أيهما نمنح الأولوية أللتعايش أم الصراع مع الآخر؟

أيهما نمنح الأولوية، أللتعايش وتوكيد المشتركات أم الصراع مع الآخر وتعميق التخندقات وتناقضاتها؟

نحن لا نحيا لوحدنا منفردين بميادين العيش. وإنما نحيا وسط بيئة ومحيط يحيا فيه الآخر ببصمته وهويته المخصوصة مثلما نحن نمتلك بصمتنا وهويتنا المخصوصة. ولأنّ كلا منا يحيا إنساناً مستحقا لأنسنة وجوده والاستجابة لمطالبه وحاجاته، حقوقاً وحريات، فإنّ من الصحيح تعادل بني البشر في حق أنسنة الوجود والبيئة على أساس العيش بالتساوي في الحقوق والواجبات.

وبقصد الاستجابة لمطالب وجودنا وصناعته بموضوعية وسلامة لابد لنا من أسس وقواعد وأولويات لاستراتيجيات حراكنا وعيشنا. ومن ذلك ما يتعلق بالآخر الذي نحيا وإياه في عالم واحد. كيف ننظر إلى ذاك الآخر وكيف نقيم علاقتنا به؟ كيف نتعامل معه؟ ما طابع العلاقة معه؟

لماذا يعترف بعضنا بحقه في التمسك بخصوصيته وهويته، وينسى قسم من هذا (البعض) حق الآخر بذات الأمر والسمة؟ نحن لا نرى سوى المساواة في ذياك الحق وألا يكون هناك من هو فوق ومن هو تحت؛ إذ لابد من تساوي كفة الجميع في وجودهم الإنساني المستحق.

وكي نحقق هذا في المستويين الشخصي الفردي والعام الجمعي، ينبغي أنْ نعترف للآخر بوجوده الحر المستقل؛ وبأن نضع الأولوية في بناء العلاقة معه عبر تقديم القواسم المشتركة وما يجمعنا من تفاصيل؛ فذلك هو من مبادئ التعبير عن المساواة وتجسيد حقوق الجميع في الاحتفاظ بهوياتهم ومن ثمّ برؤاهم ووسائل عيشهم بالطريقة التي يرون طبعا، مع تطبيق مبدأ تجنب التاثير سلبا على الآخر إذ تنتهي حرية طرف منا عند تخوم تبدأ بها وعندها حرية الآخرين…

ربما يكون حجم ما يجمعنا بطرف ما، فردي أو جمعي، عوامل وتفاصيل قليلة، ومهما دنت وقلَّت المشتركات فلنجعلها بموضع الأولوية.. إذ الصحيح شخصيا، أن نحتفظ بعلاقة الود، ولو بأدنى وجود لها، على أن نختلق أعداء بمحيطنا أو نصطنع من نصطرع معهم ونتبادل معهم الخلافات والصراعات.. وإلا فإن الحياة تصبح بوضع لا يطاق عندما نفتعل تلك الصراعات و\أو نعطيها الأولوية…

وإذا غادرنا الشخصي  فإنَّنا في المستوى الجمعي العام تفرض علينا هويات الأفراد والجماعات قوانين ولوائح حقوقية لا يمكننا اختراقها إلا حين نضع أنفسنا تحت طائلة المحاكمة لخروقات نلج بها مواضع صنع الصراعات ومشاغلة الناس بل (ربما) فرضها على الناس قسراً بسبب طابع خيارنا العدائي بقصد أو من دون قصد ودراية…

إن الصائب أن نحتفظ للناس بحق العيش الهادئ بعيداً عن تسخين مواضع الخلاف.. ودائما تفرض القوانين الإنسانية للعيش المستقر السليم أن نقدم أولوية نتذكر فيها مواضع اللقاء والاتفاق والتعاون والتفاعل إيجابا، ومهما عظم شأن الاختلافات بل الخلافات الفكرية السياسية ينبغي البحث عن أولوية للاتفاق أو ما يجنبنا الاصطراع العنيف..

وحتى إن انعدمت القواسم المشتركة بين طرفين، فإن المبتدأ يكمن في الحوار بينهما و أن تكون نية ذاك الحوار مجسدة في العثور على نقطة مشتركة أولى وقبيل الوصول إليها يكون واجب التمسك بمنطق الإخاء الإنساني وسلمية الحوار وهدوئه وموضوعيته، وبأن يكون شرطه ممثلا باحترام حق الآخر في الوجود الإنساني ببصمته وهويته. وهذا بالتحديد هو خيار أنسنة وجودنا وصنع الاستقرار والسلام الذي يحمينا جميعا ويسحب البساط من تحت أقدام قوى العنف والتخريب والهمجية…

لا مجال لأولوية التعادي والتناقض ومبدأ القضاء على هوية الآخر قسراً. لا مجال لقبول منطق إلغاء الآخر ولا حتى إقصائه من وجودنا.. إنه موجود بهويته وخصوصيته؛ فلماذا ومن يسمح لنا أن نلغيه ونقضي على وجوده؟ إن القانون الإنساني الأنجع لمنطق الوصول للاستقرار والسلام والعيش الكريم يبدأ من تمسك بأبسط المشتركات وتنميتها معاً وسوياً والعمل على تخليص الآخر من احتمالات الخطأ وجذبه نحو الصواب بدل ممارسة لغة العنف وآلياته البليدة المتوحشة التي تنتمي للغة الغاب لا لغة التحضر والتمدن وهذا يعني أن نبدأ بجهودنا لأجل التعايش الأنجع من حظر المخاشنة وتقديم أولوية رفض أية نظرة عدوانية للآخر بالاستناد لاختلافنا في التفكير وطرائق العيش مقابل أن نبدأ من كل في حال سبيله حتى نصل إلى ما يجمعنا سواء بظلال القانون وممارسة آليات العيش ووظائغها أم باللقاء حول مشترك نعينه أو يفرضه قانون وجودنا المجتمعي..

ربما يمكننا مبدئيا في المستوى الشخصي تجنب امرئ أو آخر وأن نحيا بعيداً عن الاحتكاك إلا بما نعتقده ملائما، لكن في المستوى الجمعي وفي إطار وجودنا الاجتماعي لابد من احترام التعددية والتنوع وحتى الاختلاف وأن نبحث بكل الوسائل التي تنهي أو تعالج أو تلجم حالات أو نتائج احتدام خلاف أو صراع لخلفية تفكير أو طريقة عيش.. بمعنى أن يكون ما يوحدنا هو احترام تساوينا في حق الحياة الحرة الكريمة، على وفق ضوابط يحكمها العقدُ الاجتماعي بين بني البشر في المجتمع الإنساني وبين مكونات مجتمع في إطار دولة أو إقليم…

لا يحق لطرفٍ أن يفرضَ نفسه وسياسته، ولكننا بواجب أن نتمسك بقانون يحمي وجودنا المشترك وبسلطة طرف (يدير السلطة) فيفرض القانون وسلطته ويدافع عن وجود بنية الدولة التي تحمي مصالح الجميع ولا تسمح للعبة الحزبية أو الفئوية أو لتيار ما أن تفرض وجودها على المجتمع..

هنا لا تكون توصيفات دكتاتور ودكتاتورية سليمة عندما نوجهها نحو شخصية أو حزب في سلطة تدير دفة السفينة وسط عواصف هوجاء، ولكن من يتحدث عن طغيان سلطة بتلكم النظرة المستعلجة السطحية، يجسد مراهقة سياسية لا تفهم الديموقراطية المنشودة، كونها أيضا سلطة القانون التي تحمي وجود الدولة حفاظا على مجتمع التعددية من الوقوع أسير اصطناع الشقاق والخلاف والتناقض ومن ثم الاحتراب والتمزق على خلفية التمترسات السياسية المغامرة أو المراهقة المندفعة خارج حلبة الاستقرار والتوازنات والمتطلبات المرحلية…

ولطالما وجدنا أطرافا تتشدق بعبارات مجانية عن تصديها وتحديها لسلطة القانون بادعاء أنها ليست ضد القانون ولكنها (تناضل) كما تزعم وتدعي ضد من يطبقه! كونه بنظرها دكتاتوراً! لماذا؟ لأنه لا يسمح لطرف أن يمارس مراهقته السياسية ومغامراته في ظروف لا يمكن السماح فيها بانفلات الأمور إلى تداعيات إن بدأت فهي كالحريق يبدأ بشرارة ولكنه لا ينتهي وينطفئ حتى يلتهم الأخضر بسعر اليابس…

إذن قضية الأولوية، في وسائل تعاملنا مع الآخر ينبغي أن تنطلق من أبسط المشتركات؛ حتى لو لم توجد فإن المشترك حينها هو تطبيق قانون وجودنا المجتمعي بدولة مدنية تساوي بين الجميع في حق العيش الحر الكريم مشروطا بعدم التجاوز على حق الآخر في عيشه الحر الكريم المساوي لما يمارسه كل طرف في ذاك الوجود..

إن موضوع الدولة بيد طرف منتخب مؤتمن لم يثبت إلا تمسكه بتطبيق القانون، لا يسمح لآخر أن يختلق معه أي شكل لصراع يؤدي لإضغاف بنى الدولة المؤسسية أو إرباك الحياة العامة وتفاصيل الحراك في إطارها..

وموضوع البنى المجتمعية وتياراتها ومذاهبها وأحزابها السياسية لا تسمح لطرف أن يكون متجاوزا للخطوط الحمراء في حقوق المجموع وحرياتهم..

ومن هنا كان واجبا اجتماعيا سياسيا شاملا أن نترك مواضع الخلاف والاختلاف ونحيلها إلى منطقة الحوار حول تعدد وتنوع في رؤى العيش ومسيرة الحياة وتفاصيل خطى المسيرة.. وأن تكون الأولوية بقواسم الحوار وأوسع منه بقواسم التطلع المشترك لدولة آمنة مستقرة وبيئة نظيفة من كل ما يمكن أن يفسدها…

وإذا كان ممكنا بل إذا كان طابع بعض القوى تقديم الصراع وفرض الرؤية بالعنف والقسر فإن الرد الأنجع لن يكون إلا بتوظيف أعلى درجات ضبط النفس واستخدام خطاب السلم والتهدئة والتفاهم انطلاقا من مبادئ التسامح التي توفر فرص التفاعل الإيجابي بما يدفع لانفضاض الجمهور من دعوات العنف والتشطير والتخندقات الانقسامية ويجذب هذا الجمهور إلى حيث وحدة الوجود الإنساني وطنيا أمميا في بوتقة التعايش السلمي بنيوياً بإطار جامع موحِّد…

إنّ إرادة اختيار الحوار والتفاهم واحترام حقوق الآخر بروح المساواة مع الدفاع عن حقوق الأنا، هي إرادة وضع الأولوية الإيجابية البناءة وهي من ثم إرادة صنع حياة حرة كريمة بمنطق الأنسنة لا بمنطق إلغائها ولا بالانحدار لعنف همجي بلا منتهى إلا بالقضاء علينا وربما على الآخرين؛ ما يقتضي التصدي له بوساطة خيارنا طريق المشتركات توحدنا حول هدف العيش الآمن المستقر…

إن التسامح والإخاء وتقديم أولوية الحوار السلمي ليس جُبْناً إنما هو امتناع عن التهور والدخول في معمعان احتراب وعنف بلا نهاية محسوبة النتيجة بل بنتيجة واضحة آلامها وفواجعها…

إن أولوية التعايش السلمي بروح الإخاء والاحتفاظ للتنوع بالاحترام والقدسية هي خيار أنسنة وجودنا واحترام سلامة مقاصدنا ونجاعة آليات عيشنا وصنع بيئتنا النظيفة النزيهة..

وأولوية التعايش تعني تمسكنا بمنطق العقل العلمي وبالتنوير وباستراتيجية صحية هي الممر الوحيد وسط ممرات الاحتراب وأشكال تدميرها لوجودنا ولعيشنا…

فهلا بحثنا دوما في كل قضايانا الفردية الشخصية والجمعية العامة عن أولوية نحترم بها قيم السلم ونبعد إلى أقصى حد قيم العنف في بناء جسور العلاقات.. وليبدأ هذا من اختيار الألفاظ، العبارات، الموضوعات التي نقدمها من قواسمنا وما نتفق فيه وعليه ثم نتقدم خطى أخرى وتدريجا لتدارس مشترك فيما نتنوع فيه برؤانا لنمر إلى ما نختلف فيه وما قد نتناقض فيه أيضاً لنحسم موقفنا بوساطة فعلنا الإيجابي وخيارنا الأكثر صواباً…

تلكم هي مسيرة السياسة الحكيمة بعيدا عن لعبة المخادعة وتقية إضمار الشرور والإيقاع بالآخر لأن ذلك سرعان ما سينكشف عن وقيعة تختلق ميدان حرب وتشعل حرائق بلا منتهى محسوب العواقب..

وسلمت لكل امرئ ولكل طرف سياسي ومجتمعي ومكوِّن وفئة ومجموعة قومية أو دينية إرادة تبحث عن إعلاء كلمة السلام،  وعن التفاعل البنيوي للتنمية والتقدم عبر طريق التفاهم وأولويات المشتركات البناءة .. إنها  إرادة الأنسنة التي نحترم والتي ننتظر منها أن تكون المنقذ من أحابيل مشعلي الحرائق ومثيري المشكلات والاضطرابات..

فهلا تنبهنا أيها السادة وآزرنا من يختار برامج السلم والحوار والتعايش والتفاهم؟؟؟ أليست تلكم هي السياسة التي نستطيع نحن أبناء الشعب بكل مكوناته أن ندفع باتجاهها بدل أن ننخرط في لعبة التمترس والتخندق المتناقض الساعي للاحتراب بعد تمزيقنا شيعا وفرقا مصطرعة ؟

إنه وعينا ايتها الصديقات ، أيها الأصدقاء من يحدد ومن يفرض على من يدير الأمور أن يختار الأولوية الأنسب والأنجع  لنا ولوجودنا حاضراً ومستقبلاً، فلنكن سندا لأنفسنا وسلامة الآتي من خطانا…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *