تشكيل التحالفات السياسية و دورها في التأثير على المشهد السياسي العام [*جديد]

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\11\20

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

 

                                        يُلاحِظُ المتابعُ للوضعِ السياسي العراقي الجديد ولادة عشرات الأحزاب والحركات والمنظمات كثيرة وهو بالتأكيد يمكنه أنْ يحدِّد لها عدداَ َ محدوداَ َ من التيارات العامة التي تشتمل عليها تقع بين اليسار واليمين بأطياف معروفة.. حيث اليسار الديموقراطي والقومي والإسلامي والحركة الكردية. لكنَّ الجديد على صعيد التيارات هو توسع وتوطد نسبي في التيار الليبرالي وبشئ من التفصيل يمكننا الحديث عن تيار يسار الوسط مثل حركات البيئة والسلام الأخضر وما إليها...

 

                                    إنَّ مسألة تشكيل تلك التجمعات الحزبية أمر طبيعي في ظلال الانعتاق من دكتاتورية خرقاء كمَّمت الأفواه على امتداد عقود طويلة من الزمن. وذلك أمر صحي تماما في الحياة السياسية ولكنَّ فعاليته ومدى تأثيره في توجيه مجريات الأمور لن يكون ذا بال إذا ما ظلَّت الحالة على أساس حالة التفتت والتشظي في عمل تلك التشكيلات السياسية فليس بمقدور أحدها قيادة الشارع من جهة وليس بمقدوره توجيه السياسة الحكومية بمفرده من دون الآخرين.

                                   وسيظلّ ضَعف التأثير مرتبطا بهذه الحقيقة وسيؤدي استمرارها إلى تشديد الصراعات وإلحاق الأذى بتطور المسار السياسي في البلاد. ذلك أنَّ عالم السياسة عالم يحتاج بطبيعته إلى التداول السلمي والتفاعل والتعاطي مع الآخر بشئ من القبول والتبادلية في المصالح, وإلا فإنَّ ما يحصل هو وقف أيّ حالة للتقدّم إلى أمام ومن ثمَّ تحجُّر تلك التشكيلات وتراجعها بانقطاعها عن الحركة التطورية وموتها أو عزلتها عن الجماهير من جهة وعن الحياة السياسية الحقة والتأثير فيها.

 

                                    وعليه ينبغي منذ اللحظة أنْ تعي تلك التشكيلات الوليدة ـ وحتى التقليدية منها وذات الوجود التاريخي والكتلوي ذو الوزن المعروف بتأثيره ـ  أهمية التحالفات مع تلك القوى القريبة منها ـ على يسارها وعلى يمينها ـ  وأول هذه التيارات حاجة إلى تفعيل مسألة التحالفات وممارستها اليوم قبل الغد هو التيار الديموقراطي سواء اليساري أم الليبرالي بل في المرحلة القائمة لابد لهما من أوسع تداول وتعاطِ ِ مع مجريات الأحداث التي تميل كفتها إلى عبثية وفقدان رؤيا واضحة للمشهد..

                                    

                                      إذ يؤكد بعض المحللين تصورهم لسيادة التيار الإسلامي ويرى آخرون إمكان عودة ظهور التيار القومي وهكذا.. ولكن الأمر ما زال بغير وضوح ولا توجد إحصائية دقيقة تكشف عن نسب فاعلية التيارات وقوتها التصويتية الحقيقية. وإنْ بدا لبعضهم مظهريا تراجع الوضع العام والاخفاقات التي صادفت التيار الديموقراطي والانكسارات والتبدلات التي حصلت بخاصة في عقد التسعينات وما صادف من انهيار المنظومة الاشتراكية بشكل اُستُغِلَّ من أطراف عدة لمصلحة تنمية قواعد لوجودها بين جمهور معين من الناس سادتهم نزعة الاحباط ومن ثمَّ وقعوا تحت تأثيرات مغايرة لتوجهاتهم الديموقراطية السابقة... 

 

                                        وفي حقيقة الأمر يمكن للتيار الديموقراطي بجناحيه اليساري والليبرالي أن يخسر تقدمه ويفقد انتشاره التقليدي المعروف إذا ما تعاطى مع الوضع بشكل مفكك لا يستند إلى برامج مشتركة. من هنا لابد من التأكيد على القول بأنَّ المهمة الرئيسة والخطيرة الشأن تكمن في تنشيط تحالف متين للتيار الديموقراطي اليساري أولا بكل عناوينه الموجودة على الساحة والابتعاد عن حساسيات العلاقات الحزبية الضيقة ومع تاريخ الوقائع بين أطراف التيار ومسمياته لأنَّ الحياة لا تنتظر تصفية الحسابات الذاتية المحدودة بل تطرح اشتراطاتها الموضوعية باستمرار. ومن دون هذا التحالف التأسيسي الأولي لا يمكن الانتقال إلى المرحلة التالية وهي مهمة آنية مباشرة هي الأخرى.. أعني بها مهمة إقامة تحالف واسع للتيار الديموقراطي من يساري وليبرالي, لمجابهة حالات المدّ الظاهرية التي يمكن أنْ تُستثمَر واقعيا لمتغيرات سلبية ليست في صالح مستقبل مشرق في بلادنا.

 

                                        كما سيكون للتحالفات المشروطة مع القوى الوطنية والقومية والإسلامية في اللحظة القائمة مهمة إنجاز الاستقلال الوطني وتحقيق إعادة الإعمار في بلادنا التي عانت طويلا من عمليات التخريب والتدمير. وأيّ طرف سيقف خارج هذا التحالف الشامل الواسع المتحقق عمليا في مشهد مجلس الحكم الانتقالي ستعزله جماهير الشعب المتعطشة لإزالة آثار الماضي وكنسه نهائيا.

 

                                       لكن حتى هذا التحالف الواسع لا يمكنه التقدم والسير إلى الأمام وتحقيق مطالبه من دون تعزيز التحالفات الكتلوية في إطار التيارات والتوجهات المشخَّصة في لقائها ببرامج وسياسات معلومة ومتفقة بين القوى متقاربة التوجهات. بل سيكون من المهم التنسيق في إطار التيارات ومن ثمَّ فيما بينها جميعا. هذا فضلا عن حقيقة مهمة أخرى هي الاستعداد منذ الآن للمارسة الديموقراطية الانتخابية وصياغة البرامج السياسية في إطار مشترك يدعِّم قوى اليسار الديموقراطي ويعطيه أرضية التقدم بفلسفته الخاصة لرسم مستقبل الوطن.

 

                                         وبعد, فمن البديهي ما لأفضلية التكتل على التشظي والتعاون على التنافر.. ومن الطبيعي أنْ تصادف الحركات السياسية والوضع العام من انتعاش وتقدّم في ظل التحالف ومن تراجع في ظلّ  الانقسام وسيكون من دواعي الانشغال السلبي المريض الذي سيحلّ وبالا على الشعب إذا ما تعاطت التشكيلات مع بعضها بعضا على أسس من الفرقة والتشتت والتشظي.. فلقد أثبتت التجارب ومنها العراقية ما حصل للوضع السياسي في كلتا الحالتين الإيجابية منها والسلبية.

 

                                       لكنَّ هذه القراءة إذا كانت تدعو جميع القوى إلى تنظيم نفسها في إطار تنسيقي تحالفي وإنشاء الجبهات في إطار التيارات المعروفة , فإنَّها تدعو بشكل أكبر التيار الديموقراطي لمثل هذا التحالف والتنسيق ونسيان أو عدم أنشغال واكتفاء بحالات اللقاء المؤقت التي دعتها ظروف الطوارئ الخطيرة التي يمرّ بها عراقنا كما هو حال لقاء أقصى اليسار مع أقصى اليمين وهو أمر مقبول منطقيا أو مسوَّغ بضرورات ما يحكمه واقع اللحظة القائمة .. لكنَّ مستقبل البلاد والتطورات السياسية غير مرهون بهذا التحالف الآني فحسب بل هو يحتِّم على أطراف اليسار بالذات أنْ تعي مسؤولياتها التاريخية البعيدة المنتظرة منها بخصوص البرامج التنويرية المطلوب منها تقديمها لجماهيرها الواسعة بل التأكيد على حقيقة مأساوية الخيارات المتأتية عن مظاهر الاحباط والتراجع في الحياة السياسية العامة بخاصة بعد كل ما كيل للعراقيين وحركاتهم المناضلة من ضربات متلاحقة قاسية...

 

                                        ولعلَّنا نلتفت اليوم قبل الغد إلى وضع البرامج الكفيلة بمناقشة إنشاء أرضية متماسكة قوية متينة للتحالف بين أطراف التيار الديموقراطي وبالخصوص منه اليساري. وليكن لدينا فرق عمل حقيقية متفرغة لتناول الإشكالية بجدية وموضوعية وعدم التراخي أو الانشغال بعيدا عن هذه المهمة الخطيرة في سياق الأحداث التي هي في حقيقتها أكبر من حجم أي فئة سياسية بمفردها.

 

                                         كما يمكن لمعاهد الدراسات الديموقراطية أنْ تعقد ملتقيات بالخصوص وأنْ تدعو لتقديم البحوث والدراسات المناسبة والتوجه نحو صياغة مشاريع برامجية للعمل السياسي. ولمثل هذه الإشكالية دعوة للمناقشة والمعالجة من زوايا عدة, فمثلا قراءات في التجارب التاريخية في بلادنا والبلدان الأخرى. وزاوية قراءة أشكال التحالفات الممكنة اليوم وكيفياتها وآليات عملها, وأية زاوية للتناول والمعالجة...

 

 

 

 

1