مرونة الواقعية السياسية أم مبدئية الرؤى الجامدة؟[*جديد]

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\11\17

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

                   

                                    تتعاطى القوى السياسية اليوم مع واقع  متشابك ناجم عن تعقيدات خلَّفتها سياسة رعناء لنظام الحكم الدكتاتوري ولوجود قوات التحالف.. وهذه الأخيرة بأية حال من الأحوال ليست في حالة ضيافة بلا مصالح خاصة, وهي لا تُعنى بحقوق العراق والعراقيين قبل مآربها وقبل تحقيق مستهدفاتها القريبة والبعيدة. وتنتشر في ميدان الصراع قوى متباينة مختلفة ومتناقضة أحيانا في مواقفها من كلّ القضايا المطروحة. ويثير الصراع المندلِع كثيراَ َ من التداعيات بعضها خطير في تأثيراته السلبية على حياة الإنسان العراقي.

                                    إنَّ ذلك يضعنا من بعض زواياه في حالة من التشويش الفكري والسياسي بخاصة في ظروف  فسحة واسعة للعمل السياسي المنظَّم في أحزاب وحركات وتشكيلات وهو أمر جديد بعد حقبة زمنية طويلة من الكبت والمصادرة. وينجم فيما ينجم من نتائج جانبية تقاطعات في الفكر والرؤى السياسية حيث بعضهم يرى الفرصة في المواقف الثابتة التي لا يمكنها التفريط  كما يعتقدون بالمبادئ.. ولا يرون في الواقعية حالة المرونة السياسية المطلوبة بقدر ما يرون فيها تفريط بالمبدأ أولا ومن ثمَّ تفريط بحقوق عراقية ثابتة ويندفع بعضهم للقول بخيانة القضية نتيجة هذا التعاطي الواقعي...

                                    ولعلَّ بعضا من هذا متأتِ ِ من ظروف التجهيل السياسي التي عانت قطاعات شعبنا المختلفة منه بعد رحلة المصادرة زمن طغيان الدكتاتورية حيث لا صوت غير صوت الطاغية ومآربه وأهوائه .. وظل فئات عريضة في حالة من الأمية المعرفية ومنها السياسية وفقدنا بوصلة قراءة التكتيكات الضرورية المناسبة في الوقت المناسب من دون إضاعة إستراتيجيتنا الثابتة. إذ لا تعارض بين خيارات تكتيكية مؤقتة تقرأ الظرف وما يفرضه من متطلبات وهي في جوهرها وفيما تخلقه من إمكانات تقدِّم التراكمات المطلوبة لتحقيق الأهداف البعيدة وليس التخلي عنها كما يرى غير المتمعّن أو غير العارف بقوانين العمل السياسي وشروطه الناضجة..

                                     إنَّ استعجال الوصول إلى المطامح وقصْر النَّفَس بُعَيد انهيار نظام التخريب وانتهاء زمنه هو الآخر  كان دافعا لبعض القوى في اندفاعها المتسرِّع  للضغط من أجل تحقيق أهداف لم يحنْ الوقت في ظل التداخلات القائمة لكي تكون قيد التحقيق والإنجاز وليس هذا بعيبِ ِ للحركة السياسية وممثليها ولا قصورا , ولكنه في الحق واقع التوازنات الفعلية الموجودة..

                                  ولابد لقوانا المنظَّمة من تبادل الخبرات لكي تكون في حالة استعداد كافِ ِ لمواجهة واقعنا سريع التبدل بسبب من سيادة قوى أخرى غير قوى الشعب الحقيقية.. وممّا يوفر بعض وسائئل هذا التبادل اعتماد سياسة التحالفات وإنشاء الكتل على وفق تقارب القوى ووقوعها في إطار تيار فكري وسياسي محدد مثل التيار الديموقراطي اليساري أو القومي التقدمي أو الليبرالي أو المحافظ أو غير ذلك وهي حالة تشكّل مقدمة ضرورية للغد غير البعيد في آلية التعامل مع معطيات الواقع الجديد.

                                    وإذا كنّا لا نملك حاليا المؤسسات العلمية والمؤهلة الكافية لإعداد الكادر المتنوِّر العارف لأصول العمل السياسي بالعدد الكافي.. وإذا كنّا لم نملك تلك الفرصة سابقا لإيجاد المساحة الكافية للمحللين القادرين على السيطرة على حركة الصراع وتوجيه قواه .. فإنَّنا في الوقت نفسه لا نخلو من العارفين ذوي  التجربة السياسية العريقة. وهذا يعني إمكاتن التخلي عن بعض نوازع عدم الثقة أو اختلالها بغاية الإفادة القصوى من الدراسات والتحليلات المطروحة للتعرف إلى صحة الإستراتيج ودقة التكتيكات المتداولة في ظرف الفسحة من زوال القمع المسلَّط على رقاب الحريات ومنها حرية التعبير وتبادل الخبرات ..

                                    هنا بالتحديد أودّ التوقف عند ما تثيره حالة الاستعجال في المواقف والركون إلى مسائل ثبات أو جمود المعالجات السياسية على ما يُدعى المبدأ وإذا كان التعاطي مع المتغيِّرات بمرونة وواقعية يتعارض مع المبدئية المعنية؟  ولإدراك ذلك ينبغي العودة إلى جوهر المبدأ وما يعنيه وإلى شروط أو محددات التعاطي مع المبدئية؟ والحقيقة فالمبدأ هو أساس  يمثل قواعد العمل حيث يجسِّد حقيقة لا تحتاج إلى برهان بل هو كالبديهة وبناء عليه فالمبدئية هي سلوك من التعاطي مع قواعد أخلاقية أو فلسفية ولأنها تقوم على المبادئ فهي تقوم على أوليات يُفترض فيها أنْ تكون منطلقا وتأسيسا يشرع منه أيّ عمل باتجاه تحقيق الغايات.

                                      ولكن هل من الصحيح ثبات القوانين والعلوم وأوليّاتها أو أسسها ثباتا مطلقا بلا تغيير أو تطوير؟ وهل من الصحيح أنْ تكون المبادئ بوصفها أسسا للعمل قيودا عليه بدلا من أنْ تكون تسهيلا له للوصول إلى الغايات؟ إنَّ بعض فئاتنا تتعامل مع المبدأ والمبدئية انطلاقا من التكلّس والجمود ومن الخلط بين الدوغماتية أو العقائدية الجامدة فكرا وكأنَّها حالة من القدسية التي تُلْزِم الإنسان في كل مراحل حياته وتاريخ البشرية والشعوب بالتمسك بها من دون نظر واعتبار أو اتعاظ من تجاريب اختلاف الظروف ومن ثمَّ اختلاف المبادئ التي تستجيب لضوابط تلك الظروف ومحدِّداتها...

                                       فالمبدأ أمر نسبي حاله حال أيّ حقيقة أو معرفة إنسانية أخرى. وإذا كان يتميّز بشئ من الثبات فهو في حقيقته يستجيب مثله مثل بقية الحقائق لمتغيرات المعطيات المعرفية أو الواقعية الموجودة لأنَّ يمثل قواعد سلوكية أو أصول فكرية وسياسية وهذه تحتاج لثبات من زاوية ولكنها تتعارض مع الجمود والتكلّس لأنَّ القواعد أو المبادئ تستنبط من قراءة الواقع الإنساني ...

                                    وما يقدِّمه موضوعنا لا يتناول المساومة أو عدمها ولا يتناول المراهقة السياسية ولا الانتهازية ولا التقلّب في الأهواء ولكنّه يعالج الفرق بين الجمود الذي يضر بالمبدأ نفسه وبين المرونة المطلوبة في التعاطي مع الواقع. فكل مبدأ بوصفه قاعدة أساسية إنَّما يوضع خدمة للإنسان ويعالج مرحلة أو إشكالية في مرحلة أو مراحل تاريخية.. ويكفُّ ذاك المبدأ بهذا التوصيف عن الصحة وخدمة الإنسان عندما يتعارض في مرحلة تالية مع حقائق الواقع ومتغيراته فيصبح التمسك به تمسكا بقدسية هي مجرد إسقاط سلفي ماضوي يحترم تاريخية المبدأ أو القاعدة السلوكية التي نجحت في التعاطي مع مرحلة سابقة ولكنه في الجوهر يشتم المبدأ لأنَّه يحمله مالا يحتمل في المرحلة الجديدة ويطلب من قاعدة لحلّ معضلة محددة أن تكون حلا لمعضلة مختلفة.

                                   وبالبناء على ما نرى من تبريرية واضحة لموقف بعض القوى والأفراد من وجود قوات التحالف على سبيل المثال حيث لايرون فيما عدا هذه الحقيقة شيئا آخر ويرون أنَّ مبدأ التعاطي مع قوات أجنبية يقول أنَّها قوات احتلال ويحيلون بعد ذلك إلى مبدأ آخر في حق كل شعب بمقاومة الاحتلال بكل الطرق ومنها (المسلحة) لتتابع عند هؤلاء المبادئ فيعالجون الأمر بطريقة تلتبس إلى الحدّ الذي يختلط النضال من أجل تحقيق الاستقلال بالأعمال الإجرامية التي تطيل أمد فقدان الاستقلال ولا تضع الاحتلال لوحده في بلادنا بل وقوى التخريب من تلك التي تمثل بقايا النظام المنهار وقوى غريبة على عراقنا وتبيِّت له الشرّ قريبا بُعيد خروج القوات الأجنبية ليس ببعيد..

                                    وحينها لن تنفعنا المبدئية لتجربة جديدة من الصراعات التي أنهكت قوى شعبنا وأتعبته طويلا ووضعته في مهالك ومحارق لها أول ولكن رؤية آخرها لم تنقشع للناظر لأول وهلة .. إنَّ الواقعية والمرونة هي الأخرى مبدأ من المبادئ في العمل السياسي وهي الأخرى تُعنى بالحياة ووضع قواعدها وهي الأخرى راسخة في التجربة البشرية وفي خطاباتها المعرفية ولكنّنا بحاجة لعدم الخلط أيضا بينها وبين الانتهازية وغيرها من أمراض السايسة الأخرى حتى يقع بعضهم في ميكافيلية غريبة على نهج قوانا الوطنية الملتزمة بمبدأ مصالح شعبنا من قبل ومن بعد ..

                               ولمثل هذه الإشكالية أنْ تكون موضع جدل موضوعي يفيد منه كثير من شبيبتنا ومن قوانا السياسية بدخول رؤى أخرى للمعالجة والمناقشة والتداول.. فهل للآخرين المدعوين لهذه الجدلية من بقية يكتبون فتكون الفائدة أعمق وأشمل وأكثر فعلا وتأثيرا...

                                   

1