علمانية الدولة والدستور لا ثيوقراطيتهما

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي محلل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

TAYSEER1954@naseej.com

-1-

                            بدأت بعض وسائل الإعلام  تتداول قراءات أرقام وإحصاءات تشير إلى أغلبية طالما تمسّك بها سابقون لتشكِّل شرعية وجودهم ومن ثمَّ لشرعنة أفعالهم. فقد فاز رؤساء بنسبة الـ 99.9%  المشهورة ومعروف مَنْ هم أولئك الرؤساء أصحاب هذا الرقم وكيف (يحصلون؟) عليه عفواَ َ (هم لا يحصلون هم يفرضون!).. وما دمنا مع هذه الشرعنة التي لا تستطيع إلا العودة لتسجيل أغلبيتها فلْنذكرْ  كلَّ تلك الأحزاب التي ترى في الشعب أو المجموعة الدينية أو الطائفة (قطيعاَ َ !) يتبعها أو بكلمة أدق هو جزء من مكوّناتها وليست الأحزاب جزءا من مكونات تلك الجموع. وما الفرق من حيث المبدأ بين السلطان صاحب الـ 99.9% وهؤلاء الذين يرون في قطعان مخيلاتهم أنَّهم الأغلبية وعلى الجميع الانصياع لرؤاهم وفلسفاتهم انطلاقا من شرعية الأغلبية المزعومة الموهومة؟؟!

                             والإشكال في أمر هاتيك الأغلبيات أنَّها اليوم تتلبّس متقمِّصة عن عمد وقصد رداء الدين ولباس التديِّن.. وهي بذلك تضع قناع التمثيل المقدّس لشريعة الله على الأرض وكأنَّها الخيار الإلهي الوحيد وليس سواهم إلا كَفَرة مارقين أو تابعين عميان وجب عليهم طاعة (الأمر بمعروف هذه الزعامات المفروضة ونهيها عن منكر تحدِّده هي حسب مقاساتها وقراءاتها؟!) في وقت سجَّل التاريخ حقيقة مثل هؤلاء وتجاوزهم الوعي الإنساني منذ عصرَي النهضة والتنوير.

                              ألَمْ نجد تفاسير واجتهادات عدة في موضع الخطأ؟ ألَمْ نجد أقوال فقهاء الاجتهاد في احتمال ورود الصواب والخطأ عندهم؟ ومن ثمَّ ألا يرى معي الجمعُ أنَّ ذلك من بديهيات الأمور التي لا تسمح لأحد أنْ يفرض تصورَهُ على الآخرين قسرا لاحتمال الخطأ, ولاحتمال وجود الأفضل, ولاحتمال الاختلاف الذي يفرض حق الآخر في اختيار كيفية العيش وماهية اعتقاداته وفروضها؟

                               وبالتأسيس على هذه الصورة لا نجد منطق الفروض القسرية القهرية من أيّ مصدر جاءت ممّا ينبغي أنْ يتبقى بعد أنْ زالت غمّة سلطة المصادرات بكلّ أنواعها من سياسية واجتماعية وعرقية أو قومية  وحتى دينية أو طائفية فليس لجهة على أخرى حق تميِّز. وإنْ بحجة الدين فالدين لله والوطن للجميع. إذ لماذا نقبل بفرض جهة أغلبية بصفة معينة دينية أو طائفية أنْ تعُدَّ الوطن ملكاَ َ خاصا بها وهي في أفضل ما تفترضه وتقدّمه للآخر هي أنْ تستضيفُهُ بشروطها هي وهي عادة ما تكون شروطا تعجيزية تصادر من الآخر حقه في شعائره مثله مثل ما تمتلك من ممارسة طقوسها.. وتصادر منه حقه في ألا يكون ثانيا في وطنه بل تايعا هامشيا إنَّه حتى ليس ضيفا كريما أو عاديا بل قعيد بلادِ ِ بشروط موتورين مرضى في ظلامية لا تعرف لنور الحق الإنساني منفذاَ َ!

                              وسياسيا توجد وهي الحقيقة الوحيدة الصحيحة في العلاقات الإنسانية يجبرنا أصحاب ضلالة ظلام لم يشهده التاريخ الإنساني إلا في أحطّ ظروفه وأوضاعه وأكثرها أزموية وتراجعا.. نقول سياسيا نجد مفهوم الأغلبية بين تجاذبَيْن الأول بوصفه قوة مسلَّطة على رقاب الأقليات العددية وفرض الشروط القسرية العدائية عليها والآخر ينفتح على تلك الأقليات ليأخذ في حالة من التبادل الإيجابي كلَّ ما من شأنه توفير فرص التعايش والسلام من أجل بناء المشترك التطوري الذي يتجه بنّا  نحو عالم إنساني خالِ ِ من أجواء البغضاء وأمراضها...

                                ولعلِّي بشئ من استطراد أُذكِّر بأنه في العلوم الإنسانية واللغوية كثرما نجد آراء جمهور العلماء مقابل آراء قلّة منهم وهي إذ تتفاعل لا تنفي واحدة الأخرى بطريقة الإعدام والتجاوز كأنْ يُقال لغير جمهور العلماء أنَّهم ليسوا من العلماء وأنَّهم لا يملكون حق الاجتهاد وتقديم الرؤى والتصورات على حدِّ ِ سواء! ومثله في كلِّ شئ في الحياة لا مجال للاقصاء لأنه لا يملك منطقا يقبله عقل راشد أو فهم راجح أو قلب إنساني  رحب يؤثر الأخ ولو كان فيه خصاصة؟؟ ولم يُقل لمنع  اعتداء على هذا الأخ بل قيل الإيثار على النفس...   

                                                      

2

 

                                   قرأنا سريعا في القسم الأول تصورات عن توظيف افتراض الأغلبية أو حتى حقيقة وجودها العددي لغايات وأهداف أيديولوجية ليست من طبيعة المنطق الإنساني. وأغلب ما حصل هذا كان يتستر برداء الدين أيّ دين كان وفي أيّ أرض ووطن. ولكن إذا كانت حال معالجات تلك المجاميع السياسية (الدينية) يفرض اليوم نفسَهُ على الساحة بقوة السلاح ويمارس وهو خارج السلطة عمليات التهديد والوعيد والقتل والاغتيال؛ فما بالك عندما يتسلّم السلطة عبر كسب مشاعر الناس وأصواتهم على أرضية الدين والمذهب والانتساب القومي والعائلي طامسين أنْ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالصلاح والتقوى.. وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ فيتقدَّم تلميذ على حججه وآياته ومراجعه ويتصدى لفتاوى توقع القوم في أتون حرب إذا بدأت لاتبقي ولاتذر.. وليس مِن عجَب توافق مثل هؤلاء مع بقايا نظم الـ 99.9% المزعومة.. ألمْ يترك الشعب العراقي ذاك [المغوار] في ساديتِهِ في لحظة تاريخية مؤاتية؟

                                   لنتطلَّع إذن لسلطة مقترحة من هؤلاء فهي على شاكلة أهم الوزارات هي وزارة الحجر على معتقدات الناس في بلد متعدد الأعراق, متعدد القوميات, متعدد الأديان والأثنيات, متعدد الطوائف, متعدد بكل مشاربه ومكوناته.. في حين يضع (الهؤلاء), وهم قلّة معزولة حتى في الوسط الذي يدعون تمثيله, قوانين المصادرة منذ الآن فمصادرة الوطن ووضعه في حوزتهم وجعْله وقفا من أملاك أجدادهم فقط ولا أجداد لغيرهم يملكون فيه شبرا!! ومصادرة الإنسان ومعتقداته وأفكاره وطقوسه وسلوكه في حياته بجعله مواطنا تابعا ومن ثمَّ يطبقون فلسفة الأسير على الرجال من هؤلاء والسبيّة على المرأة منهم!!! إنَّهم أهل ذمة دافعي الجزية ممن خسروا الحرب فصاروا كما ألمانيا النازية واليابان وغيرهما.. فهل بعد هذا من مصادرة .. أليس هذا استعباد للإنسان بعد أنْ وُلِد حراَ َ في وطنه سيدا فيه؟!!

                                   إنَّ أرضية هذه الرؤى ليست فقهية معزولة محدودة ولكنَّها تجد مَنْ يحرسها من قوى الاعتدال الديني عندما يفضِّل الصمت على ما يرتكبون جريمة بحجة أو ذريعة تُسْقِط على نفسها القدسية من تفسير نصِِّ بهذه الطريقة الشوهاء أو تلك الوسيلة العرجاء وما هم بعارفين فكّ طلسم المعجم من من القاموس! وعليه فالدولة الدينية ليست نموذج عصرنا وهي ليست نموذج حياتنا التي نريد فيها تقديم فلسفة احترام الآخر من منطلق لا التصدُّق عليه بهذا الاحترام بل من منطلق أو مبدأ المساواة التامة بين الجميع يشاركون في وطن واحد هو للكافة على حدّ سواء بلا تفرقة تُشعِر أحدهم بالتنحي وبالثانوي من حيث مواطنته...

                                        وكيف لي أنْ أبني علاقة إيجابية مع دستور يضعني في الدرجة الثانية.. أو دستور لا يقيم لتفكيري واعتقادي وزنه الحقيقي مثل بقية المعتقدات؟ وكيف لمواطن أنْ يحترم مفهوم المواطنة المنتَقَصة دستوريا؟ وكيف لنا أنْ نقدِّم المواطنة العراقية ونحترمها إذا كنّا لا نملك منها إلا ما يستهين بوجودنا الإنساني ويثلم حقوقنا في العقد الأساسي (الدستور) بين مجموعات شعبنا ومكوِّناته؟ هل سيبقى الأمر بعد تثبيت ثيوقراطية الدولة وتوصيفها الديني سويّاَ َ مستقيماَ َ؟

                                           وبعد هذا وذاك لا مناص من دستور يتساوى فيه جميع المواطنين ويحفظ للمواطَنَة مفهومها الحقيقي من غير انتقاص وليست الدولة الدينية إلا تجاوزا جديا خطيرا لهذه المساواة واعتداءَ َ على المواطَنَة  العراقية لأنّنا سنجد في الغد أحيانا مثلما يحصل اليوم (أحيانا) صمتا على جرائم الاعتداء على الآخر بسبب تصوراته وآرائه وتساهلا مع التطرف الديني والطائفي تحت ذرائع مختلفة متنوعة على رأسها كونهم يقدّمون اجتهادا قد يمثل رؤيا دينية إلهية!!!

                                        في حين الدولة العلمانية ودستورها ليست دولة إلحاد تمنع المعتقدات والأديان من ممارسة طقوسها السلمية التي لا تعتدي على الآخر ولا تتقاطع معه عنفيّاَ َ.. والعلمانية إذ تساوي بين المواطنين تعيد حقوق الإنسان إلى نصابها وتضعها في موضعها الطبيعي الصحيح وفي ضوء ذلك تُحْتَرَم المواطَنة العراقية التي ظلت ردحا طويلا بعيدا عن الاحترام لا داخل بلادنا ولا خارجها بسبب من طبيعة النظام السابق المنهار. وسيعود الوئام إلى بلادنا عبر فلسفة المساواة العدالة وتبادل القبول والاعتراف للآخر بوجوده وحقوقه.. والعلمانية ليست دينا ضد دين أو مختلفا عن آخر ولكنها مبدأ تعاقدي تعاهدي بين بني البشر توصلوا إليه بوصفه حلا جديا منطقيا عندما تشترك أكثر من مجموعة في وطن واحد بل حتى عندما يريد فرد واحد أنْ يتخذ لنفسه تصورا مغايرا وأنْ يحيا حياته بعيدا عن تصورات أغلبية مطلقة حتى في هذه الحال ستكون العلمانية هي الحل لأنَّها لا تقوم على فرض أو قسر أو اعتداء أو تجاوز أو أهمال وإغفال من طرف لآخر..

                         إنَّ دستور الدولة العلمانية يوفر للجميع فرص الحرية التامة التي تقوم على عدل ومساواة ويقدّم الحل الناجع لأزمات عصفت ببلادنا بما فيه الكفاية لكي نقول كفى .. فإذا كان من حق الأغلبية أنْ يتناولوا أوضاع البلاد على وفق ما يقدمون من معالجات مستندة لمعتقداتهم وتصوراتهم فإنَّ من حق الأقلية أنْ تُحتَرَم في تصوراتهم واعتقاداتهم وأن يجدوا من هذه الأغلبية تبادل العلاقة الإنسانية من منطلق التعادل والمساواة وليس من منطلق التجاوز أو الانتقاص وهو اعتداء في جوهره على الحريات الأساسية طالما مسَّ مبدأ المساواة وانتقص من حق إنساني..

                          إنَّ الدول إذا ما تعاملت بمنطق القوة للأكبر وابتلعت الأصغر أو للأغلبية على أقلية فلن يكون في الساحة غير صراع دموي يلتهم فيه االكبير القوي الصغير الضعيف وكأنَّها لغة الغاب والوحشية ومنطق القوة العنفية المسلحة بالدمار لا بمنطق السلام والبناء والتعاضد. فهل هي ما نريده لوجودنا الإنساني مواطنين في بلاد الرافدين بكل ثقافاتها ودياناتها وطقوسها عبر تاريخها الحضاري التنويري الذي مثلته أمام مختلف شعوب الأرض.

                            لنناقش بهدوء علمانية الدولة والدستور لا ثيوقراطية الدولة.. ذلك أنَّ مَنْ يعتقد أنَّه باختياره دينية الدولة أو أحاديتها مثبِّتا ذلك في الدستور الأساسي بناء على أغلبية عددية سيجد نفسه هو في حالة من القلق وعدم الراحة في ظل عدم توافرشروط الراحة لشريكه الآخر الأقل عددا .. ولنناقش أنَّ الأحادية جربت في شعبنا بما أودى به إلى مهالك الموت والدمار .. فهل بعد ذاك مَن يريد التجريب وإنْ كان بلون جديد هذه المرة هو لون الدين. وما الفرق بين أيوديولوجيا سياسية أحادية تقود المجتمع إلى كلّ تلك المهالك وبين أيوديولوجيا دينية أحادية هي الأخرى تقود للمهالك نفسها إنْ لم نقل لأكثر في ظل حق الآخر في الدفاع عن كينونته ووجوده وممارساته بحرية مساوية لحرية الشريك الأكبر قوميا أو دينيا أو طائفيا أو لأي توصيف آخر؟

                                لنناقش ليس انطلاقا من تنازلات بل من مبادئ التسامح والسلام بين الأطراف كافة. ولنناقش من منطلق المجادلة بالتي هي أحسن. ومن منطلق التكافل والتعاضد في بلد للجميع. ومن منطلق التعايش السلمي. أما إذا أخذ كلّ قطعة من السفينة فإنَّ مستقر الجميع ليس إلا الهلاك في ليس في قعر المحيط ولجج البحر بل في بطون أسماك القرش التي تقوم اليوم وهو سبب مهم آخر للعاقل لكي يقبل بدولة علمانية الدستور يمتلك فيها كلّ حرياته ومنها ما يخص دينه واعتقاده وطقوسه.

 

2003 / 10 / 27

 

1