كيف يمكننا فعليا إنهاء ظاهرة العنف ضد المرأة؟

هل ستتحول الأيام العالمية والدولية إلى مناسبات روتينية للكلام الفارغ بلا برامج عمل حقيقية يمكنها أن تنبه على الظواهر وتمنح فرصاً مناسبة للمعالجة والتصدي للمشكلات التي تجابه مجتمعاتنا؟ إن الإجابة تكمن في طابع الدراسات والقراءات التي نقدمها سواء كانت مجرد تلميع للأوضاع أم مواد بحثية تمثل عمليات جراحية تتعمق في الظواهر وتفضح السلبيات كما تقدم البديل الأنجع وتفتح بوابات الحوار المناسبة… هذه القراءة بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء تحاول وضع الإصبع على وقائع ومجريات باتت من تفاصيل يومنا العادي ولابد من فضح السلبي الخطير والبحث في البديل المباشر وغير المباشر للحلول…

مازالت بلدان منطقة الشرق الأوسط ومنها العراق، تقبع في ظلال أسوأ القيم التي تتحكم بها سياسياً اجتماعياً.. فمن جهة هناك نُظُم قمعية تتحكم بكل شيء حتى في حياة الفرد الخاصة؛ وهي تسحق الحياة الحرة الكريمة بممارسات عنفية بلا حدود ولا أيّ شكل لاحترام حقوق الإنسان. ومن جهة أخرى فإنّ المجتمع نفسه مازال يمر بمرحلة انتقالية تحمل معها كثيراً من التقاليد البائسة وأشكال الانحراف والتشوّه في العلاقات ما يثير حالات التضاغط وقيم سلبية عنفية شديدة الوطأة، لعل أعقدها وأكثرها انتشاراً تلك التي تقع على النساء في مجتمعات التخلف بخاصة…

إنّ مهمة مكافحة ظاهرة العنف تتطلب مسارين متحدين؛ أولهما يكمن في معالجة الخلل البنيوي – الهيكلي الناجم عن الصراع بين طرفين سياسيين عنفيين، هما الأنظمة القمعية والميليشيات والحركات الراديكالية. فهاتان القوتان تسطوان على الحياة العامة، بقوة البلطجة وعسكرة الصراعات السياسية خدمة لمآربهما وأطماعهما.. بالمقابل يُشاع في الحياة الاجتماعية كل ما يعود القهقرى بالمجتمع؛ حيث القيم الماضوية السلبية وحيث طابع العلاقات المشوّه بالتحديد تلك العلاقات الاستغلالية ومنها القائمة على فلسفة ذكورية استبدادية من جهة، تلك التي تقوم على المنطق البطرياركي (الأبوي) وعلى فرض آليات عيش متعارضة والحداثة ونقيضة لمنطق التحرر وهي الآليات التي تتمترس خلف قيم هي بجوهرها قيود الفكر الظلامي الماضوي..

ومن الطبيعي في مثل هذي الظروف والفلسفة التي تتحكم بها تظهر على سبيل المثال حالات البلطجة والابتزاز والقهر الاجتماعي والفكري السياسي، وفي كثير من الأحيان تتعرض الفتيات القاصرات والنساء بعامة للتحرشات والاعتداءات الجنسية كظاهرة تتفشى بمجتمعاتنا اليوم. وهي جرائم تُرتكب خلف أستار البيوت في العوائل وبين الأقرباء لتمتد إلى العلاقات الاجتماعية الأخرى من جيرة وصداقة وغيرهما وإلى الشوارع والمدن ومؤسسات العمل.

ولا توجد بمثل تلك الظاهرة أية إحصاءات حقيقية بسبب ما يرافقها من قيم ((العيب)) و ((الفضيحة أو العار)) ومن ثمَّ ما يرافقها أيضا من فرض التشدد في التكتم والسرية على تلك الحالات الإجرامية… وفوق وأوسع وأشمل يوجد القمع المعنوي القيمي في إشهار قائمة مفتوحة من المحظورات الممنوع ممارستها من قبل النساء والفتيات..  ومن الطبيعي هنا أن نلاحظ على سبيل المثال التدخل في الزِّي إلى درجة ((تكفين)) الفتيات والنسوة وتجليلهنّ بأقمشة سوداء قاتمة وبأزياء ما أنزل الله بها من سلطان.. كما يجري التدخل في خصوصياتهنّ بطريقة فجة تنتهك الكرامة إلى حد خطير…

وأول من ينتهك حقه في الأسرة هي الطفلة حيث تفضيل الذكور تلك الظاهرة السلبية المقيتة التي تنتمي لزمن وأد البنات؛ وهنّ الأكثر تسرباً من التعليم تحت ضغط الفقر والظروف والضوائق العائلية والمجتمعية كما أنهنّ يُمنعن من اختيار التخصص العلمي المهني أو يجري تحديدهن بمهن بعيتها أو يُحرمن من العمل نهائياً إن لم يكن على وفق ما يلائم التقاليد وما يسود من قيم وأعراف بالية..

 ومن أجل عمل المرأة عليها مجابهة جملة عقبات لا يواجهها الرجل في تفاصيل اليوم العادي؛ وأول ذلك عليها أن توفر هي لا الرجل حال التوازن بين مهامها في العمل وومهامها أو ماا يسميه عادة المجتمع واجباتها في المنزل وطبعاً من ذلك إشباع المتطلبات كونها زوجة وكونها أمّاً فضلا عن الأعمال الروتينية المنزلية، دع عنك مهمة الاعتناء بنفسها لأسباب وجودية. وستجد المرأة ظرفاً مانعا لتوظيفها إذا كان عندها طفل أو أطفال يفرض وجودهم عليها (واجب) الأمومة.. ومن ثمّ فهي تجابه هنا التمييزبكل يء وليس أدناه الأجور المتساوية للعمل المتساوي.. ونعود للتذكير بمشكلة التحرش التي بدت تترافق تفاقماً مع صعود تيارات الإسلام السياسي وتدهور ثقافة المجتمع والنزعات الذكورية والعنفية السائدة…

إنّ الطابع المتسم بالعنف للعلاقات الأسرية وما يولده من تركيبة انفعالية نفسية عند المرأة يترك آثاره فيها بعد الزواج ومع تكرر عنف الأشغال المنزلية بخاصة تلك الروتينية المبالغ بوقوعها لأسباب شتى إلى عنف أو ضغوط العمل أو ضغوط مجتمعية وأحيانا وقوعها ببراثن الابتزاز وعنفها، وكذلك آثار عنفية قاسية لظاهرة الختان التي مازالت متفشية حتى يومنا؛ كل أشكال العنف تلك يحرم المرأة من أن تعيش حياتها والاستمتاع بجانب من حاجاتها الطبيعية ومنها الجنسية ما يدفع لنتائج مرضية مختلفة..

ويزداد أثر العنف على المرأة عندما تكون معاقة، فهي هنا ستعاني بشكل مركب يتعمق فجاجة وعنفاً لدواعي نفسية واجتماعية فضلا عن طابع اشتغال العنف البندي والمعنوي ظاهرةً تقع عليها بكل ملامحها السلبية.. والأخطر في الإعاقة عندما يجري حرمان الفتيات من التعليم ومن أشكال الثقافة ليتم تعريضهن لضغوط غنيفة لا يدركن عندها طابعها وآليات التعامل، فتحيا النسوة معاناة داخلية ناجمة عن عنف لا يدركن مصدره الحقيقي وكيفية التصدي له الأمر الذي يخضعهنّ لمزيد إحباط واستسلام لظواهر التعنيف وسلبياتها غيمضين بحيوات لا تنتمي إلى أنسنة وجودهنّ!

إنّ العنف قد لا يأتي (مباشرة) من المجتمع أو الرجل ولكنه قد يكون من المرأة تجاه ذاتها.. كيف تفهم نفسها؟ وكيف تفهم بيئتها؟ وكيف تفهم العلاقات التي ترتبط بها؟ وهنا تتحكم بها الفلسفة الشائعة وطابع ما فيها من ثغرات وسلبيات تؤدي لصنع أرضية العنف تجاه الذات وقبول الخضوع للعلاقات المازوخية.. فهي بدءاً من نظرتها إلى ذاتها ومروراً نحو علاقتها بعائلتها التي وُلِدت فيها فعائلتها وزوجها ثم علاقاتها المجتمعية تولد ضغوطا وعنفاً قاسياً بلا وعي حقيقي ولكنه مجرد وعي يجد تبريرات ممارساته وقيمه بما اكتسبته من ثقافة سلبية..

وأخطر ما في ذلك هو ما يتصل بالتقاليد والأعراف التي تربت عليها خطأ ثم التشريعات  والقوانين التي تتحكم بها وتلكم جميعاً كانت ومازالت الأكثر توفيراً للتبرير لأشكال العنف الذي يقع عليها وطبعاً ما سيتأتى لاحقا من ردود فعل ومواقف تتخذها في التعامل مع نفسها وبيئتها..

ونحن بتنا اليوم نشاهد بروز ظواهر تبريرية للاستغلال العنفي ومنه الجنسي بمسميات ((زواج)) يجري تقنينه بتشريعات أو بتأويلات تزعم الانتماء للدين والمذهب من قبيل المصياف والمسيار والمصباع والمطيار والعرفي والمتعة وما إليها من أشكال تتعرض فيها اليوم الفتيات في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع لضغوط ممارستها إرضاء لنزعات مرضية مشوّهة هي مفردة من مفردات العنف الواقع على النساء مادياً معنوياً قيمياً..

وخلا هذا وذاك مما مرّ معنا موجزاً وسريعاً يبقى العنف الجسدي وما يتلبسه من عنف أدبي معنوي انتهاكاً صارخاً لإنسانية المرأة.. إنه فضلا عما يوقعه بدنياً من آلام وربما تشوهات وأشكال إصابة أو إعاقة فإنه يتضمن أقسى اشكال الحط من المكانة والإهانة والتحقير واستلاب الشخصية قوتها وإرادتها وإخضاعها بالعنف وبالبلطجة للسطوة الذكورية البائسة..

إن العنف اليوم في المنطقة بات بأعلى مستوياته بخاصة في ظل لعلعة الأسلحة وأصواتها الوحشية وعراقياً وجدنا إكراه الطالبات الجامعيات على اشكال زواج مشرعنة بمنطق المذاهب الدينية زوراً وبهتاناً ووجودنا اتساع خطير في ظواهر الاختطاف والاغتصاب المتكتم عليها إحصائيا كما وجدنا تكتما على ظواهر جرائم غسل العار والقتل بعد الابتزاز والتمتع الشهواني بالجسد والاغتيالات لأسباب سياسية كما وجدنا ظاهرة ماتت منذ قرون عندما أعادت قوى تتستر بالدين سوق النخاسة والاتجار الجنسي بالنساء واسترقاقهنّ علناً.. وباتت نسوة البيوت (حريم) السلاطين المهووسين بسطوتهم الذكورية. وتمّ إعمال سكين الجريمة والذبح الحلال في مختلف النسوة بلا وازع من ضمير أو قيم او حتى سلطة قانون..

وتعزيزا لتلكم الظواهر العنفية الخطيرة نجد زعماء أحزاب الطائفية من حركات الإسلام السياسي يحاولون بين الفينة والأخرى فرض قوانين خارج سلطة الدولة وتشريعاتها لتمرير سطوتهم على النساء بحجة قوانين ((المذهب)) أو ((الطائفية)) مستغلين بذلك الجهال والتخلف لإشاعة قبول هو خضوع لنزعاتهم المرضية…

العنف ضد المرأة في بلادنا ييتم حتى من الذكر ابن العاشرة على والدته بحجة الوصاية الدينية طبعا التي تؤوّل النص لخدمة الغايات والمآرب..

أما كيف نتخلص جميعا والنساء أولا من كل تلك الفجاجة الوحشية وهنف الهمجية المجترة من مجاهل الكهوف والأزمنة الغابرة فهي تكمن بوقف لغة العنف المسلح ونزع أسلحة الميليشيات والمافيات ومنع استسعمال السلاح والقوى خارج سلطة الدولة والمجتمع وإعمال القانون والتشريعات المدنية التي تلبي لوائح حقوق الإنسان وتعزيز ثقافة التعايش السلمي والسلم الأهلي فرايات ثقافة السلام هي بيد النسوة تحديداً، وسيكون لنشر ثقافة العدل والمساواة، ثقافة التنوير أدوارها التي يمكن أن تعيد الاتزان للعلاقات المجتمعية بشكل صحي سليم… إن ثقافة المرأة ووعيها كفيلان بمنحها قوة جدية لشخصيتها كي تحيا بشكل يليق بإنسانيتها ولا تخضع للابتزاز بسبب الخواء والجهل أو تشوه الثقافة ونقص المعارف…

إنَّ ندائي بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة يتطلع لأوسع تضافر في الجهود المبذولة من النساء أنفسهن ومن الرجال المتنورين كي يجري تعزيز الحلول العميقة غير المباشرة لمكافحة ظاهرة العنف بكل تفاضيلها سواء العنف المنزلي أم العنف في الميادين المجتمعية العامة وذلك عبر:

  1. نشر التعليم بين النسوة وتعزيز نسبة وجودهن في مؤسسات التعليم الأساس والجامعي والاهتمام بنسبتهن في مراكز البحث العلمي.
  2. توسيع نسبة مساهمتهن في الاقتصاد وتشغيلهن بمختلف الميادين اسوة بالرجل وعلى أساس من المساواة والاهتمام بالكفاءة والأجر المتساوي..
  3. إيجاد التشريعات المدنية بخاصة في مجال الأحوال المدنية وقوانين الأحوال الشخصية بما يكفل العدل والتكافؤ والمساواة ورفع الحيف عنهن.
  4. تجريم أشكال الابتزاز والاعتداء الجنسي وغيره وضمنا ذاك المسمى زواجاً، والمبرر بقيم وممارسات دينية مذهبية لا تخضع لسلطة القانون المدني وهي طبعاً ليست من الدين بتفسير صحي سويّ.
  5. إعمال قانون العقوبات بخاصة في موضوع جرائم الشرف بعد إلغاء أية مواد تخفف من العقاب على المجرمين بدواعي التستر غير القانوني على ما يسمونه جريمة شرف مازالت النسوة تذهب ضحيتها وهنّ براء من اتهامات مخزية يطلقها المرضى المعتدين…
  6. إعمال مواد قانونية على ظواهر التحرش المتفاقمة ومنع التساهل بها في التشريعات السائدة.
  7. إطلاق فرص الأنشطة الثقافية التنويرية النسوية في مجالات الآداب والفنون السينمائية المسرحية الغناسيقية وغيرها بما يظهر طاقات المرأة لأنسنة وجودها والمجتمع برمته.
  8. إطلاق حملات توعوية وللضبط والتصدي لكل اشكال التحرش والمعاناة التي تجابه النسوة وتكون الحملات نوعية مستقلة مثلا حملة ضد التحرشات الجنسية في الشوارع، ضد التحرش في المؤسسات، ضد التحرش في العوائل، ضد العنف الأسري أو العائلي، ضد ممارسة الضرب، ضد العنف القيمي المعنوي؛ وهكذا اشكال أخرى من العنف التي بدت تطفو مرضياً، وربما سيكون لتشكيل جمعيات لمناهضة ختان النساء أو تعنيفهن هي وسيبة مناسبة لمكافحة العنف…
  9. نشر ثقافة التسامح والتآخي الإنساني القائم على احترام الآخر وحقه في العيش الحر الكريم القائم على مبدأ العدل والمساواة بديلا عن فلسفة الثأر والانتقام التي لا ينجم عنها سوى مزيد الغوص في وحل الجريمة ومستنقع الرذيلة لجميع من يمارس جرائم الثأر والانتقام من رجال ونساء.. لأنهما عندما يرتكبان جريمة بتبرير الانتقام إنما ينحدران لمستنقع لايقف عند الثأر من الآخر بل ينتقص وأبعد منه يقتص من الذات ويورطها في مشكلات بلا أول ولا آخر بخاصة هنا في التعارض ومع ثوابت القوانين والتشريعات بوصفها السلطة المعنية بضبط الأمور وطبعا عند الخروج على القيم المدنية الناجعة يتورط المرء في مستنقع ومطبع ىسن ينتمي إلى التخلف ومنطقه وآلياته. ولا أحد من المتنورين والمنتمين إلى قيم العصر يريد ذك…

وبعامة تبقى هذه الظاهرة بحاجة لدراسات في أقسام علم الاجتماع والنفس والسياسة والقانون وغيرها وفي مراكز البحث العلمي وفي المنظمات العاملة وطنيا وإقليميا دوليا كيما نستطيع التصدي لها وإيجاد أفضل الحلول لإنهائها والتوجه إلى عالم جديد من العيش الإنساني الأنجع والأكثر صحة وسلامة في بناه وعلاقاته…

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *