خيار المواطن العراقي بين الفكر المدني والطائفي، هو عامل الحسم

تتابع تداعيات الأزمة الكلية الشاملة لحكم النظام الطائفي الكليبتوقراطي في البلاد، الانحدار يومياً بالبلاد إلى هواية أعمق لتزيد من مشكلات العباد وتفرط فيما تضعه على كواهلهم من أحمال فوق الطاقة وتقييدهم بأغلال جديدة ممعنة في استعبادهم وإذلالهم.. ومع ذلك ينبغي الإقرار أثر الطائفية في تضليل جمهور واسع مازال مستمراً في التحكم بأولويات الرأي العام واتجاهاته الأبرز في الشراع العراقي…

ربما يحلل بعض المعلقين السياسيين الأمر بأن من يحكم قبضته على السلطة يجيّر جمهور (الكنبة) لصالحه ومعهم كل العناصر السلبية بمواقفها من جماعة (الشعلينة لازم) أو (ما لنا وللسياسة ومن يسوسها) فضلا عن المضلَّلين وأولئك المنافقين والانتهازيين الوصوليين الذين يريدون قبض (أجور) مقابل أيّ أمر يتكلفون به حتى لو كان بمعرفتهم أنه يؤذي أخاً أو جاراً أو صديقاً أو أيّ مواطن آخر…

المشكلة تكمن في أنّ أرضية لحراك القوى الطائفية كانت محروثة مسبقاً عبر إشاعة النظام القديم، لأوضاع شلت الإنسان وجعلته جبرياً قدرياً يرى أنه بلا حول ولا قوة ووحدها الظروف الغيبية هي التي تدري مصيره أمام تلك القوة العنفية العاتية للطائغية ودمويته.. طبعاً ومع مثل هذا الوضع سنجد انحسار الثقافة التنويرية وظهور الحملات الإيمانية وقشمريات شبيهة من حواشي النظام المنهار وألاعيبه…

لتأتي قوى الطائفية فتصيد في مياه غنية وتتهيأة الأجواء سنة بعد أخرى بطريقة مفضوحة هي مزيد من إفقار المواطن وتعطيل فرص العمل المنتج والدفع باتجاه الأشغال الاستهلاكية وما تتسم به من فرص للبطالة المقنَّعة؛ أضف إليها بعبع التهديد والتمترس في خندقين متعارضين وإعمال معاول الهدم والتقتيل وإثارة نوازع الثأر والانتقام، الأمر الذي رسَّخ فلسفة الطائفية ولعبتها الإجرامية.

وأنت هنا في موقف أعقد من إعادة بناء دار مهدم على تعقيدات البناء على أنقاض الخراب وبقايا التدمير؛ لأن إعادة بناء الإنسان المخرب فكرياً قيمياً سلوكياً، أمر أعقد بكثير من إدارة وضع مادي أصم جامد. وهنا للتعامل مع حالات التجهيل وما شاع من أوبئة فكرية قيمية مرضية كما قيل دائما من أبرز حكماء البشرية أنْك يمكن أن تتعامل مع ألف محاور متعلم أو متنور عالم وأن تتحاور وتقنع ببرامج البناء والإيجاب ولكن من التعقيد ومضيعة الوقت أن تصرف جهودك مع جاهل لا يفقه من المصطلح حتى قشوره…

بهذه الخلفية أو الأرضية امتد نضال الحراك المدني العلماني وهو يكافح ضد سلطة الطائفية وجرائمها الإرهابية، سلطة الفساد وما ترتكبه من جرائم مافيوية.. فما يزيد التعقيد هو أن أوسع جمهور يسمي هؤلاء بأصحاب اليادي النظيفة ويدرك أنهم الطرف الأنقى وأنهم بؤرة الحل الجوهري لكن هذا الجمهور أو على الأقل كثير منه أما يقف حياديا بعيدا عن ميدان النضال وحركة التغيير منتظرا أن تأتي الحلول من السماء! وأما يقف مع الطائفي الفاسد وهو يقبل الأويلات والتبريرات التي يدرك أضاليلها ولكنه يتبعها من باب أنا لست وحدي المسؤول عما يجري!

لكن، من وجود كل مواطن خلف هذا الجناح الطائفي أو ذاك وخلف هذا الفاسد أو ذاك، تتولد منَعَة النظام الطائفي ومقاومته التغيير واستمراره في استغلال الناس. إنه يستغلهم أدواتٍ لجرائمهِ ولما يرتكب من حماقات مُمعناً بإيقاع أقسى المآسي وأبلغ تراجيديا الكوارث التي لم يعهدها التاريخ البشري.

ولو أن حيادية المواطن دفعته لأن يكون على أقل تقدير خارج حلبة الصراع؛ أي ألا يكون مع أيّ من أجنحة الطائفية والفساد، فسيكون ذلك أخف وطأة في تعميد قوة المجرمين. لكن الكارثة تتمثل في وجود نسبة من جيل لم يتعلم لا في مدرسة الحياة ولا في مدرسة فك طلاسم الأبجدية والألفابائية اللغوية فيكون من السهل اختراقه وتجييره بوضع سلاح في يده وتحميسه لأخذ (الثأر) والانتقام من الآخر.

هذه الطاقات ليست معطلة حسب بل مجيرة وموضوعة في خدمة نظام أبشع من نظم الطغيان الدكتاتورية وهو نظام لا يهدد شعبه حسب بل يهدد باستمرار السلم والأمن الإقليمي والدولي برمته. ومن هذه البدايات انفلتت الأمور وتشعبت الصراعات بدول المنطقة وبدل أن تتجه انتفاضات الشعوب لتكون ربيعاً لها وتُنهي الطغيان وقعت بمصيدة عسكرة انتفاضاتها وطبعها بطابع إرهابيي الطائفية من حَمَلَة الاندفاعات الراديكالية وكل يهتف بأنه الأقرب إلى الله والدين وأنه سيفوز برضا الله وجنانه إذا ذبح أخيه وانتقم منه، بـ(قناعة) مرضية تدعي أن هذا القائد الطائفي هو الزعيم المنق المخلص الأقرب إلى الله…!

ولكن ألا يتساءل المواطن، كيف سيكون أقرب إلى الله وهو يسلك سلوك العنف ودروب الدم والجريمة؟ ألم يحرّم عليه دينه الثأر والانتقام ويعده جريمة يحاسب عليها دنيا وآخرة كما تنبه كل النصوص الدينية المقدسة!؟ فكيف يكون الانتقام طريقاً إلى الله والدين!!؟

هل بناء الدولة المعاصرة الحديثة يقوم على فكر الجهلة الطائفيين؟ هل بناء الدولة التي تحترم الإنسان يمكن أن يتمّ في ظل حجم جرائم طبقة الفساد وفسادهم المريع وبلا حدود تردعهم؟

كيف يمكن أن يغض النظر مواطن عن كون أجنحة الطائفية هي بجوهر واحد وإن تبدّت بمظاهر مختلفة؟ ألا يمكنه أن يتبين أن الطائفية نظام مرضي خطير مجترّ من مجاهل أزمنة كهوف الظلام ولن تأتي إلا بأوبئتها إلينا؟ كيف يمكنه أن يقبل حتى بفكرة اللهاث خلف هذا الطائفي معتقدا أنه سينقذه من الطائفي الآخر؟؟

ألا يدرك أن كل الطائفيين لن يحيوا خارج نظامهم (الطائفي) وأنهم حتى وإنْ احتربوا وحارب أحدهم الآخر فلن يتخلوا يوما عن وجوده لأنه مبرر وجودهم أو بعبع التهديد الذي يسلطونه ليل نهار على رقاب أتباعهم كي يبقوا ماسورين بالانتماء لحزبهم الطائفي والانتساب لميليشياهم..

إن الحقيقة ناصعة وما تريده هو أن تبقى القوى المدنية مستقلة في أدائها كي لا يجري تزكية هذا الطرف أو ذاك من أجنحة الطائفية وكي لا يجري دعم إعادة إنتاج نظام الطائفية الذي هب الشعب بانتفاضته العفوية لتغييره..

كل ما مطلوب هو مزيد من كسب المواطنين إلى جبهة المعبرين عن مطالبهم وتطلعاتهم في الانعتاق والتحرر من اسر الطائفية وآلياتها ويكونوا قوة حراك التغيير الحاسم..

إنّ إنهاء الحيادية السلبية ووقف التعتيم والتضليل وتبيّن الصورة على حقيقتها والوقوف مع الحراك المدني بالتخلي أولا عن الوجود الطائفي، إنّ ذلك هو العامل الحاسم في التغيير وفي إنقاذ ما يمكن إنقاذه اليوم قبل الغد.

بوضوح انحياز الجماهير الشعبية نحو القوة التي يمكنها تحريرهم هو ما يحسم المعركة مع نظام الطائفية والفساد وهو ما يمكنه أن يطرد شرور الإرهاب وتخريبه الدموي الأبشع. وبخلافه فإنّ الواقع يُنذر بمزيد من قيود تستعبد الشعب وتنهي فرص وجود محامي الدفاع القادر على ردع المجرمين وبلطجة الميليشيات..

الدولة المدنية ومؤسساتها التي تلتزم بالقانون والدستور وبلوائح البناء واختيار طريق التنمية والتقدم، هي البديل وهذا لن يأتي به أية حركة ترى أن الحل بالدين عبر مذهبها وبدقة أكثر عبر جناحها الطائفي وفرقتها (الناجية) وهي ليست أكثر من لعبة سياسية لا علاقة لها بالدين ونصوصه المقدسة السليمة من جهة ولا بدنيا الناس وتفاصيل يومهم العادي ومطالبهم وحاجاتهم..

ولكن لا أمل بأن تبنى هذه الدولة بفلسفة نقيضة لمبادئها ولا بخلط أوراق بين المدني والديني ولا بقبول أي جناح طائفي، فتلك الأجنحة جميعا تطلق خطابات رعاية الناس فيما هي تقذف بهم إلى أتون متاريس المعارك الطائفية الدموية.. الدولة المدنية لا يبنيها عقل ماضوي يعيش ما قبل قرون بل تُبنى بالعقل العلمي المعاصر وبحداثة المنطق وآخر منجزات البشرية..

والدولة المدنية تأتي عندما يقول الشعب بإجماع منه ومن شبيبته نعم نحن أبناء هذا العصر ولن نحيا أوهام الماضي ولن نجتر مشكلات الماضي وقضاياه بل نعيش يومنا وحل مشكلاته بمنطق عقلي يؤمن بحقوق الناس وحرياتهم وبكرامتهم لا تأتيهم من دعي ارتدى جلباب وعمامة بل من وجودهم الحر.. فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا.. وكيف تستقيم الأمور من دون وجود الإنسان منحازاً لوجوده الإنساني ولحقوقه وحرياته ودفاعه عنها لا عن زعامة طائفية ولا عن متاريس حروبهم ولا خنادق جرائم ثأرهم وانتقامهم فأبناء الشعب أبناء بيت واحد هو الوطن يبنون ويرممون به لا يهدمون مهما كانت الأهذار والذرائع…

فهل أدركنا المصير الأسود ببقائنا خلف قوى الطائفية وزعاماتها؟ وهل أدركنا الإشراقة والسلامة والمنجاة بخيار الحسم، بأن نكون مع أنفسنا بناء دولتنا المدنية الديموقراطية التي تحترم وجودنا وتعددية بصماتنا ومشاربنا لا يفرض طرف وجوده على حساب آخر بل نتعايش أخوة متساوون بالحقوق والواجبات؟

 

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *