المثقف العراقي  والعمل الجمعي

بين الإحباط, السلبية وروح الانتظار

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  09 \ 08

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

يجد المثقف العراقي هذه الأيام نفسه في حالة من الفعل والنشاط بشكل مضاعف ويتطلب منه التحرّك على أكثر من صعيد من أجل تحريك الساكن الجامد وتغيير أوضاع اُختُلِقت في الحياة العامة منذ عقود طويلة. ومن أخطر ما يجابه مثقفنا العراقي انتشار روح الفردنة والانفصام بل اعتزال الحياة العامة والتقوقع بعيدا عن أجواء الحركة والتغيير في سابقة سلبية عبر الاعتكاف عن العمل الجمعي المؤسساتي.. ما يخلق إضاعة خطيرة لوقت المشاركة الاجتماعية للمثقف..

ولقد قيل: الوقت كالسيف إنْ لم تقطعه قطعك.. تلك هي العبارة التي دخلت رصيدنا التعليمي الثقافي منذ زمن الدرس الأول الذي هضمناه. ولكننا في ظل ظروف اجتماعية ثقافية وليدة روح محافظ لا يجد في التغيير والحركة ما يوافق رؤاه بل يجد في كل بدعة ضلالة ومن ثمَّ فهو يكفِّر كل طرف يدعو لتغيير أو تطوير في أجواء الثبات والتكلّس السائدة في الحياة حدَّ صدئها وتآكلها...

إنَّ البناء النفسي وتركيب الروح الإنساني عند "عراقيين" كثيرا ما اتخذ منحى السكونية والسلبية في التفاعل مع الأحداث ووقائع تفاصيل يومهم العادي.. وحصل أنْ ظهرت عبارة تنمّ عن شعور أكيد بمجريات هذه التركيبة النفسية ومعروفة تلك العبارة النقدية التي تشير إلى انتماء الفرد إلى "جمعية الشعيلنة لازم" "ودعها تحترق ليست نارها قريبة منّا"  في إشارة إلى الروح غير المسؤول حتى تصير النار قرب الدار...

وطبعا مقابل مثل هذا الروح السلبي كان النقد الاجتماعي الرشيد يطارد كل مثلبة وشعور بالنقص ويحاول إعادة بناء الروح الإيجابي. ومن الطبيعي في ضوء سيادة نظام اجتماعي محافظ وتقليدي سلبي وفي ظل نظام سياسي نقول عنه حصرا نظام المصادرة والاستلاب والقمع والتخويف, سيكون لتجنب المواجهة المباشرة أو المجابهة المحتدمة  ما يدفع لسياسة "المشي جنب الحائط" التي نشير إليها هنا بالسلبية والتخلي عن الفعل والمشاركة الناشطة البنّاءة..

طبعا مثل هذه الصفات لا تأتي ولم تأتِ هكذا من أول مجابهة ولكنَّها أتت من سلسلة مجابهات متصلة كان فيها السبق بشكل كبير لصالح تلك القوى المستبدة المستغِلة ما شكَّل إحباطاَ َ ملموسا لجهود الفاعلين بخاصة وهم يجدون المجابهة من داخلهم حيث أشكال من الاختراق التي تنتصب أمام أعينهم!

وحيث أكثر ما يؤذي الإحساس الإنساني ويشكّله هو الشعور بتخلي القريبين وممَن لا يُتوَقَّع تخليهم عن الفعل والحركة.. ويزيد من ظاهرة اعتزال الحياة العامة ويعزز الفردنة والذاتوية تحول التعددية واختلاف وجهات النظر إلى تقاطعات مرضية ومشكلات تنحصر في الشخصي الفردي ما يجعل منها عصية على المعالجة مع تأصلها التربوي النفسي..

ومن ثمَّ كانت عملية دعوة المثقف العراقي للعمل الجمعي واعتماد العمل المؤسساتي بحاجة لإصرار وعناد ولنـَفـَس طويل في مقارعة تلك الأمراض ومكافحتها. طبعا مع تذكّر ما لطبيعة المثقف المبدع في مجالات الفنون والآداب بخاصة وهي طبيعة أميل للروح الفردي التنافسي في ظل سيادة نظام التشكيلة الاقتصا ـ اجتماعية الاستغلالية "الرأسمالية بالتحديد التي تدعو لفلسفة فردية بحتة"...

ومن الطبيعي في ظروف بلادنا أن نقرأ ظاهرة العزلة والسلبية بسبب من حكم الدكتاتورية وطغيانها وحيث الخوف من اجتماع طرفين فردين أو شخصين أو أي اثنين لألا يُفسَّر ذلك بأمور أمنية تخص الطاغية.. وفي ظروف الرعب والقلق على الحياة الشخصية من أن تتحرك بما لا يوافق عليه الدكتاتور الأكبر أو حتى شخوص يملكون صلاحيته على مستوى الدائرة أو التشكيلات الاجتماعية التقليدية أو المنظمات والتجمعات الأخرى, في مثل هذه الظروف لا يمكن إلا أنْ تتأصل تلك النزعة من الابتعاد عن الفعل الجمعي..

ومن الطبيعي أنْ تتخلّق بين أيدينا فرص الترقب والانتظار بما يعني إضاعة مزيد من الوقت وتنحية الرصيد الإيجابي لاستثمار جدي للوقت. ويعنينا هنا تسجيل حقيقة الوقوف على قارعة الطريق في حالة الترقب تلك؛ واستمراء مقعد المنتظِر مقعد الرصيف حيث انتظار اللاشئ لكي ينوب عن المنتظِر في الفعل..

من هنا وجدنا حالة الاندفاع الثورية بمعنى جذرية التغيير وعمقه مع انهيار النظام الدكتاتوري قد ولّدت حماسة جدية للتفاعل والعمل الجمعي فما كان من قوى التخريب إلا اللعب على حبال الإرعاب والتقتيل بما يمنع بشكل جدي حالة الفعل الجمعي المؤسساتي ويعيد ماكنة التخريب النفسي إلى سابق عهدها من جهة الاعتزال والفردنة وأمراض الانتظار حتى تنجلي المعركة بين قوى التنوير وقوى الظلام...

ومن هنا وجب أنْ نعمل على زيادة فعلنا التربوي والتثقيف بآليات مجابهة فاعلة مع حالة السلبية والانتظار التي لا تقدم غير إضاعة متصلة لأثمن وقت هو وقت الإبداع وخلق حيواتنا بإراداتنا وحسبما نبتغي ونريد نحن أبناء الشعب العراقي ومثقفي العراق...

إنَّنا ندرك التركة الثقيلة لزمن طويل من التخريب وندرك ما لقوى الدمار من أفعال معادية للثقافة وللمعرفة وللعقلانية في ضوء روح إجرامي لا يقبل التأويل. ومن ثمَّ سيكون علينا توفير مزيد من القراءات التي تعيد تصحيح تشكيل العقل العراقي بخاصة العقل الثقافيوممارساته وآلياته...

وبالانتقال إلى الفروض الممكنة والمنتظرة من المثقف في هذا الإطار فسنلاحظ كون تشكيل مؤسسات الثقافة العراقية على أسس سليمة صحية وتتلاءم مع التعددية والتنوع ومع أجواء التحرر والبعد عن التطبيل الإعلامي وتسطيح الثقافة الإنسانية وقريبا من احترام الإنسان ومنطقه العقلي المتنور, كل ذلك هو من صميم المشهد الثقافي العراقي الجديد..

وسيكون على المبدع الأديب الشاعر المسرحي التشكيلي وكذلك صانعي المعارف والثقافة جميعا, سيكون عليهم تبني العمل المؤسساتي لأنه الطريق الصائب لرسم حياة أجمل حياة إنسانية كريمة من دونها نُبقي على مفردات ثقافة الغاب ثقافة العنف ثقافة المصادرة والتحريم من دون دراية منّا أو في غفلة منّا لأو في إطار من سلبية هي موضع مقتلنا جميعا..

إذ ليس أنفع للتطرف وللجريمة من مرتع سوى الفردنة والتشرذم والعيش في إطار من العزلة ومن ثم سيادة ظلمة من قرون عفا عليها الزمن وقضى نحبه مع عهد الاستبداد الماضوي.. بمعنى لا زمن للثقافة ولا وقت للإبداع في ظل الظلامية والضلال [بالضاد] ]...

إذن يمكننا وضع تلخيص مؤقت لموضوعنا بالقول إنَّ مثقفنا العراقي في حالة من محاصرة ضغوط تربوية وأخرى ذات مناشئ مختلفة تحاول دفعه ليكون في حالة من السلبية والانتظار والتقوقع والعزلة وهو ما لا يمكن القبول به لما ينتظره من مسؤوليات كبرى ليس تجاه شعبه والإنسانية بل تجاه نفسه على أقل تقدير إذ الثقافة فعل جمعي مؤسساتي وليس فعلا فرديا أعزلا ..

فهل سينهض مثقفونا من كبوة الزمن العسير؟ وهل سيحققون المرتجى فيهم من أمل وينيروا دروب العطاء الجديدة؟ وهل سيرتقون على مصاعب الزمن وأزماته ليقدموا فوق ما تتيحه الظروف الأزموية من فرص؟ وهل سينشئ المثقف العراقي مؤسسته البرلمانية الثقافية ويعمل في إطارها بما يرتقي بمسؤولياته تجاه إبداعه وتجاه شعبه؟

بالتأكيد أثبتت التجربة وطنية المثقف العراقي وعمق التصاقه بهويته بتنوعاتها وأطيافها.. مثلما أثبتت التجربة عمق إنسانيته وتفتح روحه الحضاري وبعد نظره وشمولية رؤيته بما تجعله يخترق أحمال التركة المرضية .. فلندرك ما ينتظرنا من مسؤولية تجاه العمل الجمعي من جهة وتجاه توظيف عامل الزمن فليس هناك من مستحيلات يمكنها أنْ تعيد إلينا ما يمكن إضاعته من وقت المثقف العراقي بخاصة إذا ما تركناه يذهب مع الريح هدرا كما يريد من يضعون العصي في عجلة التقدم والبركة بالحركة ولنا متابعة أخرى مع تشكيل مؤسسات مجتمعنا المدني..