى أنواع الجريمة.. ومنها وعلى رأسها إرهاب المواطن من أنْ يفكر أو يمارس حقوقه الديموقراطية! طبعا  ملاحظتي هذه تشير إلى مسمى إرهاب دولة لكنه المتمظهر باشكال ولبوس جديدة في عالم النظم السياسية وآليات اشتغالها، حيث تظهر أدوار خطيرة ونافذة للقوى المسلحة، ممثلة بالميليشيات بوصفها جزءاً رئيساً من النظام العام لحكم الطائفية والفساد؛ يتحكم بالواقع. وفي الآن نفسه تتحول القوات (الأمنية) الرسمية نتيجة هزالها وطابع ثقافتها واختراقها لتخدم قوى الفساد ونظامها.. بما هو أبعد وأعمق كثيراً من خدمة عناصر فردية للفساد…

بمعنى

أنّ ما يجابهنا ليس ثغرات عابرة وليس خللاً بسيطاً أو استثنائياً ينتظر ((الإصلاح)) بل ما يجابهنا هو عينه وذاته:

نظام طائفي كليبتوقراطي وقواه التي تديره

لقد تمَّ اختلاق طبقة كربتوقراط أو طبقة الفساد بالاستناد إلى محاصصة طائفية قسّمت البلاد والعباد بوصفها غنيمة خاصة.. وتدريجاً تمّ تخليق هذا النظام مع إضفاء الشرعية عليه بوساطة صياغات قانونية مكَّنت قواه من السطو على الأوضاع بالعنف المتستر بأوهام وخزعبلات وضعوا الناس فيها بدوامتها ومجازرها…

وما يعيشه العراق بمسمى (عملية سياسية) هو عملية تقنين للصراع العنفي المسلح ببعض محاوره الرئيسة ولكنه يبقى المصطنع  بين أبناء الوطن.. وهي بالخلاصة عملية (سياسية) لا تنبني على أسس نظام وطني ديموقراطي كما يجري تخيله أو توهمه بالضخ الإعلامي السياسي القرين. ومثلما يتحدث علم السياسة عن نظم دكتاتورية وأخرى ديموقراطية يتحدث عن النظام الطائفي كما يتحدث عن النظام الكليبتوقراطي.. ولا يوجد نظام يصم نفسه إلا بخدمة الشعب ولكن الحقيقة شيء وما يضخه الإعلام من خطاب تضليلي شيء آخر.

فكل مواطن يعرف بالمعايشة اليومية أنه يحيا في بلاد لا توفر له أمنا ولا أماناً وفي بلاد لا تقدم له اية خدمة لا اساس ولا غيرها.. فهو بلا مواصلات ولا اتصالات وبلا كهرباء ولا ماء صالح للاستهلاك الآدمي ومياه الصرف الصحي تختلط وتتفجر وتفيض عليه وعلى أحيائه وضواحي مدنه ولا بية ولا صحة ولا تعليم بعد انهياره الشامل وهو بلا متطلبات الحياة الحرة الكريمة لافتقاده إنسانيته في ظل استعباد وإذلال يومي في عموم تفاصيل يومه العادي!!! كل ما يطعمونه به هو بضع دنانير ومواد غذائية منتهية الصلاحية يعدونها رشى لإسكاته…!!!

فلماذا بعد هذا التوصيف الذي يستلب إنسانية العراقية والعراقي وهو التوصيف الفاضح والمتفق عليه، يصر بعض كتّابنا ومحللينا وسياسيينا والمدافعين عن حقوق الإنسان، على التمسك بـ((عملية سياسية)) وإضفاء القدسية عليها في وقت يتجسد محتواها بالعداء بشكل سافر مفضوح للشعب ومضمون تلك العملية ليس سوى نظام متكامل متكافل في استغلال الشعب وتدمير الوطن. نظام الطائفية الكليبتوقراطي الذي ينبغي تغييره جوهريا

لا أستطيع شخصياً أن أهضم تمسك بعضهم بمصطلح ((إصلاح)) كونه تمسك يخدم نظاما يعادي الشعب وتطلعاته ولا يمكن أن يناسب الموقف المبدئي فكريا سياسيا للمحللين الديموقراطيين ومرجعيتهم الفكرية.. لأنه مصطلح  بات بوضوح معادلا للترقيعات المضللة التي تخدم استمرار بنيوي للنظام الطائفي الكليبتوقراطي..

ولعل التفاصيل التي يكمن فيها شيطان الخطل كثيرة عند المعني بهذه الإشارة؛ إذ أنَّ بعضهم يعزف ليل نهار على دور المرجعية (الدينية) ومساندتها الحراك المدني كأن هذه العبارة المعزوفة آية مقدسة باتت لازمة لبعض المحللين من المحسوبين على اليسار تحديدا، فيفرط بعضهم باستخدامها حتى لا يميز المواطن بين خطاب الطائفيين وبين خطابهم المدني.. فنع في تشويش ولبس آثاره الآنية والبعيدة سلبية بامتياز…

ولربما كان توظيف بعض التحليلات السياسية لدور المرجعية الدينية يتم في سياقات بعينها هي سياقات من بوابة تكتيكية ((مقبولة)) ضمن إطار ما يعالجونه وفيه عناصره الريسة المستقلة؛ لكن تكرار استخدام هذه العبارة ومضامينها، تصير عيبا في تحليلات الخطاب المدني وجوهر ما يريد بناءه أي الدولة المدنية التي تفصل الدين عن السياسة والدين عن الدولة بذات الوقت.

ولنكن على يقين من أنّه عندما تتحول تلك التحليلات في ذكرها موضوعة المرحغية الدينية من العارض الجزئي إلى وجود ارتكازي جوهري فسيشوش على تفكير المواطن البسيط ويُبعد قطاعات شعبية عن المسار المدني لأنهم لن يجدوا تميزاً وفرقاً عما يعيشونه، فيما هم يريدون البديل الذي يعتقهم ويحررهم مما هم فيه..

لهذا فإننا في خطاب الحراك المدني، ينبغي أن نتحدث عن بديل نوعي يعبر عنه مصطلح ((تغيير جوهري نوعي بنيوي للنظام)) ينتقل من الطائفي الكليبتوقراطي إلى الديموقراطي. و لا يتعارض هذا الاستراتيج مع إمكان استخدام تكتيكات آنية تفرضها الوقائع من بوابة إصلاحية ومن بوابة تحقيق مكتسبات تلبي الشؤون المطلبية الجزئية.. وبالأصل لا تعارض بين النضال المطلبي والنضال السياسي الوطني بل يتآزران ويدعمان بعضهما بعضاً…

لكن استخدام تكتيكات ومناورات المعركة السياسية الوطنية من أجل إزاحة نظام الفساد الطائفي لا يجب أن تشوّش خطاب القوى المدنية ووضوحه ودقته.. وتلك التكتيكات وحال القبول بمكسب لصالح الشعشب والوطن لا يعني قطعاً ونهائياً أن نقع في ارتباك التحليل وتبني مصطلحات التيارات الأخرى.. فنحن يجب أن نحافظ على هويتنا المدنية الديموقراطية وأن نمتلك خطابا مستقلا واضحا للتعبير عن هذه الهوية…

إذن، نحن مع كل خطوة تستجيب لمطالب شعبية وتحقق مكسباً لهم؛ لكننا  يجب أن نحمل منشورنا الوطني ونشيد الحرية والخلاص الشامل من عبثية استغلاق دائرة نظام الفساد وسطوته وبلطجته ومن ثمّ أسْرِهِ المجتمع في خيمة التقسيم الطائفي وفكره المتخلف…

إذ أن النظام الذي نتحدث عنه ونتفق على تشخيصه لم يكتفِ بالنهب والسلب والسرقة الكلية الشاملة للثروة الوطنية

بل اندفع إلى التحاصص بهذا القطاع الشعبي لي وذاك لك هذا لجناح طائفي وذاك لجناح آخر وهذا لحزب طائفي وذاك لحزب آخر يحمي هذه المحاصصة مافيات بلطجة وميليشيات عنف وسطوة برافقهما خطاب تضليلي سائد، هو خطاب الإسلام السياسي…

فالشعب هنا عند قوى الطائفية السياسية وقواه ومكوناته هم عبيد تابعين لمحاصصة الطائفيين سواء بالبلطجة أم بالدجل والتضليل وطبعاً بكليهما كما نشهد ذلك ويعيشه الشعب يومياً…

أما مهمة الحراك المدني وفكره السياسي في الشروع بأول طريق التغيير فيكمن في تحرير الشعب بمكوناته كافة من التبعية التي تستغل التضليل والدجل. وهذا يعني أن يتخلى بعضنا عن التمسك بتحليلاته ومصطلحاته (الإصلاحية الترقيعية) التي ساعدت وتساعد بهذا التمسك وبهذا الأسلوب على اجترار  المصطلح الواقع في خانة معجم الطائفية الكليبتوقراطية، أي اجترار يعيد إنتاج فكر الطائفية…!؟

بالموجز فإنّ العملية السياسية ليست تابو على الشعب أن يجتنب التفكير بتغيير مضمونها المشوّه الفاسد. والبديل الذي يتطلب إليه الشعب لا يعني تقديس المضمون الطائفي الكليبتوقراطي وهناك خطل فكري سياسي يعتقد أن (عملية سياسية) هي بديل نظام (الطغيان والدكتاتورية الفاشية) المهزوم. بينما الحقيقة أن كل النظم السلبية والإيجابية هي مجرد مضامين مختلفة متناقضة في إطار شامل اسمه العملية السياسية. وإسقاك الدكتاتورية جاء لتناقضها ومصالح الشعب واليوم سيكون ((تغيير)) النظام الطائفي الكليبتوقراطي واجباً وطنيا لاستعادة حرية المواطن وحقه في الحياة الإنسانية الكريمة. بمعنى أن تغيير نظام الطائفية إلى نظام الديموقراطية هو تغيير مضمون العملية السياسية الجارية واتجاهها من خدمة طبقة الكربتوقراط المصطنعة ونظامها إلى خدمة الشعب وجميع طبقاته وفئاته ومكوناته وأطيافه…

بعض الخطاب الشائع أو ما تمت إشاعته للتضليل يريد الإيهام بأن التوجه نحو مصطلح استبدال و ((تغيير)) يعني أنَّ البديل سيكون الدكتاتورية أو استعادتها وهذا غير صحيح وغير صائب قطعا ونهائيا.. فالقضية كما أوضحنا أن عملية سياسية اصطلاح شامل لمضامين زمنظم مختلفة من أقصى اتجاه لأقصى اتجاه آخر..

وفي عراق ما بعد 2003، فلقد أمعنت إدارة العملية السياسية في بناء نظام معاد للشعب يشبه في عدائه لتطلعات الشعب أي نظام أكثر طغموية شمولية دكتاتورية؛ وعليه فلابد من أن تكون المعالجة بـ((التغيير)) وليس بمنطق ((الترقيع)) المنطق الذي يدعم النظام الطائفي الكليبتوقراطي ويمكّنه من رقاب الناس جميعاً…

إن مسؤولية الوطنيين الديموقراطيين المدنيين هي هنا في الاستجابة لتطلعات الشعب ببديل يحميهم ويتبنى تطلعاتهم ومطالبهم وليس في خطابات تتورط بتشوهات خطاب الطائفية السائد بفساده وتورّط في مغازلة خطيرة لنظام الطائفية الكليبتوقراطي بكل جرائمه التي استباحت البلاد والعباد…

القضية باحترام استقلالية الحراك المدني واستقلالية خطابه ووضوحه وفي اختيار التكتيك المناسب في إطار استراتيج بيِّن واضح دقيق الهدف.. وطبعا هذه الاستقلالية والوضوح هي ما ستكسب جمهورها لأنه يلمس بديلا نوعيا آخر يمكنه بوساطته الانعتاق والتحرر والانتقال إلى بناء عالمه الجديد…

فإلى القوى المدنية، إلى شخصياتها، إلى قادتها، إلى مفكريها وسياسييها، إلى جمهور الحراك المدني الواعي وإلى الجمهور المأسور بخانة الطائفية واكتشف بتجربته وبتفاصيل مرارات ومعاناة يومه أنه سار في الطريق الخطأ وبات يبحت عن بديل، إليكم جميعاً،

هل أثرتُ تساؤلاً مناسباً للمراجعة والتدقيق على اقل تقدير؟

دققوا واضبطوا المسار لتقليل خسائر الشعب ولتجنيب الضحايا أن يكون قرابين أخرى لمذابح الطائفية ودناءات الفساد وقواهما..

اضبطوا خياركم الجديد بترك مافيات وميليشيات دموية نهبتنا واغتصبت عيشنا وأنزلت بوجودنا كل جريمة إنها تسمي نفسها أحزابا وتسمي أداءها عملية سياسية وكل شيء نحياه كما ترونه هو فيض لمياه صرف صحي ماديا في شوارهنا وحول بيوتنا وفكريا سياسيا فيما يضخون من خطاب إعلامي تضليلي ولكن كل ذلك بات مفضوحاً…

اختاروا بين البقاء في طوابير التضحية لعيون الفاسدين وأحزابهم وقادتها أو الانعتاق بالخروج منها واتخاذ خيار الدولة المدنية وخطابها وآلياتها تحترم الإنسان بوصفه اثمن ما في وجودنا…

اختياروا بين الوقوع في ورطة التشوش والتشوه في خطابنا فنبقى اسرى ما يسمى إصلاحا وهو لا يرقى حتى لمستوى ترقيع وبين خطاب مستقل واضح الاستراتيج والتكتيك

فهل أوصلتُ فكرتي بوضوح!!!؟

وهلا تنتبهنا!!!؟

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *