القتل الحلال والاغتصاب الحلال والسرقة الحلال؟!!

الكلدو آشور ضحايا اليوم والآخرون في الغد!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  11\ 24

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

                                                             

                               مثلما يرى راصدُ الميدانِ العراقي متغيراتِ ِ جديةِ ِ رائعةِ ِ في الحياةِ العراقية يجدُ كثيراَ َ من فوضى الحال وسوء المآل يختفي خلف غبار معركة الشعب من اجل فرض سلطته وامتلاك ناصية أموره في مؤسسات دولة جديدة في كلِّ شئ. فأمّا  ما يجري تحت غبار المعارك فإنَّما يجري بقوى الهدم والدمار وأذرعها المدرّبة على الامتداد نحو كلِّ شئ بالعبث والتخريب. وتلك هي قوانين هذه القوى حيث عملها كخفافيش الظلام.

                                لقد نشطت في ارتكاب كلِّ ما يحلو لها في ظرف غياب سلطة القانون, فهي لم ولن تحترم عقداَ َ اجتماعياَ َ .. كيف ذلك وليس لها من مهمة غير الاعتداء على الآخر, وهل يكون اعتداء بقانون غير قانون الغاب وضواري الوحش وكواسره؟ أسوق هذا التقديم تسجيلا لحقيقة ما يجري من جرائم تُرتَكَب بحق الإنسان العراقي اليوم. وإنَّما أركِّز اليوم على جريمة تتسع يوما فآخر ولا تأخذ اهتماما ومتابعة كافيين من المسؤولين ومن القوى السياسية الناشطة في إعادة السلام والأمن للبلاد والعباد...

                               فلقد سجَّلت التقارير جرائم قتل في البصرة ؛ وكان الضحايا من الباعة أو الكسبة؟ وتُرتكب جرائم شبيهة في الموصل ويتكرر مثلها في مدن عراقية منها العاصمة.. والضحية دائما مسيحي كلداني أو آشوري. ويختطفون فتاة آشورية في الموصل ولا ينفع مع المختطِف أية وسيلة!! ويغتصبون ويسرقون مال هؤلاء في محالهم ودكاكينهم وبيوتهم؟!!  وفي جميع الأحوال تمَّ الادّعاء بأنَّ تلك الجرائم البشعة القذرة تأتي استجابة لدواعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ديدن قوى تفرَّغت لطاعة الله (هل هذا صحيح؟) وحماية شريعته ( أحقاَ َ ذلك؟) ...

                              وبقراءة تفاصيل الجريمة لا نجد تحت الجبة إلا الشيطان بأفعاله الخسيسة! فمن يبيح القتل هكذا بلا قضاء ولا فتوى ولا قانون .. أيـُفتي أُناس لايفقهون من حياتهم حتى كتابة أسمائهم؟ أم أولئك الذين أطلقوا اللحى فقالوا إنّا مشايخ القوم وسادتهم فلا اللحى ينظفون ولا عن أفعالهم يرعوون؟

                               مَنْ  يسطيع القول باختطاف النساء واغتصابهنَّ ويرى في تلك الشناعة أمراَ َ بمعروف ونهيا عن منكر؟!! ومَنْ يسطيع القول بإباحة قتل (النصارى) من أهل البلاد الأصليين لمجرد كونهم مسيحيون؟ ومَنْ يسطيع بعد ذلك القول إنَّه مالك العراق بلاد الرافدين فارضا سلطان استهتاره ووحشيته واستعباده لأهل الرافدين الأصليين ولِمَن أقام حضارة البلاد وعمَّرها للعباد؟

                                لانجد بمنطق الفوضى والخراب والتقتيل واستباحة الحرمات ذاك إلا مجازر أخرى لأهل البلاد وأصحابها الأحق بالحياة فيها. وليس بعد كلِّ ذلك لأحد من الناس كائنا من يكون هو وفلسفته ـ إنْ تمَّ تسميتها فلسفة! أنْ يفرض على الآخرين رؤاه واعتقاداته وطقوسه.. فليست جرائم الشوارع الخلفية ولا السرقات التي ما عادت تجري في العتمة بل جهارا نهارا ولا عمليات الاختطاف والاغتصاب بأمرِ ِ بأيِّ معروف من أيِّ دين أو مذهب أو شرع. بل ليست هي إلا خزي الزمن الأغبر الذي خلَّفه سيد الظلام والجريمة الساقط بالأمس غير البعيد ذاك الذي حاول مسح الشخصية الكلدانية والآشورية بكل الوسائل الخبيثة وجزء ممّا يجري اليوم هذا هدفه استكمالا لجريمة الأمس.

                             وما ينبغي لمجابهة هذه الجريمة هو تعزيز الوعي السياسي واستذكار طبيعة الحياة السلمية والأمان ولقاء التآخي ووحدة الطوائف والأديان جميعا.. وكما يعرف أبناء الرافدين أنَّ أبناء الجيران من اليهود والمسيحيين والمسلمين وغيرهم كانوا يأكلون في صحن واحد وكانوا يقولون لبعضهم بعضا إنَّ بيننا زادا وملحا .. أي ما بيننا هو ما أكَّد ويؤكد وحدتنا وعلائقنا متينة الوشائج راسختها.

                             وينبغي  الالتفات إلى مجريات الأحداث فهي لا تقف عند حدود قتل بائع (خمر مثلا) ولا عند اغتصاب مسيحية فحسب فهم يغتصبون المسلمات في الجزائر وأفغانستان وحتى في بلادنا العراق!.. ولا عجب فيما يفعل هؤلاء, فإنهم غوغاء تربوا على فعل الجريمة وتنفيذ كلّ فعل شاذ غير مستقيم.

                             ومَن يسكت اليوم مسلما على ما يجري لأنه من دين آخر أو مذهب آخر أو طائفة أخرى فإنَّه على القائمة التالية في الغد أو هو في مركب الجريمة نفسها. فلا مواجهة للجريمة بسلبية أو باستنكار صامت بل لابد من الفعل اليوم قبل الغد الذي قد تستفحل فيه سطوة القــَـتــَـلــَة من مشايخ المنكر وعقول تكفير الملل والنحل مع إباحة كلِّ المحرمات لأنفسِهم!!

                              إنَّ منع الجريمة لا يأتي (فقط) من فرض القانون بسلطة الشرطة أو البوليس بل لابد من موقف اجتماعي راسخ الجذور في تاريخنا ونحن لا نستحدثه ولا نفتعله بل وجدنا آباءنا وأمهاتنا يعملون به يوم كان صاحب الدكان لا يقفل بابه إذا ذهب لصلاته في جامع أو كنيسة أو معبد.. ويوم كانت مجريات الحياة تتهادى وادعة آمنة يبيت الجار مع جاره والجارة مع الجيران ولا من فقدانِ ثقةِ ِ ولا من حساسياتِ ِ دينية أو مذهبية أو غيرها.. فما بالنا لا نذكر كيف كان اللقاء بين نسائنا ورجالنا لحظة الشدائد ولا مَن كان يفكر في ضغينة ولا خبث ولا مَفْسَدة؟!

                             لابد لنا من التأكيد ألف مرة على مسألة لا فرق بين عراقي وآخر لا بدين ولا بمذهب ولا باعتقاد ولا بقومية. الفرق هو بين العراقي الصالح والآخر الطالح الذي لا مناص إلا في معاقبته ومحاسبته على كلّ فعلة يجرّمها القانون الإنساني فهو عقد البشر الوحيد وهو عهدهم باتفاقهم عليه وإمضائهم له شريعة للتعامل والاشتراك في الحياة على أرض واحدة أو في وطن واحد هو بيت الجميع لا تقدمَ لطرف على آخر ولا دلالة لأحد على (ماحود).

                               فهل لأحد قبول بشريعة تبيح لجاهلِ ِ الافتاء والسير في فتواه لينفِّذها وما فتاواه إلا من قبيل إقامة الحدود بجعل أبناء البلاد دافعي جزية بل عبيد يحق قتلهم متى ما رأى ذاك الشيخ عفوا العبد الجاهل ذلك؛ وبجعل نسائهم سبايا وجواري محظيات يدخل بهنَّ (يغتصبهنَّ) على هواه وكيفما شاء ومتى شاء, أو متى استطاع واليوم تؤاتيه الحدود لأهوائه المريضة الشاذة ..

                                هل لدعاة حرية ممارسة الطقوس والعبادات للأغلبية أنْ يدعوا لفرض طقوس سلفية ما أنزل الله بها من سلطان وهي ليست إلا غرائب مجاهل التاريخ الموبوء بتبريرات الاستلاب والاستعباد. إنَّ القانون الوحيد المقبول في يومنا هو عقد البشر فيما بينهم على طريقة العيش وسننها فيما يُسمى الدستور والقانون الذي يفرض سلطانه الوحيد على الجميع على حدِّ ِ سواء بلا تمييز. ولا حدود من دين أو مذهب على أبناء دين أو مذهب آخر.. ولأبسط مطلع على الديانات أو القوانين أنْ يعرف ألا (أنْ لا) حدود من طرف على آخر وليس من فرْضِ ِ وقسر في أمرِ فكرِ ِ أو اعتقادِ ِ أو دين أو طائفة.. فكيف إذا ما كان الأمر بالمعروف يتحول إلى جرائم استباحة للآخر في حياته؟!  وكيف إذا ما كان النهي عن المنكر يتحول إلى استباحة عِرضِه؟!!

                                       إنَّ على كلّ التقاة المتنورين من الديانات كافة التصدي للظاهرة بحزم وأنْ لا إفتاء لعاميّ ولا فتوى فيما للقانون فيه سلطة عليا إذ الدين لله والوطن يحيا فيه الجميع بسلام وتعاضد في الإعمار والبناء والكسب الحلال بحق والفعل الحلال بحق وما الحق إلا ما يكون في صالح إنسان ولكن من دون أنْ يكون على حساب آخر ولو بقيد ذرة...

                                        وبعد فلابد من وقف المجرم الذي لا يعتدي على حرمات الناس وأعراضهم وحيواتهم فقط بل كذلك بتنصيب نفسه للافتاء بلا إجازة من عالم دين أو معهد علم أو مدرسة شريعة وهو يعتدي على المشايخ بحق وعلى السادة بحق وعلى المراجع الدينية وهو قبل كلّ ذلك وبعده يعتدي على (الشرائع السماوية) قبل الإنسانية الوضعية في جريمة قتل الأنفس التي حرّم الله قتلها وإباحة الفساد والإفساد لنفسه .. فهل لعالم جليل سكوت على ذاك الفعل المنكر؟! وأين الحوزة الناطقة من أفعال كهذه؟ إنَّها الأجدر للردِّ على صبيان التطرف الذين ما فتئوا يوغلون ليس في الغلو والتشدد ولكن في التمرد حتى على المراجع والشرائع!!    

                               ومع ما يجري فلـْـيـُفتي من يشاء ولكن على نفسه وعلى أهله ولـْيُفتي من يشاء ولكن بحكم شرع عادل ومنطق عدل لا جور فيه ولا اعتداء ولا مصادرة أو مساس بحق أحد ما .. ولا (حق) لأغلبية تصادر (حق) أقلية فزمننا زمن العدل والمساواة والحرية. وهو زمن تحكم فيه الأغلبية ولكن بقانون لا يجعلها تتقدم على أقلية أو تلغي حقها في ممارسة حياتها بما لا يتعارض مع العقد الاجتماعي المرسوم...

                                   وعلى السياسيين التشديد على تقديم هذا الموضوع بوصفه يملك أولوية وخطورة لا يمكن التراخي في التعامل والمعالجة حيث جريمة القتل والاغتصاب لا تنتظر أو تحتمل التأجيل فما نفع المحاكمة بعد ترك الجاني يفعل ما يشاء ويهوى ؟ وليس من الصائب أو المنطق إشغال مجتمعنا بشؤون كهذه هي أوضح صورة في كونها جريمة تتطلب الاجتثاث والوقف بسلطة القانون ..

                                   وما بالنا بعد ذلك وبلادنا في كلّ هذه الحال بعيدين عن ممارسة حالة الطوارئ وقوانينها؟ وما بال مسؤولية السلطات السياسية والاجتماعية والأمنية بالتحديد لا تتخذ إجراءاتها وتسرِّع من نشاطها لتفعِّل سيطرتها على الأوضاع .. أم أنَّ شعبا بكامله (اليوم من الكلدو آشور وغدا من غيرهم) سيظل هدفا للفتك والسلب والنهب والاستباحة في العِرض والمال وغيرها من أفعال الجريمة تحت غبار زمن الانفلات بكل المعايير والمقاييس؟!!!

                               إنَّ موقفا حازما وموحدا من جميع الأطراف الدينية والسياسية والاجتماعية وإعلان خطاب مشترك بالخصوص هو المقدمة الجدية الحقيقية اللازمة لوقف الجريمة ومنع تكررها بالكيفية المستهترة التي شهدناها. والأمر مرة أخرى ودائما ليس فصلا خاصا بالكلدو آشور بل هو ظاهرة عامة تشمل كلّ مجتمعنا وتفترض منا جميعا الاشتراك في العمل الفاعل الناجز والمسؤول لكي لا يحسّ الكلدان والآشوريين وأيّ مسيحي بأنَّه مستهدَف ومتروك كما في العهود السابقة لوحده في ميدان من الاعتداءات على كرامته وعلى شخصيته وعلى عِضِه وماله وعلى مقدّرات وجوده وعيشه على وفق منطقه وشريعته وحقه في الحياة الحرة الكريمة في بلاده التي أنشأ فيها الحضارة وعمَّرَها لآلاف من السنين التي خلَتْ...

                                فلا تسمحوا لخفافيش الظلام من الطيران في فضاءِ ِ حرِّ ِ قيِّدوا عليهم فضاءاتنا وألزموهم الحدّ .. وشعبنا وقواه السياسية والاجتماعية والدينية المتنورة ومن مختلف الأطياف والديانات والأثنيات والقوميات والطوائف بقادرين جميعا على اتخاذ الموقف المناسب والحاسم...

1