السياسة التعليمية بين الادعاء والحقيقة؟

مقتبس من المعالجة: “في نظام طائفي كليبتوقراطي تشهد السياسة التعليمية، ادعاءات تتستر على طبيعة الإجراءات الممارسة فعلياً مما تسبب بانهيار شامل للتعليم في العراق.”. كيف يصحو هذا الجيل من تقوقعه وتكلسه حيث القعود ببركة التجهيل والتخلف الآسنة؟ من ومتى وكيف يمكن الانعتاق به من أسر ظلاميات لا تريد بالإنسان سوى الاستكانة عبداً يردد ببغاوياً عبارات لا مضمون فيها سوى مزيد استلاب ومصادرة واسترخاء للاستبداد والاستعباد؟؟؟

 

كل مجتمع يبحث عن وسائل التمسك بالهوية المخصوصة وتثبيتها في إطار السياسة العامة التي تحكم البلد والسائد فيها من اعتقاد بمستوياته ومفرداته وبأسس تنظيم توجهاته وضبطها بما يتفق والإرادة الجمعية. وهذا يفرض بحثاً دقيقاً في عدد من المحاور من بين أبرزها  التمعن في السياسة التعليمية للبلاد وماهيتها؛ بخاصة وهي تتبادل التأثير والتاثر مع السياسة العامة ومخرجاتها المرتبطة بتحديد الهوية والتمسك بها.

وبقصد البحث في معاني السياسة التعليمية تمهيداً لقراءة (بعض) جوانبها في إطار الوضع العراقي الراهن، أقول: إنَّ السياسة التعليمية، هي جملة المبادئ والمنطلقات التأسيسية التي تتبناها السياسة الحكومية العامة والإجراءات والقرارات التي تتخذها لإدارة منظومة التعليم ومنهجها وضوابط التحكم بالمنظومة وتشغيلها بما يتفق والتوجهات العامة.

ونحن هنا بحاجة إلى تحديد ميدان اشتغال السياسة التعليمية بالإشارة إلى مجمل المؤسسة التعليمية التي تبدأ من مراحل رياض الأطفال والتعليم الأساس فالثانوي والجامعي والمعاهد بتنوعات تخصصاتها ومراكز البحث والتدريب والتطوير المهني والتعليم المستمر ما بعد السنوات الدراسية والقطاعات المساهمة في إدارة كل تلك المؤسسات التعليمية وتوجيهها بصورة مباشرة أو غير مباشرة..

وفي الحقيقة، فإنّ ميدان التعليم ورسم برامجه وخطوط السياسة العامة فيه لابد أن يخضع للبنى المؤسسية المخصوصة وطابعها وإمكاناتها، مثلما بقضايا مادية كعدد المدارس والفصول فيها وأحجامها ومساحاتها نسبة لحجم الطلبة والمنتسبين وكطابع التخصصات ونهج ربطها بحاجات المجتمع ومقدار تحمّل الحكومة واجباتها مقابل نسبة ما يلعبه القطاع الاستثماري الخاص من واجبات وحجم الاهتمام بالمرافق الملحقة بتلك البنى التحتية سواء الخدمية أم البحثية وذات العلاقة بالأنشطة اللاصفية ومقدار الأجور والميزانيات وحجم الاستثمار بالبنى التحتية (المادية) يُضاف إليها مستوى الاهتمام بإعداد الكوادر الإدارية والتعليمية والخدمية وفي الأدبيات كل ما يخص طابع البرامج ودرجة استيعاب الخطاب الثقافي المجتمعي بين أجنحة تلك المؤسسات والقوانين الضابطة فيها.

ربما تتيح لنا هذه الومضة الاستعراضية، تمهيداً مقبولا كي نتحدث عن سياسة التعليم، كونها الدراسة العلمية التي تتناول بالبحث والاستقصاء شؤون أهداف التعليم في المستويين الفردي والجمعي ومن ثم الاستقرار على اختيار مخرجات محددة منشودة من العملية التعليمية.

ولابد لنا كيما نستكمل شروط رسم سياسة التعليم والتحدث في إصلاحها والتقدم بها بسلامة، لابد أن تكون المنطلقات ممتلكة الانتماء للعصر ولمنطقه وتوجهاته بخلفية وحدة المسار الإنساني وتعارضه مع حالات الانغلاق والغيتوات الانعزالية المنفصمة عن مستوى التطور وما وصلته البشرية من مستويات من دون التخلي في التعامل مع المعارف عن القيم والمبادئ السامية لهوية المجتمع ومرة أخرى غير المنغلقة…

إن السياسة التعليمية لا تقف كما أشرنا للتو عند الخطوط العامة ولكنها، تذهب عميقاً إلى حيث تحديد الأهداف ومطابقتها مع مخرجات المراحل والأنماط التعليمية المختلفة؛ وبالتأكيد تحديد البرامج والقوانين ووسائل التلبية والاستجابة للأمور الإجرائية بخطوات محسوبة ربما من دون التفاصيل لكن بعير ابتعاد أو انفصام عن الملموس المحدد وغير الهلامي الذي يضيع الاتجاه والهدف المحددين…

ولا يمكننا على وفق تلك المحددات التي سقناها هنا، أن نقرَّ بوقوف التعليم عند حدود نقل المعلومة وتلقينها للفرد أو أدلجته بأساليب غسيل الدماغ على وفق مسبقات مطلقة الصواب، معصومة من الخطأ، مثلما يخص التقوقع على ثوابت تُفرض بإرادة فوقية تلقينية على أنها الثابت المعصوم بالمطلق. وعراقياً وجدنا حالات إدخال بل فرض سياقات خطاب سياسي حزبوي على أنه دين وقدسية وعصمة مطلقة، الأمر الذي حرف مناهج التعليم وقوانينه بصورة فجة، تعارضت وتتعارض ومنطق العصر وقيم الأنسنة وسمو منطلقاتها..

لقد وصل الأمر حد مشاغلة مناهج التعليم بمحددات ضيقة الأفق تشيع منطق الخرافة بكل ما فيها من دجل وخطل في المنهج.. وصرنا إلى مجابهة أدوات في المناهج الدراسية وفي تعيين عناصر تدريس غير مهيأة أو أنها تخضع لسياسة إفشاء منطق الخرافة ومنهج الإملاء والتلقين السلبي الذي عفا عليه الزمن فضلا عن توجهات الإدارة ونظمها الماضوية المريضة..

ومجدداً أؤكد البحث في النموذج العراقي لرصد المخالفات في رسم السياسة التعليمية فأشير إلى أبرز محاور رسم تلك السياسة لكشف ما يختفي من مثالب بل مما يُرتكب من جرائم بحق التعليم  ويقف وراء توجيه العملية التعليمية وسياستها العامة توجيهاً يتعارض ومصالح البلاد وأهلها. إن لكل عملية تعليمية محددات تحكم رسم سياستها هي ما نريد عبرها كشف ما يختبئ خلف الأستار في السياسة التعليمية في العراق:

  1. وإذا كان معروفاً أنّ العملية التعليمية ترسم أهدافها على وفق حاجات المجتمع ومستوى التطور فيه ومتطلبات البناء المباشرة، فإننا بالحق لا نشاهد بناء المؤسسة التعليمية على وفق أولويات الحاجات المنتظرة عراقياً أي ليس على وفق المخرجات التي يُفترض أن تلتحق بسوق العمل وعجلة الاقتصاد.
  2. العملية التعليمية تنهج سياسة تتفق والهدف الاقتصاسياسي المحدد بالمرحلة والأعمق بما يتفق وتطبعات المجتمع للتمدن والتحضر؛ ولكننا لا نجد توجيها للسياسة التعليمية بما يتفق والنهج الذي رسمه الدستور هوية لخيار مجتمعي ينتمي للمرحلة الحضارية للبشرية اليوم.
  3. لا تتفق العملية التعليمية واحتمالات أو آفاق المستقبل الذي تشارف على دخوله البشرية مما يتسم وسرعة خاطفة للمتغير المُستشرف بمعنى افتقارها للمرونة وللاستعداد للمتغير..
  4. لا نجد توافقاً محسوباً بين المدرسي التأسيسي والجامعي ولا بين التخصصات لمؤسسات التعليم، فضلا عن خلل العلاقة بين التعليم والوضع العام الذي أشرنا إليه من قبل.
  5. هناك قطيعة متعمدة بين المنظور القيمي التربوي والثقافي للعملية التعليمية والعمق الحضاري للعراقين القديم والوسيط، ويجري إشاعة خزعبلات على أنها وقائع تاريخية حيث اصطناع خطاب أضاليل الخرافة والتخندقات التي تصطنع الصراعات وأشكال التمييز وافتعال المشكلات بدل خطاب التسامح واحترام التنوع وبدل التعرف غلى قيم مهد التراث الإنساني التي عُرفت في العراق السومري.
  6. ترفض السياسة التعليمية ولوج العصر بخاصة في إدخال التعليم الألكتروني أداة متقدمة لتسريع تبادل المعلومة من جهة وتفعيل بناء جسور الحوارات العلمية مع المجتمعات المتقدمة ما يكرس الانعزال والتقوقع على مستويات متخلفة.
  7. تختفي الموازنات الوافية التي ترقى لمستوى الحاجة في الاستثمار بميدان التعليم وتُحجب أية فرصة لرسم واضح المعالم في محددات التعليم بهوية وطنية تستجيب للحاجات المباشرة الرئيسة وأولوياتها..
  8. تفتقر السياسة العامة لمحددات مخطط لها بدقة في رسم الخطى ومعالم كل مرحلة ومتابعتها على وفق إحصاءات رياضية تحدد التنقلات بين المراحل تقدما إلى أمام وصعودا إلى أعلى فتراوح العملية برمتها حيث حالات تجريبية عبثية في الغالب، وتضيع الجهود بلا منجز يتقدم بالعملية. ولعل ذلك واحد من أسباب وقوع التعليم العراقي خارج معايير الجودة منذ عقد ونصف العقد. وإذا ما حاولنا التعرف إلى مراحل السياسة التعليمية فلن نجد فواصل بين مرحلة رسم توجهاتها ورسم مشروعات تنفيذها وولوج مرحلة التنفيذ عملياً ما يمعن في إضاعة راس الشليلة كما يقول العراقيون ويضيع على الباحث المتخصص فرصة التعرف إلى موضع ما وصلت إليه الاشتغالات في السياسة التعليمية.

إن التعليم يحتل مكانة مباشرة أمميا بعد صيانة السيادة مباشرة.. والاستثمار فيه هو نقطة الانطلاق لكل عمليات البناء والتقدم ولطالما ظل مكفولا بأولوية عليا في مختلف المجتمعات والدول المتطورة المتحضرة. وكل مشروعات الإصلاح تبدأ بالعملية التعليمية ورسم خطاها بما يستجيب للحركة التنموية.

لكننا إذا ما نظرنا في بلاد كالعراق فسنجد أن قراءات أوضاع الإصلاح تخفق في التوصل إلى تشخيص مناسب للواقع من جهة طبعا لعدم توافر إرادة التشخيص ولفقر في المواقف السياسية العامة بهذا المجال وضعف الإرادة المتجهة إلى التغيير نفسه في إصرار على التجهيل ونشر الأضاليل..

وعلينا هنا أن نضيف لعوامل فشل الإصلاحات في رسم السياسة التعليمية المناسبة وفي إدارتها وتوجيهها، أن نضيف موضوع القرار السياسي من جهة وطابع بنى الدولة ومؤسساتها العليا ومستويات الخلل المتفاقمة في بناء المؤسسات الاستراتيجية التي ترسم السياسات سواء في نقص فادح في تركيب الهيأة التشريعية أم في بنية المؤسسة التنفيذية الحكومية وبكلتا الحالين هناك معاناة من خلل بنيوي مؤشَّر.

وعلى صعيد المجتمع المدني ومنظماته سنجد انهيارا كليا شاملا في ضوء سحق الطبقة الوسطى وتفشي الأميتين وهزيمة العمل المؤسسي الجمعوي وتشوه هيكلي فيه، وبإشارة بسيطة على سبيل المثال لا الحصر نحيل إلى طابع التمزق والمحاصرة للعمل الطلابي المهني وتراجعه بشكل خطير سواء بتبعية بعضه للنشاط الحزبوي المريض أم بمشاغلة بعض آخر بخطاب الخرافة ودجلها..

ولا بأس من استكمال أسباب الخلل في رسم مناسب للسياسة التعليمية بالإشارة إلى حصر بيروقراطي لسلطة القرار في الشأن التعليمي بالحكومة ومؤسساتها العامة مع وجود شروخ بنيوية تسمح بوجود منافذ تعليمية خاصة بلا ضوابط عمل سليمة فضلا عن منهج مركز القرار الحكومي والحزبي وتدخلات شلل مافيوية في المسار التعليمي وهنا الإشارة صريحة ومباشرة إلى فساد بكل مفاصل العملية التعليمية..

 وبالتأكيد نحن نشدد على تشخيص الإجراءات التي تُمرَّر من وراء ستار حيث تعلن تلك الجهات المتحكمة العليا شيئا وتضمر وتمارس شيئا آخر مختلفا تماما، دع عنك أثر اتحاد الفعل العمودي بالأفقي ومستوييهما في التأثير الفعلي على مسيرة العملية التعليمية ونؤكد بالخصوص على تفاعل الإدارة الحكومية وجهازها المؤسسي مع مختلف الفاعلين وأولهم اليوم تلك الميليشيات التي تسطو على الشان العام بتفاصيل اليوم العادي وخطابات التخلف وإعادة إنتاج الجهل وتوالده اليومي.

إذن، في نظام طائفي كليبتوقراطي، تجابه السياسة التعليمية، ادعاءات معلنة فرَّغتها من المحتوى طبيعةُ الممارسات المتخذة فعلياً فتسببت بانهيار شامل وهو طابع ما جرى للتعليم في العراق مطلع الألفية الثالثة. فما العمل من أجل التغيير؟

الإجابة تكمن في رسم مشروعات ملموسة محددة والسعي لتحقيقها بالضغط من طرف مؤسسات التعبير عن الطلبة والأساتذة والإدارات.. لذا وجب توجيه النداءات إلى مراكز البحث كيما تدرس الواقع وتوجه الجهود الأكاديمية المتخصصة لمعالجة تفضي إلى منجز يرسم تطلعات الشعب نحو التغيير وبخلافه ستبقى العملية التعليمية تراوح في البركة الآسنة وتعيد إنتاج الخواء وخطاب الخرافة والتخلف..

***********

مقال الأربعاء منتصف الأسبوع في موقع الصدى نت د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

العملية التعليمية جوهر واحد لا يمكن العبث بمحتوى المصطلح ودلالاته كما عبثية العملية السياسية بوصفها بعبعاً بات كالسيف المسلط على رقاب من يجري تجهيلهم ثم ابتزازهم بما يُختلق من أشكال هذا البعبع!
لكن العملية التعليمية تتطلب استراتيجيات هي سياسة مرسومة بخطط بعينها كيما يمكن وضع الأطر العامة ومفرداتها والسير بالتفاصيل لاحقا على وفق أمور إجرائية سليمة أو تقع خارج منطق الصواب بقصد وتعمد كما الحال العراقية اليوم بكل ما تحفل به من تخريب…
السياسة التعليمية تحكمها ضوابط وقوانين مؤطرة بمحددات مشتركة في الغالب بين الشعوب ودولها ومنظومة الحكم فيها.. وتتقارب كثيراً بعدد من دول المنطقة حتى تتماثل وقائعها المرضية وما أصابها من مشكلات تتطلب رداً موضوعيا ومعالجة عقلانية.. ملامح ومقترحات مجرد مقترحات للنموذج العراقي بأمل أن تحظى المعالجة ومقترحاتها بتفاعلاتكم

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *