بين فوضى العسكرة وسلامة بناء الجيش الوطني

تُعدّ البنى المؤسسية القانونية الدستورية في أيِّ بلدٍ أساس سلامة هيكلة الدولة في أطر تخدم ضبط الأوضاع العامة وتوجيهها بظلال الاستقرار والسلم الأهلي وإبعاد أيّ احتمال للانفلات أو التجاوز وانحدار الأمور نحو ظواهر العنف والعدوانية والتشظيات التي ينجمُ عنها استفحال ظهور البلطجية وقوى المافيا والميليشيات بمختلف مرجعياتها الفكرية السياسية. ومنذ ولادة الدولة المدنية في بواكير الحضارة الإنسانية، كانت سلطة القانون هي العليا في حفظ الحقوق وإنصاف أبناء المجتمع والحكم بينهم..

لقد تطلبت الأوضاع العامة تأسيس قوات مسلحة مدربة لحماية السيادة الخارجية وقوات أخرى لحفظ الأمن الداخلي ولفرض هيبة القانون وسلطته بوصفه العقد الاجتماعي المحقق للسلم الأهلي وضبط مجمل العلاقات المجتمعية. وهنا القوة المسلحة تحديدا منها بيد مؤسسة حيادية هي الدولة وليست بيد طرف أو آخر مهما كانت التبريرات.

ولا توجد أية فرصة قانونية ولا بأية مرجعية كانت، للسماح باستيلاد أيّ شكلٍ للقوة أو العنف من أطراف غير مرسَّمة دستورياً قانونياً؛ لأنَّ ذلك سيضعف من هيبة القانون وتطبيقه، فيما يزيد من فرص التحديات التي تستند إلى خطاب العنف ومن ثمَّ ولادة خطر الانفلات الأمني.

إنّ نظرة أولية بسيطة في تاريخ الدول والأمم، تكشف لنا أنها في لحظات الضعف والتداعي فقط، جابهت حالات ظهور البلطجية والأشقياء أو ما يسمَّون باللهجة المحلية الشقاوة أو القبضاي أو البلطجي.. حيث دفعت بعض الفئات إلى وجود عناصر حماية لمآربها من جهة ولكنهم في لحظة تالية تحولوا إلى عناصر بسطت سلطانها فوق القانون وباتت تجبي من المجتمع لا الأتاوات حسب بل أموراً أخرى استغلالية فاحشة بمسميات مختلفة؛ حتى وصل الأمر اليوم إلى مرحلة التصفيات والإبادة والتطهير الطائفي والعرقي وغيرهما…!

وفي عصرنا ربما ظهرت أشكال جديدة للمنظمات  الاستغلالية التي تحمي أنشطتها غير الشرعية \ غير القانونية بوساطة عناصر مسلحة فوق القانون! مثل منظمات المافيا والعصابات المنظمة المحلية والدولية.. كما ظهرت مجموعات مسلحة وأجنحة مسلحة لقوى سياسية بعينها.. وكل هذه تشكيلات لا تخضع للقانون في الدول الدستورية كما لا تخضع للشرعية الثورية التي تستدعيها ثورات الشعوب ضد اجتياحات خارجية مسلحة.. ومن ثمّ فهي تشكيلات مسلحة تتقاطع ومصالح الشعوب وتطلعاتها في العيش ببيئة السلم الأهلي وتتناقض وكل اسباب الشرعنة السليمة.

ولمن يقرأ تاريخ الدولة العراقية، سيجد أن الجيش الوطني بقي سبباً لضمان استقرار الدولة ومنع الاعتداءات الخارجية والفلتان الأمني حيثما استند لمهامه الدستورية في النهوض بمهامه.. ولهذا السبب شارك الجيش بطليعة ضباطه الأحرار بتحقيق ثورة 14 تموز 1958 مثلما رفض توجيه الضربات لأبناء الشعب في خمسينات القرن الماضي وببعض المراحل من تاريخه.. لكن مع ظهور الاختلال البنيوي للسلطة وصعود الطغاة وإلغائهم القانون تمَّ تجيير الجيش لمطامعهم الدنيئة على حساب الشعب ومكوناته؛ ما استدعى ولادة التشكيلات المسلحة المقاومة بالاستناد إلى الشرعية الثورية، كما بمثال قوات البيشمركة التي جسدت الجيش الوطني لحركة التحرر القومي الكوردية…

وبالانتقال إلى أوضاع الدولة العراقية بعد العام 2003؛ سنجد أنّ حل الجيش وعدم بناء بديل وطني، قد تسبب، طوال المدة المنصرمة بمنح أحزاب الطائفية فرص تعزيز تشكيلاتها الميليشياوية المسلحة على حساب تنمية الجيش الوطني ببغداد؛ وهذا دفع لإضعاف فرص الدفاع عن سيادة البلاد وحدودها المستابحة، مثلما دفع لأسوأ انفلات أمني تشهده الدولة العراقية في تاريخها القديم والحديث.. باستثناء إقليم كوردستان الفديرالي الذي حافظ على أوضاعه عبر سلامة بنية قوات البيشمركة المؤسسة على خلفية مبدئية عقائدية، تحترم مهامها في الدفاع عن قضايا الشعب وسلامته ومصالحه…

إنّ البدائل المنتظرة على صعيد العراق الفديرالي وعاصمته الاتحادية \ بغداد تكمن في إعادة بناء الجيش الوطني العراقي برؤية عسكرية تحترم القانون وتكون مهمته الرئيسة الأساس والحاسمة حماية سيادة البلاد من التدخلات والاعتداءات الخارجية والمساهمة في ضبط الأوضاع العامة ضد الخروقات الخطيرة الجارية من طرف شراذم القوى الإرهابية وأمثالها ومن دول إقليمية معروفة.. وهذا يقتضي الحرص أولاً على منع أية تشكيلات ميليشياوية تقف بوجه سلطة القانون أو حال تقديمها من قياداتها على حساب الجيش الوطني..

ولا مجال هنا لامتداد فرص بقاء الميليشيات، لأنّ ذلك سيبقى السبب الأخطر في انفلات الأوضاع وفي بلطجة الدولة والشعب من تلك القوى العنفية المسلحة التي تخضع أولا لزعاماتها ولمآربهم التي تسوّق لقوى إقليمية أو دولية في الساحة العراقية، مثلما تسوق لمنافع خاصة لقوى الفساد بوساطة إرهاب المجتمع برمته.

وبقدر تعلق الأمر بضرورات وجود المتطوعين العراقيين دعما لفعاليات الجيش الوطني يلزم أن يكون تشكيل تلك القوات على أساس مؤسسي قانوني تضبطه الدولة ودستورها ويكون خاضعا لإرادتها السياسية ولقراراتها وتوجيهاتها وللقيادة العسكرية الوطنية الموحدة وألا يتشكل من اتحاد أو تنسيق بين مجموع الميليشيات وقياداتها بشكل ينافسون فيه الدولة وسلطتها وقيادتها المؤسسية مثلما يجري اليوم بمختلف المسميات التضليلية.

بالمقابل يرصد المتابعُ، اليومَ، بعضَ الأطراف الميليشياوية باتت تدفع باتجاه اختراق كوردستان بذريعة وحدة التراب الوطني العراقي وتلك القوى ليست سوى جهات ميليشياوية باسم حركاتها السياسية الطائفية التي خرّبت الوضع الأمني بمجمل المحافظات العراقية ولربما كان دخولها إلى كوردستان استكمالا لذاك التخريب السرطاني الخبيث!

ونظراً لفشلها في اختراق الحدود الكوردستانية، نجد أنّ القوى الإقليمية الممالئة المتحكِّمة بها، من خلف الستار؛ باتت تدفع قوى حزبية في كوردستان، سواء باعتماد مكونات مجتمعية من أتباع الديانات أم باعتماد بوابة السليمانية المحاذية لإيران كي تؤسس تشكيلات ميليشياوية خارج سلطة الدولة، وخارج سلطة البيشمركة القوة الرسمية الوحيدة المعتمدة للدفاع عن كوردستان ووجودها…

إنّ رفض تشكيل قطعات فئوية باسم جهات بعينها تدَّعي تمثيلها لأتباع دين أو قومية، هو أمر يبقى في صميم سلامة القرار. وهو أمر يلزم التمسك به كي لا تتشرذم الأوضاع وتتشظى فتخلق متاريس المصالح الحزبوية الضيقة.. وفي مرحلة  تالية تقدم أتباع الديانة أو المنتمين إلى قومية، تقدمهم قرابين وأضاحي للزعيم ومآربه ولاقتسام الناس غنائم فيما بينهم كما جرى ويجري في القسم العربي من العراق منذ 2003 حتى يومنا، وهو النموذج الأسوأ الذي يجب الحذر منه في التجربة الكوردستانية. ولقد كان قرار منع تلك التشكيلات الخارجة على القانون سليما وسديداً في ضمان دستورية المؤسسات كافة ومنها الجيش الوطني، هنا تمثله البيشمركة بوضوح.

الخطر يتكرر، والمغامرة تعاود الإطلال علينا هذه المرة، عبر تصريحات بل أبعد منها بمحاولات تشكيل قوات ميليشاوية لحزب، انشطر عن الاتحاد الوطني قبيل سنوات. ولعله وهو في طور الولادة والتشكيل والدعوة للتطوع إليه بات يطلق تصريحات رنانة ويبيع عنتريات محاولا تسويق بلطجته بالعنف المسلح! فما بالنا إذا ما تمكن من تشكيل تلك الميليشيا بتدريبات دولة مجاورة لا تخفي وجودها ودفعها المتعمد المقصود لمزيد تشكيلات شبيهة.. والقصد بالتأكيد شرذمة الوضع وتشطيره وانقسامه، بل واحترابه!

إنّ سلطة القانون تسمح بل تفرض المحاسبة، بكل أشكالها، لمن يخرج عليه وتسمح باعتقال من يتمرد على سلطة الدولة والمجتمع وعقدهما الاجتماعي[الدستور] ومنع استفحال أمره بخاصة مع وجود أصابع خارجية لاختراق أوضاع كوردستان وزعزعتها… ومن هنا فإن العلاج يبدأ مبكرا منذ الآن بتنفيذ كل ما تفرضه القوانين على الجميع ومنع استيلاد تشكيلات ميليشاوية خارج الدولة وخارج البيشمركة..

ولابد هنا في الظرف الراهن من التأكيد على تعبئة المجتمع للوقوف مع وحدة قواته، قوات البيشمركة.. ومنع استيلاد تشكيلات خارجها؛ وإخضاع الجميع لسلطة الدولة وقوانينها الدستورية..

وهذا التوجه يتطلب تفعيلا لمأسسة كل حراك مجتمعي رسمي وشعبي. ولضبطه بالدستور وبسلطته الشاملة. والوضع في كوردستان غيره في القسم الآخر من العراق الفديرالي. وما ينبغي السير فيه هو تعزيز الاتجاه العام للاستقرار ولسلامة البنى المؤسسية في كوردستان ونقل ذياك النموذج إلى مجمل الوضع العراقي وليس العكس. أي ليس بنقل التشرذم والتشظي والتمزق والتمترسات العنفية المسلحة خارج سلطة القانون إلى كوردستان كما تحاول قوى معادية!!

ربما تطلب هذا موقفا وطنيا تُجمع عليه القوى الكوردستانية وتضعها القيادة أمام مسؤولياتها وربما تطلب هذا موقفا مجتمعيا بخاصة من منظمات المجتمع المدني بأن تتصدى لتشكيلات عسكرية خارج القانون وأنْ تدينها الآن وليس غدا.. وأن ينبري الإعلام بحملة تعبوية ضد تلك الممارسات وضد أية محاولة لبناء حصان طروادة فشلت في بنائه قوى أخرى…

ما يلزمنا توكيده هو خلق أرضية تمنع التعامل مع مثل هذه القوى التي تريد تخليق أو اصطناع بلطجية فوق القانون وإدخال عناصر أجنبية معادية تتخفى اليوم ولكنها ستظهر بعدائيتها ووحشيتها في القريب!

كما نريد تفعيل الرأي العام للوقوف مع سلطة القانون والدولة ضد كل محاولة لإضعافها وعلى الجميع أن ينظر إلى التجربة في القسم العربي من العراق حيث الميليشيات تتحدى الدولة وتتحدى الجيش الوطني وتنظر إليه من فوق وهي تسطو على المشهد ولا تكتفي بالبلطجة على المواطن المسكين بل تضحي بهذا البرئ فيما صارت تبلطج أبعد من ذلك على الدولة برمتها!! فهل يقبل الكوردستانيون الذين التفوا حول البيشمركة العقائدية المدافعة عن حركة تحرر قومي عريقة؟ هل يقبلون بشرذمة أوضاعهم على وفق ما يطرحه هذا الزعيم أو ذاك من القوى الحزبية ذات الصلات مع أطراف خارجية معروفة المواقف تجاه كوردستان وشعوبها!؟

لدي القناعة بأن الشعب العراقي وشعب كوردستان سينتصران لإرادة دولة مؤسسية يحكمها القانون، دولة مدنية قوية تستند إلى وحدة قواتها وليس إلى شرذمتها بين مجموعة ميليشيات باتت اليوم بلطجية زمننا وشقاواته بعد انقراض البلطجية والشقاوات في الخمسينات مع ثورة تموز ولكنهم يحاولون العودة اليوم بقطارات إقليمية ودولية ليست خافية على وعي شعوبنا.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *