الكلدان الآشوريون السريان

بين حقوق المواطنة وإشكالية القضية قوميا ودينيا وسياسيا

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  11\ 25

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

                                      

                               انعقد في بغداد في المدة الأخيرة مؤتمر للكلدان والآشوريين في محاولة من أطراف القضية للاتفاق على إجابات  موضوعية  لما يجابههم من مشكلات  جدية ذات تأثير مباشر على حاضرهم ومستقبلهم. وهي محاولة من أطراف باتجاه التعاطي مع الواقع بمرونة ومنطق عقلي متنوِّر يعالج الإشكالية من غير تزمّت أو توقف عند مفردات الاختلاف كما حصل في بيانات صدرت من بعض الأطراف الأخرى استبق بعضها المؤتمر, وتلك الأطراف هي جزء مهم وحيوي لا يمكن تجاوزه أو إغفال رؤيته وخصوصيتها وهي محقة في مستهدفاتها الإنسانية ولكنها قد تكون أغفلت أهمية تبادل الثقة وتعديل المسارات التاريخية بما يتجاوز التعقيدات التي نجمت عن قرارات مرَّ عليها مئات السنين في  أقل تقدير ...

                                 إنَّ بعض ما تعرض له جميع المسيحيين ـ مثلهم مثل مَنْ كان يُطلَق عليهم الأقليات, هو كثير الألم وشديد المعاناة .. ومَنْ شهد مآسي سميل والمجازر التي أصابت شعب الكلدو آشور ومَن عاش لحظات اشتملت حتى على منع التسميات الخاصة هذا غير مسألة تغيير الهوية وتسجيل القومية باسم العربية لا الكلدانية ولا الآشورية ولا أية تسمية مناسبة تعود لهذا الشعب ومَنْ شهد الحصارات الحياتية على مدى القرن العشرين سواء في حق العمل ونوعه أم في التملك وغير ذلك من تفاصيل الحياة العامة إنَّما يتذكر كم كان كلّ ذلك خطيرا في التعامل مع شعب بنى حضارة الرافدين وهو يمثل الأصول التاريخية للبلاد مثلما يمثل وجودا حيا نابضا اليوم لا يمكن محوه...

                                ولقد نشأ عن مثل هذه المعاملة التي لم يكن بعض أبناء البلاد قد عرفوا بها نظرا لأنَّها كانت من محظورات المناقشة ومن المعلومات المسجلة خطرا أو سرية للغاية, نشأ شئ من الحساسيات بخاصة على المستوى الرسمي المرتبط بالدولة المتظاهرة المدعيّة بالتزام الدين الإسلامي وتمثيله! فكان يمكن للقضية أنْ تذهب أدراج الرياح لو لم يتصدَ لها مناضلون من مختلف فئات شعبنا, ومنهم بالأساس أبناء العراق الكلدان والآشوريون. لكنَّ المشكلة التي كانت في ظلال الدكتاتورية ليست هي العقدة الوحيدة أو الكبرى التي جابهت منشار الحلّ.. فأين هي تلك العقدة؟

                                 إنَّ بعضا من القوى وإنْ صغُر حجمها ما زالت تعمل على على التعاطي مع قضية قوميات شعبنا العراقي ومكوّناته الأساسية من منظور الفوقية ومنح الأغلبية العددية حقوقا على حساب الأقلية إحصاء وما زال بعضهم يتعاطى مع منطق الكبير والصغير حجما أو عددا أو رقما وليس من منطق العدل والمساواة وجوهره الذي يحتِّم على الجميع الالتزام به بوصفه دستورا وعقدا اجتماعيا بين الأطراف كافة... والالتفات إلى مجريات الأمور والمخاطر التي يتعرض لها عراقنا في مثل منطق هذه المعالجة والموقف من الكلدو آشور هو أمر حيوي وخطير ولابد أنْ يحظى اليوم باهتمام من القوى الممثلة لشعبنا الكلداني والآشوري وتقديمه على كلّ ما عدا ذلك ونذكِّر هنا بأفق ما يُرسَم اليوم لصياغة الدستور وتحديد سياسات التعامل ومعالجة هذه القضية الجوهرية في حياتنا المعاصرة...

                                  فالانشغال بقضايا دينية وبما جرى بالأمس من قرارات كنسية كانت بداية لتشطير الموحّد أو للتأسيس لانفصام دام قرونا طويلة مثبِّتا حالة التقسيم أو العودة بالذاكرة إلى معايير سلفية قد تضر كثيرا بالقضية إذا ما استمر  التعاطي والتأكيد على ما مضى ومرَّ , فكل جيل له ما يؤكِّد على خصوصيته في مرحلته وما يخدم مصالحه في إطار هويته التاريخية. ولكن ما الذي يمثل المصلحة القومية إذا ما أكّد بعضهم على منظور أغلبية وأقلية فيما يخص وجودا واحدا  مستهدفا من القوى المعادية. وفي الحقيقة هو وجود واحد من جهة الجوهر ومنطق الوجود القومي والديني وفي منطق السياسة العامة التي تُعنى بالقضية بصورتها الكلية وليس بتفاصيلها الكثيرة المتنوعة ولكنها غير المتعارضة مع واحدية القضية..

                                 إنَّ المطلوب اليوم هو توحيد كل القوى والفئات الكلدانية والآشورية وتجاوز مفردات الاختلاف وتفاصيل الإشكالية لأنَّ الحياة لا تتعاطى مع التفاصيل ولا مع منطق الاصطراعات الثانوية فالمسار العام وتياره الجارف لا ينتظر حسم الهامشي والثانوي إنَّه دولاب يمضي في طريقه مهشِّما كلَّ ما يقع بمنطق الضعيف المفتت المهمّش نتيجة التمزق والتشظي.. ولذا كان على تلك القوى النبيلة في مقاصدها والحريصة على الوجود القومي وعلى الشخصية التاريخية أنْ تلتفت اليوم إلى مثل هذه الحقائق قبل الانشغال بمفردات برامجية في هذه المرحلة بالذات (وليس بالتأكيد في مسارها التاريخي بالمطلق) الأمر الذي  ينبغي تجاوزه مؤقتا ..

                                     وأقصد هنا الانشغال بالتسمية من جهة بين الأحادية والتركيبية فيها أو بصدد منح تلك الإشكالية تضخيما في الاهتمام حتى تصبح هي مركز العمل السياسي القائم. وكأنَّ مَن يرى في التسمية المركبة يستهدف الوجود القومي والشخصية بالمطلق وهو أمر لا يصح في منطق ولكن ما يجري هو تعاطي مع الظروف الآنية الراهنة من جهة ومع حقائق تاريخية قد يراها (البعض) لاحقا خيارا موفقا للتقدم بالشخصية الكلدو آشورية إلى آفاق أسمى وأرقى..

                                       ولأنَّ المسألة لم تُحسَم في المؤتمر بخصوص بعض القوى النزيهة المخلصة فإنَّنا هنا نؤكد على ضرورة التفاعل مع التطورات بما يؤدي إلى تعزيز موقع القوى الممثلة لشعبنا الكلدو آشوري ويمنحها الدفع الأكبر في التأثير على مستقبل تسجيل الإشكالية دستوريا وتثبيت الحقوق كاملة وعلى قدم المساواة مع الآخر من غير أغلبية إسلامية أو أقلية آشورية وأشدِّد على ماوراء هذه العبارة من ضرورة مناقشة موضوعية للتوافق على التعايش العادل السلمي بروح المساواة من منطلق المواطنة العراقية الواحدة التي لا تضع طرفا في المقدمة على حساب طرف آخر في المؤخرة أو التالي من حيث الحقوق والواجبات بالاستناد إلى منطق معوَج يزعم القدسية في وجوده أو منطلقه وهو ليس كذلك في شئ ..

                                         وكما يرى المتابع فقد أشعلت قوى التطرف نارا تحرق بها المسيحيين بحجج واهية لا أرضية لها في الإسلام الصحيح ولشعبنا وقواه ومؤسساته التعامل مع هؤلاء المجرمين بالوسائل الكفيلة بوقف جرائمهم. ولكن الجريمة تؤشِّر لحقيقة خطيرة ينبغي أنْ يلتفت إليها أبناء تاريخ الحضارة الذكية الواعية لمجريات الواقع وتطوراته المعقدة.. والقضية اليوم ليست قضية تسمية ولا تعكس الانشغالات الهامشية أو بالتفاصيل جوهر المطلوب اليوم وهي ليست إشكالية دينية أو قومية بالمعاني الضيقة لتلك المصطلحات ولكنها اليوم قضية مصير شخصية وما يشكِّل حاضرها ومستقبلها ويحدِّد مفاتيح الحقوق والواجبات في جملة المسار المقبل..

                                        ولعلّنا برجاء وأمل كبيرين إذ نضع ثقتنا في ذاك الاخلاص وتلك التضحية لقوى شعبنا الحية الفاعلة, متأكدون من التركيز على الجوهري فيما يخص مسيحيي العراق من كلدان وآشوريين وسريان وفيما يخص هويتهم وحقهم في الوجود المتساوي مع غيرهم من دون مؤشرات رقمية ونسب رياضية لا تعني للمواطن العراقي بخاصة ممَّن يسمونهم الأقلية ـ لا تعني لهؤلاء ـ إلا الظلم والاستلاب وتجديد المصادرة مرة أخرى بمنطق الحسابات الرقمية والنسب الاحصائية التي تلغي الإنسان وشخصيته لصالح تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان ولا قبلت بها قوانين بشرية عادلة...

                                         إنَّ الشعور بظلم الأقربين أمر يحمل معه عميق المرارة ويشوِّه الشخصية ويدفعها إلى الالتحام في مواقع واصطدامات واحتكاكات سلبية خطيرة. سواء تلك المنتمية إلى الأغلبية النسبية أم الأقلية الرقمية ولا علاج في هذه القضية غير العدالة والمساواة وبعيدا عن الماضي بأمراضه وأوصابه ومن أجل غد نتخلّص فيه من تلك الشوائب فيما اعترى العلائق الاجتماعية السياسية منها..

                                          وبعد فلابد من برامج عمل سياسية جدية موحّدة اليوم قبل الغد ولا مجال للتلكؤ بخاصة فيما يتعلق بالدستور وصياغته وبسنِّ القوانين الأساسية للدولة, ولن يسطيع طرف الدفاع عن حق كما هو حال دفاع أصحاب الحق أنفسهم في الدفاع عنه.. وفي لفِّ القوى حوله فكيف إذا كان أمر أصحاب الحق قد طغى فيه الاختلاف! من عجب أن يحصل هذا بين شرفاء القوم ونبلائه! 

                                         إنَّ قضية الكلدان والآشوريين والسريان أو الكلدوآشوريين بأية تسمية كانت ليست قضية اسم بل مسمّى وليست مسألة تفاصيل ولكن جوهر واحد.. إنَّها إشكالية حق المواطنة العادل المتساوي مع الآخر بلا تمييز ولا تقديم ولا تأخير ولا تفضيل لطرف على آخر وليست قضية مَن من المسيحيين أكثر في نسبته ومَن منهم هو صاحب الوجود القومي ومَن منهم مميَّز عن صاحبه بتاريخ قرن اقدم أم بأفضلية التزام ديني أسبق أو ألصق بالمصداقية المذهبية أو لأي قسم سنميل في هذه الرؤية أم تلك؟؟! أسئلة وإشكالات ولكن الجوهر الذي نجابهه ليس ما يخص تلك التساؤلات على مشروعيتها وإنّما يخص المصير ومستقبل الشخصية وهويتها.... 

                               

                                 

1