ما الأولوية في المواقف السياسية  تجاه التجربة المصرية؟

ربما لم يكن سؤال العنوان مصاغاً ليشمل الهدف المبتغى بمفرداته كافة أو ليوضحه بصورة مباشرة. ولكن، بغية الوصول المتكامل لذاك الهدف ومعالجته؛ لابد من التدرج في التوضيح. فبدءاً، نجد في الشأن العام مواقفاً متناقضة متعارضة أنها تعود إلى تيارات سياسية مختلفة بمواقفها من القضايا الحياتية.. كما أنَّنا نجابه، أحياناً، اختلافاً بين منظري تيار واحد، في الموقف من هذه القضية أو تلك، بالاستناد إلى حجم الخبرات وعمقها وثباتها نوعياً لدى من يتخذ الموقف.

وبشأن القضية المصرية، كلنا يعرف حجم التحشيد الشعبي الذي تمّ ليصل إلى التتوييج في 30 يونيو حزيران. ومن ثمّ شاهدت شعوب العالم موقف الشعب صريحاً علنياً واضحاً، بنزول تلك الملايين التي مهما اختلف في تقديرها فإنها كانت تصويتاً لا يمكن تجاهله. ومثلما تمَّ التصويت في انتخابات أتت بظروفها الملتبسة بحكومة الأخوان، عاد الشعب في 30 يونيو، مضطراً هذه المرة للنزول بنفسه وصوته إلى الميادين ليحسم الموقف ويسحب الثقة منهم وقد جاؤوا بصناديق مشكوك بها ليعيد الأوضاع إلى سلامتها بحر صوته المباشر الذي لا تستطيع جهة تزويره والتلاعب به وقد نزل إلى الميادين بكليّته وبجموعه ومكوناته كافة…
وللتأكيد فإنه، في أصل ذاك التصويت الانتخابي الذي زعم الأخوان فوز ممثلهم للرئاسة فيه، هناك رؤية ومراجعة واجبة؛ ولكن الشعب ترك التجربة تمضي للتعرف إلى الأداء، انتظاراً لتداولية انتخابية تالية.. وحين وجد خيانة الأخوان الأمانة وتوجههم لـ(أخونة) مصر وإلغاء التنوع والتعددية واسس الحياة الحرة وحين اكتشف جريمة بيعهم تراب مصر وسيادتها وأنكى من ذلك، جرائم استيلادهم الجماعات المتطرفة وتدريبها تحت سلطتهم، بات جلياً أنَّ الأمور لا تحتمل الانتظار حتى الجولة الانتخابية التالية، لأن الأخوان لم يستمعوا لإرادة الشعب ومطالبه وتوجهاته لبناء نظام ديموقراطي مدني جديد، وما عاد بتوجههم نية لدورة انتخابية جديدة حيث راحوا يبلطجون الأجواء بجريمة الأخونة والانفراد المطلق بالسلطة وامتلاك الأرض والناس…!
فكانت ثورة 30 يونيو التي دعمها الجيش الوطني المصري بوصفه حامي الدستور وأداة الدولة للدفاع عن مصالح الشعب وإرادته وتطلعاته. ومع ذلك، فمازال بقايا من بعض طبالي (الأخوان) يلهجون بأن 30 يونيو انقلاباً عسكرياً!!؟ وتلك سخرية التفكير السياسي والانحطاط به لمصلحة زعران السياسة وبلطجيتها ومراهقيها. إذ أنَّ ذاك التوصيف لا يستند إلى علم السياسة ذاته يشيء؛ ومن يطلقون ذاك التوصيف، يتجاهلون هنا، كون السمو الدستوري يبقى للشعب وصوته؛ وأنه يبقى صاحب الحق في سحب تفويضه الذي منحه بصناديق الاقتراع.. وسحبه التفويض يأتي رداً على خيانة العهد و\أو انحراف الحكومة، انحرافاً خطيراً، عما تكلفت به دستوريا.. وعليه فتلك ليست ثورة بالمعنى الانقلابي المتحدد بالعسكر ومنطق انقلاباته المعروفة في بلدان العالم الثالث، ولكنها ممارسة دستورية لاستعادة السلطة ووضعها بالأيدي التي يراها الشعب أنسب لتمثيل مصالحه.
وأمام الأوضاع الجارية في مصر، بمجمل تناقضاتها، نجد التهديدين الداخلي ممثلا بالأخوان ومجموعاتهم الإرهابية التي زرعوها وتم تهيئتها لمثل هذه اللحظات كي يحاربوا الدولة عندما يستعيد الشعب سلطته فيها.. وتهديد خارجي بقوى الإرهاب المدعومة إقليميا ومن المافيا الدولية. أمام هذه الأوضاع؛ ما الموقف السياسي ذا الأولوية تجاه الأوضاع بمصر؟
إنَّ ترديد نغمة أن الحكم بمصر هو حكم غير ديموقراطي، هو تشخيص يستند لعبارة حكم العسكر التي يرددها (الأخوان) ليل نهار حتى ملَّتْهم أسماع جمهورهم أنفسهم. إذ كيف يكون حكم العسكر؟ وكيف يمكن توصيف النظام بحكم العسكر في ظل المتغيرات التي التزم بها الجيش الوطني المصري الذي استجاب لإرادة الشعب في وقف جريمة الأخونة وضد سرقة المسار الديموقراطي لصالح أحاديةٍ مقيتة ومن أجل إنهاء حكم  الدكتاتورية الدينية أو في الحقيقة الدكتاتورية المتسترة بالدين!؟
وفي المرحلة الجديدة، فلقد تمت انتخابات ديموقراطية بإشراف أممي وحقوقي واضح لكل مستويات الدولة ومسؤولياتها بدءا بالدستور المدني الذي يرفض التمييز الديني والتعكز على خطاب مشوه فيه خدمة لمآرب الأخونة ومرورا بانتخابات الرئاسة والبرلمان وهكذا.
بالتأكيد لا وجود لمثالية مطلقة ونماذج مكتملة حد المطلق في أية بنى للديموقراطية. ومن جهة أخرى، ندرك أنه لن يكون وجود عثرات و\أو هفوات أمراً إشكاليا يتعارض وتشخيص النظام بكونه ديموقراطيا.. ولكن الأساس في الأمر هو أن نلمس ممارسة الفعل بأسسه السليمة الصحيحة الصائبة جوهريا وبالخط العام، وهو ما جرى بظل المرحلة الانتقالية لما نراه اليوم بمصر.
ومن هنا، يمكننا أن نؤكد تشخصينا لديموقراطية النظام وخطه المدني الوطني وسلامة توجهاته العامة، وأن ننتقد ونعالج تلك الثغرات والأخطاء التي قد تظهر وتطفو في مسيرة العمل بلا خشية أو تردد أو خوف. بخاصة هنا حيث يكون النقد موضوعياً بنائياً وليس لخدمة أغراض وغايات مرضية تخضع لمآرب ضيقة لأطراف عملت وتعمل على تخريب البلد..
إن الإسلام السياسي برمته يعمل على التخريب في ضوء إسقاط القدسية الدينية المتوهَّمة الكاذبة، على حراكه.. وفي إطار ادعاءات ذاك الإسلام السياسي لتمثيله الحصري لله على الأرض بما يصادر فيه الحرية البشرية التي لم يخل منها نص ديني صحيح، أو أيّ نص لم تشوهه إرادة حركات الإسلام السياسي بكل توجهاتها وتنوعاتها..
إننا في الموقف من النظام بمصر لا نراه نموذجا مثاليا للديموقراطية معصوما من المثالب ولكنه بالجوهر كما اشرنا للتو، يمثل الصوت الذي استجاب لخيار الشعب المصري أولا وللروح المدني وقوانينه التي ترفض اجترار الدولة الدينية وآلياتها؛ بمعنى ترفض لعبة اجترار الدولة المتسترة بالدين.. وبصيغة أدق، فإنّ الموقف يحتفظ بإيجابيته وتضامنه التام مع مصر توكيداً لخيار مسيرة الدولة المدنية اليوم، وأبعد من ذلك، الإيمان بأن ما يجري، يؤسس للتوجه نحو مزيد من إحلال الديموقراطية نظاما حياتيا بكل مفاصل الدولة..
لكن، مع التقدم بهذا الاتجاه، تجابه المسيرة محاولات اغتيال إرهابية، يمكنها أن تعقّد الأوضاع وتعرقلها وربما تحقق مآربها في وقف المسيرة! لذا لابد من التدرج في جهود التقدم نحو هذا الأفق، أفق الديموقراطية، حيث يستلزم الوضع مزيداً من الاحتياطات وأشكال الحذر،  يمكنها أن تعزز خطى فرض هيبة الدولة ضد محاولات إشاعة الفوضى وتهشيم الأوضاع وشرذمتها؛ كما يبتغي أصحاب التفجيرات والاغتيالات وجرائم التصيّد للدولة ومؤسساتها ومثيري القلاقل ومحاولات هز الاستقرار والسلم الأهلي.
إن من يجابه هذا  آنياً مرحلياً،  ليس غير الجيش الوطني والمؤسسة الأمنية؛ لكن هذا يجب أن يلتزم شرطاً، هو أن يكون بالترافق مع مهام إشاعة التعليم ومحو الأميتين الأبجدية والحضارية في أوساط ملايين الذين جرى تجهيلهم وتهميشهم. مع تنقية مناهج التعليم من سوداوية المفردات وظلاميتها ومن خطاب الخرافة واجترار آليات ملائية كتاتيبية تلغي العقل. وهنا نستعيد تشغيل العقل المصري بمنهج علمي صحي صحيح، عمره بمصر آلاف السنوات والأعوام والمنجز الحضاري التنويري المميز.
ولعل خير مثال على ذلك مناهج الأزهر التي نجد عناصر تنويرية فيه، باتت اليوم أقوى عزيمة بالاستناد إلى إرادة الشعب في التوجه نحو تعديل بل تصحيح تلك المناهج وتخليصها من التشوهات المرضية التي عشعشت فيها لعقود طويلة…
من الطبيعي أيضا أن نسجل وجود ثغرات في ممارسات أجهزة السلطة، بعد عقود من الدكتاتورية؛ من قبيل طابع الثقافة المنتشرة عند حجم غير قليل من منتسبي الداخلية الأمر الذي يتطلب ثورة فكرية سياسية بتدريبهم على قضايا حقوق الإنسان والخطاب والأداء الديموقراطيين. وتلكم قضية لا تعني أن نقف ضد جهود ضبط الأمن الذي يتعرض لهجوم القوى المضادة داخلياً خارجياً. كما لا تعني وجود مسار باتجاهها إيجابياً بل المصريون يلمسونها عملياً..
والموقف الذي ينبغي اتخاذه اليوم يتجسد في أعمق جهود التضامن مع شعب مصر وحكومته في التصدي لمحاولات الاختراق من طرف الإرهابيين وشراذم مجرميه وبلطجيته وما اكتنزته من أموال الفساد السياسي عندما نهبت الخزينة المصرية لتستغلها اليوم سواء في شراء الذمم أم في تجهيز جرائمها ومجرميها بسلاح التخريب وخطط التدمير…
والمصريون ليسوا بحاجة لنصيحة هنا فلديهم مفكرون وساسة وطنيون ولديهم جيش وطني عريق بتمسكه بقيم الوطنية وبالتمترس خلف مبادئ حماية الشعب وسيادته وحقوقه وحرياته.. ومن ثمّ فإن دعم مصر اليوم الذي بدأ بتعاضد جهود المصريين فيما بينهم للتصدي لمحاولات الاختراق وقلقلة الأوضاع، إنَّه أي دعم مصر، ينصب بتضامننا مع تلك الجهود.
وإذا كان الأزهر المؤسسة الدينية التعليمية قد دخل بمسيرة التغيير والدفاع عن مسيرة التنوير ضد الأخونة فإنه من الأحرى بالتنويريين وقوى المدنية والديموقراطية أن تتقدم الصفوف في التصدي لدعوات الإخلال بالأمن العام وإثارة أعمال الشغب خلف ما يسمى التظاهر السلمي والمصريون أدرى بتلاعب بل بعبث الإسلام السياسي في تحويل المصريين إلى منصة لمآربهم وغاياته في لقلقة الأوضاع وتخريبها.. وأدرى بالإسلام السياسي، يوم سرق انتخاباتهم و سطا على الدولة وحاول أخونتها ونهب ثروات المصريين ما يعني أنهم لن ينخدعوا بخطابات منمقة اليوم ولا بتضليل سياسي  من ذاك الذي يتعكز على تأويلات للنص الديني ليخدع به بعض الأميين؛ ولكن حتى هؤلاء وصلتهم الرسالة بالتجربة العملية مما يُرتكب من جرائم ومقاتل وإثارة قلاقل وشغب؛ لعل أخطرها نداءات مسمى الجهاد الذي أحرق الأخضر واليابس بالبلدان التي سمحت باختراقها من طرفه مثلما العراق وسوريا واليمن وليبيا؛ لكن مصر لن تقع كما كبت تلك البلدان وشعوبها..
إن الموقف اليوم يكمن في أعمق تضامن مع مصر والدولة المصرية المدنية، من دون نسيان أشكال التنمية والتطور عبر النقد الموضوعي الذي يساعد على تجاوز العقبات والثغرات والذي يخدم تعميق الخطى نحو تلبية حقوق الإنسان بصورة أكثر سلامة؛ مع إدراك أن المقصود بحقوق الإنسان والحريات لا يعني ولن يعني يوما منح المجرمين حرية التخريب والطعن في جسد الوطن والشعب…
إن هذه المعالجة موجزة لم تجب عن كل السئلة ولكنها متأكدة من تنضيج الرؤية جوهريا حول موقف واحد يتصدى للتخريب ويعزز وحدة الشعب وتبني خطى دولة مدنية ترفض خطاب التخريب والتدمير وتجاريب ماثلة للعيان بنماذج دول الحروب الأبشع بالمحيط الإقليمي.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *