المنطقة بين خيارات الحرب والسلام؟

منذ انطلقت ثورات الربيع الشعبية واتخذت مسار السلام طريقاً للتغيير، جابهت ظروفاً وتعقيدات جمة. فتمّ ابتداءً عسكرة بعض تلك الثورات. وتمّ جرُّها لخيار الحرب. ولكن من الذي كان له المصلحة في عسكرتها؟ ومن الذي يمتلك السبب وراء جرّ المنطقة برمتها إلى الحرب؟ ولماذا؟

بدءاً تعرف النظم الدكتاتورية أنّ نزول الشعب إلى الشارع هو مقتلها ونهايتها.. ومن أجل ذلك فإنّها أرادت حصر الصراع بينها وبين قوى المعارضة من دون بيئتها الشعبية الجماهيرية، ومحاصرتها في إطار معركة مسلحة لا يهمها فيها حجم الخسائر البشرية فيها ولكن يهمها حسمها لصالحها كونها تمتلك الخبرات القتالية ووهي مدججة بأحدث الأسلحة فضلا عن صعوبات حصول المعارضة على السلاح ومعرفة النظام أن تلك المعارضة يهمها ألا تقع الضحايا وسط أهلها…

إلى جانب النظم الطغموية التي قاتلت بشراسة همجية ووحشية غير مسبوقة عندما وجدت لنفسها مع نفير الشعب لإنهاء وجودها وجرائمها؛ سندا إلى جانب ذلك في الصراعات الإقليمية والدولية حيث أثرها المباشر في إشعال الحرب.. ومن هنا وجدنا أنّ النظم التي حوصرت في قصور الاستغلال والظلم قد استعانت بتلك الدول الإقليمية، ولكنها أضعف من التصدي لشروطها في التدخل من جهة وأضعف من صد مخططاتها في التدخل في لحظة حرجة..

لقد شهدنا في ضوء ذلك تدخلات فجة لبعض القوى الإقليمية مثلما حصل في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن. فكانت ميليشيات مقرها وعقلها المدبر في دولة إقليمية وأخرى من قوى تكفيرية تضليلية في دولة أخرى؛ تسرح وتمرح في صراعاتها حيث حطب تلك الحرائق المشتعلة كرها وقسراً هم أبناء البلدان التي تم تسليح الثورات فيها بل إبعادها عن هدفها الإنساني السامي النبيل وحرفها عن أهدافها في دمقرطة الحياة وبناء الدولة المدنية.

وبدل الاقتراب من التأسيس للدولة المدنية وخيار البناء، بطريق السلام حتماً؛ وقعت الواقعة وصرنا لا نشهد سوى الحرب الإرهابية بكل المقاييس. ساهمت في تغذية نيرانها بمختلف الأشكال قيادات غربية برعونة التصورات الخيالية المرضية. مثلا بإحداث ما اسمته الفوضى الخلاقة، لكي تستطيع بعدها لملمة الأمور وإعادة تشكيلها بالطريقة التي تراها على وفق تخيلاتها

الذي حصل أنّ أصحاب تلك النظرية تغافلوا عن الواقع وما يحمله من قنابل موقوتة.. وظنوا أن المجتمع البشري مجتمع موحد الطراز يمكن إدخاله في معامل الاختبار السمترية، والنتيجة هي ما نراه من حروب وحرائقها. طبعاً، استغلتها شركات السلاح أولا ثم بقية القطاعات من شركات النفط وغيرها.. لتعويض ما أحدثته الهزات الاقتصادية في النظام الرأسمالي.

ليس في رأيي قبول لنظرية المؤامرة على وفق ما يشيع من سطوة طرف يدير الكون.. ولكنني أرصد حال التفاعلات واستثمار طرف للموقف واستغلال آخر له واصطراعهما والغلبة لمن يملك الخطة الأنجع في ضوء التوازنات.

المشكلة بالعودة إليها أن أصحاب المصلحة في إشعال الحرب وعسكرة الصراع السياسي هم النظام الطغموي من جهة تقابله القوى المتشددة التضليلية تلك التي اعتنقت حب الدم والعنف ومنطق الكره وصراعاته الوحشية. وهذه ليست ابنة البلاد وحدها ممن أفرزتهم ظروف الضيم فيها وظروف التجهيل التي سمحت باستغلال المراهقين والصبية وبعض الفاشلين المحبطين بل ينتمي إليه شراذم جرى توجيهها من أطراف إقليمية وأبرزها هنا إيران على جبهة ميليشيات جناح طائفي وتركيا على جبهة جناح طائفي آخر لكن هناك جهات إقليمية أخرى تلعب تحت الستار وإن بدا بعض لعبها للمتمعن في المجريات والوقائع..

إن ذكر هذه الدول يستثني شعوبها وقواها الديموقراطية الحية حاملة رايات السلام. ولهذا سنعود لنؤكد أن من يثير الاحتقانات والاحرتابات هي قوى مرضية بهذا المجتمع أو ذاك ولا يوجد سبب للتعادي بين الشعوب إطلاقا.. وعلينا ايضا العودة لنؤكد على أن خيار السلام يبقى الخيار الأمثل والأنجع للشعوب والقوى المدنية وإن طال وامتد طريق التغيير لأنه الأقل كلفة في التضحيات والقرابين التي تدفعها الشعوب بمسيرتها.

ولن تأتي لا دول المنطقة ولا الدول الكبرى إلينا بمشروعات السلام ما لم يكن لدينا خارطة طريق بهذا الاتجاه بخاصة بعد خسارة الجولة الأولى يوم دخلت الخيارات خانقها بفرض خيار الحرب على شعوب المنطقة.

والمقصود هنا القوى المدنية، قوى السلام والتقدم وآلياتها في العودة إلى خيار السلام بعد جولات الدم والبشاعات التي جرت. ومثلما كان الإصرار في البدء على رفض العسكرة، ينبغي أن يتجرع أنصار السلام ما دفعوه من أثمان باهضة ويقبلوا بالحلول التي يمكنها أن تعيد الأمور إلى جادة السداد والحكمة.

لقد مرت سنوات مريرة على الشعوب في ظل سيادة خطاب الميليشيات من جناحي الطائفية فماذا حصدت؟ لم تحصد غير الآلام والمصائب التي حلت ولن تعوّض. لأن الخسائر كانت في البشر وحيواتهم وفي الأرواح وجراحاتها الفاغرة…

أما البديل فليس سوى الشروع بموقف حازم حاسم سواء عند المواطن الفرد برفض الانتساب إلى كل ما له علاقة بالتجييش والعسكرة ومسمى ميليشيا أو جيش أو ما شابه. ومن التحق بها عليه أن يقرر اليوم قبل الغد مغادرتها وترك الانتساب إليها… لأن وجود أي مواطن في تلك الميليشيات يعني مشاركته بخيار الحرب ومن ثم يخدم مشعلي الحروب في جرائمهم. ويرتكبها بحق نفسه وبحق أهله…

كما أنه قد يبرر بعضهم انتسابه بلقمة العيش.. فلماذا يشتري لقمته بدمه أو بدم أخيه!!؟ إنه إن لم يُقتل فسيُقتل أخوه.. فهل باتت لقمة العيش الهنية مغمسة بدماء الأخوة؟ أهذه هي ثقافة العيش الإنساني الكريم؟

إن انسحاب امرئ من تبعية لمستغل متوحش اسمه زعيم الميليشيا، سيكون له أبلغ الأثر في انتشار النزوع إلى الدفاع عن الحق بأنجع الطرق وأسلمها وأكثرها أمانا وسلامةً.. ولهذا ليكن حوار الشبيبة فيما بينها أن يكون العام الجديد عام التفكير في سلامة النفس والأهل والأخوة في الوطن..

أما قضية الدفاع البطولي عن الوطن فلا يمكن أن يكون بميليشيات تشرذم المجتمع وتضعه خلف متاريس الانقسام والاحتراب بل يكون عبر وجود جيشه الوطني ومؤسساته المدنية وهذا لن يأتي بوجود التشظي والتشرذم والاصطراع المفتعل ووقوف المضلَّلين خلف ما يقسمهم ويشعل الحرائق في بيوتهم..

ويوم تنسحب شبيبتنا من ميدان الحرب وتختار ميدان السلام سينطلق البناء والإعمار وإنتاج الخيرات التي تفي الجميع وتفيض. ويومها لن يكون لطرف في الداخل أم في الخارج فرص نهبهم وسرقتهم في جنح غبار المعارك التي يشاغلون بها الضحايا..

إن القضية في خيار السلام تبدأ من هنا .. من وعي المواطن لما جرى ويجري له.. لكن كي يختار المواطن طريقه يبقى بحاجة لجهة تقوده وتنظم حراكه وتستطيع الوصول إليه هناك في محابس الناس خلف متاريس الميليشيات؛ ولسست أظن أن ذاك بمستحيل ولكنه واجب القوى الوطنية في ممارسة الروح الديموقراطي واحترام الآخر وفي تمتين وجودها عبر وحدتها مهما كانت الخلفية لهذه القوة أو تلك فاليوم نحن أمام موقف وجودي مصيري لا يقبل بإثارة الخلافات أيا كان طابعها وخلفيتها..

وطبعا هنا سيكون الصوت الموحد ممتلكا لقوة التاثير في المجتمعين الإقليمي والدولي.. ولا ينسى من يتحدثون عن وحدة أتباع المذهب أن هذه الخديعة هي التي ورطتهم في الحرب مع أتباع المذهب الآخر من نفس الدين ونفس الإيمان وعليه فإن علاقات الشعوب ستكون أعمق وأكثر متانة وانفتاحا عندما تبنى النظم الديموقراطية ودولها المدنية وليس بوجود قشمريات الضحك على الذقون واستغفال من لا يشغل عقله ضمنا عقله الديني بتحدث نظم الدكتاتورية الدينية (الطائفية) عن تأسيسها لطريق تسميه طريق الهداية! فلنتساءل ببساطة: أية هداية في احتراب أتباع الدين الواحد؟ وهل مقاصد النصوص المقدسة تقول وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أم لتحاربوا!!؟

إن خيار طريق السلام هو الخيار الوحيد لشعوب المنطقة والعالم. وهو الخيار الذي نحتاج لكبير التعبئة والخطط وخارطة الطريق لاستعادته سواء بانسحاب المواطن من ميادين الاقتتال والاحتراب ومن الالتحاق بأحزاب الطائفية وأضاليلها أم ببرنامج عمل للقوى المدنية الوطنية لاستعادة المبادرة وفرضها بالتأكيد عبر استقطاب أثر المجتمع الدولي ببرامج تلبي المصالح المشتركة لجميع الأطراف صاحبة الإرادة في السلام في المنطقة والعالم.

ومن المفيد في هذه العجالة الإشارة إلى الهزات التي جرت أوروبيا كي تتوحد الحركات الأممية والحكومات مع هذا الخيار المؤمل أن تشرع به قوى التغيير مستثمرة العام الجديد..

وشخصيا أعول على بذرة الوعي التي تنامت لدى شبيبتنا بالمنطقة ضد كل أقطاب الحرب والعسكرة  والوحشية من دون توقف عند جناح دون آخر ومن دون استثناء هنا لنظام في هذا البلد الخليجي أو ذاك البلد الإقليمي…

فهلا كانت رسالة السلام مقروءة لديكم أيها الأحبة؟

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *