اليمين الشعبوي في أوروبا والاستقطابات وبرامج اليسار

على خلفية النتائج الانتخابية في ألمانيا وقبلها بعدد من البلدان الأوروبية يمكن لليسار الأوروبي ويستطيع تحقيق الانتصار اليوم، بخيار وجوده خارج التحالفات الحكومية اليمينية، باستثمار الحراك الشعبي وجذب قطاعات جديدة لبرامجه وبدائله عبر تطمين تلك القطاعات التي تخشى التغيير. والتوجه بهذا للبناء والاستعداد للتالي من الانتخابات من دون التخلي عن المهام المباشرة التي تفرضها الوقائع بدول التقدم والديموقراطية.

 

اليمين الشعبوي في أوروبا والاستقطابات وبرامج اليسار

د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

منذ آخر انتخابات تشريعية في كل من هولندا وفرنسا ثم في بريطانيا وأخيرا في ألمانيا، برزت ظاهرة صعود نجم اليمين الشعبوي، وبالأحرى تيار اليمين الفاشي القائم على خطاب الكراهية والعنصرية ومنطق الفاشية في التعامل مع الآخر.

وإذا كان ذلك الصعود عائداً لظاهرة الاستقطاب بين اليسار واليمين؛ حيث أخذ أقصى اليسار واقصى اليمين من كل من اليسار واليمين المسمى بالمعتدل، إذا كان هذا بالمعطى العام قائماً فإنه أيضا لم يأت من فراغ ومن دون أسباب..

إن القضية جاءت بخلفية تفاقم حالة الهلع التي أثارتها الأضواء المسلطة على موضوع الهجرة وطالبي اللجوء المتضخمة؛ وعلى الخروقات الأمنية التي نجمت عن الظاهرة الإرهابية ومرورها عبر ثغرات منها استغلال عناصر الإرهاب جانب من مجتمعات الجاليات المقيمة وتحديدا منها (الغيتوات) المغلقة المحكومة من تيارات إسلاموية متزمتة مرضياً…

ولكل فعل رد فعل.. ولكن هنا على الرغم من ضآلة تلك الغيتوات تجاه حجم الجاليات التي عادة ما تندمج مع مجتمعاتها المضيفة وعادة ما تشترك إيجابياً بالأنشطة العامة ومنها الانتخابات حيث تصويتها لمختلف اتجاهات العمل الحزبي واطيافه كافة، أقول على الرغم من ضآلة حجم الغيتوات إلا أن قوى اليمين الشعبوي استطاعت استغلال الثغرة وتضخيمها وإثارة الهلع والرعب وسط المجتمعات الأوروبية واختطاف أصوات بعض ناخبي اليمين على خلفية ما اثارته من اسباب الرعب..

وهي طبعا لا تكتفي بموضوع إثارة الرعب من احتمال الظاهرة الإرهابية وخروقاتها ولكنها تضفي على خطابها منطق (الموضوعية) المدعاة عندما تطرح برامج اقتصادية تزعم أنها العلاج للضغوط التي يعاني منها المجتمع.. وبدل الإقرار بأن تلك المشكلات وضغوطها سببها قصور البرامج اليمينية ومنطق حلولها يدفع الاستقطاب الشعبوي نحو بدائل تحرف الأنظار عن الحقيقة فتتحدث عن الجاليات وعن العمالة الأجنبية والهجرة التي كما يزعمون تمثل سبب المشكلات الاقتصادية!

إن النتائج الانتخابية أفضت إلى تلكؤ تشكيل الحكومات حيث إصرار الأحزاب اليمينية على برامجها ورفض قوى اليسار الانضمام لحكومات لا تعدل برامجها التي كانت سببا فعليا في الأزمات.. فحتى اليسار (الديموقراطي الاجتماعي) أو الديموقراطي الاشتراكي الذي تحالف مع تلك الأحزاب في الحكومات السابقة أخذ الدرس يوم خسر جزءا من اصواته كما حصل مع العمل الهولندي والاشتراكي الفرنسي والاجتماعي الديموقراطي الألماني مؤخرا..

فالجمهور عاقبهم على قبول التحالف ببرامج (يمينية) أفضت للمشكلات العديدة ليس في أوروبا وعلى حساب شعوبها بل في تفاقم الأوضاع في العالم وانتشار ظواهر الصراعات ومنها التشدد الظلامي وإرهابه في البلدان النامية على خلفية الأزمة العالمية…

وبينما أدرك قسم من الجمهور الرافض لعودة البرامج اليمينية فصوت لليسار وبرامجه أحجمَ قسم آخر عن التخلي عن التصويت لليمين فقط بسبب الرعب المشاع على خلفية موضوع المهاجرين والخروقات الإرهابية فيما انضم قسم لخانة الاستقطاب إلى اليمين الشعبوي الذي نجحت دعايته في التضليل وفي اجتذاب نسبة من الجمهور..

وهنا بالتحديد ينبغي أن نعترف وتعترف قوى اليسار أنها لم تستطع النجاح في استقطاب جمهور من اليمين بقدر بقائها بإطار تبادل نسب الفوز بجمهور اليسار بين يسار حقيقي وآخر يسمى معتدلا وثالثا يسمى راديكاليا ولربما كان الانقسام التنظيمي والبقاء من دون تحالف من جهة وعدم وجود برامج موحدة مشتركة سببا في عدم تأثيرهم على القسم الآخر من الجمهور الانتخابي…

إن دائرة الهزات الاقتصادية وارتدادتها تظل بحاجة لقراءة معمقة من اليسار الديموقراطي كيما يعيد حساباته تنظيميا وطابع ائتلافاته وتحالفاته، كما يعيد النظر في برامجه وطابعها سواء المفردات التي تخيف القسم الثاني من الناخبين الواقعين بخيار اليمين خشية التغيير وخشية منطق أو خطاب الراديكالية..

بالمقابل لابد من حركة أممية جديدة في التفاعل بين حركات التحرر والديموقراطية في بلدان التخلف المنهارة وبين الحركة اليسارية الديموقراطية في أوروبا بما يؤدي لإيجاد مفهومات وقواسم مشتركة وبرامج تؤثر إيجابيا في خيارات الطريق الجديد للبشرية…

إن معالجتي لا تطلب من اليسار أن يتخلى عن برامجه بل العكس ولكن صياغاتها ووسائل الوصول سواء في التنظيم أم الإعلام والإعلان والتحشيد تظل ضرورة وذلكم هو موضع معالجتي ومطلبها..

لاحظوا أن جزءا مهما من صعود نجم اليمين الشعبوي اعتمد على روابط وصلات بين أقسامه في أبرز البلدان الأوروبية كما باجتماع الشعبويين في ألمانيا قبل الانتخابات البرلمانية.. وكما في أشكال تضامنهم.

ومن الصحيح اليوم اعتماد توجه أكثر فاعلية تجاه حلحلة غيتوات الجاليات وإنهائها وإنهاء ما يثار من خطابات تؤلب على الكراهية في بعض بؤرها، وطبعا في التعاطي مع المشكلات العامة بخطى مرسومة بدقة أكثر وضوحا في الوصول وفي إقناع الجمهور بالتغيير بلا خشية من الوقوع اسرى الراديكالية..

إن مستقبل البشرية بين بوابتي الانحدار نحو خانق أزموي يتفجر بصعود أخطر للفاشية وانفتاح أكثر بشارة لانتصار برامج السلام ودمقرطة الحياة والتفاعل الأكثر إيجابية بين المجتمعات وتعزيز مفاهيم التسامح والتعايش انطلاقا من احترام التعددية والتنوع وقوبل الآخر..

هذا الفهم يطالب الجميع بمسؤولياتهم واولهم هنا أشير غلى ممثلي الجاليات والحركة الحقوقية التي يجب أن تكسب طالبي اللجوء وتسوية اوضاعهم بما يبعدهم جميعا وكافة عن الوقوع اسرى خطاب الظلاميين المتشددين أو أن يخترقهم عناصر التطرف…

اليوم في ألمانيا على سبيل المثال بات واضحا طابع التوازن النسبي بين حجم اليمين واليسار ولكن المطلوب مع هذه النتائج أن يعاضد اليسار كل مفردة تسحب البساط من دور جديد يستطيع فعله اليمين الشعبوي بسبب ما كسبه من مقاعد.. وهذا لا يعني التحالف مع اليمين بقدر ما يعني تسهيل فرض برامج إيجابية أفضل لمصالح الشعب.

اليسار الأوروبي يستطيع الانتصار بخيار وجوده خارج التحالفات الحكومية، باستثمار الحراك الشعبي وجذب قطاعات جديدة لبرامجه وبدائله عبر تطمين تلك القطاعات التي تخشى التغيير.

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *