أنشطة الثقافة العراقية

بين النخبوية المتعالية والتفتح الجماهيري

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \10

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

انتهى عهد الفرض الفوقي الدكتاتوري الذي أكره المبدعين على التعاطي معه بدونية وتبعية حتى حوَّل أجهزة الثقافة إلى أبواق مسخ تخضع لفلسفته الرخيصة. وبدأ اليوم عهد التعبير الحر وفسحة الإبداع الذي لا يتلفت قلقا من رقيب يسكن بين أضلعه ويمكن أنْ يبوح باسرار تعبيرية تودي بحياته وتنهي مسيرة إبداعه معه...

ولكنَّ الإشكالية لم تنتهِ بحدود زوال الطاغية وسلطته فلطالما ظهرت قوى تتحكم بالحياة العامة وبمفاصل العمل والنشاط فيها ومن ذلك بالإبداع والمبدعين حتى أنَّ بعض أدعياء التدين وقوى التأسلم السياسي توجهت في أولى منجزاتها التاريخية البطولية إلى التماثيل والنـُصـُب المنتشرة في الميادين وفي المتاحف لتـُعمِل فيها أيدي التخريب والتدمير أو في أقل تقدير إزالتها من ميادين بعض الأماكن التي تسيطر عليها بقوة السلاح وإكراهه الناس على اتباع مبادئها الظلامية الضلالية..

كما تتعرض أعمال الفنانين إلى إهمال متعمّد وآخر يعود إلى الجهل والتخلف الذي لا يعطي تلك الإبداعات الإنسانية الكبيرة قيمتها وحقها وهو ما دفع باستمرار بعض المبدعين إلى التعاطي مع العامة من الجمهور بفوقية وتعالِ ِ. وأثارت تلك الروح النخبوية عزلة عن واسع الجمهور العريض مثلما اثارت الحساسية بين الطرفين..

فجهة مفيقهة متعالية تتهم الجمهور بالغوغائية والتخلف والفقر الفكري الجمالي وبكونه دهماء لا يفقه كثيرا بقيمة ما يبدعون من آداب وفنون.. وجهة  تنظر إلى المبدع كونه من النخبة المتعالية المريضة المهووسة بمعارفها وقيم إبداعها ما يجعله ينظر إليهم شزرا متمسحا بأذيال كرامة جريحة تجاه ما يوصم به من جهل عازلا تلك النخبة بعيدا منقطعا عنها...

والحق يُقال لا فن بلا جمهور ولا أدب بلا جمهور فخطاب أي إبداع لا يكتمل ما لم يكن له جمهوره الذي يكمل الحلقة ويتمـّها فهل يستمر منتج من غير مستهلك؟ وهل يمكن للجمال أنْ يكون جمالا بغير عين ترى وأذن تسمع وبصيرة تقرأ وتفسِّر؟ لا مجال ولامناص من جمهور التلقي فلا مسرح بلا جمهور ولا رواية ولا قصيدة بلا جمهور لأنَّ كل إبداع بلا جمهوره لا يساوي شيئا البتة..

وعلى العكس من هذه القطيعة وهذه العزلة يكون اللقاء بين الإبداع والمبدعين من جهة والجمهور المتلقي من جهة أخرى وسيلة لتكامل دوائر الحياة الإنسانية وجعلها تسير بخطى إيجابية بخطى البناء والإعمار والتقدم..  من هنا تأتي أهمية توجه أنشطة الثقافة إلى أوسع جمهور لها والتعاطي معه من جهة التفاعل والاتصال المتين الذي يكون مؤثرا في تفتح الذهن وتنويره وتطويره..

ومن هنا كان التفتح الجماهيري لأنشطة الثقافة أمرا لابد من تحققه لكي يسير العراق في طريق إقامة دولة التمدن والتحضر الجديدة ومسؤولية كل بلدية عراقية ومسؤولية كل جهة ذات اختصاص وعلاقة أنْ تضع في حسابها مبدأ تأسيسي يقوم على دعم الأنشطة الثقافية وتوسيع دائرة جمهورها وتقديمها لأبعد متلقِ ِ بوسائل تتيح التفاعل والإفادة من الإبداع بوصفه قيمة روحية كالغذاء الذي يمنح البدن التكوّن نمنح التكوين الروحي غذاءه اللازم ..

وبانتظار أنْ تتحول مهرجانات الثقافة العراقية إلى مهرجانات جماهيرية وإنهاء عمليات العزلة والنخبوية فيصير للسينما العراقية مهرجانات موسمية وسنوية دولية وللمسرح العراقي مهرجاناته الجماهيرية ولفنون الموسيقا والغناء ولكلِّ الفنون التشكيلية معارضها في الميادين المفتوحة وللكتاب والدورية معارضها وللصحف العراقية مهرجاناتها السنوية ...

هكذا ينبغي أنْ نسير في طريق التفتح الجماهيري والابتعاد عن العزلة وعن الانفصال بين الطرفين ونعود إلى وحدة تأتلف فيها الرؤى وتندمج في ميدان من التفاعل البنّاء... وهذا هو المنتظر من نخبنا الثقافية العميقة جذورا العريضة جماهيرا....

 

خاص بصوت العراق   www.sotaliraq.com