هل توجد مقاومة وطنية خلف غبار جرائم المخربين؟

وما وسائل تنظيم الخيار الوطني الحقيقي للاستقلال؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  11\ 26

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

                                    

                                  ما مرَّ به شعبُنا العراقي بُعيد الحرب الأخيرة كان حالة من استكمال  جريمة النظام الدموي الذي  خلَّفَ ببقاياه ماكنة تخريب أخرى .. ودعَّمَ فعل التدمير انفتاح الحدود العراقية للمتسللين من رواد الجريمة وقادتها من مختلف أصناف الادعاءات والذرائع السياسية منها  والدينية الأقليمية والعربية في انتماءاتها.. وليس لأحد اليوم في ظلِّ واقع اختفاء المؤسسات الرسمية أنْ يستطيع حصر حقيقة حجم التسلل وكارثته في الواقع العراقي القائم, ولكنَّ المشهد العراقي واضح للمتابع بمصداقية.. فهو واقع يعكس يوميا دائرة الأفعال الإجرامية لكلِّ ذاك الخليط المتنوع المختلف إلا في مسألة واحدة هي فعل الجريمة وسيفها المسلَّط على رقاب أبناء الشعب من ضحايا كوارث الأمس والعبث الاجرامي اليوم...

                                  ومع كلِّ ما يجري من فعل تدميري وتخريب متعمَّد وعمليات تقتيل بالجملة طاولت كلَّ فئات الشعب لا يسلم منها لا إنسان بسيط يعمل في حقله ولا سياسي يناضل من أجل تحقيق الإدارة الحكومية التي تقدِّم خدماتها للناس الذين امتد انتظارهم طويلا... ومع كلِّ ذلك فإنَّ أولئك المغامرين الطائشين لا يستطيعون إلا أنْ يزعموا مُدّعين أنَّهم ينفذون ما يقومون به باسم مقاومة الاحتلال ومن أجل ضرب الاغتصاب الأمريكي لأرض (إسلامية)!

                                  إنَّ السؤالَ الذي يسلِّطُ الضوءَ على الحقيقةِ هو هل تفجير مؤسسات المساعدة الإنسانية التي لا تحمل لشعبنا الأسلحة هي جزء من مصداقية تلك المقاومة؟ وهل ضرب الأمم المتحدة في ممثلها الأول وهو رجل سلام في وجوده وفي تاريخه وفي تفاصيل مهماته التي كان يمارسها, هل ذلك من برامج أية مقاومة تدعي الوطنية؟ وهل اغتيال العلماء وأساتذة الجامعة وتعطيل مسارالمدارس ومعاهد العلم من مشاعل المقاومة الوطنية؟ وهل قتل المسلمين ومراجعهم الدينية من كلِّ الطوائف والمذاهب من الجهاد ضد الكافر الأجنبي؟ وهل تقتيل (النصارى) ومحاربة المسيحي حامل مبادئ المحبة والسلام من المقاومة الوطنية في شئ؟ وهل سبي نساء العراق واختطافهن واستباحة أعراضهنَّ من شرف الفداء والمقاومة؟ وهل مداهمة البيوت الآمنة وإكراه أهلها على استقبال المتسللين ومشرّدي الشوارع من الإيمان بالدفاع عن أمن الوطن وأمان المواطن في بيته وبين أهله؟ وهل من الدفاع عن بناء الوطن وإعادة ثرواته إلى أهله التخريب في تلك الثروات كما في تفجير أنابيب النفط والطاقة الكهربائية؟ وهل تفجير أنابيب المياه ومؤسسات الاتصالات والمستشفيات مما يدخل في المقاومة الوطنية؟ وهل حرق المكتبات وتكديس الأسلحة في المعابد المقدسة ما يشكِّل أنوار تلك المقاومة ومناراتها؟ والأسئلة لا تنتهي فيما يجري من أفعال عدائية تجاه شعبنا ووطننا...

                                   وما يهمّنا في هذا المقال هو التركيز على دور الفضائيات والأجهزة الإعلامية الكبيرة من تأثير واسع وخطير عندما يكون سلبي التوجه, كما في حالتنا العراقية حيث تمتلك قوى معينة تلك الوسائل الإعلامية التي أسّست لمفهوم المقاومة بصورتها الشوهاء مطلقة ذلك المصطلح على كلّ ما وصفنا من أشكال التخريب والعبث بمصالح الشعب والوطن وهو غيض من فيض, وهي بذلك ضربت عدة عصافير بحجر واحدة.. فهي لم تكتفِ بالتشويش على ذهن العراقي في تعاطيه مع مصطلح المقاومة الوطنية التي عرفها في تاريخه عبر مقارعته الاستعمارين القديم والحديث. ولكنها شوّشت صورة العراقي نفسه أمام المتلقي على الصعيدين العربي والعالمي, فكأنَّه انتحاري مريض يدمِّر نفسَه ويخرِّب بلاده! وهو ما ليس من الحقيقة قيد شعرة..

                              ولكنْ هل يختفي خلفَ غبارِ معاركِ حاملي راية الظلام والموت أية قوة تنتمي للمقاومة الوطنية العراقية الحقيقية؟ الإجابةُ الصريحةُ في جوهرِها هي أنَّ العراقيين لم يرضخوا لضيم ولم يستكينوا لاغتصابِ حقِ ِ؛ فكيف إذا كان الأمرُ يتعلق بمصير الإنسان العراقي ووطنه بلاد الرافدين مشعل الحرية ومنار الهوية الحضارية الإنسانية وشخصيتها المستقلة؟ ولقد أجاب العراقيون عبر تاريخهم المجيد عن مثل هكذا مواجهات بفعالياتِ مقاومةِ ِ اختاروها من بين أشكال وأوجه شتى معروفة للمقاومة الوطنية تقع بين ضغوط الدبلوماسية والمرونة السياسية في طرفها السلمي وضغوط العنف المسلَّح عندما تأذن الظروف الموضوعية والذاتية لمثل هكذا وسائل.

                               وليس الظرف القائم في بلادنا اليوم بحالة استثنائية من تاريخنا, ولقد وضع الشعب ثقته بخيارات قواه السياسية الوطنية للمرحلة عندما أكَّدت على مسألة معالجة المخاطر التي تعرض لها العراقي بُعيد انهيار نظام الطاغية المهزوم. فكانت تلك الأولوية التي فرضت نفسها على مدى الشهور الماضية مهمة وطنية عليا وهي بناء على ذلك جزء حيوي من بناء أسس المقاومة الوطنية ومقوِّماتها الأساسية. وإنْ جاءت في مطلعها بالطرق السلمية الدبلوماسية والسياسية ويمكن للمتابع ملاحظة ما يقوم به مجلس الحكم من التقدُّم في كسب مزيد من الصلاحيات في مسارين الأول تأمين حياة الإنسان العراقي والثاني تعزيز إرادته الحرة المستقلة...

                              ولا مناص من التأكيد هنا على حقيقة جدية في كون الحصول على الاستقلال النهائي يمكن أنْ يكون أو يأتي عبر عملية سلمية من منافذ دبلوماسية الأمم المتحدة والضغوط الدولية التي يمكن تحشيدها بفعالية متصاعدة لمؤسسات الدولة الوليدة  الجديدة ولكنَّ من الحقيقة الساطعة أيضا أنَّ للولايات المتحدة الأمريكية مثلها مثل غيرها من الدول الأوروبية وغيرها مصالحَ مختلفة لا يمكنها إلا أنْ تعمل على تحقيقها بمختلف الوسائل, قد يكون منها إدامة أمد الاحتلال بشكله الحالي أو بأشكال أخرى قد تُطرح مستقبلا.. وما يقابل ذلك هو معالجة الإدارة السياسية العراقية لكل وضع بما يحيطه من ظروف ومستجداتها, فلكلِّ حالة موقف مخصوص ينبغي اتخاذه في الظرف الدقيق المناسب..

                             وفي خضم مشاهد العنف القائمة لا يمكن لهذه الإدارة السياسية أنْ تتجاهل بعض الفعاليات المسلَّحة أو التي تستخدم العنف ووسائله بوصفها فعاليات لا تدخل في إطار التخريب وتدمير الوطن وتقتيل المواطنين أو إقلاقهم. ولكنَّ الحقيقة الإحصائية البسيطة تؤكد أنَّ أغلب تلك الفعاليات تأتي أما بوصفها ردود أفعال حادة تقع في اختلاط المشهد وتشوشه بخاصة عندما تجري مداهمات عشوائية للبيوت وحرماتها أو تأتي بوصفها فعاليات عناصر جديدة تدخل الساحة السياسية العراقية وقد ولّدتها أيام المحنة أولا في ظلِّ الدكتاتورية الدموية حيث لم يكن من وسيلة لوحدة التنظيمات ولا لإمكان ضمِّ جميع مناهضي الطاغية في تشكيل سياسي موحّد, وثانيا ما تبعه اليوم من توزّع التشكيلات على خلايا وحلقات صغيرة تدير معاركها على وفق منطقها السياسي في أفضل توصيف له هو منطق غير ناضج حيث يتضح عدم اندماجه ولا انسجامه مع الخيار السياسي العام الذي أجمعت عليه القوى الوطنية بتياراتها الرئيسة مثلما يشير لثغرات الخبرات بخاصة منها الستراتيجية أو بعيدة النظر..

                                ولكنَّ هذه العناصر التي تتشكل اليوم في ما يمثل خيار العنف المسلح لن تظل صغيرة ولن تظل محدودة ومفتقرة للتنسيق. فأول الغيث قطر وهي في الغد إذا ما تنامت ووقعت في أحضان جهات داعمة بخاصة الأجنبية منها يمكن أنْ تسجَّل خطرا على مجمل الواقع السياسي العراقي المقبل  بسبب من ضعف الخبرة السياسية وروح الاندفاع والمغامرة وسطوة ردود الفعل الانفعالية على جملة قرارات مثل تلك العناصر ومن إمكان تأثير قوى إقليمية سلبيا عليها. ولذا فلابد من من الالتفات إلى قراءة مثل هذا الواقع وإنْ صغُر حجما اليوم وإنْ أخطأ الخيار في التوقيت وفي التناول والمعالجة فهو في المحصلة البعيدة وغير المنظورة يمكن أنْ يسير في إطار الإجماع الوطني والقرارات الوطنية الناجعة.. وعلينا من أجل ذلك النهوض بالآتي من المهام:

1.      فضح مفهوم (المقاومة) الذي يجري الترويج له على شاشات التلفزة بخاصة منها بعض الفضائيات العربية وليس القرار باستبعادها وشطبها من قائمة العمل بكافِ ِ أو بعلاج صائب بل الصحيح الوقوف بحزم وبكفاءة إعلامية جدية بالضد من ذاك التشويش وذياك التخريب والتحريض على العنف في بلادنا التي هي بأمس الحاجة للاستقرار والأمان..

2.      تقديم صور من تاريخنا الوطني ودروس من عمليات نضالنا السياسي كجزء من عملنا من أجل الاستقلال والتحرر وقراءءة أشكال الخيارات في سبيل تحقيق الاستقلال الناجز ..

3.      توضيح أهمية الخيارات القائمة ومسبباتها ولماذا كان العنف المسلَّح في الظروف الراهنة أمرا سلبيا وخطيرا في تداعياته على القضية العراقية ومستقبلها ...

4.      العمل على محاورة قوات "التحالف" بخصوص مسائل تمسّ مشاعر المواطنين وكراماتهم والدفع لوقف تلك الأفعال وإنْ لم تشكل ظاهرة أساسية في سياسة تلك القوات على الساحة العراقية بصورة عامة والعراقيون يعرفون كثيرا من الشواهد التي سجَّلت خلاف التشويهات التي تصبّ الزيت في النار أو تتمنى زيادة اشتعالها..

5.      تعزيز قوانا في حراسة الميدان الأمني العراقي في الداخل وعلى الحدود بمنع القوى الدخيلة من اللعب في ساحتنا بما لايقف تأثيره عند الضرر والتشويش بل يمتد إلى مخاطر بعيدة سيكون لها تشعبات في المستقبل غبر البعيد لأوضاعنا المتسارعة في تداعياتها..

6.      الوصول إلى تلك العناصر عبر توسيع الاتصالات الجماهيرية والتأثير في ميدان الحياة العامة...

                            وبخلاصة قراءة سريعة يمكن التأكيد على وجود عناصر تتحرك في ميدان الصراع انطلاقا من دوافع الحرص الوطني ولكنها تقع أسيرة جملة الظروف المحيطة من جهة واندفاعاتها التي لا تستند إلى تنظيم خبير أو امتدادات لتيارات عراقية لها وزنها ووجودها الفاعل في التاريخ السياسي الوطني العراقي. وكلّ ذلك يحتاج إلى متابعة جدية من القوى السياسية الفاعلة لتعزيز اتصالها الذي انحسر في الظروف السابقة لأسباب موضوعية وذاتية معروفة ولكنها لا تمتلك اليوم العذر للبقاء بعيدا عن القواعد الجماهيرية الواسعة وهذا ما يشكل الضمانة الأكيدة لوحدة الموقف الوطني ولرسم المقاومة الوطنية وشكلها وأساليبها التي تختارها في الظرف المناسب ومن ثم تنظيمها على أسس جدية صائبة ودقيقة تبتعد عن التشرذم والتشظي ومن ثمَّ توريط العراق والعراقيين بمزيد من المشاكل والويلات التي نعمل على الانتهاء منها ووقفها إلى الأبد في عملية استتباب الأمن والأمان وإعادة الإعمار بوصف عملية بناء الذات المخرّبةهي جوهر ما نفهمه من مقاومة اليوم.

1