التعليم طريقنا نحو التنمية والتقدم الاجتماعي

في كل المجتمعات المعاصرة، لم يعد ممكناً إغفال الدور الرئيس لإعداد الطاقات البشرية للعمل قبيل أية خطة بنيوية جدية يراد منها البناء والإعمار، البناء بشقيه المادي والروحي. إذ أنّ أسس العمل تغيرت مع تغير عاصف بمفردات البناء. فمن دون طاقات بشرية متمكنة متخصصة لا يمكن تلبية أسس الحراك الاقتصادي الناجع. الذي سيكون بدوره أي الاقتصاد، أن مساهماً في إعداد مستلزمات التعليم، ومن ثمّ في تعزيز الوجود المجتمعي برمته..

ومن أجل الوصول إلى حجم كمي ونوعي مميز لمخرجات التعليم سيتعين علينا رسم استراتيجيات جدية فاعلة؛ تستشرف الرؤى المستقبلية في التخطيط وإدراك المتغيرات المنتظرة ومتطلباتها، مع توسع بالأداء التعليمي بما يشمل الطاقة البشرية جميعها على أساس تكافؤ الفرص. ثم استثمار الموازنات السليمة المثلى للقدرات المجتمعية مع توفير أفضل إمكانات توظيف البحث العلمي المتصل بميادين الحياة فضلا عن التمسك بمبدأ التعليم المستمر الذي يتابع أحدث المستجدات ويفسح فرص الابتكار والتجديد.

إنَّ التنمية الشاملة تستند إلى عنصرين رئيسين هما: العنصر البشري والعنصر المادي. ولكن العنصر المادي لا يمكنه أن يكون مطواعاً للتنمية مفيداً من دون رأس المال البشري بوصفه العنصر الكفء، القادر على إحداث التحويلات وإدارة عجلة الاقتصاد والتنمية برمتها.

إننا نجد أن انتقال مركز ثقل أنشطة التنمية من المعامل والحقول إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي قد فرض شروطا متغيرة جديدة لبيئة  التربية والتعليم وأهدافهما وتوجهاتهما بالاستناد إلى تأثيرات متصاعدة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية. وهذا سيتطلب نشر هذه المتغيرات المعرفية والتحول من المنجز الفردي إلى أسس العمل بفرق إنتاج المعرفة والابتكارات البحثية والابتعاد عن منطق التعليم الملائي القائم على الاختزان والتحفيظ إلى التعليم الإبداعي المنتج؛ حيث تصيح جودة التعليم الشاملة لا أمرا شكلياً كمالياً بل قيمة جوهرية ضامنة لمستقبل المجتمع ووجوده. مع الالتفات إلى الفروق بين المهام التنموية في المجتمعات الفقيرة والمجتمعات الصناعية بحسب الحاجات المباشرة.

لهذا ينبغي لأي أمة أو مجتمع ينشدان التنمية الحقيقية وإثبات الوجود حاضراً ومستقبلاً، أن ينتبها إلى أنَّ معدلات النمو الاقتصادية تعود إلى عوامل غير منظورة تؤشرها حال التحسن في نوعية العوامل المادية تلك التي بدورها تعود إلى التحسن في نوعية العنصر البشري بمعنى التحسن بمخرجات التعليم أو بالجودة الشاملة فيه. ولعلنا نؤكد هنا إلى أنه في وقت كان العنصر البشري سببا لارتقاء بلدان التقدم التكنولوجي، فإنّه أيّ العنصر البشري كان سبب التخلف في البلدان النامية، لتدني مستوياته النوعية وهزال قدراته على إدارة مؤسسات الدولة والإنتاج..

على أن القضية هنا، ليست قضية ركن تعليمي بحت بل هي أشمل منه في الإعداد الروحي النفسي والثقافي التنويري بمعنى إدخال الركن التربوي بالمعنى القيمي الذي تشارك فيه منظمات المجتمع المدني ودور الثقافة والإعلام، طبعا باتجاه تنويري مازال متعارضاً بوضوح مع ما يسود في البلاد من القيم الماضوية السلبية وتلك المستغلة للدين مما يُسقِط القدسية على رجالات الخواء والتخلف والتضليل ممن يتقاطعون مع مسار التحديث في مجريات التنمية بأسسها المعاصرة.

وهكذا سنجد أنّ فلسفة التخلف تضيع الإنسان في خزعبلات وغيبيات لا محدد لها، وهي تحيل حتى التعليم الذي يمكن قياسه كمياً إلى أداة من أدوات الفساد وإضاعة الميزانيات الاستثمارية بمخرجاته الهزيلة أو غير المرسومة على وفق منطق السوق وحاجاته..

وبعكسه تسعى التربية بمعناها الأحدث إلى التكامل مع التعليم بقصد تحويله إلى أداة استثمار بنيوية يمكنها رفع القدرات الإنتاجية وتحقيق أفضليات ملموسة كمياً في الاستثمار عبر استيعاب التطور التكنولوجي الأحدث وتعزيز مساهمة كل فئات المجتمع بخاصة هنا دور المرأة والحد من هجرة العقول بتحسين الدخول وإشاعة الديموقراطية وتكافؤ الفرص.

والقضية ليست حصرا بــ التقدم التكتولوجي من جهة وجود الأجهزة المستوردة من دول التقدم، مع أنها سبب من أسباب التنمية ولكن القضية في مقياس العائد الاجتماعي للاستثمار في التعليم بالاستناد إلى طابع المخرجات وأدائها أو انخراطها بنيوياً في الأداء الإبداعي داخل الدورة الاقتصادية برمتها. فمن دون ثقافة شاملة لا يمكن إدارة آليات العمل الأحدث إلا باجترار المستورد بطريقة سلبية لا تفضي إلى نتائج جوهرية. مؤكدين هنا إذن على مخرجات عملية تعليمية نوعية مؤملة..

وما نتحدث عنه هو أحد المحاور في منظور جودة التعليم وما يجنيه من التقدم التكنولوجي؛ ذلك أنه فضلا عن هذا المحور يبقى البحث العلمي ومهام التنمية والتطوير محور آخر جد حيوي في ربط الدرس العلمي ومنجزه بميادين العمل وبسوق العمل عالمياً بكل حداثته. وهذه الإشكالية مازالت عملياً دون خط الفقر العلمي بل دون خط الأمية المعرفية في مستوى الاهتمام الاستثماري فيها بأغلب بلدان منطقة الشرق الأوسط ومنها العراق.

فبالنظر إلى الأرقام وسجلاتها سنقرأ الآتي من كارثية المشهد: فالنشر البحثي لا تساهم به هذه الدول إلا بنسبة تقلّ عن1% فيما تؤكد التقارير الأممية (اليونسكو مثلا) على أنّ نسبة ما يخصص للبحث العلمي لا يتجاوز 0.11 % ونسبة الإنفاق إلى الفرد بين0.3 إلى 30 دولار بينما تصل إلى 600 دولار في أمريكا  واليابان التي يصل فيها عدد المتفرغين لقوى العمل حوالي 10 إلى 1000 بالمقابل لا تتجاوز النسبة 0.2 عربيا، دع عنك حال التعطل الفعلي لمخابر البحث العلمي لأسباب متنوعة.

وبعامة يمكننا تسجيل مظاهر الفشل في النظام التعليمي والبحث العلمي انطلاقا من جملة وقائع، أخرجت نظامنا من المعايير الدولية للجودة وللتنافس الإيجابي المفترض.. فنظامنا بات يخضع لإرادة سياسية مشلولة عن قصد وترصد وهو يتبنى ويخضع لفلسفة ذكورية مرضية مقيتة بسبب من سيادة العنف من جهة وسطوة مفاهيم التخلف الماضوية وإشاعتها حتى داخل المؤسسة التعليمية وشرعنتها بقرارات مسيّسسة من عناصر الحكم الطائفي؛ ولقد شهد التعليم تفاوتاً حاداً فجاً بين الذكور والإناث، وكذلك بين الريف والمدينة وبين الأحياء الفقيرة والغنية حيث وصلت نسبة الفقر مستويات خطيرة مع بروز فجوة فقر ظاهرة مميزة. فوجدنا التسرب بنسب كبيرة وتفاقم نسب الأمية والنقص في المباني والتجهيزات وفي كفايات التدريس وآلياته التي استعادت الطريقة الملائية وأدخلت طقسيات لا علاقة لها لا بعلم ولا حتى بدين..

إنّ تدخلا جوهريا من الحكومة يظل واجباً مطلوباً من قبيل توفير مجانية التعليم ودمقرطته وإشاعته للجميع وتعزيز استيلاد الطبقة الوسطى كي يتم حفظ النظام الاجتماعي والاستقرار فيه، بالاستناد إلى ما يحققه التعليم الصحي السليم من إعادة توزيع للدخل في ضوء منع الاختلال بالنظم الإنتاجية..

 والتعليم حاجة استهلاكية استثمارية كونه يسد الحاجات المعرفية من جهة ويطور أو ينمي إمكانات الفرد والمجتمع على إنتاج الخيرات المادية والروحية إذ أن حوالي 70% من أسباب التحسن المعيشي متأتية من تطوير الكفاءة البشرية وتنميتها بينما لا تزيد نسبة مساهمة تراكم رأس المال على 20 أو 30% في أعلى النسب. وأبعد من ذلك يفضي إلى التطور والتفتح العقلي العلمي فيرتقي بالمجتمعات ويمنحها فرص التنوير والتقدم الأشمل. كما يعزز التماسك الاجتماعي عندما يعالج فجوة الفقر وتوزيع الدخل فيؤسس أرضية مناسبة للاستقرار وإبعاد شبح تضخم تشكيلات العنف والاصطراع المسلح التي تستغل الجهل والعوز المادي وحالات الانقسام الحاد بنيويا.

إننا نشاهد تسارع التنمية مع زيادة عدد المتخصصين في البلد فبينما كان العدد بحدود الـ6 آلاف عالم ومهندس باليابان و2600 في كوريا وسنغافورة لكل مليون شخص لم يكن عربيا أكثر من بضع عشرات لكل مليون مع حساب هجرة العقول بخاصة في العراق بعد جرائم التصفية الجسدية وأعمال الابتزاز وافتقاد الاستقرار والأمن…

ومن أجل الاختزال في هذه المعالجة التي تنتظر مزيدا من البحث والتقصي، نؤكد على ضرورة الآتي:

  1. وضع الميزانيات المناسبة للتعليم وتحديث نظمه وتوفير بنية تحتية سليمة له.
  2. ضرورة كفالة تكافؤ الفرص في التعليم وشمول الفئات الفقيرة سواء بمجانية التعليم أم باشكال الدعم المادي والمنح المناسبة2.
  3. ضرورة ممارسة دمقرطة التعليم ونشر الحريات في المؤسسات التعليمية والمدنية الثقافية منها تحديداً.
  4. إنهاء الأميتين الأبجدية والثقافية ونشر الخطاب التنويري وحظر اشكال الدجل والتضليل المؤسس لمنطق الخرافة والتعصب والكراهية والعنف.
  5. الاهتمام بأنواع التعليم على أساس الاستجابة لسوق العمل وطابع المهام البنيوية للتنمية وإيلاء اهتمام كافٍ بالتعليم المهني والتعليم المستمر.
  6. الاهتمام بالبحث العلمي ومهام دراسة الظواهر المجتمعية المادية والروحية السائدة وإيجاد أنجع الحلول والمعالجات لها.
  7. إيلاء اهتمام مناسب بالعلوم الإنسانية وأدوارها الوظيفية بما يعادل تلك العلوم التطبيقية ومهامها التنموية ورفض حالة مصادرة الطابع العلمي لاليات اشتغالها.

ويبقى الموضوع بحاجة للقرار والإرادة السياسية، التي ربما نجدها في كوردستان مناشدين هنا بسرعة اتخاذ المبادرة لتكون نموذجا إيجابيا في إطار العراق الفديرالي..

فهلا كان عام 2016 عام التعليم وتحديثه، أرضية للمستقبل الأفضل؟

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *