حول هوية المسرح العربي

                                              

 

                       تبقى المعارف و الفنون قاسماََ حضارياََ مشتركاََ منبعها و جوهرها " الإنسان".  وباستثناء المعارف العلمية الصرفة فإنً بقية النتاجات الإنسانية تتخذ لها مظاهر متعددة تميزها تبعاََ لظروف ولادتها و تطورها.  وهي تميل  إلى التعبير عن سمات الفرد أو خصائص الفئة لأسباب  مختلفة ,  تكمن في طبيعة  كينونة الفنون و الآداب على وجه الخصوص. و تعادل الفنون و الآداب ( قيماََ ) بعينها , و ليست "القيمة" التي نشير إليها هنا هي المعايير المحددة  القياسية  كما هي  في العلوم  الصرفة , وإنًما هي  قيمة من  نوع  خاص  تتجسد  فيما  تحمله  من ثنائية -  ما أنْ تنفصل أوتتفكك حتى تسقط في تمثيلها القيمة الأدبية أو الفنية- و هذه الثنائية هي ثنائية المتعة والمنفعة أو إشباع ( رغبة) انفعالية في ذات الوقت الذي يتم فيه تحقيق (غاية) إدراكية ملموسة.(1) و من هذه الحقيقة يصبح لزاماََ التحدث عن الوظيفة الاجتماعية للفن و الأدب تلك الوظيفة التي يستجيب فيها (النص) لمتطلبات الحاجات العاطفية و العقلية أو بعبارة  أخرى  (لاهتمامات)  الجماعة و الأفراد في نطاق المجتمع  المعين  و في زمن  معين  أيضاََ.  و تلك الحقيقة  نفسها تلزمنا التحدث عن ارتباط  الأنواع  الأدبية (و الفنية) بمستويات حضارية محددة (2), حيث يمثل كل نوع أدبي نقطة تقاطع محورين:-                          

الأول:-   هو المحور العمودي المتمثل بالمسار الزمني للتطور.

والآخر:-  هو المحور الأفقي المتمثل بتفاعل التجارب المتزامنة.

أُذكِّر هنا بالتعبير البدائي الأول من حكايات خرافية وأساطير و بكل أنواع التعبير التي ظهرت بعد ذلك حتى يومنا هذا, تلك الأنواع التي احتضنت كل بنية من بناها الخصائص التي تكاثفت في نقطة التقاطع المشارإليها.

 

                     و بصدد المسرح فقد كان الحدث الدرامي , وهو جوهر بنية المسرحية , معبراََ عن حضارة المدينة سواء كانت هذه المدينة هي المدينة السومرية أم  الفرعونية أم الإغريقية أم الهندية .. فلقد جاء الحدث الدرامي , من حيث معطيات العلائق الداخلية لبنيته , ليشير إلى نقلة نوعية جديدة تتكسر في ضوئها الذاتية- الغنائية المحدودة و تغتني و تتطور الموضوعية الملحمية الأحادية(3) , مقدماََ بذلك , نموذجه الخاص. و الأمر من حيث  معطيات انفتاح النص الأدبي ( والفني )  يتعلق  بارتباطات  جديدة  مع المتلقي غير ارتباط القصيدة ( الغنائية) -  بالمعنى الواسع للمصطلح -  و الملحمة أيضاََ بمتلقيهما. فحدث درامي لا يمكن أنْ يكونَ له وجود , إلا ذلك الوجود الناقص أو المشوه , من دون أن يكون على الركح و أمام الجمهور , إذن فالحدث الدرامي و بصورة أدق المسرحية هي فن الوجود الجماعي في خيمة أو مساحة تُدعى المسرح .. هذا الوجود هو المعبِّر الأخير الذي يكتمل به الحدث الدرامي و تلغى تشوهات وقوعه  خارج رحمه الطبيعي ( المسرح و جمهوره).

                    و إذْ تقدم هذه المعطيات مشروعية البحث في هوية خاصة بالعمل الأدبي و الفني , فإنًها لاتنفي وجود قاسم  مشترك على  صعيد  قوانين الخطاب الأدبي(والفني) ,  تتمثل في  الحدود التجريدية  لذلك الخطاب بوصفها قوانين النوع أو الجنس التي تستدعيها كل بنية مخصوصة جديدة.

 

 

                     لماذا  الخصوصية ؟  و أين تكمن ؟

                     فإذا انتهينا من مداخلة ِشرعيةِ البحث عن( خصوصية ما) فإننا نبحث عن العوامل المسببة لها.. وهي في تقسيم سريع تقع في موضعين أو عاملين هما :-        ( العامل الخارجي )     و    ( العامل الداخلي).

فأما العامل الخارجي(الأول فيه الجمهور) فإنًه ينبع من كون المسرح جزءاََ مهماََ في المؤسسة الثقافية للمجتمع, أما كيف يكون المسرح جزءاََ من هذه المؤسسة فإنً ذلك يعود إلى طبيعته الجماهيرية .. فدائرة خطابه لا تتم إلا  باكتمال حلقة ( كاتب -  مخرج -  ممثل -  متلقي ) ولايكون هذا  المتلقي فرداََ , هذا فضلاََ عن  وجود  نوع من المسرحيات لا يفترض ( التلقي المجرد)  بل يفرض المشاركة الفاعلة للجمهور المتلقي عندما يحطم وهم الجدار الرابع .. و بهذا تتعمق أهمية الجمهور و دوره في صياغة رؤية المسرحية و إكمال بنيتها الفنية.(4)

                    و الآن ينبغي الإشارة إلى أنً المتلقي هنا لا يكون الزائر الطارئ للمسرح , و إنًما هو جمهور له نسبة ( ثبات) في علاقته أو ارتباطه بالمسرح و لذلك يمنح عامل الثبات  هذا  فرصةََ  لدراسة  المشترك عند هذا الجمهورو ما تضفيه خصائص انتمائه الثقافي و الوجداني على البنية المسرحية و هويتها , وهو ما يشكل الدافع الأول لمعالجة الخصوصية القومية و الوطنية للمسرح. الأمر الثاني في العامل الخارجي هو الثيمة :-   حيث إنً دراسة هذه الخصوصية تحيلنا إلى حقيقةِِ مهمةِِ هي

أنً لكل مجتمع موضوعاته المتميزة , و حتى عندما يعالج موضوعات إنسانية شاملة فإنًه يعالجها من وجهات نظر و زوايا تخصُهُ و ترتبط بإسلوبه المتميز.و لهذا فإنً التزام المسرح العربي لموضوعات مجتمعه يُعَد تحصيل حاصل لتلك الحقيقة . و من معطيات هذا الالتزام بروز ظاهرة المسرحية الاجتماعية و سيادتها طوال العقود السبعة الأولى من القرن العشرين. وسنشير إلى أسباب هذه الظاهرة في موضع لاحق.(5)

 

العوامل الداخلية لشرعية الخصوصية الوطنية في العمل الأدبي و الفني : - 

جاء تقديم العوامل الخارجية على الداخلية , ليس لأنها الأهم و لكن لاختصار المعالجة والتعجيل بانهائها لصالح معالجة العوامل الداخلية التي تُعَد جدلاََ العوامل الحاسمة في معالجة النص الأدبي أو الفني, و الأكثر أهميةََ أيضاََ. فإذا عدنا إلى عناصر البنية الدرامية فإنًنا نُجابَهُ بعنصرَي( الشخصية و الحوار) ثم( الصراع و الحبكة) و هو ما يقتضي منا التفصيل فيه للوصول إلى قراءة موضوعية لمعنى الخصوصية أو الهوية.

 

الشخصية الدرامية عامل من عوامل خصوصية الهوية:-

لقد تنامى دور الشخصية في العمل الدرامي على حساب العناصر الأخرى منذ عصر النهضة , ولم يكن ذلك لدواعي فنية بحتة , بقدر ما كان استجابة لمعطيات العصر التي كان منها بروز الاهتمام المتعاظم بالفرد الذي مسخت القرون الوسطى وجوده لأسباب تاريخية  معروفة.(6) و كان نتيجة ذلك أن تركيبة الحدث الدرامي دخل فيها اهتمام جدي و خاص بدور الشخصية و ماضيها و تأثيرهما في مسار ذلك الحدث ( الدرامي ), و يعني هذا تعميقاََ لارتباط المسرحية بالوجود الاجتماعي و طبيعته. ولم يتناقص اهتمام المسرحية بالشخصية في عصرنا الحديث , لكنه تحول من معالجتها  لشخصية  الإنسان  الفرد إلى مناقشة  الإنسان في وسطه الاجتماعي أو مُعَبراََ  به عن  فئة  أو جماعة  أو مجتمع ما , و تداخل هذا مع حالة الشخصية النمطية التي ترمز إلى فكرة  أو فئة و من ثمً  إلى  بروز الخطة الفكرية العميقة  أو المختفية  إلى جانب الخطة السطحية أوالظاهرة(7).. و كل هذا  يفترض أول ما يفترض انطباعه  بطابع  ما يعكسه  من ظروف  و قيم اجتماعية ملموسة . فعلى سبيل المثال لا الحصر إذا ما عالجت مسرحية ما قضية الزواج في بلد فإنًها تعالجها  في نطاق الخصائص الاجتماعية لهذه القضية في ذلك البلد وهي تختلف بالضرورة عندما تُعَالَج في بلد مختلف وهكذا الأمر في أية قضية أخرى. وعموماََ فإنً الشخصية كائن اجتماعي , يستدعي معالجته  انعكاس الخصائص  الاجتماعية  الملموسة وذلك  بيت القصيد من وراء مناقشة هذا العنصر هنا.

لكلٍ لغة أسلوبها الخاص :

أما ثاني عناصر البنية الدرامية فهو مظهره  المنطوق , إنًه الحوار , و ليس هذا الحوار إلا المظهر الذي تبدو لنا به اللغة المسرحية (8) .  و لأنً لكل لغة أسلوبها أو طابعها التركيبي الخاص , فإنً العمل الفني لابد له أنْ يكتسب هذا الأسلوب أو الطابع بوصف ذلك هو النتيجة الطبيعية .(9)

الصراع الدرامي له هويته الخاصة :

ليس المقصود هنا الخصوصية الدرامية تجاه الأنواع الأدبية و الفنية , وهو أمر مسلًم به , و إنًما المقصود أنً  ما يُعَد سبباََ للأزمة الدرامية و من ثمً للصراع في الدراما في مجتمع ما قد لا يُعَد كذلك في مجتمع آخر . و لهذا فإنً الصراع الدرامي يكتسي حلًتَه من طبيعة مرجعيته , أي  من المثال  الذي  ينعكس  من الواقع  في  نطاق الحدث الدرامي المخصوص.

                   وعلى العموم فإنً الخوض في شرعية البحث في هوية خاصة للمسرح العربي  وفي مسببات هذه الشرعية يطول ويمتد إلى  تفصيلات أخرى ..  نكتفي منها  بما  ذُكِر من أجل إفراد  مساحة  مناسبة  للأجابة  عن محاور الموضوع المباشرة.

                   البحث في هوية المسرح العربي ..

                   هل للمسرح العربي هوية خاصة يُعرف بها و تعرٍف به ؟

 

                   إنً أية إجابة مباشرة عن هذا التساؤل تُعَد تسرعاََ  يخرج عن نطاق البحث الموضوعي المتأني. ولهذا فإنني أباشر الإجابة من خلال الإشارة إلى ظاهرة جدية على صعيد المسرح العربي بعد مرور ما يزيد على قرن من الزمان لولادته الحقيقية .. تلك هي ظاهرة التجريب الفني , و هي ظاهرة كان القصد منها التطوير النوعي -  الفني البحت و لكنها أفرزت من جملة ما أفرزته تياراََ مهماََ .. ألا وهو تيار ( التأصيل) لمسرح عربي الطابع و الملامح . وهذا بدوره استدعى { و تداخل} مع ظاهرة جديدة أخرى هي ظاهرة محاكاة أشكال تراثية سواء بالاستدعاء الحرفي الضيٍق أم بالتوظيف الخلاًق لتلك الأشكال.(10)

                          ولعلنا هنا نتجاوز التوثيق لهاتين الظاهرتين لصالح التعمق في إدراك ماهيتهما. فموضوع التأصيل لمسرح عربي هو جهد لم يعد محصوراََ في نطاق نشاط الأفراد من كتًاب المسرح و مخرجيه , بل صار همًاََ جماعياََ تلتقي دونه حركة مسرحية لها أرضية واسعة جداََ (قد تشمل معظم الحركة المسرحية العربية)...

على أنً هذا التأصيل قد عمل في الغالب في نطاق استدعاء عناصر تراثية ليشكل منها هويته الخاصة. و كان هذا الاستدعاء يحمل في طياته انشطاراََ تناقضياََ عندما وُلِد في نطاقه مَن يلتزم التراث بشكل متزمت مكرراََ أشكاله السلفية التي كانت   إبنة شرعية لعصرها  و لكنها لم تعد اليوم تستوعب المتغيرات المعاصرة. و آخر يلتزم هذا التراث ولكن انطلاقاََ من توظيف موضوعي إيجابي .. أي أنً التيار الأخير يقرأ الماضي و يعصرنه ( من المعاصرة) بمقدار ما يوجه هذا الماضي الحاضرَ .. و هو استلهام إبداعي لا تكرار فيه أو تقليد سلبي.

و هكذا فنحن أمام قراءتين للماضي إحداهما رجوعية سلبية تعد ردّ فعل على الهجوم الذي تجابهه الشخصية القومية ,وهي ردّ فعل يتقوقع على الذات بشكل انعزالي ولايقدم سوى الهزيمة من الحاضر وآفاقه المستقبلية ليقبع في أحضان الماضي وهو الأمر الذي يتنافى حتى مع معطيات ذلك الماضي الإيجابية . أما القراءة الثانية  فهي قراءة  أدب التغيير و فنه ,  وهو الأدب الثوري( أو التغييري بالمعنى الواسع ) الذي  يستلهم من الماضي  ما يوحي بخصوصية التجربة على صعيد تعبيرها عن أمة أو قومية... و يضفي عليه كل العوامل التي تستدعيها قوانين الخطاب الأدبي و الفني الجديد.

و لعلنا لا نبعد كثيراََ عندما نقرأ مسألة التعامل مع التراث في نطاق الشعر ذلك التعامل الذي بدأ على أساس  تسجيلي في أول الأمر, عصر النهضة الأدبية العربي, ثم تحول إلى المنظور التفسيري الذي يوظف خيرما في  هذا  التراث  إيجابياََ و ذلك من  قبل الشعراء  المحدثين , علماََ أن ً هؤلاء  قد استفادوا  جديا ََ من تجربة      ت.س.إليوت في هذا المجال وهي التجربة التي توظف استدعاء العناصرالتراثية(11) لتصبح وسيلة تعبيروإيحاء في يد الشاعر يعبر من خلالها أو بوساطتها عن  رؤياه  المعاصرة الخاصة(12).  وعلينا هنا أن  نبين الفرق بين صيغة التعبير عن التراث والتزمت في استلاف أشكاله و طروحاته الماضوية من جهة وبين التعبير بوساطة التراث و توظيفه الخلاّق , ذلك  الفرق  الذي  يجعل من استلهام التراث  وسيلة  من أجل الحاضر و المستقبل لا غاية بذاتها تتوقف عندها عجلة الإبداع و مسيرته.

                    و لكن ما العوامل التي تجعل من استلاف الأشكال التراثية جزءاََ من عملية التأصيل الإبداعية المعاصرة؟ أو بصيغة أشمل : ما العوامل التي تدعونا للعودة إلى التراث؟ إنً هذه العوامل جد متباينة فمنها الفنية البحتة و منها النفسية ومنها السياسية والاجتماعية. وأول هذه العوامل هو غنى التراث و ثرائه بالإمكانات الفنية وبالمعطيات التي تمنح  الأدب المعاصر طاقات تعبيرية لا حدود لها فيما لو استلهمها إيجابياََ. وثاني هذه  العوامل هو القدسية أو الوقع  الخاص , في نفوس أبناء الأمة  و وجدانها , للمعطيات التراثية. أما الأسباب الأخرى فتكمن في كون التراث جزءاََ مهماََ وأرضية حيوية للشخصية القومية ثقافياََ و اجتماعياََ , و هو سدّ حصين ضد الهجوم على هذه الشخصية سياسياََ و فكرياََ.

                   و جملة القول : إنً أية عملية تنحو باتجاه التأصيل لمسرح يحمل هويته القومية لابد لها أنْ تستند إلى أرضية  تنبع  من  تراثها على  أنً  هذا  الاستناد  يتحول  إلى  فعل  سلبي عندما  يصبح  غاية  بذاته. وهكذا فالقضية هنا تطرح نفسها على أساس أنً المهمة المركزية لمسرح اليوم تكمن في تكوين مسرح الإنسان العربي الجديد.

                 هل سلبتنا الثقافة الغربية شخصيتنا الوطنية ؟

                 تتعرض مهمة تكوين مسرح عربي الهوية لضغوط عديدة , من بينها قوة اندفاع الثقافة المسرحية الغربية و تأثيرات بريقها على بعض المسرحيين, هذا من جهة , ومن جهة ثانية تتعرض لضغط آخر يكمن في ضعف التجربة الفنية (عربياََ) بشكل عام والقصر النسبي لرصيدها التاريخي الحديث. غير أنً مثل هذه الضغوط يمكن مجابهتها بتعميق التجارب المتميزة و دعمها ..  و باستبدال الرصيد  التاريخي برصيد يستند إلى استخدام الأشكال التراثية المناسبة مع إجراء التحوير الضروري من أجل توظيفها المعاصر... وكل هذا جرى  ويجري من قِبَل عناصر فاعلة في المسرح العربي  وهو ما يؤيد رفض  فكرة  الاستلاب  الذي تتعرض له الشخصية القومية والوطنية في مجالات الثقافة والفنون بعامة, وفي نطاق تجاربنا المسرحية الجديدة بصورة خاصة.  ثم إنً مبدعي المسرح الآن يمتلكون الإمكانات الجدية للنهوض بهذه المهمة على أتمٍ وجه إذا ما توافرت لهم ولتجاربهم فرص الدعم الكافية.

 

هل تؤسس الظواهر المسرحية في تراثنا لتجارب مسرحية عربية جديدة ؟

 

                   لقد توصلنا إلى أنً استلهام ظواهر تراثية لتجاريب المسرح العربي أضحت من أركان التأصيل لهذه التجاريب.  ولكن   هل جرى إلى حدّ  الآن مسح كافِِ لهذه الظواهر؟    هل  مُنِحَت الوقفة الدراسية النقدية الملائمة؟ و هل استُثْمِرت بنجاح دائماََ؟ أنً الموقف من الأدب المسرحي بخاصة ومن فن  المسرح بعامة مازال يجابه سلبية غير قليلة الشأن بخاصة في أوساط  أكاديمية لها أهميتها  الخاصة(13),  فلو جرى اعتماد الدرس المسرحي  ( أدباََ وفناََ )  في نطاق الاختصاص الأكاديمي و منح الاهتمام الكافي من البحث والدراسة  فإنً  الحصيلة  ستكون كبيرة الأهمية  في  تعزيز مثل هذه التجربة وفي تعزيز خصوصية هويتها. إنً مثل هذه الفرصة هي التي ستجيب عن المدى الذي يمكن لهذه الظواهر المسرحية أنْ تسهم به في رصيد التجربة المسرحية المعاصرة.

 

تجارب مسرحية جديدة تنتمي إلى الهوية العربية :-    

 

و ينبغي لي القول إنً دراسات قليلة قد تناولت بعض الظواهر بالرصد و المتابعة , ولكنها ظلت في إطار التناول الثانوي أو الهامشي, وإنً تجاريب مسرحية جديدة ( وهي تجاريب تؤصل لمسرح عربي الهوية) تنتمي في بعض خصائصها  إلى  ما يستلهم  العناصر التراثية  ..   وبدلا من الإشارة  إلى هذه  التجاريب أدعو إلى مَن  يرصدها و يوثٍقها و يدرسها بما يعطيها حقها من الاهتمام و المتابعة.

 

عنصر  آخر  في  التأصيل  لمسرحية  عربية  :-       هل المسرح العربي مسرح  اجتماعي ناقد ؟

 

عندما نلاخظ المساحة العريضة التي احتلتها المسرحية الاجتماعية في نطاق المسرح العربي عموماََ, فإنًنا لاندهش من القول إنً هذا النمط قد احتل المساحة الأوسع وليست الأولى حسب. ولم يأت ِهذا  كاستجابة خارجية من قِبَل كتًاب المسرحية و مخرجيها للظروف المحيطة بهم و درجة إحساسهم بإيقاع هذه الظروف حسبْ وإنًما تأتت من ذلك المَيْل  بحلقة المسرحية  ( كاتب -  مخرج -  ممثل -  جمهور ...)  نحو هذا النمط دون غيره,  و هو مَيْل ( شمولي)  ينبع من خصوصية  الكتابة المسرحية العربية..  مما  يدعونا  إلى التفكير في تطويره  و خلق تجربة خاصة من خلاله.

                    لقد طغى الخطاب غير الأدبي و غير الفني أحياناََ كثيرة , لأسباب مختلفة , ليقدم لنا في مظهر مسرحي باهتِِ  أفكارا و معطيات اجتماعية..  وهو ما يقع في نطاق  مهمة  أية مؤسسة غير المسرح..  و لعل ََ البحث في دواعي هذه الثغرة التي عانى منها المسرح العربي تكشف لنا أنها جاءت بسبب قصور المؤسسات الأخرى وخطاباتها وتشوه مفاهيم المؤسسات الثقافية المختلفة و اختلاط أوراقها .. إلاّ أنً الأمر ليس كذلك دائماََ, فالنقد الاجتماعي يصبح مضموناََ فنياََ بحتاََ يندمج في العمل المسرحي المخصوص ليقدم لنا المسرحية الاجتماعية الناضجة أو المتطورة وهي المسرحية التي تحمل بحق نجاحها الفني من جهة وخصوصيتها المتفردة على صعيد مناقشة المضمون الفني لها.

                  و لا ينفي هذا التفرد و التطور إقبال جمهور المسرحية العربية على النمطين الأول بسطحيته من حيث البناء الفني و خطابه .  والثاني بعمقه و اختراقه لحدود الإبداع.. و يتعلق هذا بتباين أنماط جمهور المسرح  تبايناََ ملموساََ , فضلاََ عن أسباب أخرى ليس هذا مجال تناولها.

 

                   استقراء   و   نتيجة   :

 

                   هل يمكن بعد هذه القراءة السريعة أنْ نجيب عن سؤالنا الذي علقنا الإجابة عنه حتى الآن  ؟ ......

هل  للمسرح  العربي  هوية  خاصة  به    ؟

إذا تجاوزنا المعايير المطلقة أو الشمولية , و إذا تجاوزنا الحدود العالمية لهذه المعايير واتخذنا من المعيار الموضوعي وسيلة للإجابة .. فإننا نستطيع بكل ثقة أنْ نقول : نعم , نحن بصدد تجربة مسرحية خاصة بنا, إلاّ أنً المشكلة الرئيسة التي تجابه خروج هذه التجربة إلى النور مكتملةََ هوضعف النقد المسرحي و التجائه إلى الإنزواء في العملية الصحفية وفي الطارئ أو الهامشي من الأحكام . في حين نحن بحاجة إلى نقد ينظِّر لتجاريبنا و يعمِّدها و يدفع بها نحو التطور و النضج.

                     و يظل  الحديث  عن الهوية  القومية والوطنية  للمسرح العربي   بعيداََ عن دعوة الانعزال والانقطاع عن التجربة الإنسانية .. وذلك انطلاقاََ من خصائص الحدث الدرامي نفسها , تلك الخصائص التي تضع الإنسان جوهراََ لها وتضع خصوصيته القومية والوطنية قانوناََ لبنيتها....

                      إنً مسرح اليوم ليس مسرح الممثل المعزول في علبة رُفِع جدارها الرابع ليتلصص الجمهور عليه, إنًه مسرح .. الممثل فيه جزء من الجمهور  والجمهور يحطم جدران العلبة المسرحية ليتدخل في صنع المسرحية و إنجاز عملتها الفنية . وهو الأمر الذي يدعونا إلى الحديث عن المسرح الجماهيري لا بمعنى استقطابه لأكبر عدد من متابعي المسرحية بل بمعنى إدخال الجمهور في العملية المسرحية بما هو أبعد من فكرة تحطيم الجدار الرابع.. بالمعايشة والتفاعل.. ومثل هذه المشاركة يمكن أنْ تكون خصيصة حيوية لمسرح يحمل الهوية العربية...

إنً مسرحاََ بلا جمهور هو مسرح بلا قيمة(14) و قيمة مسرحنا العربي تكمن في خصوصية جمهوره .ولكي نعمٍق صلة هذا الجمهور بمسرحنا ينبغي أنْ ننهض بوعيه المسرحي وأنْ نشركه في مناقشة التجاريب المسرحية وأنْ نجعله غاية المسرح مثلما يجعل هو المسرح وسيلته التعبيرية. إنً هذه الفرصة لن تكون ذات جدوى إلاّ إذا خرجت بتوصيات قابلة للتنفيذ أو التطبيق وهو الأمر الذي يحدوني إلى وضع هذه المقترحات بوصفها تصورات أولية تقبل الجدل و المناقشة و غايتها تفعيل عملية البحث عن هوية خاصة بمسرحنا و التأصيل لتجاربه المتنوعة . وتتلخص هذه المقترحات في :-

توصيات و مقترحات بصدد تفعيل البحث في تطوير المسرح في البلاد العربية وتأكيد هويته و تأصيلها                              

 

 

 1. طبع ونشر النصوص الدرامية  التي  تتبنى  التجريب  والتأصيل لمسرح  عربي            الهوية .

 2. التوثيق والأرشفة للتجاريب الجديدة بخاصة منها تلك المتعلقة باستلهامها التراث أو التي تقدم نموذجها الخاص الجديد.

 3. إدخال درس المسرحية في مناهج كليات الآداب و حسب الاختصاص فضلاََ عن الاهتمام بفتح الشُعَب المسرحية و الدراسات المتخصصة.  

  4. العناية بملتقيات المسرح التجريبي الوطني المحلي و القومي ودعمهذه الملتقيات بالمشاركة الفاعلة فيها.

  5.إقامة مسابقات خاصة بكتابة النصوص التي تبتكر في بنية خطابها الأدبي والفني.

  6. إقامة الدورات و الندوات المتخصصة بهذا المجال.

  7. دعم الدوريات المتخصصة بالمسرح و تخصيص اعداد مستقلة منها للنصوص والأعمال المبتكرة.

  8. الاهتمام بالحلقات الدراسية و الندوات على هامش المهرجانات المسرحية المحلية و القومية.

  9. أنْ تستعين الفرق المسرحية بنقاد متخصصين في متابعة أعمالها وذلك بما هو أبعد من النقدالصحفي .. مثلاََ عقد حلقة نقاش بين عناصر العمل الفني جميعاََ و بين النقّاد الأكاديميين.  

  10. تعزيز الصلات بالمسارح العالمية و مهرجاناتها و دعوة الفرق التي تتفق و تصوراتنا بصدد مسرح عربي الهوية.

 

 

                      إنً مثل هذه التوصيات جرى و يجري إنجازها كلاََ أو بعضاََ منها هنا أو هناك من الأقطار العربية ولكنها ما زالت بحاجة للتنفيذ في البعض الآخر من هذه الأقطار  ..   و ينبغي أن أشير هنا إلى التجارب الإبداعية التي تنجز في بلاد عربية عدة من قبل   كتّاب و مخرجين   يغذّون السير في مسيرة تعزيز مسرح عربي متطور, تلك التجاريب التي يمكن لها أن  تتطور و تنضج مع  محافظتها  على الاستمرارية  و التواصل  الدائم وهو الأمر الممكن بفضل تواصل المهرجانات المحلية و العربية المنعقدة هنا . و تواصل النتاج المسرحي فضلاََ عن امكانات استثمار الفروع الدراسية المتخصصة و الدوريات الصحفية.

المصادر والمراجع:

تطور البنية الدرامية في المسرحية العراقية, تيسير الآلوسي , بنغازي , 1998 ................................(1)

فن المسرحية ,ف.ميلليت+ج.بنتلي ,ترجمة صدقي حطاب , دار الثقافة , بيروت , 1966 .................. (2)

نظرية الأدب , م. كوركينيان , ترجمة جميل نصيف, دار الشؤون الثقافية, بغداد ,1986 ....................(3)

علم المسرحية , ألارديس نيكول , ترجمة دريني خشبة , المطبعة النموذجية , 1958 .........................(4)

المسرحية الاجتماعية في العراق ,مقال عمر الطالب مجلة المثقف العربي عدد 1 , 1971 ...................(5)

المسرحية العربية في الأدب العراقي الحديث , تيسير الآلوسي , رسالة جامعية , 1989  .....................(6)

تشريح المسرحية , مارجوري بولتن , ترجمة دريني خشبة , مكتبة الأنجلوـمصرية , قاهرة , 1962 .....(7)

فن كتابة المسرحية , لاجوس إيجري , ترجمة دريني خشبة , دار الكاتب العربي , قاهرة , د.ت. ...........(8)

الحوار في القصة والمسرحيةوالإذاعةوالتلفزيون ,طه عبدالفتاح مقلد , دار الزيني للطباعة , 1975 .......(9)

تطور البنية الدرامية في المسرحية العراقية , تيسير الآلوسي , بنغازي , 1998 ..............................(10)

أثر التراث الشعبي في الأدب المسرحي النثري في مصر, فائق أ. مصطفى , دار الرشيد , بغداد , 1980(11)

قضايا الشكل والقصص الشعبي,إيلسبورغ,ترجمة جميل نصيف , دار الشؤون الثقافية,بغداد , 1986.....(12)

مقدمة في دراسة المسرح العربي, مقال جميل نصيف , مجلة كلية الآداب بغداد عدد 15 ,1972..........(13)

حوار في المسرح , نجيب سرور , مكتبة الأنجلوـالمصرية , قاهرة , 1969 .................................(14)

 

                                                 الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

                                                                                   تخصص الأدب العربي الحديث \ دراما

 

www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates Website: 

TAYSEER1954@naseej.com E-mail    :

 

 

 

1