طريق التغيير في العراق بين مراحله وأدواته

بين مطحنة السحق الجهنمية لقوى الطائفية وجرائم الفساد والإرهاب فيالعراق (الجديد) وبين تطلعات التغيير وبناء البديل

ما مراحل التغيير المطلوب عراقيا وما أدواته؟
هذه معالجة موجزة عجلى بالخصوص عساها تمهد للتصور الأمثل الذي يتسع بجغرافيا الحراك لتشمل قوى شعبية عريضة تستطيع فرض منطق التغيير للتحول لاحقا إلى مرحلة بناء البديل

انحدرت الأوضاع العراقية إلى درك، لا يضارعه فيه سوى تلك الهياكل المسماة دولا فقيرة تعبث فيها مافيات فساد وميليشيات وزعامات حروب تمزق المجتمع لتسطو على كانتوناته الخانعة في ظروف التجهيل والابتزاز. ومع هذه الكوارث وما تختزنه من من مآسٍ لا يخلو المسار من قوى الانعتاق والتحرر والتنوير…

هنا تتنامى نضالات الشعب وفئاته ، وتتسامى قيم الحراك الشعبي وتترسخ يوماً فآخر. وحتى تلك الفئات الشعبية التي غزاها الوباء في ظل منومة متفشية للفساد وأمراضه، وللعنف ومنطق الإرهاب حيث جرائم مفتوحة البوابات على مصاريعها؛ باتت تتطلع إلى التغيير كما يفرضه منطق العقل بأبسط لمساته وأشكال حراكه.

ولكن، بعد هذا الانغماس في مستنقع اصطنعته قوى الإرهاب والفساد الطائفيتين، هل يمكن الخلاص بوثبة أو خطوة واحدة وبطريقة العصا السحرية؟ أم هناك مراحل للتغيير؟ وهل يتم التغيير بقوى ملائكية مثالية سواء من داخل المجتمع أم من خارجه وعلى طريقة لا مساومة أبداً أم أنّ أدوات التغيير لا تأتي إلا من المجتمع نفسه؟

ومن أجل الإجابة عن هذين السؤالين، لابد من معالجة بشأن (لا مساومة أبداً) تلك العبارة التي تختزل أو تلخص فئة عندها الأمور أما أبيض أو أسود. ولا مجال لديها لرؤية الواقع بما يحتويه من حقائق ملونة بأطياف اللون الذي يجسد الواقع طبيعة ووجوداً إنسانياً… إذ الحياة الجامدة والحية لا يمكنها أنْ تؤسر برؤية الأبيض والأسود؛ فهي تعج بأطياف اللون الذي تراه العين يقينياً أينما تم توجيهها…

والشخصيات الإنسانية متنوعة السمات بتنوع بصماتها الخاصة ولا صحة للحالات النمطية الأحادية إلا كونها طيفاً مريضاً بالأحادية ومن ثم على ما يخضع لجغرافيا قطبية هي الأكثر تطرفاً والأكثر حدة وتناقضاً، وفي وقت يقبع كل من النقيضين في طبيته يغض الطرف عما بينه وبين القطب الآخر أو يحرقه باندفاعه وبحملاته في محاولة إلغاء الآخر النقيض…

إنّ حال القطبية تبقى محصورة بسعتها الجغرافية بحدود ضيقة ولكن فعلها بخاصة التحطيمي السلبي يشمل جميع الأطياف ما بينه، بسبب عنف الاندفاع وحال السحق الذي يمارسه ويرتكب أفاعيله إجرامية الطابع والهوية. ومن هنا كانت الأغلبية المتطلعة إلى التغيير لا ترى في هذا الاستقطاب الأحادي المتطرف حلا أو بديلا مناسباً.

إن التغيير من حال سلبي إلى حال إيجابي يخضع لمراحل تتطلب التدرج، فإن جاءت بقوة أو إرادة خارجية فإن انقلابا يحصل بإزالة القوة المتحكمة بالوضع ولكن هذا الانقلاب لا يوفر العامل الذاتي القادر على بناء البديل بسبب من استمرار منطق أو آليات النظام القديم وربما تناسله وتفقيس عناصر وجوده مجدداً بتمظهرات كما حصل في الوضع العراقي…

المطلوب اليوم، كمرحلة أولى استمرار الحراك الاحتجاجي تمريناً لقوى التغيير واستفادة من دروس الممارسة النضالية ونشراً لمنطق التنوير ومبادئه بما يزيح غشاوة الظلام والتخلف الذي فرضته محاولات التجهيل.. ونؤكد هنا أن التجهيل فعل يقع على الأفراد والتنوير فعل يرتقي بالشعب وجودا نوعيا جمعيا…

وبهذا فإن المرحلة الأولى هي مرحلة التحشيد والتوحيد لقوى الحراك وتمكينها من التعرف إلى الاتجاه الصحيح للانتقال في مرحلة تالية لفعل الاستبدال والخيار سواء كان انتخابيا من جهة أم باي شكل للتغيير قد تؤهل له الظروف النوعية المباشرة لذيياك الحراك الواعي…

على أن مهمة توحيد القوى وممارسة الحراك النضالي لا تمنع من فرض مطالب وإلزام قوى التحكم بالسلطة بالاستجابة لحاجات مطلبية حقوقية بحسب تناسب القوى ومقدار التأثير في فضاء الوجود الوطني.. ولهذا السبب فإن الالتفات في جميع المراحل إلى قضايا النضالات المطلبية بوصفها جزءا حيويا رئيسا مكملا يبقى ضرورة لا تقبل التأجيل بمنطق أن الغاية تكمن في تغيير مطلق شامل على أساس لا مساومة أبداً…

إن قبول أو خضوع سلطات بعينها لمطلب أو آخر لا يأتي بالضرورة من محاولاتها التعمية والتضليل وهذا أمر ممكن في آليات اشتغالها ولكنه قد يأتي من منطلق الخضوع للضغط الشعبي في مسلسل طويل من التضاغط بين الشعب وحكومة الطائفية…

إنّ الانتصارات النسبية في فرض تلبية الأمور المطلبية القطاعية هي فرصة لمزيد تعزيز التقدم نحو محاصرة قوى الفساد والجريمة الطائفية. وفي ضوء ذلك لابد من التمسك بخطى تتبنى الحراك الحقوقي المطلبي الجزئي في إطار الحراك النضالي الوطني الأشمل الذي يُعنى بالقضية الرئيسة لنظام الحكم وسلطته…

لكن، ما هي قوى التغيير؟ وهل تنطبق عليها إشكالية (لا مساومة أبدأً) أو آليتها؟ هذا السؤال تنبع إجابته من واقع مدمى مثخن الجراحات الفاغرة مشوّه بكل أمراض النظام ومخلفاته وآثاره.. فطابع النظام يتسلح بجذب جمهور واسع من الأفراد المستباحة بمنطق الطائفية المتفشي بأمراضه آسراً كماً هائلا ممن جرى استغفاله وتجهيله ونشر الأمية في وسطه من الأفراد.. وأكرر التوكيد على أن الأمراض تصيب الأفراد والشلل ولكنها لا تصيب الشعوب بوجودها النوعي الجمعي…

لهذا السبب تُذكر السمات السلبية التي تنتشر بحجم كمي للأفراد بينما لا توصف الشعوب بتلك السمات بل بخصائص نوعية إيجابية سامية عند معالجة إشكالية أو أخرى.

وفي الوجود العراقي هناك حجم نسبي كبير من التشوهات المرضية المجتمعية بين أفراده وهناك انجذاب لوهج الشعارات التضليلية بخاصة تلك الطائفية وهي تتغلغل بين أوساط من الطبقات الدنيا، حيث تسود الأميتين الأبجدية والثقافية أو تنتشر حال التعالم والتذاكي عند أنصاف المتعلمين وهنا سنجد مقدارا من التأثير لآليات الإفساد المرضي في الأفراد..

وعند التوجه إلى غاية الحراك النضالي الوطني الديموقراطي فسنجده يستهدف تلك الأغلبية ومن ثم يُفترض أنه يتطلب مساهمتها وإلا فإن التغيير لن يكون وافيا أو كافيا لإحداث البديل النوعي والانتقال من الوجود الفردي القابل لتفشي الأمراض ومخاطر الاختراقات والتقوقع على عبثية لماذا أنا وليس غيري إلى الوجود الجمعي الذي يوفر فرص التعاضد والتكاتف المجتمعي المتمدن المتحضر بما يعنيه من روح المسؤولية في مسيرة البناء والتنمية والتقدم.

وإذا كنا لا نمتلك آلهة ولا ملائكة بيننا؛ وإذا كنا لا نمتلك نماذج بشرية نقية خالية من السلبيات أو من الشوائب في وعيها وإدراكها وفي التزامها بسبب من تفشي أمراض النظام العام  وثقافته أو بالأخرى سلوكياته السائدة؛ فإننا بهذا لا نملك أن نستورد قوى بشرية من خارج البلاد لنصع التغيير فيها…

إننا لا نمتلك عناصر بطولية مضحية وقيادات وقوى فكرية ناضجة للتنوير ولبث الوعي بأنجع مفرداته، لكننا في النهاية لا نعول على وجود محدود بقدر ما نعول على الحراك الشعبي الشامل بمعنى الاتساع بجغرافيا الحراك وسط قوى الشعب الحية…

وكلما اتسعنا في هذا الحراك وجمهور الفاعل انتسب إليه وجود جمعي متنوع السمات وبعضه طاوله شكل من أشكال أمراض نظام الطائفية وآليات اشتغاله في دوائر الدولة والمجتمع ومحاور تفاصيل اليوم العادي للمواطن.

ومن هنا لا يمكننا أن نتحدث عن أي توجه لاستبعاد شخص أو مجموعة اشخاص أو وجود مجتمعي لمجرد أن هذا الطرف قد وقع يوماً تحت تأثير فعل قوة طائفية أو أخرى أو كان يوما قد وقع تحت تأثير خطاب نظام مهزوم أو نظام قائم اليوم…

لا يوجد فرد يحيا خارج الوجود المجتمعي ونظامه الذي يحكمه.. وعلينا أن نميز بين الاضطرار والتشوهات التي تكون مفروضة من خارج الشخصية وبين ما ترتكبه الشخصية بوعي تام من جرائم تتطلب المحاسبة والحزم تجاهها.

لا يمكننا أن نأتي بأدوات التغيير، أي بأعضاء حركة التغيير المجتمعي من الفساد والطائفية إلى الدولة المدنية وسمو قوانينها المؤسسية، من خارج المجتمع نفسه بكل ما تعرض له أعضاء المجتمع من تشوهات واختراقات سلبية بنسب مختلفة.

وعليه فإن مشاركة الفقراء والمحرومين وأولئك الذين لهم مصلحة في التغيير تبقى مرهونة بقدرة الحراك الوطني الديموقراطي على جذبهم إلى حيث مصالحهم الحقيقية وإلى حيث سلامة الأداء وصحة الخيار والانسلاخ من اسر قوى التضليل الطائفية لهم..

نحن في مرحلة تحرير العقل واستعادة الوعي والاستيقاظ حيث صحوة المضائر ليعود الرشد في الخيارات. فحصتي من الخيرات تساوي جهدي في إنتاجها ومقدار العمل في خطى البناء والتنمية كي نصنع بلدا يمثل بستان وجودنا. وبخلافه فإننا نمضي في طريق إغناء سارقينا من ثروات وطننا حتى إذا نضبت لم نجد أنفسسنا إلا عراة في صحراء الوطن الذي ساهمنا في خرابه لمآرب ثلاثي الطائفية الفساد الإرهاب.

لابد من مشاركة كل قوى المجتمع الحية صاحبة المصلحة الحقيقية من دون الاستبعاد والإقصاء بسبب من انتماء بل لجذبهم إلى الحراك الذي يدفعهم للانسحاب من انتماءات مرضية تعادي وجودهم ولدفعهم إلى الوعي بطابع أسر قواهم عند قوى الاستغلال التي أطاحت بأمنهم وبالسلم الأهلي ووضعتهم في كانتونات تحترب لمصلحة الطغاة زعماء الميليشيات وأجنحتها (السياسية)…

لا مجال لقبول شعار لا مساومة ابدا ولا مجال للتطرف في الخيارات والقطبية الأحادية في الحراك بل لابد من وجود مجتمعي يسمو بحراك وطني شامل وبمثل هذي التنوعات بكل ما أثخنتها جراحات الواقع به نناضل أما بناء البديل في مرحلة تالية فهو سيأتي بجيل آخر غير الجيل الذي أصيب بفيروسات وباء سيزول عندما نتبنى التدرج في مراحل التغيير ونقبل استيعاب قوى التغيير وأدواته بمنطق العقل ونضج حكمته.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *