الألوسي لـ«المصري اليوم»: الدواعش كائنات سايكوباثية.. ولا أؤيد نظرية المؤامرة.. وأرض النهرين واقعة تحت حكم طائفي «كليبتوقراطي»

لقاء الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي مع صحيفة (المصري اليوم) حيث التقاه كبير المراسلين  الدوليين بالجريدة الأستاذ محمد البحيري .. وتناول اللقاء جملة من الأمور والموضوعات الخاصة والعامة وكعادته فقد كانت إجابات  بروفيسور الآلوسي تربط بين الخاص والعامى كما هي حقيقة مسيرته واشتغالاته بوصفه شخصية أكاديمية وحقوقية.. وكالعادة جاء الحوار ليمنح قيم التسامح وثقافته والشأن الحقوقي وموجبات التغيير المؤمل ببلداننا مساحة مميزة مع وضوح في المعالجة وبلا تحرج أو تردد فيي تأشير الحقائق والنص على وجوب العمل بها.. تجدون نص اللقاء في الرابط في أدناه كما تجدون المادة مفصلة في ثنايا موقعنا ألواح سسومرية معاصرة

 

في لقاء صحفي: الأستاذ الدكتور تيسير الألوسي لـ”المصري اليوم” اضغط هنا للتعرف إلى التفاصيل المنشورة

http://www.almasryalyoum.com/news/details/1066438#

 

أو تفضل بالمتابعة في أدناه

ما الذي يمكن أن نبدأ به حوارنا من رسالة إلى القارئ؟

 مرحبا بك عزيزي وبصحيفة المصري اليوم وبجمهورها وأهلنا الأحبة في مصر.. وآمل أن تكون إجاباتي الموجزة عن سِفر هذه الأسئلة وحوارها، مفيدة في تغطية ما وددتم استعراضه بشأن قضايا جد مركبة سواء منها السياسية أم الحقوقية أم الثقافية. وبجميع الأحوال أقدّم معالجاتي هذه بوصفها مقترحات تقبل جدليا التفاعلات مع الآخر وتعترف له بحقه ليس في الرد حسب بل في الوصول إلى ما هو أكثر دقة وصوابا.. إنني إذ أشكركم على تنوع الأسئلة الموجهة إليَّ وغنى محاورها لأرجو أن تكون بحق شاملة وأن تلبي ما يُطرح في بلدان المنطقة بالاستناد إلى رؤى الطبقة الوسطى ونخبة الثقافة ومراكز البحوث العلمية الأكاديمية..

لقد تعرضت المنطقة لهزات راديكالية شديدة الوطأة، تراجعت بها نحو حال من الاستنزاف والتشرذم وإشاعة خطاب التخلف والتشدد ولغة العنف التصفوية الهمجية بغياب تلك الطبقة ونخبتها أو فصمها عن المجتمع..

إنَّ تفضلكم بهذه التغطية هي جزئية على تواضعها، تبقى في إطار مهمة حيوية رئيسة منتظرة لاستعادة الصلة الجوهرية بين العقل العلمي وجمهوره، وإنني لأرجو مجددا أن تتوافر في هذا الحوار ما يخدم التوجه نحو تعزيز التفاعل الذي يؤكد احترام التنوع والتعددية في الرؤى والمعالجات وفي استقاء تطلعات الشعوب التي نزلت بالأمس القريب بملايينها لتفرض إرادتها للانتقال نحو بنية دولة مدنية جديدة تستجيب للحقوق والحريات ولتطلعات التقدم والتنوير والتنمية.

أهلا وسهلا بكم وبالتوفيق.

منذ متى وأنت تعيش خارج العراق؟

موضوع وجود جالية عراقية في المنفى ومن ثمَّ تكوينها المهجري، له جذوره في التاريخ العراقي المعاصر.. عندما بدأ غب مذابح سوميل بحق المسيحيين سنة 1933، ثم جينوسايد الأنفال وما تعرض له الكورد 1988 وما تلا ذلك من حروب وحصارات في تسعينات القرن الماضي، ومن ثمّ الأوضاع الأزموية عقب 2003؛ حيث اُضطُر ملايين العراقيين إلى الهجرة القسرية والنزوح في داخل البلاد وخارجها، وانتشروا بين المنافي والمهاجر القصية. ويمكن حساب تاريخ مغادرتي الوطن بحوالي ربع القرن حيث كنتُ من بين مَن اُضطُر لركوب طرقات المنافي ثم الاستقرار في المهجر..

عملت خلال تلك المدة، أستاذاً جامعياً بتخصص الأدب الحديث. وكما كثير من النخبة العراقية والعقل العلمي المؤمن بثقافة التفتح والتنوير الإنساني، قدمت مساهماتي في أنشطة الثقافة بمجالات الآداب والفنون ومؤتمرات التنمية البشرية وفي الثقافتين الحقوقية والأدبية الجمالية عبر ملتقيات متخصصة انعقدت بمختلف بلدان المنطقة وأوروبا… وشخصياً أرى مدة وجودي مهجرياً بحجم حراكي الأكاديمي والثقافي ومساهماتي وبحجم معاناة طرقات المنافي لجالياتنا وما ربما قدمتُه من جهد متواضع في الصُعُد الحقوقية…

ما سبب مغادرتك للعراق؟

بعد كل تلك السنوات العجاف، تعيدني بالذاكرة للإشارة إلى أن الصراعات الراديكالية السياسية التي عصفت بـ البلاد وطابع النظام وفلسفته الدكتاتورية القمعية كانت السبب وراء هجرة قسرية لمئات آلاف العراقيات والعراقيين. وتعرضهم لمخاطر طرقات الهروب من ملاحقات الشرطة السياسية التي كانت تحتكم لسلطة فردية بامتياز هي سلطة طاغية لم يتعظ حتى بعد الانكسارات الخطيرة التي عرّض لها البلاد بمغامراته…

كنتُ معرضاً للاعتقال والتعذيب والتصفية كما كثير ممن سعوا للشروع ببناء عراق ديموقراطي يحترم أبناءه ويفتح مسارات البناء والتقدم بعيداً عن الهزات الراديكالية والمغامرات التي بدت تُنذر بما تلا وأصاب لاحقا المنطقة برمتها بحرائقه وكوارثه.. ووجدتُ شخصياً، أنني مثلما آلاف الأكاديميين من أساتذة الجامعات والعلماء، يمكننا أن نخدم في بناء بلداننا بدلا من الوقوع في أتون محارق نازية لسياسات قمعية ولصراعات محتدمة… تلكم كانت القضية والجوهر.

كيف كانت لحظات الرحيل والفراق عن الوطن؟

لقد قاومتُ شخصياً فكرة الهجرة أو حتى فكرة التوجه إلى المنفى؛ فقد كنتُ دائما أرى أنّ وجودنا في بيتنا وطننا واجباً بنيوياً لا مناص منه. ولكنني في النهاية وصلتُ إلى طريق مسدود؛ لحظة شملت المطاردات القمعية كل شخص لا يخضع لسلطة الطاغية ويهتف لرغباته ومآربه… في تلك اللحظة كان إحساس التمزق بين حب العيش في الوطن وفكرة رفض المغادرة وبين الاضطرار لركوب سفائن المنفى. وأقسى تلك اللحظات هي المغادرة من دون فرصة لتوديع الصحب والرفقة والزملاء، توديع فضاء العيش.. وأقسى منه كيف كنتُ أحس وقْع الرحيل فيما الأهل يتطلعون بألم إلى فقدان الابن وعائلته يضطران للتوجه بعيداً حيث لا لقاء! لكنه ربما أقل ألماً من الوقوع ببراثن الاعتقال والقمع الأمني السياسي… إنها لحظة من القسوة يوم تجولت فيها بين بيوت مدينتي لآخر مرة؛ أودّع أحجار جدرانها وحدائقها وخطى شوارعها وأزقتها بأكثر ما تكون آلام الرحيل بل فاجعته… إنها لحظة ما زالت حية بآلامها وأوجاعها بكل صورها الباقية بوخزها الفاجع.

ألا تفكر في العودة اليوم؟

عندما غادرتُ كان عليّ الخيار بين البقاء حياً من أجل مواصلة تقديم ما يمكنني لمحيطي وبيئتي وبين الوقوع أسير التعذيب والتصفية.. واخترتُ البقاء حياً لتقديم ما يمكنني للبشرية بعامة ولعائلتي الصغيرة بخاصة.. واليوم في الظرف السياسي وغليانه؛ ترون معي ما يجري من صراعات أبشع؛ سببها الرئيس يتجسد في سطوة قوى الطائفية وميليشياتها والإرهاب على البلاد.. لم أؤمن يوماً بالعمل العنفي ولا بعسكرة الصراعات. وما يجري اليوم هو فرض قسري عنفي لعسكرة المجتمع ومصادرة الحريات والحقوق وإحالة الوطن إلى جحيم من محارق الجريمة الأبشع! فملايين في المنفى والمهجر وأخرى في النزوح في داخل البلاد.. مع انسداد لمشروعات الحياة والتنمية في ظل سياسة نهب لصوصية هي الأعلى بحجم فسادها عالميا حتى أن أدق تشخيص للنظام القائم لن يكون سوى تشخيصه نظاما طائفيا كليبتوقراطيا. ولابد هنا من التوكيد أنه يجب تغيير هذا النظام من أجل الشعب وأطيافه ومكوناته وطبقاته الفقيرة.. ولعل وجودي في المهجر يمثل فرصة ولو بسيطة ومتواضعة ولكنها مناسبة في الخيار الاضطراري مرة أخرى لدعم نضالات الشعب لاستعادة مقدراته من أسوأ مفسدين كوَّنوا طبقة كريبتوقراطية هي جزء من مافيا دولية خطيرة في نهب لا الثروة الوطنية حسب بل وحيوات الناس.. لا يمكنني في ضوء ذلك، زيارة البلاد وتزكية ما يجري من جرائم.. ولهذا مع حنين بحجم سنوات المنفى وآلامها إلا أنني مضطر للبقاء في مهجري بالضد من إرادتي وخياري مثلما مئات آلاف غيري من العراقيين.

كيف ترى العراق اليوم؟

العراق اليوم، هو تركة ممزقة متشظية بين أقطاب النهب والجريمة وأركانها.. إنه بلا مؤسسات دولة حقيقية بعد أن باتت الدولة غنيمة بين أحزاب الطائفية أو عناصر نهبها.. إنهم مشعلو الحرائق للتغطية على كل المجريات بدخان التعمية وبالتضليل بخطاب الطائفية السياسية. بالمقابل هناك حركة شعبية مدنية باتت تتلمس خطى استعادة وحدة العراقيين لتلفهم حول هوية وطنية بعمق إنساني بديل لتمزقاتهم المصطنعة.. وهي حركة تستحق الإشادة والدعم والتضامن الأمر الذي نحاول تعزيزه من هنا من مهاجرنا القصية، بالدفاع عن حقوق العراقيين وفضح ما يجري بحقهم.. ومن الشرارة سيندلع اللهيب وتنتفض الإرادة الوطنية العراقية لتستعيد الحرية والحقوق وتشرع بمسيرة البناء الحق مثلما تستعيد دور العراق في محيطه وصلاته الطبيعية الأنجع سلامة وصحة؛ كما سيتحرر الوطن من تبعية يوهمون بها قطاعات منه بوساطة التضليل فيما القضية ليست أكثر من استغلال وابتزاز وتدخلات سافرة واحتلال بمختلف الأشكال والصيغ…

ألا يخالجك نوع من المقارنة بين عراق صدام حسين وعراق ما بعد صدام؟

لم يكن العراق ليُنسب يوماً لشخص ولا أوافق شخصياً على تسمية العراق باسم حاكم فُرِض عليه، فالعراق صاحب عمق حضاري جسَّد تراث الإنسانية في وجوده وصاحب قرن من الدولة الحديثة المستقلة، بكل حركاته الوطنية وثوراته المجيدة وعلمائه وبناة دوره المميز المهم.. كما لا أوافق على فكرة الاختيار بين السبب والنتيجة على أساس أن ظروف الأول أفضل نسبياً، لكنني أرصد الظواهر التي تتحكم في وجود هذا النظام أو ذاك وما ينجم عن سياساته من نتائج.. وكيف لي أن أختار نظاما جرت في ظله جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية!؟ إن الأجواء الحاليية تجسد حال شرذمة حكم الطائفية الكليبتوقراطي بما يعني انحدارا مستمرا في أوضاع الشعب وظروفه القاسية حيث حروب الميليشيات الطائفية وتبريراتها الأسوأ بحق الشعب.. لقد انتقل الشعب العراقي من ضوائق سياسية وحصارات اقتصادية إلى انهيارات اقتصا سياسية أشمل وأبشع، و ربما بعض الجمهور بات يستخدم عبارة كنا بأجواء أفضل من بوابة المقارنة الشكلية، لكنني ملزم بالتشخيص في كون الانتقال من العسف الدكتاتوري والنظام الحديدي إلى بنى مختلفة قد ترافق مع هزة راديكالية وتغيير السلطة بقوة خارجية هي الاحتلال وسياساته وتداخلات المصالح الدولية واالإقليمية، لكن البديل لا يكمن في العودة إلى الوراء.. ولا مجال للبديل إلا بوحدة قوى الشعب والتفافها حول برنامج وطني لبناء الدولة المدنية ومسيرة الديموقراطية بوجود مرحلة انتقالية تحت حكم الطوارئ.. وخلا ذلك سيبقي اللعب العبثي بمقدرات الشعب عبثاً يدور في فلك أشكال الاستغلال ونظمه…

هل تتمنى اليوم لو بقي صدام في حكم العراق؟

كلا قطعاً فلقد كان سبباً في كوارث وجرائم بلا حصر، وبإدخال البلاد بمعارك وحروب مع قوى دولية وإقليمية وإنهاك البلاد والشعب حتى أفضى إلى مرحلة الاحتلال وما أعقبها من تسليم الوطن لقوى مافيوية لا ترعوي عن ارتكاب كل أشكال الجرائم.. البديل لن يكون يوما ما يسمى المستبد العادل ولا العودة إلى الطاغية الدكتاتور بل مرحلة انتقالية تتطلب طوارئ بسقف زمني محدد ينجز فيها مهام استعادة الأمن واستتبابه، وبعد أن تضبط الأوضاع، تتجه إلى جهود تأسيس نظام يمكنه بناء دولة مدنية قادرة على استيعاب برامج إعادة الإعمار والتنمية وتفعيل أدوار أبناء الشعب وقواه لا دفعهم إلى أتون الحروب والانقسام والشرذمة بين عناصر مرضية مصطرعة على تقاسم الغنيمة… ودعني أؤكد أن العيش في كنف الماضي لم يكن ولن يكون يوما سليما ومن الضروري الانتباه على صياغة الأسئلة كي تصل إلى الإجابة الأنجع والبدائل الأكثر صوابا وسلامة.. إن مجرد طرح سؤال بهذه الصيغة على الغالبية العظمى من العراقيين ومنهم الذين اكتووا يوما وها هم يكتوون بنيران الاستبداد يمثل استفزازا حقيقيا لهم.

هذا الوضع المأساوي الذي وصل إليه العراق اليوم، من يتحمل وزره؟ (دول وأشخاص)

لابد من تشخيص البداية عندما دفعت مغامرات صدام إلى فتح الطريق واسعاً للتدخل الأجنبي ومن ثمَّ الإتيان بالاحتلال وما نجم عنه من تسليم السلطة لتركيبة فاشلة بكل المعاني والمقاييس حيث تأسيس مجلس حكم طائفي التركيبة الأمر الذي منح دولا إقليمية منافذ تدخل واستباحة وها هي الميليشيات بكل اتجاهاتها ومسمياتها هي التي تعيث في البلاد فسادا وخرابا..

إن عراق اليوم، وتمزقاته وحرائقه هي بسبب طابع النظام فيه وهو كما ذكرتُ لك (نظام طائفي كليبتوقراطي) يقوم على عسكرة المجتمع بطريقة زرع الميليشيات وبفرض سلطة البلطجة ومنطق الغنيمة وآلياتها.. وعليه فمن يتحمل مجريات اليوم بعد الإشارة الواضحة الصريحة إلى مسؤولية قوى النظام السابق يتمثل في:

أحزاب الطائفية وزعاماتها ومن يقف وراءها من قوى إقليمية بكل الاتجاهات؛ وطبعا هذه القوى ليست أحزابا بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه وإنما هي قوى مافيوية وكتل مفسدين وطبقة تشكلت منهم لا يمكنها الاستمرار من دون بلطجيتها وميليشياتها وقبله وبعده عملية تفريغ المؤسسات من محتواها لتكون أداة بأيديهم في استنزاف البلاد وثرواتها وفي استغلال الشعب وأسْرِه بين أيديهم  لمآرب مَن يمثلون من قوى احتلال خارجية  بكل الادعاءات والتأويلات التضليلية التي تتستر بالدين والطائفة..

إنّ القوى المتحكمة بالسلطة هي المسؤولة عن المجريات الكارثية الفجائعية السائدة، أقصد بالتحديد أن جناحي الطائفية المدعي سنيّته والمدعي شيعيته؛ هما طرفان يقودان تجنيد القوى المأسورة بتضليلهم لمزيد من صراعات دموية بشعة..

ما رأيك في تنظيم داعش؟

بدءاً شراذم الإرهاب تمظهرت مرة بميليشيات القاعدة وأخرى بغيرها من مختلف المسميات وها هي اليوم تتمظهر بصيغة عصابات الإرهاب الداعشي.. ولابد لي هنا من التوكيد على أن هذه العصابات ما كان ليشتد عودها وتأخذ هذه المساحة لولا ما ساد في بلدان المنطقة من طابع النظم السياسية ومن إشاعة الجهل والتخلف وكذلك عبرهما شيوع ثقافة عنفية دموية بشعة حيث قيم الثأر والانتقام وأخذ الأمور عنوة وقسراً بالعنف والبلطجة في ظل الانفلات الأمني وهزال سلطة القانون.. وعلى أكتاف التشوهات والأضاليل الفكرية السياسية تم استدعاء خطاب همجي من أزمنة غابرة وكهوف مظلمة لدويلات الطائفية التي انقرضت.. وباستغلال التمترس على ضفتي الانقسام الطائفي المصطرع مررت، قوى تحكمت بالدولة العراقية، أخطر فرصة للدواعش في حزيران يونيو 2014؛ فأطلقت غول الظلام والتخلف من قمقمه إلى حيث بات بالحجم الذي ترونه.. وإلا فإن هذا التنظيم لا يعدو عن عناصر مريضة سايكوباثية همجية وجدت فرصتها لاستبدال دور القاعدة والحلول محلها في موطئ جغرافي جديد.. فانتشر للأسباب المذكورة كالسرطان في عدد من بلدان المنطقة. إن الدواعش خطر داهم على المجتمعات المحلية والدولية ينبغي التكاتف لدحره وإزالته نهائيا بمسارين عسكري أمني وفكري سياسي ثقافي.

وما رأيك في الرأي القائل بأنهم كيان مصطنع على يد قوى خارجية (أمريكية تحديدا)؟

لست مع مفهوم نظرية المؤامرة بسطحية الفكرة وسذاجتها.. فعالمنا معقد مركب وفيه علاقات مباشرة وغير مباشرة واستدعاءات ينبغي التفكر بشأنها ودراستها بموضوعية وبروح علمي دقيق. فشراذم الدواعش تقودهم عقول سايكوباثية بعضها لها خلفية تعليم ومعارف وخبرات في نظم سياسية دكتاتورية وتحديدا بأجهزتها القمعية.. أُتيح لهذه الشراذم فرص انتظام وتشكيل وجودها والانتشار في كنف بيئات محلية انتشر فيها الجهل والتخلف واستدعاء الخطاب (الديني) المصطنع بكثير من التأويلات السياسية العنفية وبإسقاطات القدسية عليها لكنها تظل التخريبية في منهجها ونتائجها..

ومن الطبيعي أن تتمدد تلك التنظيمات مع نموها وتضخمها معروف التبرير لتؤدي إلى خروقات خطيرة بمختلف بلدان العالم تستقطب عبر العلاقات المافيوية واخطبوطها قدرات وطاقات ينظر بعضهم إليها على أنها توجيهات دول كبرى وارتباطات هيكلية ممنهجة ولكنه يغفل عن الجهود المضنية والدراسات التي تحاول بها تلك الدول لاختراق التنظيمات الإرهابية والوصول إلى ما يقضي عليها نهائيا… وعليه أنا أعتقد بأن القضية لا تصح مع فكرة الاصطناع من أية جهة بقدر ما أرى وجود منافذ صراع مطلوبة لإنهاء التشكيلات الإرهابية بكل مسمياتها من دون إنكار وجود ثغرات في مسار الصراع الجوهري…

ما رأيك في نزعة أكراد العراق إلى الاستقلال؟

الكورد مثل كل شعوب العالم لهم وجودهم في أمة ظلت عبر التاريخين القديم والوسيط في تحالف استراتيجي مع الأمم المجاورة.. وتفاعل الكورد إيجابياً مع العرب وهناك مئات الكتاب والمفكرين منهم ممن كتب بالعربية وأثرى المسيرة الفكرية والعلاقات الإنسانية السليمة في ضفتي وجود الأمتين العربية والكوردية.. وقد حصل الكورد مثلما العرب على وعود الحلفاء بعد الحرب الكونية الأولى بمنحهم دولتهم وبين اتفاقيتي سيفر ولوزان 1920 و1923 قُتِل الوعد بالدولة القومية للكورد. وتقسم العرب بدولهم القائمة على اتفاقية سايكس بيكو فيما بقي كذلك الكورد ووطنهم كوردستان مقسماً بين أربع دول هي تركيا العراق إيران وسوريا.. ونحن نتذكر أن إلحاق ولاية الموصل بالعراق عام 1926 قد جاء بناء على تصويت الكورد لخيار الالتحاق بالعراق فيما صوت العرب لتركيا! وعاد الكورد وصوتوا عام 2005 للبقاء في عراق فديرالي على الرغم من الذاكرة الحية لجرائم الأنفال وحلبجة التي مثلت جريمة إبادة جماعية بحقهم إلا أن استمرار الظروف غير الطبيعية في البلاد ووجود  بقايا ثقافة شوفينية استعلائية ووقوع البلاد تحت حكم طائفي كليبتوقراطي دفع باتجاه خيار الاستقلال تجنبا لمزيد مآسي وكوارث.. ولمن يريد الإنصاف فإن حق تقرير المصير يبقى مكفولا بالقوانين الدولية وبالشرعة الأممية وكذلك ضمانا لعلاقات الإخاء والتحالف الاستراتيجي الإيجابية بين شعوب المنطقة.. من هذا المنطلق ينبغي أن نبحث معا وسويا أسس العلاقات وصياغتها على وفق ما يخدم هذا الحق ويكفله ويكفل التآخي السلمي بين الشعوب بالاتفاق الحر وليس بالإكراه والعنف.

هل من حقهم الاستقلال؟ أم لا؟

طبعاً من حق الكورد مثلما كل الشعوب تقرير مصيرهم وضمنا بخيار الاستقلال، عندما تتهيأ الظروف المناسبة والاتفاق بين شعوب المنطقة على وفق ما يضمنه القانون الدولي وشرعته وما يخدم العلاقات الإنسانية الأنجع…

إن استمرار التحالف العربي الكوردي على أسس سليمة يوجب التضامن مع الكورد في مساعيهم المستحقة والعمل بجد على إزالة ثقافة شوفينية مرضية غرستها نظم قمعية فاشية النهج.. ومن أجل ذلك تشكل التجمع العربي لنصرة القضية الكوردية بوصفه أحد منظمات التضامن العربي الكوردي الذي أتشرف بأمانته العامة، واثقا أن فعاليات أكبر وأشمل تبقى منتظرة لتكريس صائب القرارات على خلفية إيجابية مكينة في العلاقات بين الطرفين…

وماذا عن تمزيق العراق؟

هناك فرق كبير بين منح قضية حق تقرير المصير للشعب الكوردي وبين موضوع الوحدة الوطنية للتراب والسيادة العراقية. إذ أن استمرار وجود قوى الطائفية على رأس الحكم هو ما أفضى ويفضي إلى التمزق والشرذمة والتشظي بينما فرص إيجاد كونفيدرالية بين العرب والكورد وبناء دولة مدنية ديموقراطية بإزالة السطوة الطائفية سيكون هو البديل للتمزق وهو الأنجع لوحدة الوطن على أسس الخيارات التي تستدعي تاريخا طويلا من الإخاء والتلاحم والنضال من أجل وجود إنساني حر كريم… إن العراق بوضعه الحالي هو دولة ممزقة متشظية بين احترابات وخنادق مصطنعة بينما تبني الديموقراطية والبنية الكونفديرالية هو المسار الأكثر صحة وسلامة لاستعادة حيوية المسار…

يُنتظر الجزء الثاني من اللقاء للنشر بعد ظهوره في المصري اليوم مباشرة

مشروع الجزء الثاني

هل ترى ضرورة التصدي لهم بالقوة المسلحة لمنعهم من إقامة دولة مستقلة بعيدا عن أرض العراق؟

هذا الخطاب الذي يتحدث عن الفرض المسلح للوحدة هو ما ينبغي إيقافه.. لكن البديل الصحي السليم يكمن في إشاعة ثقافة التعايش السلمي والتآخي والتحالف المكين بين العرب والكورد لبناء وجودهم ومستقبلهم بأرضية مشتركة وبدولة كونفيدرالية تجمع قواهم وطاقاتهم معا وسويا لإعادة إعمار ما خربته الحروب والانشطارات والقوى الفاشية والشوفينية بثقافة العنف الدموي التصفوي والاستعلاء التي بثتها فدفعت لمثل هذه النزعات التي ربما يقع بعضها موقع التعارض والاصطراع المفتعل بينما الصائب هو العيش بتآخٍ وتحالف لمسيرة بناء حضاري جديدة، على أساس احترام التنوع والتعددية وقدسية حق تقرير المصير بكل خياراته مع حرص من الجميع على حاضنة إنسانية قوية يمكنها السير بالجميع معا وسويا في طريق بناء المستقبل… وقطعا لن يكون من بين الحلول الفرض العسكري الأبشع في الذاكرة الجمعية للعراقيين جميعا عربا وكوردا وكل أطياف المجتمع العراقي التعددي…

ما طابع العلاقات الإقليمية والدولية للعراق اليوم؟

منذ تسلم قوى الطائفية للحكم فرضت عليه قطيعة مع محيطه العربي فتشوهت علاقاته بمحيطه الإقليمي والدولي وباتت تتحكم الفضائحية والميول المرضية بتلك العلاقات.. وإذا كان طابع أشبه بالخضوع والتبعية قد وسم العلاقة مع إيران فإن طابع أشبه بالعداء قد حكم علاقاته بجيرانه الآخرين.. ودوليا تراجع الدور العراقي وانسحب منكفئا على مشكلاته الداخلية فيما تمدد اخطبوط مافيوي في تلك العلاقات، حتى أن بعض البلدان دانت عددا من الإجراءات التي لم تنسجم مع الطابع البروتوكولي الدبلوماسي السليم أو ما جرى ويجري داخليا وما ينفرز عنه من نتائج مؤثرة على تلكم العلاقات.. ودان الاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية ما جرى من خروق فاضحة لقضايا حقوقية تجاه الشعب العراقي أو ما جرى من تفشي الفساد والجريمة والانفلات الأمني… فيما لا يملك العراقيون سوى أن يواصلوا نضالهم من أجل استعادة مكان ومكانة العراق إقليميا دوليا بالاستناد إلى تصحيح المسارات بتغييرات منتظرة.

وكيف يمكن أن تكون العلاقة صحية بين العراق وإيران؟

ذكرت حال التشوه في العلاقات الإقليمية ومنها العلاقة بالجارة إيران. إن أفضل القرارات تكمن في عمق العلاقة التاريخية بين شعوب إيران والعراق والمصالح المشتركة بينهما والخلفية الثقافية وصواب خيارات التعاون إلا أن نظام الملالي في إيران وقواته اندفعت بمختلف الآليات وباستمرار على مدى سنوات ما بعد 2003 للتغلغل في البلاد. فدفعت بميليشيات ودعمت تشكيلها بالعشرات وزودتها بالأسلحة والخبراء الاستخباراتيين والعسكريين المشرفين على ممارساتها وما ترتكبه فضلا عن تجاوزات حدودية براً وبحراً والحفر المائل لآبار النفط وأشكال تهريبه وتهريب العملة وإغراق السوق بالبضاعة وتلويث البيئة العراقية وقطع عشرات الجداول والمنابع المائية..

إن هذا المشهد الخطير لن يكون سهل المعالجة إلا بالاستناد إلى تبادل احترام ومصالح مشتركة على وفق محددات القانون الدولي واحترام استقلال العراق وسيادته ووقف ما يجري من أعمال تخريب متعمدة على كل الصُعًد..

وإلى أن يستطيع العراق إعادة بناء قوته، يجب على الأمم المتحدة ودول التحالف الدولي الداعمة، اتخاذ الإجراءات الكافية لدرء تلك التدخلات وفرض ما يتصدى لكل أشكال التدخل التي وصل بعضها حد القصف للأراضي العراقية بذرائع مختلفة…

هل تعتقد أن تغيير نظام الحكم في إيران قد يعيد العراق إلى اتزانه؟ ويساهم في إقامة علاقة صحية بين الجانبين؟

النظام السياسي في إيران تحدده شعوبها نفسها وليس من حق أي طرف التدخل في هذا إلا بمقدار التضامن مع تطلعات شعوب إيران والاستجابة لنداءاتها ومطالبها على وفق ما يحدده القانون الإنساني والقانون الدولي ولوائح حقوق الإنسان.. عدا ذلك متروك الأمر شأنا داخلياً إيرانياً بحتاً.

ولكن بقدر تعلق الأمر بنهج حكومة الملالي فإن بقاءها يشكل تهديدا للسلم الإقليمي والدولي بخاصة مع كثرة التدخلات بوساطة الحرس (الثوري) وقادته وعناصره وبوساطة الميليشيات التابعة سواء في العراق أم بسوريا ولبنان وغيرها من دول المنطقة كما في حال اليمن…

ومن الطبيعي أن نتطلع إلى فتح صفحة جديدة للعلاقات على أسس صحية بين العراق وإيران بالاستناد إلى دعم دولي من جهة وإلى احتمال تغير النظام بفضل نضالات شعوب إيران.. وينبغي على الحكومة العراقية الحالية أن تستجيب لمطالب الشعب العراقي بالتقدم إلى المنظمات الدولية بالشكاوى القانونية ضد كل التدخلات منها الاعتداء على الصيادين العراقيين في الخليج العربي واجتياح المياه الإقليمية وتلويث بيئة شط العرب والاعتداء عليه وعلى الأهوار المحاذية والاعتداء على العلامات الحدودية ومحاولة تغييرها والقصف بين مدة وأخرى للمدن والقصبات ودفع قواها الميليشياوية وإغراق السوق وتهريب العملة وغيرها كثير…

نحن نحتفظ لشعوب إيران بالاحترام ونتطلع لإقامة أفضل العلاقات لكن على أساس عدم التدخل وعلى وفق القانون الدولي وليس على وفق ما يجري من سبهللة وخروقات وجرائم عدوانية.

برأيك إلى أين تسير تركيا بقيادة أردوغان؟

مجدداً أؤكد حرص العراقيين على أوطد العلاقات مع شعوب الجوار ودولها. وعلى الحرص على أفضل سبل تطويرها لما يخدم مصالح الجميع ومثلما الموقف مع إيران هو مع تركيا؛ لابد من التوكيد على أن طابع النظام يخص شعب تركيا بوصفه شأنا داخليا بحتاً. مع أننا لا نتردد للحظة في التضامن مع الشعب وأطيافه في مساعيهم لدمقرطة الحياة والتوجه نحو سياسة تخدم الشعب ومكوناته بخلاف توجهات السيد أردوغان التي لم تكن مفاجئة في تعرضها لأطياف من الشعب التركي وممثليهم في البرلمان بأقسى الأعمال التي تعبر عن طغيانه وطابع النهج الذي انتهجه. إن مؤدى تلك السياسة هو مغادرة الديموقراطية ومعاداة حقوق التعبير كما في قمع التظاهر والصحافة والإعلام والقمع لكل مختلف مع نهجه كما في اعتقالات أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي واتباعه سياسة تمييز قومي عنصري كما في حربه المستعرة ضد الكورد على الرغم من مشروعات السلام التي عرضوها مراراً. وغير ذلك محاولاته ابتزاز الاتحاد الأوروبي بإغراقه بمئات آلاف طالبي اللجوء بقصد المقايضة على حساب أرواح الناس وعلى حساب الاستقرار والسلام ومبادئ الأنسنة التي يطبقها الاتحاد الأوروبي. إنه يمضي في تغوّله ما قد يحوله إلى تهديد خطير للسلام والأمن الدوليين..

وبما يخص العلاقات العراقية التركية فإنها من جهة الحكومة الطائفية وفلسفتها ببغداد ومن جهة حكومة السيد أردوغان وحزبه ونهجه بقيت بعيداً عن مصالح شعبي البلدين.. وجاءت التدخلات التركية وبعضها بمؤشرات اتهام لإيجاد ممرات دعم لوجستي للإرهابيين الدواعش وصلات معهم؛ بخاصة في موضوع بيع النفط وتهريب الآثار المسروقة ومرور العناصر التي تنضوي مع الإرهابيين مع دفع مزيد من قوات الجيش التركي سواء بخلفية اتفاقات قديمة أم بخرق يتجاوز كل القيم والأعراف المصاغة في القانون الدولي، كل ذلك لا يمكنه ولن يحقق علاقات طبيعية سليمة…

إن المؤمل بين البلدين هو احترام مصالح الشعبين وعدم التدخل والتوقف عن الأعمال العدائية سواء بالقصف أم بدفع قوات مسلحة أم باستخدام مرتزقة أم بأعمال من قبيل قطع الحصص المائية حد إحداث التصحر في العراق بوصفه أرض السواد تاريخيا بكثرة غاباته واعتماده نهري دجلة والفرات…

أما الرد بهذا الشأن فيكمن في لجم الطابع المغامر لسياسته، وفي التصدي لممارسته القمعية وفي فرض شروط المجتمع الدولي بما يمنع ولادة هتلر آخر تحت أي مسمى.

وماذا عن تدخلها العسكري في العراق ورفضها كل الدعوات العراقية التي تطالبها بالانسحاب فورا وتعتبرها قوات احتلال؟

بالضبط إن وجود قوات الجيش التركي والتصريحات العدائية للقيادة التركية بشأن طابع تلك القوات هو عمل عدائي يمثل خرقا للسيادة وعدوانا سافراً في قواميس القوانين والاتفاقات الدولية.. ورفضها الانسحاب يعني أمراً واحدا هو استهتارها بالقانون الدولي وموقفا متعاليا يستغل الظرف العراقي لمزيد من الضغط لمآرب مفضوحة..

إن تشخيص وجود تلك القوات بعد رفضها الانسحاب لا يمكن إلا أن يكون احتلالا وقوات معادية.. ما يستوجب أن يكون لمجلس الأمن والجمعية العامة موقفا حازما وحاسما معها وليس غض الطرف في الظروف المعقدة الجارية..

إن الموقف المترتب يعني دعما غير مباشر لقوى الإرهاب التي يخوض الشعب العراقي صراعه معها اليوم ولربما كان تحت الأكمة علاقات وارتباطات أكثر تعقيدا.. لهذا السبب نحن بحاجة جدية لإعادة ترتيب الموقف عبر الجهات الأممية القادرة على المساعدة العملية وليس على تصريحات لا أثر لها…

إنّ العراقيين لن يتخلوا عن تطلعاتهم لعلاقات صحية سليمة ولكنهم لن يضحوا بسيادة البلاد وسلامة وحدة أراضيها وشعبها ومنع تقسيمه على خلفية ما تحاول جهات تابعة للسيد أردوغان من قبيل تشكيل قوات محلية موالية وبث سموم الانقسام والادعاء بحماية التركمان وغيرهم، إن أطياف الشعب العراقي تعرف أن هويتها الوطنية ووجودها الوطني العراقي هو ما يحميها وليس شرذمة وجودها ووضعها بوجه بعضها البعض…

هل تعتقد ان الوجود التركي داخل العراق تم بتكليف وتفويض خليجي سني تحت لافتة “حماية السنة”؟!

 

لا شك في وجود علاقات طيبة بين بعض بلدان الخليج العربي وتركيا وتخطئ الجهات التي تتبنى مشروع التقسيم الطائفي ولعبته الوسخة.. وعليه فإننا من جهتنا، ينبغي أن نتذكر أولا قبل كيل الاتهامات المنطلقة من نظرية المؤامرة، أن تلك العلاقات لا تصل إلى درجة التكليف بمهمة الهراوة وعصا الحماية.. ربما يكون اللقاء ببعض المواقف المشتركة من بوابة تعرّض الطيف السني للتمييز والاضطهاد ولكن ما يتعرض له السنة في العراق يتعرض له الشيعة وغيرهما.. وعدو السنة والشيعة واحد، إنه القوى الطائفية وميليشياته سواء تلك المدعية سنيتها أم شيعيتها.. ولهذا فقضية حماية السنة هي قضية مفضوحة عند الشعب العراقي ومرفوضة.. كما أنها ليست سوى أداة قد تشترك بها بعض القوى الإقليمية لكن بغير صيغة التكليف والتفويض والخطط الممركزة بتوجيه مشترك مثلما يظنها بعضهم…

أما الرد الطبيعي فيكمن في تمكين قوى الشعب العراقي وجهودها في رفض منطق التقسيم الطائفي وفي توحيد شعوب المنطقة وحركاتها التحررية للضغط على حكوماتها بقصد إنهاء الخطاب الطائفي المتعكَّز عليه ومن ثمّ في دعم جهود بناء الدولة المدنية ومؤسساتها بما ينهي مشروعات الاحتراب الطائفي وتخندقاته وتمترساته التي تطل برأسها ثعبانا يريد التهام المنطقة بحرب ذات خندق طائفي التحالفات… والانتصار سيكون حليف من يستقطب القوى الإقليمية والدولية ويفرض إرادة الشعوب وهويتها وتوجهها للتعايش السلمي.

ما السبيل إلى الخروج بالعراق من هذا الجحيم؟

ليس غير تبني طريق الدولة المدنية بوجود ضغط دولي على الحكومة الطائفية ومطاردة الطابع المافيوي الممتد ببعض أذرعه إلى داخل بلدان الغرب ما يتطلب المساعدة في حل معضلات الفساد وكبح جرائمه فضلا عن دعم الحركة الاحتجاجية الشعبية المتنامية وبدائلها القائمة على خطاب التنوير وبناء مؤسسات الدولة المدنية بأسس ديموقراطية وثقافة حديثة متنورة تزيح ظلاميات الطائفية وأمراضها… كما أن المساعدة على إعادة تأهيل المدمَّر بإشراف أممي وإعادة النازحين وإطلاق مشروعات الاستثمار والبناء والتركيز على تحديث التعليم ودعم الثقافة ومنجزها سيكون سببا جديا لولادة عراق جديد يخرج من جحيم الميليشيات وبلطجتها الأمر الذي يتطلب حلها على وفق خارطة طريق يقابلها تقوية الجيش وعقيدته الوطنية وأجهزة أمن وطني سليمة…

ما رأيك فيما يحدث في سوريا؟

منذ بداية الثورة السورية كنتُ أؤكد على أنّ عسكرة الثورة وجرها للصدام المسلح هو مقتلها وهو أداة لعذابات فاجعة للشعب السوري.. وغير ذلك هو فتح بوابة جهنمية لقوى الإسلام السياسي وميليشياتها الإرهابية كي تبتلع الثورة وتحاول سرقة انتصار الشعب وهو ما يخدم بقاء النظام بآلياته الكارثية.

وذلكم هو ما جرى. اليوم تدفع القوى المصطرعة بكل قواتها كل يريد حسم المعركة لصالحه قوى ظلامية إرهابية تقابلها قوى النظام فيما قوة الشعب بكل أطيافه تبقى بين الكفتين محاصرة سواء المدنيون العزّل الأبرياء أم بعض تشكيلاتهم المحدودة وهم جميعا لا يحصدون سوى مزيد التضحيات وقرابين هي الأغلى إنسانيا..

إن الحل لا يكمن في الدعم الروسي للنظام ومحاولة تأهيله ولا في الدعم الغربي وضمنا التركي لقوى الإرهاب المتسترة بالإسلام ادعاءً تضليلياً.. إنما الحل يكمن في وقف الحرب الدائرة وفرض الحل السلمي بتجريد الميليشيات كافة من أسلحتها وتطهير مؤسسات الدولة ودعم القوى الديموقراطية لبناء دولة مدنية ديموقراطية تحترم التعددية والتنوع وحقوق الإنسان وحرياته ولا تسمح بوجود قوى الظلام تحت أي مسمى لأنها ستكون العقدة في المنشار على الطريقة العراقية.. بينما سيكون مشروع التسامح والتعايش السلمي ودمقرطة الحياة هو طريق إعداد الأجواء لمسيرة بناء وحل ما نما من مشكلات في كنف الحرب الهمجية.

كيف ترى الربيع العربي بعد أن أفضى إلى ما أفضى إليه في دوله والمنطقة بأسرها؟

لابد لنا عند تقويم (الربيع العربي) من الإشارة إلى انتمائه إلى شعوب المنطقة وتطلعاتها؛ ولقد حققت ثورات ربيع شعوب المنطقة خطى إيجابية، بخاصة في مراحله الأولى.. لكن لظروف معقدة منها مستوى قدرات القيادة وطابع استراتيجياتها وحجم العزل القسري بينها وبين الحركة الشعبية وتدخلات إقليمية ودولية وأخطاء لتلك التدخلات، اجتمعت لتشكل ضغوطا انحرفت بالثورة عن مسارها بالاستناد إلى تلك العوامل الذاتية والموضوعية.

لقد كان للقوى الداخلية المعاكسة لتوجهات ثورات الربيع الشعبية دورها الخطير في عرقلة و\أو تشويه مسار الربيع تلك القوى التي تمثل العناصر السلبية الماضوية في تفكيرها، وتنتمي إلى النظام القديم وإلى بعض العناصر الهشة في المجتمع وتركيبة التخلف التي تخشى التحديث والتقدم وتتعارض معه صراحة مستندة إلى بنية طائفية مستغلقة وأخرى قبلية. لقد كان لتلك القوى المرضية دورها السلبي الخطير تجاه ثورات الربيع، بالذات حين استخدمت فلسفة الوصاية على الناس بإسقاط القدسية الدينية على أنشطتها ومن ثمَّ تكفير المجتمع في دينه لتلزمه بالخضوع لأوامرها ونواهيها أو إيقاع العقوبات بحق الخارجين على أحكامها التصفوية الأبشع..

إن الوضع العام السائد اليوم قد أفضى بعد عسكرة الثورات إلى سطوة القوى المتطرفة بوصفها قاعدة إرهاب المجتمع وإشاعة كل أشكال الجريمة التي أمكنها أن تخدم أغراض قوى التشدد والمغالاة ومآربها في توجيه المجتمع على وفق أشكال القمع الوحشية التي تتعاطى بها…

من جهة أخرى فإن بلدان ثورات الربيع الشعبية تمتلك أهمية مخصوصة للقوى الإقليمية والدولية وهي تدخل في علاقات شائكة في الصراعات الجارية سواء منها ما يخص [الثروات الطبيعية] أم المكانة الجيوسياسية في التفاعلات الدولية المعاصرة بالإشارة هنا إلى المرجعية الخارجية..حيث نرصد التدخلات وما اختلقته من ظروف تخدم المآرب وتأتي على حساب الشعوب وحركاتها التحررية.. لاحظوا في هذا الدور الإيراني والتركي وغيرهما.

إن الغمامة السائدة اليوم في فضاء المنطقة لا تلغي بل لا يمكنها أن تلغي قطعا استعداد الشعوب لمواصلة البحث في وسائل استعادة ربيعها وثوراته ومستهدفاته لكن بإعادة تنظيم نفسها واستبعاد القوى الدخيلة المتسترة بالدين وهي بحقيقتها ليست سوى مافيات جريمة ونهب وسلب. لذا فإن الربيع سيعاود الظهور وإن بأشكال وصيغ فعل جديدة؛ يمكننا هنا أن نلاحظ الاحتجاجات المستمرة للمدنيين من قوى الديموقراطية في العراق.

وما رأيك في أن النخبة العربية او ربما عدم وجودها أصلا هو المسؤول عن فشل الربيع العربي؟

لقد أشرت إلى أن النخبة كانت بين ما جرى تصفيتها سياسيا ومجتمعيا عبر ضرب الطبقة الوسطى وعبر تعمق الفرز بين قطبين مستغل متوحش مستعد لبيع كل شيء والاتجار بالإنسان وفقير لا يستطيع الحصول على أبسط حقوق العيش فما بالكم بالتعليم والتنوير الثقافي… ومن تبقى تمَّ تهجيره قسرا إلى خارج البلاد فحصل الانقطاع بين الحركة الشعبية وقياداتها السليمة. وكان هذا عاملا ذاتيا خطيرا أصاب الثورة في مقتل إذ أن من تم دعمه للعودة والتحكم بالمسار هو من العناصر التي توجهت لاستثارة خطاب الإسلام السياسي بطائفيته وفساده وخطل برامجه وتقاطعها مع مهام التحديث والتنمية والتقدم. لعل ذلك هو مجرد إيماضة موجزة في قراءة المشهد المعقد..

وماذا عمن يعتبره (أي الربيع العربي) مؤامرة؟

لست معنيا بالرد على أصحاب نظرية المؤامرة هنا. ولكنني أؤكد أن الربيع العربي جاء نتيجة وصول الأوضاع إلى درجة غليان لم تعد تطاق فاندفعت الجماهير الشعبية مستجيبة لنداء الضمير ومطالبها الحياتية.. ساعد في ذلك كثير من العوامل المضافة وسرعة وصول جهات أخرى لتدخل على الخط وتوجه الأمور نحو ما يخدمها… وتلكم ليست صيغة لنظرية المؤامرة وسذاجة رؤيتها ولكنها حال التداخل وسط مجريات العولمة وآليات اشتغال الحراك المجتمعي محليا والدورين المهمين للعاملين الذاتي والموضوعي وتداخلهما..

كيف تنظر إلى جماعة الإخوان في المنطقة؟

منذ انطلاقتها دأبت حركة الأخوان على قيادة الأمور باتجاه مآرب خاصة وظفت لها علاقات وارتباطات محلية وإقليمية ودولية.. وما يؤسف له أن تلك الجماعة كانت ومازالت بوجهين أحدهما سياسي مراوغ منافق وآخر عسكري دموي بأبشع درجات التشدد ماساوية. إن تلك الجماعة وتحديدا قيادتها تتجه بفلسفة إسلام سياسي وآليات التستر من دون أن تتخلى عن جوهرها الكامن في استغلال الظروف لخدمة مآرب مرضية ليس بينها ما يخدم الشعب ولا حتى ما يلتقي مع الدين الذي تزعم كونها حركة دوية له.. إن الجماعة اليوم في ظل افتضاح حقيقتها تتمترس خلف آخر آلياتها وهي الآلية العنفية ونحن نشاهدها  بجرائم التخريب وطعن لا الدولة وحدها بل الشعب برمته بما ترتكبه من تفجيرات واغتيالات وجرائم ابتزاز في محاولة تتوهم أنها بها يمكنها أن تفرض وجودها أو عودتها للمشهد السياسي.. لابد من الحذر من تمظهرات تلك الجماعة وتشكيلاتها فهي ما يصيب المجتمع بمقتل عندما تستغل عناصره الهشة بخاصة…

هل ترى انها انتهت؟ أم ستواصل البقاء؟

لا يمكن للحركة أن تكون انتهت ولكنها تراجعت جديا بشكل نوعي ملموس بسبب ما أسفرت عنه في حكمها مصر وتونس وفي استراتيجياتها بسوريا والعراق وفي ليبيا وغيرها. إن مجمل تلك التجاريب أفضت إلى رفض شعبي لما توجهت به الحركة وما ارتكبته من أمور أودت بالأوضاع العامة بمختلف البلدان إلى انهيارات وانحدارات ليست قليلة بمخاطرها تجاه الشعوب..

وفي الحقيقة ما لم يجر تغيير نوعي جوهري في سياستها فإنها لا يمكن أن تعود أو تواصل وجودها إلا بوصفها حلقات وخلايا عنفية سرية لا يقف عداؤها عند مناهضة الحكم والدولة المدنية بل تذهب أبعد من ذلك في معاداة التعددية والتنوع والشعب بأطيافه وعموم تركيبته..

لا أستطيع الجزم بمواعيد وأسقف زمنية ولكن الأكيد أنه كلما تقدمت الشعوب بطريق التنوير وبناء الدولة المدنية وأسس الديموقراطية زالت أسباب وجود الأخونة ومستهدفاتها ونظيراتها من حركات الإسلام السياسي كافة..

وماذا عن مصداقيتهم المفقودة بشأن معاداة أمريكا على سبيل المثال في الخطاب الديني الداخلي، ثم التحالف معها ومداهنتها في السلوك السياسي والخطاب الدولي؟

سؤالك يتضمن الإجابة فحركة الأخوان في سنة  حكمها، كانت تدرك أنها لن تستمر في السلطة بوجود شعب بتاريخ الشعب المصري وحجمه الحضاري ووعيه السياسي.. ولهذا تجدها استغلت الظرف لتدريب مجموعات مسلحة ولتشكيل خلاياها بنهج العسكرة ومعاداة المجتمع وتكفيره واستغلال مناطق الثغرات فيه معتمدة التجهيل والتضليل.. ومن الطبيعي أن يجد نفاقها السياسي نقيضه الفاضح تجسدا في علاقات إقليمية ودولية تحاول عبرها ترسيخ وجودها… ولطالما كان ذلك مجرد عبث بمصائر حتى المنتمين تضليلا إليها.. ومع أن بعض البلدان والمنظمات تحدثت عن شكليات ترى فيها قضايا حقوقية إلا أنها سرعان ما اكتشفت الخطأ الفادح في الدفاع عن حرية عناصر تريد استغلال لوائح حقوق الإنسان لتنفذ عبرها إلى مواضع أكثر هجومية وأفظع في التخريب الواقع على الدولة والمجتمع، ولا نجد اليوم جوهريا من يدافع عن الأخوان بعد افتضاح ما أرادوه يوم عملوا على إلباس مصر العريقة لباس الأخونة الأحادي وإخضاع شعب كبير لتوجهاتهم ومآربهم وطبعا فشلوا.. إن التجربتين المصرية والتونسية للأخوان ربما كانت أحد أبرز ما دفع مقرهم في تركيا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة سريعة بتصفية التعددية ومبادئ الديموقراطية ومركزة الأمور بايديهم ليتغدوا بقوى الشعب قبل أن يصفي وجودهم المرضي بينه… وتتمترس تركيا وحكومة الأخوان فيها بخندق دعم أخوان سوريا والعراق ليس محبة في مساعدة شعب سوريا أو العراق للانعتاق بل إمعانا في محاولة سرقة ثورات الشعوب والتحكم برقابها ونهب ثرواتها واجترار السلطنة العثمانية وإيجاد منافذ لتسريب مشكلاتها العصية…

كيف تنظر إلى أوضاع مصر حاليا؟

لقد كانت ثورة 30 يونيو متابعة سريعة وحاسمة للشعب المصري فيما أراده من ثورته في يناير ولهذا فإن رفضه الأخونة وتمسكه بتوجهه إلى بناء دولته الديموقراطية استند إلى تحالف وطيد بين الشعب والجيش الوطني وإلى قيادة حكيمة وإلى طبقة واعية ونخبة علمية كبيرة الأثر في إدارة استراتيجيات التنمية والتقدم.

إن عناصر البناء في مصر من ثروتين مادية وبشرية تمثل قدرات لا يستهان بها وهي قادرة على مطاردة فرصها في بناء النموذج الأفريقي والعربي لاقتصاد مزدهر بالخروج من العثرات والعقبات الموجودة.

ولابد هنا من التوكيد على أنّ قيادة مسيرة التنمية وإدامتها تستوجب مزيدا من مسيرة دمقرطة الحياة وتطوير مؤسسات الدولة المدنية وتخليصها من شوائب الماضي وتطمين حاجات الشعب ومطالبه سواء منها الاقتصادية أم الحقوقية السياسية أم الثقافية.. وذلكم لا يتأتي من إذكاء أو تضخيم بعض تفاصيل المعاناة الموجودة وبعض الثغرات بل بالاتحاد وتجميع القوى لحلها وتجاوزها بطاقات مصرية مميزة..

إن الاقتصاد المصري لا يعاني مما عانى منه حجم الفساد والطابع الريعي لبعض اقتصادات دول المنطقة إنه اقتصاد فيه حجم استثمارات بنيوية إيجابية كبيرة وسيكون مجال التقدم به متاحا تدريجا وربما في أفق العشر سنوات التالية سيكون منافسا لا إقليميا بل دوليا وطبعا مع وجود الثقة بالاستقرار السياسي المستند إلى عدم قبول عودة عناصر إمراض الدولة من أحاديي الاتجاه كما الأخوان وفلسفتهم وآلياتهم..

وثقتي أن ارتفاع سهم التعليم العام والتعليم العالي ومراكز البحوث مع اهتمام جوهري بالثقافة وأنشطتها والوصول بها إلى العشوائيات والمناطق المعتمة سيكون السبب الأكثر حيوية في النجاح وحسم المعركة مع قوى التخلف ومن وقف ويقف وراءها..

هل انت متشائم أم متفائل بشأنها؟ ولماذا؟

أنا متفائل بشأن مسيرة مصر نحو آفاق التقدم والنجاح.. أما أسباب تفاؤلي فتكمن في نهج السلطة ونظامها وقدرتها على ضبط الأمور وحسم المعارك مع محاولات التخريب والتحام الشعب مع سلطته التي اختارها وجاء بها بمظاهراته المليونية التي لم تحصل بأي بلد آخر.. وطبعا بالاستناد إلى مشروعات البناء والاستثمار وإلى شبكة العلاقات الدولية الأنجع فضلا عن وعي الشعب بخطى مسيرته وتمسكه بالدفاع عن منجزه بعد الثورة إلى جانب وجود جيش وطني العقيدة صي على الاختراق…

إن العمق التاريخي البنيوي لمؤسسات الدولة لا يقبل التشكيك بل مزيد الثقة بقدراتها على التوجه نحو آفاق نجاح باهر بفضل تلاحم بين الشعب وقواه وحركاته السياسية التقدمية الديموقراطية وبين القيادة.. بخاصة في ظل هزيمة مشروع القوى الراديكالية والمتشددة المتطرفة أمام انتصار مشروع قوى الشعب الحية… إن هذا مثير للتفاؤل بحق على أرضية صلبة لا تثنيها بعض عقبات وثغرات…

ما الاستراتيجيات الغربية في التعامل مع المنطقة؟ وما درجة استجابتها لتطلعات أبنائها؟ وكيف يمكن الحصول على الإيجابي منها؟

لابد لنا هنا من الإشارة إلى تاريخ العلاقة بين الغرب والشرق وطابعها في العصر الحديث بمراحله المتعددة بخاصة في ضوء الحروب التي خيضت وما انبثق إثرها من نتائج. ولطالما كان الموقف الغربي بعامة قد ضبطه الموقف الاستراتيجي القائم على تدوير مصانع الغرب باستقطاب الطاقة من جهة وضمان تدفقها وبتعزيز الطابع الاستهلاكي للآخر المقصود هنا بلدان الشرق الأوسط. ولكن مع تنامي الوعي السياسي ومتغيرات المنطقة بات الاستراتيج الضامن لمثل هذه الأهداف بحاجة لتحديث اندفعت فيه بعض السياسات الغربية باتجاه نظريات الليبرالية الجديدة والمحافظين المتزمتين، الذين ظنوا أنّ إبقاء التبعية لهم وإخضاع الآخر قد يكون عبر العصا الغليظة وإن بأدوات جديدة.. فتفتقت الخطط الاستراتيجية التي ترى أن إثارة الفوضى ستدفع في مرحلة لاحقة إلى إعادة صياغة المنطقة بطريقة ممكنة الضبط على الإيقاع الذي رسمته استراتيجيتهم.. وتم تسمية التصور بالفوضى الخلاقة! فكانت ولادة المافيا المنظمة وبلطجتها وآليات إدارتها الأوضاع وهي آليات كليبتوقراطية في نظامها وفي مفردات اشتغالها. لكن الأمور بجميع الأحوال جرى ويجري استغلالها واستثمارها بأقصى  ما متاح من جانب المافيا الدولية والشركات متعددة الجنسية، وطبعاً عدد من النظم الغربية التي تسعى بثبات إلى إبعاد أية هزات مرتدة يمكن أن تهدد أوضاعها واستراتيجياتها… وإذا كان صحيحاً دعم مبدأ إبعاد الهزات الراديكالية والعنفية المتشددة عن مجتمع دول التحضر الصناعية فإن من الصحيح أيضا البحث في أنجع الوسائل لإنهاء تلك الهزات وطابعها الإرهابي الذي ترتكبه الميليشيات الطائفية بحق شعوبها هنا ومنع أي شكل للدعم لها سواء ظاهر أم مخفي وسواء مباشر أم غير مباشر.. وإنه لمن الخطأ الفادح لأي استراتيجيات غربية أن يظهر منها أي شكل لدعم قوى مرضية بدل دعم القوى العلمانية المدنية الديموقراطية إذ أن غير القوى الأخيرة ليس سوى قوى الطائفية والإسلام السياسي بكل ما تحفل به من راديكالية متشددة متطرفة وفكر ظلامي ماضوي مقيت ومن تخبطات أفضت إلى تمزيق المجتمعات المحلية والتمهيد لانهيار الدولة ومؤسساتها بشكل شامل.. وإذا ما استمرت الأمور بذات الاتجاه لن يجري استعادة بنى الدول الوطنية بأسسها المدنية السليمة في المستقبل المنظور كما سيتهدد في ضوئه طابع التقدم البشري العام والسلم والأمن الإقليمي والدولي…

وهكذا فلربما كان من المنتظر اليوم بمجيء السيد ترامب أن يقرأ في الاستراتيجيات التي تبناها أسلافه والا يقع بمطب العصا الغليظة وفلسفتها وتحالفاتها وأن يعمد بالتحالف مع دول الاتحاد الأوروبي إلى إيجاد صيغ علاقات تدعم بناء الدول الوطنية ومؤسساتها المدنية القائمة على نشر الديموقراطية وليس تشظيات الطائفية السياسية وصراعاتها… ولكن هذا بالمقابل لا يمكن أن يكون من دون صعود متزن لأدوار قوى التحرر في المنطقة للتأثير الإيجابي في استقطاب ما يخدم مسيرة التقدم والتنمية ولإبعاد شبح التدخلات وما يُختلق من صراعات…

ما رأيك في القول بأن الاستشراق فشل في توصيل الصورة الصحيحة للاسلام إلى الغرب؟

الاستشراق ليس كلا واحدا موحدا في التصور والرؤى فبعضه إيجابي في التوجه والمنحى والاشتغال وقدم خدمات جليلة لحفظ التراث ونقله إلى البشرية جمعاء سواء بنصه الأصل أم بترجماته… وباستعادة منجز الغرب نفسه عندما استعاد ترجمات ابن رشد لأرسطو على سبيل المثال. وبقدر تعلق الأمر بأصوات أخرى قرأت الجانب الروحي والعقائد ومنها الإسلام بطريقة فيها تأويل ومواقف مسبقة فإن التشويه الذي ورد هو ذاته ما يقوم به اليوم بعض الإعلام الغربي بموقفٍ مسبق في تبني رد الفعل على المجريات وطابع العلاقات بين الشرق والغرب… إنه ناجم عن القصور مرة في إدراك الحقيقة والوصول إليها وعن تعمد وقصدية مبيتة في مرة ثانية تستند إلى نزعات الاستعمار الحديث وقوى يمينية عنصرية محافظة…

لكن ما يهمني هنا أن اؤكد ضرورة ابتعادنا عن النظرة الأحادية وعن التجني على الحقيقة عندما ننظر إلى الغرب وكأنه كلّ موحد في وجهة معاداتنا ومعاداة تراثنا وقيمنا فذلكم أمر غير صحيح بل غير صائب قطعا..

ينبغي لنا أن نتبنى موقفا نوعيا يمكنه التحالف مع الإيجابي من أصوات الغرب والاستشراق وجهاز الإعلام الأضخم في التاريخ البشري لوقف تاثيرات السلبي ومنع تقويته ومنع منحه التبريرات التي يستند إليها فيما يطرح.. وسيبقى تفاعل الثقافتين الشرقية والغربية وتلاقحهما سببا للتقدم الإنساني مثلما حصل على مر التاريخ وعبر تفاعل الحضارات التي نشأت بخاصة على ضفتي المتوسط شمالا جنوبا..

علينا ألا نغالي وألا نقع في فخاخ الانزلاق المغامر للأحادية مما لا مصلحة فيها لا للحقيقة ولا للشعوب ولا للنخب ودراساتها وبحوثها.. وتجربة وجود جالياتنا بملايين الأبناء وظهور أجيال مهجرية خير دليل على سلامة التفاعلات الإيجابية بين الحضارتين وخطابهما وعلى إمكان تجاوز السلبي من بعض العناصر لدى الطرفين.

ولماذا انتصرت داعش في أحضان الغرب؟ 

لم تنتصر داعش ولا فكرها وسياستها، ولا يمكنها ذلك. ولكن التخريب والمرض يمكنهما إحداث خروق بين الفينة والأخرى وسرعان ما تنتهي وتنهزم.. وبعامة فإن الفكر الإرهابي جد محدود في حراكه ولا يمثل سوى ثغرات وخروق ضيقة في وجودها واثرها بخاصة طبعا والحديث عن البلدان الأوروبية والغربية بعامة.. ومن ذلك وسط الجاليات العربية السملمة.. ولا مجال قطعا للحديث عن انتصار لقوى الظلام والتشدد؛ بل هم في خسران وتراجع وهزيمة باستمرار… إنما علينا ألا نفرط في التفاؤل المجاني وأن نبحث في وسائل إنقاذ الجاليات والمجتمعات المضيفة من جرثومة الاختراق وأوبئتها بوساطة حوار مفتوح يستند إلى التنوير وثقافته وغلى وصول يسبق عناصر الوباء لكسب أوسع جمهور لوجودنا المستقر الآمن..

وما تفسيرك لانتصار داعش لدى المسلمين الغربيين؟ ونجاح التنظيم في تضليل الشباب المولود في بيئات غربية؟

مجدداً أرفض فكرة تعتقد بانتصار الدواعش وقوى الظلام الإرهابية فالحقيقة نرصدها هنا حيث نعيش بأنهم لم يستطيعوا تحقيق ولا خطوة واحدة لأرضية وجودهم فعليا.. لكننا يمكن أن نرصد وجود عناصر مرضية وسط بيئة محدودة منغلقة وسط بعض أفراد ببعض الجاليات.. تحديداً تسلل بعض العناصر المرضية الظلامية إلى دور العبادة (الجوامع والمساجد). وهي تستند في وجودها المرضي إلى فهم مغلوط للإسلام وتأثر بالخطاب الراديكالي الصاعد في منطقة الشرق الأوسط.. وتلك العناصر السلفية المتشددة تظل قليلة الأثر من جهة وضعيفة في الانتشار بسبب وعي الشباب من أبناء الجاليات وبسبب حجم الأثر لاستراتيجيات إيجابية في التعامل بين المجتمع المضيف وأبناء الجاليات.. لكن مرة أخرى أقول: إن بعض العناصر الهشة والمنغلقة التي لم تندمج مع المجتمع أو انفصمت عنه على خلفية ظروف خاصة تكون سهلة الاستدراج والتضليل وهو ما دفع إلى استقطابها عبر قنوات التضليل والابتزاز ايضا باتجاه الانتقال نحو منطقة ملتهبة بجرائم الإرهاب.. إن ظروفا معقدة كثيرة يمكن الحديث في شانها في كيف اجتذب الإرهابيون تلك العناصر بخاصة في الخطاب الراديكالي الذي يرد على قيم يجري تضخيمها وإعادة ضخها مستغلين عوامل نفسية روحية عند بعضهم ومنطق التأويل للخطاب الديني بطريقة التضليل… وبالنهاية نحن جميعا نبقى باستمرار بحاجة لعقد الصلات مع أبناء الجاليات بقصد التوعية وإيجاد أرضية تتصدى لخطاب التضليل إياه ومطاردته حتى في وجوده ضيق المساحة لأن التخريب مهما انحسر وضاق يبقى خطرا محدقا…

هل من تأثير لتنظيم داعش على الأدب العربي؟ سلبي؟ أم إيجابي؟ وهل ظهرفعليا  نتاج أدبي عربي متأثر بظهور داعش؟ مثل ماذا

 

الوقائع التي تجري ميدانيا ليست قليلة الشأن في منطقتنا وهي حال من اجترار ماضوي سلبي خطير يستند إلى ثقافة مرضية وخطاب العنف وآلياته.. ومن الطبيعي مع سطوة نسبية وإن كانت جزئية ومؤقتة انتهت كما بمصر وتونس فإن وجود سلطة الخطاب (الديني) المؤوَّل كما في إيران والعراق وتركيا والأراضي التي تقع تحت بلطجة قوى الظلام الإرهابية سيكون هناك خطاب يندرج بمجال التعبير ولكنه يبقى حبيس قوى تتلقاه من تلك الماسورة أو المضللة ولكن شعوب المنطقة لا يمكن استغفالها ولا فرصة لنشر خطاب التجهيل والتخلف الظلامي في أوساطها… عليه مبدئيا لا يمكنني إلا القول: إن منجزا أدبيا لقوى الظلام غير موجود بحجم ذي أثر؛ لسببين أولهما: يتمثل في عدم وجود جمهور كبير له. وثانيهما: يتمثل في أن تلك القوى لا تؤمن ولا تقبل بوجود التعبير الجمالي الأدبي أو الفني وإن مررت أحيانا بعض أعمال دعائية فهي مصنَّعة بطريقة رخيصة فجة مضمونيا جماليا…

إن ثقافة التنوير هي الوحيدة التي يمكنها الحياة والمواصلة ولولا العنف لكانت اليوم بقامة منجزها كبيرة الأثر ولعلنا يمكننا بنظرة مبدئية أولية ان نجد أثر تغنِّي الناس بنتاجات الحب والسلام والجمال بلا خشية وسيكون لهذه الأصوات المكرهة على الخفوت اليوم أن تعاود قوية مع اندحار قريب لقوى العنف والجريمة الإرهابية..

كيف ترى العلاقة بين المهجريين والوطن بخاصة بإطارات الخطاب الثقافي المعاصر؟

إن جسور العلاقة بين الطرفين ستبقى تحظى بأهمية استثنائية بمختلف الميادين ومنها ميدان العلوم والمعارف والخطابات الثقافية بتنوعات أدواتها. فهي من جهة تمنح جالياتنا فرص لعب أدوارها المشرقة في نقل التجاريب الأحدث علميا في البنى والتشكيلات الاقتصا اجتماعية والأغنى ثقافيا سواء بما تحمل من غنى التنوع وثرائه أم في منطق التنوير وآثاره المؤملة… ولا ننسى طابع المؤسسات التعليمية ومراكز البحوث والجمعيات والروابط الثقافية ومن ثمّ أدوارها المهمة في التحديث عندما نوجد أرضية التفاعل المناسبة بين جناحي الشعب في داخل الوطن والمهجر. ولعل أبرز المعالم تكمن في عقد المؤتمرات والحوارات في ملتقيات لدراسة نظم التعليم الأحدث وكيفية النهوض بمهام التنمية البشرية بأسس موضوعية هي الأكثر سلامة ونجاعة. ضف إلى ذلك، تعزيز فرص الاستثمار والإنتاج في مجالات الآداب والفنون و طباعة كتب ومجلات وصحف وتداولها وإنتاج مسرحيات وأفلام سينمائية وعقد مهرجاناتها لوقف العقبات التي ظهرت وباتت تحظر تلك الأنشطة ببعض بلداننا و\أو جهات فيها…

هل من كلمة أخيرة؟

أشكر لكم سعة الصدر وجهدكم الصحفي غني المسارات والمحاور راجيا لكم كل التوفيق في الوصول إلى جمهوركم بملايين القراء بما يعزز مبادئ احترام الآخر وتعددية المعالجات والرؤى وقيم التسامح والإخاء والإصغاء للمختلف وتوظيف الحوار في الوصول إليه وفي قطع طريق الاحتدام واللافات واختلاق الصراعات ومحاولة فرض العنف.. نحن بحاجة لتعزيز ثقافة التعايش السلمي في مجتمعاتنا وتعزيز جسور التآخي بين أطياف تلك المجتمعات مثلما كانت عبر تاريخها.. إن ثقافة السلم الأهلي ومبادئ التسامح هي السمى وهي ذات الأولوية اليوم مما ينبغي التركيز عليه.. ربما جاءت محاولة القراءة هذه وحوارها لتكون إحدى مفردات العمل من أجل تطبيع الأوضاع والارتقاء بها إلى منصة إطلاق مهام التنمية والانشغال بخطى البناء بدل المشاغلة بمثالب الاصطراعات العنفية التي لا ينجم عنها سوى مزيد دماء وتضحيات باهضة لا تعوض..

دمتم وتحايا لأهلنا في مصر وفي بلدان المنطقة وثقتي وطيدة بوعي سيعاود النهوض بخطاب السلام ومعاودة ركوب مسيرة البناء والتنمية والتقدم وإزاحة ركام ما أرادوه لنا من كوارث..

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *