الحراك الشعبي بين تغيير النظام وإصلاحه

في كلِّ العالم، يكونُ الحراكُ الشعبي، بأحزابه السياسية وبمنظمات المجتمع المدني، ضرورةً جديةً لضبط بوصلة النظم السياسية. وسواء كانت تلك النظم إيجابية أم سلبية، فإنَّ الحراك الشعبي يبقى هو صاحب السلطة والسمو الدستوري. وفي ضوء طابع النظام السياسي تتحدد هوية الحراك وآلياته.. فهناك نظم تتناقض ومصالح الشعب، ما يتطلب تغييرها؛ فيما هناك نظم تعبر عن إرادة الشعب فتضع القوى التنويرية الحية فيه أمام مسؤولياتها البنائية

ومن أجل ملاحظة الأمور وقراءتها أو إدراكها بصورة عملية؛ ومن أجل البدء بحوار وطني بنّاء، نشير إلى طابع النظام السياسي في بغداد. إنَّهُ نظامٌ اتسم بالمحاصصة الطائفية وبالفساد، بأعلى مستوياته افتضاحاً في المعايير الدولية وبمقاييس مؤسساتها المتخصصة.. وهو بهذا نظام (طائفي كليبتوقراطي) بامتياز. وطابع العلاقة بين مثل هذا النظام والحراك الشعبي وقواه المجتمعية التنويرية، هو طابعٌ تناقضي يفرضُ على القوى الإيجابية المعبِّرة عن الشعب، أنْ تتخذ موقفاً حازماً صارماً بـ(تغييره)؛ لأنّ نظاماً هويته وجوهره بهذا الطابع المرضي، لا يمكن أنْ يكونَ الحديثُ عن إصلاحه إلا عملية تضليل.. و من الوهم التحدث عن إصلاحه بمعنى معالجة خلله النوعي، بترقيعات لن تغير ذاك الطابع الجوهري فيه، المعادي لمصالح الشعب وحقوقه وحرياته..

لقد اتخذ الحراك الشعبي موقفه منذ أول انطلاقة انتفاضته في 31 تموز يوليو 2015؛ فيما انفضَّ وتقلص ذاك الحراك من حيث حجم جمهوره مع تمسك (بعض) قادته بشعار (إصلاحي) التبس فيه كونه مصطلحاً وقف عند بعضهم على حال التردد والخشية من فكرة التغيير ومن يستطيع القيام بها وكيف؟ مع خشية من احتمال أن يؤدي التغيير للوقوع باتجاه معاكس ربما يخلق دكتاتورية مقيتة جديدة!

لكنَّ هذا التردد وتلك الخشية لم تشمل الجميع؛ إذ أنَّ من قرأ طابع النظام وجوهره أدرك أنّ قوى الطائفية والفساد هي قوى سطوٍ على النظام ووضعه على سكة استغلالية بشعة، وصل بجرائمها الأمر حدَّ ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق مكونات الشعب، إذ أدت سياسة الطائفية إلى انفلات الأوضاع إلى درجة سطو القوى الميليشاوية عليها، بما أتاح لبعض أجنحتها ارتكاب جرائم إبادة جماعية!

وبهذا فإن مصطلح إصلاح ما عاد يرتقي للمهمة السليمة المنتظرة من الحراك الشعبي بل صار مصطلح تغيير النظام هو الأدق للتعبير عن آمال الشعب وحراكه في التوجه نحو استعادة السلطة وتوجيه أنشطتها نحو البناء ووقف الخراب والدمار والانفلات الكلي الشامل؛ وإنهاء تداعياته الكارثية التي انحدرت إليها أوضاع البلاد على وفق طابع السلطة ببغداد وهويتها الفعلية…

أما إذا انتقلنا إلى نموذج السلطة السياسية في أربيل لوضع التشخيص السياسي المناسب، فسنجد أنّها سلطة دولة مدنية لا تتسم بالطائفية وفلسفتها مثلما هو الحال ببغداد، وهي من جهة تشخيص الظواهر الاقتصادية باختلاف نوعي حقيقي.. فالفروق بين نسب البطالة والفقر بين القسمين العربي والكوردستاني في العراق الفديرالي يبقى كبيراً وبعيداً جداً.. إذ تصل أرقام الفقر إلى 89% في القسم العربي كما بريف السماوة وبمعدل عام يقترب من الـ60% في المحافظات ذات الأغلبية العربية بينما بكوردستان هي 3% و9% و13% بحسب المحافظات الثلاث وبالمعدل هي قطعاً أقل من 7% بحساب الكثافة السكانية وتوزيعها في المجتمع الكوردستاني..

وسنلاحظ الاستقرار الأمني كوردستانيا مقابل انفلات أمني في أنحاء سلطة بغداد.. وسنجد انهيار السلطة وتسليم بعض المحافظات لجناح ميليشاوي إرهابي هم الدواعش والسلطة شبه خاضعة لميليشيات من جناح طائفي آخر بمحافظات أخرى.. وشلل بمشروعات التنمية وتأخر المرتبات بل انقطاعها لأشهر والآن تخضع لاستقطاعات بأسقفها حصرا بشكل مؤذٍ بالنسبة للطبقات الأدنى في القسم العربي..

ظاهرة الفساد هي بحدودها القصوى حتى أن ما يقارب الترليون دولار باتت في علم الغيب بسبب جرائم نهب مافيوية أكبر من محلية ولا يمكن أن تُنسب لموظفين صغار ولابد من وجود فساد سلطة جد متمكن وساطٍ على الوضع كي تمر تلك الجرائم بمئات المليارات على مدى سنوات حكم المحاصصة الطائفية..

إنَّ الوقوف من سلطة نظام طائفي كليبتوقراطي لا يمكن إلا أن ترقى لمستوى الدعوة لتغييره بعيداً عن راديكالية يسقط يعيش وانفعالية القرارات التي لا تحسب توازنات القوى ولكن التثقيف وسط الحراك ينبغي أن يحترم وعي المواطن ويستجيب لمطلبه في التغيير.. وينتهي من عبثية توصيف الإصلاح بـ(الجوهري) وبغيره من التلميعات التي لا ترقى لمستوى حل التناقض بين سلطة استغلالية استبدادية وشعب مبتلى وحراكه من أجل حل المعضلة الموجودة في طابع النظام.

على هامش هذه القراءة وددت الحديث عن موقف بعض القوى العربية المتنورة من المقارنة بين التزامها بشعار التغيير في بغداد ومحاولتها أن يشمل هذا التوجه وهويته وآلياته الموقف في كوردستان! وفي الحقيقة يقع هذا الترحيل للمواقف في المساواة بين نظام الطائفية الكليبتوقراطي ببغداد والنظام المدني في أربيل بجريرة الخروج على كل منطق لتقويم النظم السياسية وتحديد آليات التعامل والتفاعل معها.

فالحراك الشعبي لا يملك إلا آلية التغيير وإسقاط النظم الاستبدادية سواء منها الفاشية أم نظم الطغيان والاستبداد والدكتاتورية بأشكالها أم نظم الطائفية السياسية التي تتستر بالدين غطاء ومبرراً لوجودها وهي نظم فاسدة تخضع لذات الموقف في واجب إنهاء وجودها وتحرير الشعب من سطوتها وبلطجتها التي تمارسها سواء بدكتاتورية الدولية وإرهابها أم ببلطجة ميليشياتها وأدوات جرائمهالا فيما المقابل والرد والمعالجة تكمن بالتغيير..

ولا مجال اليوم للحديث عن عملية سياسية سليمة أو عرجاء، فالعملية السياسية في عراق ما بعد 2003 باتت في خبر كان وتمّ سرقتها وبلطجتها لصالح نظام الطائفية الكليبتوقراطي بوضوح ولم يعد ممكنا هنا الحديث عن تفاهمات وسطية بينية؛ بين الشعب وحرياته وحقوقه وبين مآرب الطبقة السياسية المريضة التي تشكلت في العقد والنصف الأخير باسم طبقة الكريبتوقراط.. طبقة اللصوص ناهبي الثروة الوطنية ولقمة العيش من أفواه الجياع والمحرومين…

أما الحراك الشعبي كوردستانياً فلديه نظام لم ينحرف نحو الطائفية بأيٍّ من جناحيها ولا إلى آلياتهما ولا إلى إطلاقهما الحبل على الغارب للقوى الميليشياوية لبلطجة الشعب وحراكه.. بل حافظ أولا على نهج ثورة حركة التحرر القومي الكوردية. وتحول بالبيشمركة من نهج الفدائي الثوري إلى نهج بناء جيش وطني بعقيدة عسكرية تحترم الشعب وتدافع عنه وعن سلامة ؛ بخلاف الخروق المرضية الخطيرة لبناء الجيش العراقي بلا عقيدة عسكرية وبلا سلامة في البنى المهنية مرفقاً بإفراط في منح الميليشيات وجوداً على حساب الجيش كمؤسسة وطنية!

كوردستانياً الدولة ومؤسساتها قدمت أشياء وأشياء وما اعترضها من عقبات كان جلها [وليس كلها] بسبب الوضع المرضي ببغداد وفي العلاقة معها وضمناً نشير إلى الحصار الاقتصادي والتهديدات الكثيرة التي طاولت الشغيلة والموظفين الكوردستانيين في أرزاقهم بقطع مرتباتهم!

إذن، كوردستانياً القضية تنحصر في تحديد مهام الحراك الشعبي في جهود إصلاحية تشارك سلطتها المدنية التنويرية في مهمة تتجاوز بها كوردستان أوضاع الأزمة الاقتصادية الخانقة وبعض العثرات في البناء السياسي، وإن بدت عند بعضهم قضايا معقدة؛ من قبيل قضية الرئاسة والبرلمان واستكمال الدستور المدني واعتماد خطة اقتصادية بنيوية تنهي آليات الاقتصاد الريعي بشكل جوهري شامل، وهي كلها مهام يدرك الحراك الشعبي أنه يمكنه تلبيتها بالتعاضد مع إصلاحات مبرمجة في مسيرته..

بهذه المقارنة في الموقف الذي تتخذه شخصية تنويرية أو جمعية حقوقية أو منظمة مدنية من بغداد، لا يعني بأنها ملزمة بنسخ الموقف ذاته على كورسدتان.. فالموقف من بغداد يقوم على ضرورة تغيير جوهري للنظام فيها من الطائفي الكليبتوقراطي إلى البديل ممثلا بالدولة المدنية؛ بينما الموقف الأنجع في كوردستان هو دعم مسار التنمية وخطى الإصلاح في إطار طابع الدولة المدنية بأربيل.

وبناء على هذه الصورة، بوضوحها، أؤكد بمعالجتي الموجزة المتواضعة، أنَّ كل حالة تفرض هويتها طابع الموقف منها وخصوصيته واستقلاليته.. فإلى كل الذين يدعون لنسخ الموقف من حكومة بغداد واشتراطه على التنويريين التقدميين لتتخذه تجاه الحكومة بكوردستان عليهم مراجعة الفروق الجوهرية بين طابع الحكومتين وآليات اشتغالهما وما نجم وينجم عن نسخ الموقف وتكراره السلبي لأنّ المساواة بين الموقف من نظام طائفي كليبتوقراطي وآخر مدني دستوري سيشوش الأمور ويدخلنا بمتاهة تضليلية وبالمحصلة سيوقع بموقف يورط أربيل بمشهد ما يجري لبغداد بكل انفلاتها وبلطجة فاسديها من الطائفيين من جناحي الطائفي بكل بهرجات ادعاءاتهما، وهو الأمر الذي لا يمكن القبول به مبدئيا موضوعيا…

فكوردستان اليوم نموذج إيجابي وسط انفلات عاصف متلاطم بكل محيطها.. ولهذا فإن قواها الشعبية تدرك أسلوب عملها ونضالاتها الحقوقية المطلبية والبنيوية التي تؤازر مسيرة بناء يجري إصلاحها بتكاتف كل القوى الكوردستانية وبعودتها إلى طاولة تدرك أهميتها..

وتبقى كوردستان عصية على التدجين الذي يراد لها عن قصد من قوى الطائفية وشوفينيتها الجديدة أو بأخطاء في تقدير المواقف الأنجع والأسلم من بعض الذين تشوشت رؤاهم في ظل أشكال التفكير السائدة.. فلنصحح الموقف بوضوح في ضوء قراءة أشمل وأعمق غنى وثراء في التعرف إلى الحقيقة ولتبقى كوردستان نموذجا للعراق الفديرالي في التغيير من أجل دولة مدنية تحتكم للدستور وللقوانين ولمصالح الشعب وحقوقه وحرياته. ولتمضِ مسيرة الإصلاح فيها بطريقة نموذجية لا تغفل المثالب ومواضع القصور ولكنها لا تخضع لاندفاعات راديكالية سلبية تساويها بما يجري ببغداد أو بجهات أخرى بمحيطها..

وهلا توجهنا هنا للحوار بهذا الموضوع بما يتيح لنا تدقيق مواقفنا وتوضيح الرؤى بطريقة سليمة تستفيد من ضبط الرؤية في كثير من خطط عملنا بخاصة بمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية؟؟؟

ثقة وطيدة بأن الحوار الموضوعي هو الطريق الأنجع وأؤكد أن معالجتي لا تدافع خطأ أو قصور أو خطط بنائية عند اي طرف بقدر ما تريد ضبط طابع البدائل في معالجاتنا وسلامة التفاعلات… 

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *