خطاباتنا العامة والخاصة وتأثر معالجاتها بمنطق العنف والانفعال والاحتدام

تتفاقم ظواهر العنف بأشكالها؛ لتشمل كل مناحي الحياة ومفاصلها. ومع وصولها إلى قمة الانفلات من عقالها وولوجها مرحلة العنف الدموي المسلح، لم يعد لها من ضابط لمدياتها. والأنكى هنا، عراقياً، أن المجتمع بات ينحدر نحو ما يُجَرّ إليه حيث الخضوع لمنطق التشكيلات المسلحة والميليشيات والأفاقين الأدعياء من بلطجية الزمن ومفسديه ومن يقف وراء العصابات المنظمة والمافيات والتشكيلات الانتحارية الوحشية، باسم المقدس الديني وبذرائع ما أنزل الله بها من سلطان؛ إلا أنها تحظى باحتشاد جموع مضللة أو منتمية بغير وعي للظاهرة، من حيث دواعيها ونتائجها المأساوية التي تتطلب القراءة حتى من أفراد المجتمع كل بوجوده البسيط عضواً بمجتمع يتطلع للاستقرار وإنهاء المأساة الكارثة.

ومع الانهيار الشامل في البنى التحتية والفوقية في العراق، حيث تعطل وشبه شلل كامل للدورة الاقتصادية واعتماد الاقتصاد الريعي بما يخالطه من أنشطة ماضوية وظواهر فساد متضخمة، تجابه الإنسان العراقي حالات تهديد ليس أقلها ما جسدته ظاهرتا الفقر والبطالة بكل ما تعنيه من إيجاد أرضية التوتر والاحتقان للمواطن…

من جهة أخرى فإن انعدام الأمن والأمان وفشل المؤسسة الحكومية عن فرض سلطة القانون بعمد وبغيره، عرّض ويعرض المواطن لتهديدات تصفوية خطيرة. وشاعت جرائم الاختطاف والابتزاز والتهديد بهما بشكل عشوائي بما شمل ويشمل اليوم مختلف فئات المجتمع…

وتفشت أمراض سايكوسوسيولوجية في ضوء تلك الأوضاع، فمع هجرة الشباب المنكسر المحبط ترك خللا بنيويا في التوازن بين الإناث والذكور وخلّف وراءه احباطات مضافة مضاعفة من فقدان الأمل أمام وهم المهجر المنقذ الذي لم يصل إليه من بقي في داخل البلاد…

وسياسيا لا مناص من الاعتراف بـِ سطوة طبقة وليدة في هذه الأجواء هي طبقة الـ(كربتوقراط) أو طبقة المفسدين المافيويين تلك التي سطت على الأمور وأحكمت قبضتها حتى أن انتفاض طرف فيها ومحاولته كسر الحلقة المحكمة وتحدي آليات عملها الفاسدة عادة ما جوبه بعنف وبتحكم مخطط له لإدامة سلطة الطائفية والفساد، مثلما شهدناه في الأمس القريب الذي مازال حيا، طبعا من دون إغفال طابع اللعبة وعدم الجدية في ذاك الانتفاض ومحاولة كسر الطوق والقيد…

وبوجود الميليشيات صارت هي المجسد البديل في ظل انتهاء مرحلة نجومية الحماية العشائرية وأعرافها الأقل عنفا وإذا كان المواطن اليائس من قدرات الدولة ومؤسساتها على تلبية حاجاته قد انكفأ على العشيرة وآلياتها في الماضي القريب فإنه بات في ظل احباطه وانهزام كل التشكيلات البدائية عن حمايته، بات يتجه لحماية جديدة بديلة هي التشكيلات المسلحة الميليشياوية و\أو المافيوية.

لكنني هنا لا يعنيني التفصيل كثيراً في ظاهرة العنف أسبابها ودواعيها بشكل مجرد، بقدر ما يعنيني البحث في آثارها وانعكاسها أو تجسدها في وعي الناس وانفعالاتهم وتوجيه ممارساتهم وخطاباتهم، وتبادلها التأثير والتمظهر في تلك الآثار… وهي الجزئية التي أتخذها موضوعا لمعالجتي الأولية هذه.

إن العنف في جوهر تعريفه سيتحدث عن عدائية تتجسد بانتهاك مادي محسوس يدمر ويخرب ويسحق الآخر، لكن مثل هذا ليس هو كل العنف وأشكاله.. فللعنف أوجه ملموسة ولكنها نفسية مجتمعية وروحية ثقافية تخرق القيم الإنسانية وسلامة السلوك وصواب ممارسات الإنسان. وعليه فإننا سنرصد العنف اللفظي والمادي المحسوس (الجسدي) وكلاهما يؤديان عدوانيتهما تحطيماً وإيذاءً في الآخر وفي الممتلكات بشكل بيِّن واضح وأيضا سنرصد عنفا ربما يُسمى غير مباشر أو سلبي أو أية تسمية أخرى لكنه يتجسد في التمترس خلف القطيعة مع البيئة المحيطة والسلبية تجاهها ومن ثمَّ ممارسة الصمت والانسحاب والتكاسل أو تعطيل العمل  إهمالاً واتصافاً باللامبالاة؛ وتلكم هي الأخرى قيمة عنفية بجوهر وجودها وممارستها…

ولابد أننا لاحظنا بعض أو كل تلك الأشكال من الآثار والتمظهرات للعنف أو لدلالته بقصد التعرض بعدائية تجاه آخر بات المرء يناصبه العداء في ضوء تراجع ثقته به واحباطه أو يأسه من إمكان أن يكون صديقاً يشاطره مهام بناء وتقدم واستجابة لمطالب الحياة.. إن درجة شمول ظواهر الفساد والأمراض النفسية الاجتماعية ومرجعيتها الاقتصادية بنيويا صارت تُشعر المواطن بعزلته وبتعرضه للسحق اليومي مثلما فقدانه الأمل والثقة بقدرة الآخر على مقارعة قوى الاستغلال السائدة المتحكمة بالأوضاع فيقبع في شرنقة أنجبتها قيم العنف وفرضتها على السلوك العام.

ومن باب التفصيل بتجسد العنف بأمثلة أسجلها في بعض تفاصيل يومنا العادي. إذ نجد كثيراً منا بات لا يرى واجبا في إقامة العلاقة مع الآخر كونه أخاً صديقاً زميلاً وعضواً بوجود وطني إنساني المرجعية بل يتحسب له بطريقة: “إن لم أكن ذئباً أكلتني الذئاب”.. وهو بهذا لا يرى في الآخر إلا منافساً وبهذا التشخيص الساكن في وعي هذه الكثرة تطفو حسابات تجعله يؤوّل كل عبارة يطلقها الآخر من منطق التحسس والتآمر عليه ما يجعله مستفزَّاً باستمرار مستنفراً للتصدي لعدوانية متوهَّمة مفترضة في الآخر وفيما يقول ويفعل..

إن فكرة انعدام قطعي ونهائي لوجود الإنسان بقيم الطيبة والتسامح والتفاعل البنائي بالإيجاب بين طرفين، تدفع إلى مناصبة العداء للبيئة المحيطة والتحسب المبالغ فيه (المتضخم) بطريقة مرضية… وهكذا تسطو على سلوك الفرد ظاهرة العنف حتى لو كانت ليست من صنف العنف المرضي أو المنظم القائم على تعمد فكري سياسي مسبق، فهي أي ظاهرة العنف تكون عند ذاك من صنف العنف التلقائي على أساس الوقوع بمصيدة ردّ الفعل العدائي باستمرار أي باعتيار الرد العنيف من دون تنظيم مسبق لمثل ذاك الرد أو تعمد اختياره لدواعي وصلت بالعنف مستوى المرض.

لاحظوا معي أن حوار أعضاء العائلة الصغيرة: بين الزوجين وبين الأبناء وبين الجيلين وبين أعضاء العلاقة القرابية وأكثر منها حجماً بين الأصدقاء والزملاء في منظمة أو مؤسسة، في الغالب تفقد الاتزان والسلاسة والهدوء وتخضع لمنطق التوتر وسماته من احتقان وتفجر ومن تحسبات وتحفظات وعدائية  بأي شكل لها؛ ما يُفقد الحوار بين تلك الأطراف فرص التفاعل الإيجابي التكاملي البنّاء كما يُفترض في العلاقات الإنسانية وفي أشكال الانسجام المنتظر طبيعيا منها.

إن طرفي الحوار يدركان أنهما يقصدان هدفا إيجابيا، وهما يعيان واجب التفاعل بينهما لتنضيج رؤية أو فكرة أو الوصول إلى قرار مشترك، لكنهما في سياق الحوار المنتظر يتحولان أولا بذاك الحوار إلى سجال وتنحدر التداعيات بهما إلى حال من الصراخ وتبادل ألفاظ حادة ونبرة غير هادئة وقد يكون ذلك هو أبرز مظهر على صعيد السلوك الشائع للأفراد ممن يحيا في داخل الوطن وحتى في المهجر. إنهم يخضعون لآلة جهنمية تطحنهم جميعا تحت مجنزراتها الهمجية فلا يبقى لهم سوى واقع موتور متفجر محتدم وانفعالات بلا ما يضبطها أو يحد منها.

إننا اليوم، نرى جميع الأطراف تتحدث عن الموضوعية وعن الهدوء وعن المقاصد الإيجابية وعن واجب التكامل والتفاعل إيجابا ولكننا لا نجد إلا حالا من الانفعال مع ولوج تداعيات التعمق بقراءة موضوع حوار أو آخر، وهي هزيمة لضبط النفس والتحكم بالممارسات والقيم السلوكية وكل يبرر لنفسه بإلقاء التبعة على الآخر وبتسقيطه بدل البحث عن وسائل حل لما قد يطفو من هفوة أو خطأ..

هنا وتحت السحق والانفعال المحتدم أو التوتر والاحتقان لا تجد سوى التزمت، التطرف، التشدد وأحادية الصواب مقابل أحادية الخطأ. الأنا صائب والآخر مخطئ؛ ليس بقصد صواب وخطأ المعالجة والنتائج ولكن على أقل تقدير بالارتباط بموضوع ثقتي بتمسكي بالصائب ضميراً وقيمةً وسلوكاً وإن لم أرَ خطأ في الآخر بهذا الشأن فهو مشكوك به ولا ثقة عندي بما (يُخفي).. ها أنا ذا أتساءل مع نفسي: ما أدراني أنه حقيقة لا يخفي أمرا سيئا!؟ ذلك ما بات يتكرس في الوعي العام لدى أبناء المجتمع (فرديا) شخصياً…

وفي ظل هكذا واقع مختل، فإن القيم الروحية الظلامية التضليلية هي ما سيملأ الفراغ وهي التي ستصنع التشدد وعنفه المفرط حتى تجاه الذات. وهكذا نجد مجتمعيا عراقيا أوضاعنا تسود فيها كل ظواهر العنف المصطنعة بقصد والمفروزة الناتجة عن واقع مبتلى بما أشرنا إليه…

فماذا نفعل تجاه تلك النتيجة الكارثية حيث بتنا نشترك نحن أنفسنا في ممارسة العنف تجاه أنفسنا وتجاه الآخر؟؟؟

ينبغي العودة إلى خطاب: التسامح، الإخاء، التكامل، تدعيم الثقة واستعادتها، نقد الذات والآخر بواقعية سليمة، تجنّب خطاب لا مساومة أبدا أو يسقط يعيش، بثنائيته التناقضية الحادة أو المتطرفة.. واستعادة قبول ما تراه البصيرة إلى جانب البصر من ألوان الطيف والتعددية والتنوع فيه ما يسمح بالقواسم المشتركة بتلوناتها مثلما تتلون الطبيعة بتفاعل ألوانها واتحادها.

ولربما سمح لي الوقت في معالجة تالية لأعود وأتناول ظاهرة العنف في الخطاب السياسي بين الأطراف العاملة بخاصة من تيار واحد  وحتى في إطار حركة حقوقية ومنظماتها ومنظمات المجتمع المدني، وأشير تحديدا إلى تيار التنوير والتقدم والعدالة الاجتماعية بل حتى إلى الحزب الواحد وخلاياه وبين أعضائه وإلى المنظمة أو الجمعية الواحدة وزملاء العمل فيها الأمر الذي  يعود إلى تلك الإشارات التي أوردناها.. والأمل وطيد في إيجاد توصيات مناسبة في معالجة أخرى تالية تخص كيفية قراءة العنف في السلبية واللامبالاة وفي مجانبة إرادة اتخاذ القرار وفي الابتعاد عن استخدام نبرة حادة إن لم يكن مفردات منفعلة وسلبية مما يزيد الطين بلّة…

وهذا نداء من هذه المعالجة للمتخصصين لمتابعة التناول بشمولية أكبر وأعمق واكثر تفصيلا…

اعتذار: أعتذر عن ظهور هذه المادة قبل تنقيحها في مجال نشر آخر آملا هنا أن تكون قد أخذت الصورة التي تصل برسالتها بشكل أفضل

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *